الفصل الثالث والأربعون
يصف كيف وَقَعَ المستر صمويل ولر في متاعب.
***
في غرفة عادية، ضئيلة النور، سيئة التهوية، في شارع «برتيوجل» بحي «لنكنز ان فيلدز» يجلس قرابة العام كله، سيد أو اثنان، أو ثلاثة أو أربعة، من أصحاب الضفائر المستعارة، تبعًا لمقتضيات الظروف، وزحمة القضايا، إزاء مناضد صغيرة، تشبه المنصات التي يجلس عليها القضاة في البلاد، وإن خلت من الطلاء الفرنسي، وعن يمينهم مقصورة للمحامين المترافعين، وعن يسارهم مكان محجوز للمدينين المفلسين وأمامهم صفوف من المقاعد لأقذر الوجوه على الإطلاق. أما أولئك السادة الجلوس فوق المنصة فهم قضاة محكمة «التفاليس» والمكان الذي يجلسون فيه هو محكمة التفاليس ذاتها.
وكان الفقراء المعدمون المفلسون من ذوي الحسب من أهل لندن مجمعين كافَّةً، منذ عهد بعيد لا تعرف بدايته، ولا يزالون متفقين عامة، على أن هذه المحكمة هي، على أية حال، الملاذ العام، والملجأ المشترك، الذي يلوذون في كل يوم بساحته، فلا عجب إذا كان مزدحمًا بالناس في كل حين تتصاعد أبخرة الجعة والكحول إلى سقفه، ثم تتكثف، فتتساقط من الجدران كالمطر، وأنه ليحوي من الأردية القديمة، والثياب البالية، في وقت ما أكثر مما هو معروض منها للبيع في سوق «هاوندزديتش» في أشهر السنة كلها، بل إنه ليزدحم من البشرات التي لم تعرف الاستحمام، واللحى التي لم تمسسها الموسى، بما لا تستطيع جميع «الحمامات» والمضخات وحوانيت الحلاقين بين حي «طايبرن» وحي «هوايتشابل» أن ترده نظيفًا، وتزيل أدرانه، بين مطلع الشمس ومغيبها.
ولا يذهب بك الظن إلى أن لأحد من هؤلاء الخلق أقل عمل، أو أدنى شأن، أو علاقة، ولو من بعيد بذلك الموضع الذي لا ينفكون يختلفون إليه غير مدركهم الملل، ولو كان لهم فيه عمل، لما كان الأمر مدعاة للدهشة ولما بقي للغرابة موضع، وإن فريقًا منهم ليأخذهم النوم أكثر الوقت في أثناء الجلسات، وآخرون يحملون غداءهم اليسير ملفوفًا في مناديلهم أو طالًّا من جيوبهم البالية، وهم يقضمونه ويصغون للحديث، بلذة متساوية، ولكن لم يعرف يومًا عن أحد منهم أقل اهتمام شخصي بأية قضية معروضة على المحكمة للنظر فيها، وإنما يجلسون سواء كان لهم عمل أو لا عمل لهم، من اللحظة الأولى إلى النهاية، فإذا كان الجو مطيرًا، دخلوا القاعة بجمعهم وهم مبللو الثياب والأجساد، وعندئذ تنقلب الأبخرة الخانقة في المحكمة أشبه برائحة حفرة مليئة بالنباتات الفطرية.
وقد يحسب الزائر العابر ذلك المكان معبدًا أقيم تخليدًا لعبقرية «الرثاثة»، ونباغة الأسمال، فما من ساع أو رسول فيه، أو محضر ملحق به، تراه مرتديًا سترة أو ثوبًا مفصلًا عليه تفصيلًا، وليس في المكان كله رجل يتراءى صحيحًا إلى حد مقبول سليمًا نوعًا ما إلا شرطي قصير القامة علاه المشيب، وبدا وجهه كالتفاحة، وإن كان ذلك الشرطي ذاته قد راح أشبه بكرزة رديئة محفوظة في البراندي، فبدا مجففًا بطريقة صناعية، ذابلًا في حالة «تحلل» غير طبيعي بل إن ضفائر المحامين ذاتها سيئة الطلاء، وثناياها تنقصها جودة التماوج والتثني.
ولكن المحامين غير المترافعين الذين يجلسون إلى منضدة كبيرة جرداء تحت منصة القضاة هم بعد هذا كله آية العجب، ونهاية الغرابة، كل ما يملكه أكثرهم يسارًا لا يتجاوز حقيبة زرقاء وغلامًا، وهذا الغلام في العادة شاب من اليهود، وليس لأولئك المحامين مكاتب ثابتة؛ لأنهم يؤدون الأشغال في غرف الحانات العامة أو أفنية السجون، حيث يتوافدون زرافات، ويتصيدون «الزبائن» تصيدًا، على نحو ما يفعل محصلو المركبات الحافلة. وهم يتراءون ملطخي الثياب بالدهن، تعبق رائحة العفن من أرديتهم القديمة، وإذا جاز لنا ذكر شيء عن مساويهم، فقد يكون السكر والنصب أوضحها سمات، وأكثرها ظهورًا، وهم يسكنون عادة في أرياض حي «الرولز» الواقع في الغالب داخل دائرة ميل مربع واحد من «المسلة» القائمة في ميدان سانت جورجز فيلدز، وليست على وجوههم مسحة من معارف تجتذب النظر، وفي مسالكهم وتصرفاتهم غرابة ظاهرة.
وكان المستر «سولومون بل» وهو أحد أفراد هذه الطائفة، رجلًا بدينًا مترهلًا شاحب اللون في رداء سابغ يبدو أخضر اللون لحظة، ثم يستحيل في اللحظة التالية داكنًا، له طوق من القطيفة، من هذه الألوان «الحربائية» ذاتها، وهو ضيق الجبين، عريض الوجه، كبير الهامة، ينحرف أنفه إلى ناحية كأن الطبيعة من غضبها عند تكوينه قبل مولده، لطمت أنفه لطمة غيظ لم ينقه منها أبدًا. وكان قصير الرقبة، مصابًا بالربو، وكان لهذا السبب يتنفس غالبًا من ذلك المعطس الذي أعوزه التناسب والجمال، فاستعاض عنهما بهذا الاستعمال النافع.
وأنشأ المستر بل يقول: «إنني واثق من أنني سأخرجه من هذا المأزق.»
وأجاب الشخص الذي كان قد تعهد له بهذه المعونة المؤكدة: «هل أنت متأكد حقًّا؟»
وقال بل: «كل التأكيد، ولو كان قد لجأ إلى محامٍ آخر غير مستقيم، لما كنت مطمئنًّا إلى النتائج، لا تنسَ هذا طبعًا.»
وقال الآخر وهو فاغر فمه: «آه.»
وقال المستر بل: «نعم. ما كنت عندئذ واثقًا من العاقبة ولا مطمئنًّا» وزم شفتيه، وعبس، وهز رأسه هزًّا غامضًا غريبًا.
وكان هذا الحوار يدور في الحانة المقابلة لدار محكمة التفاليس. ولم يكن الشخص الذي يتحدث إلى المستر بل غير المستر ولر الكبير، فقد جاء إلى ذلك المكان مع صديق له كان قد قدم التماسًا إلى المحكمة لإطلاق سراحه وفقًا للقانون، وكان ذلك اليوم موعد النظر فيه، وقد صحب صديقه هذا لمواساته وتسرية الهم عنه، واجتمع بالمحامي في تلك اللحظة للمشاورة في الأمر.
وسأل المستر ولر الكبير: «وأين جورج؟»
وكانت التحيات التي تبودلت بين المستر ولر وأصحابه مقصورة على تحية «ماسونية» المهنة وحدها، وهي التطويح بالمعصم الأيمن، وهز الخنصر في الفضاء في آن واحد، وقد عرفنا في يوم من الأيام حوذيين مشهورين، ماتا من مدة، رحمة الله عليهما، كانا توأمين، وبينهما مودة وحب، وإخلاص لا تصُّنع فيه، وكان كل منهما يمر بالآخر على طريق دوفر، في كل يوم، ولبثا على هذه الحالة أربعة وعشرين عامًا، لم يتبادلا فيها يومًا سلامًا غير هذا السلام الذي وصفناه، ولكن ما كاد أحدهما يقضي نحبه، حتى ذوى الآخر من الحزن عليه، ولم يلبث أن ذهب في أثره!
وقال المستر ولر وهو يخلع رداءه الخارجي ويجلس جلسة الوقار المعروف عنه: «كيف الحال يا جورج؟ هل خلف العربة على ما يرام وجوفها ممتلئ؟»
وقال السيد المرتبك: «كل شيء على ما يرام يا صاح.»
وسأل المستر ولر في لهفة وقلق: «وهل سلمت الفرس الشهباء إلى أحد؟»
وأومأ جورج إيماءة الإيجاب.
وقال المستر ولر: «هذا جميل، وهل المركبة محل عناية أيضًا؟»
وقال جورج وهو ينزع رءوس نحو ستة من براغيث البحر، ويلتهمها جميعًا مرة واحدة بكل هدوء: «وضعت في مكان أمين.»
وقال المستر ولر: «جميل جدًّا! جميل جدًّا! لا تنسَ أبدًا السير ببطء وحذر وأنت هابط المنحدر، هل استوفيت قائمة المسافرين والبضاعة استيفاءً تامًّا؟»
وقال بل وقد حزر المعنى المراد: «القائمة يا سيدي؟ إنها واضحة مرضية بكل ما في وسع القلم والمداد أن يفعلا، لتبدو كذلك.»
وأومأ المستر ولر بشكل ينم عن ارتياحه لهذه التدابير، ثم التفت إلى المستر بل، وأشار إلى صديقه جورج قائلًا: «متى تجرده من ثيابه؟»
وأجاب المستر بل: «إن اسمه هو الثالث في الجدول وأظن أن دوره سيأتي بعد نصف ساعة تقريبًا، وقد نبهت كاتبي أن يأتي ويقول لي إذا سنحت الفرصة.»
وأجال المستر ولر نظره في المحامي من فرعه إلى قدمه بإعجاب شديد، وقال بلهجة التوكيد: «وماذا تشرب يا سيدي؟»
وأجاب المستر بل: «في الحقيقة … إنك ﻟ … أقسم بشرفي إنني لم أعتد … إن الوقت في الصباح الباكر جدًّا … حتى إني في الحقيقة أكاد … ولكن لا بأس من أن تطلب لي قدرًا من الروم لا يتجاوز ثمنه ثلاثة بنسات يا عزيزي.»
وكانت الصبية التي تتولى الخدمة في الحانة قد توقعت الطلب قبل تلقي الأمر به، فوضعت الشراب أمام المستر بل وانصرفت.
وقال هذا وهو يدير عينيه في الجمع الذين حوله: «أيها السادة … تمنوا لصديقكم التوفيق، إنني لا أحب التفاخر أيها السادة، إنه ليس من طبعي، ولكن لا يسعني إلا أن أقول: إنه لولا أن صديقكم قد أوتي الحظ فوقع في يد … ولكن لا لزوم لما كنت أريد أن أقوله … أيها السادة … في خدمتكم»، وبعد أن أفرغ الكأس في جوفه في ومضة البرق، مسح شفتيه بلسانه، وأدار بصره في وجوه السائقين الجلوس من حوله، وكان هؤلاء ينظرون إليه كأنه نوع من الآلهة والأرباب.
وواصل «الحجة» في القانون يقول: «دعوني أتذكر، ماذا كنت أقول اللحظة أيها السادة؟»
وقال المستر ولر بلهجة تجمع بين الهزل والجد: «أظن أنك كنت تقول: إن لا مانع لديك من كأس أخرى من هذا الصنف يا سيدي.»
وضحك المستر بل قائلًا: ها، ها! لطيفة، لا بأس بها، ومحام أيضًا، وفي هذا الوقت من الصباح إنها ستكون أوفق من … والله لست أدري يا عزيزي … يصح أن تكرر ذلك مرة أخرى إذا تفضلت، احم.»
وكان هذا الصوت الأخير سعلة كرامة ووقار رأى المستر بل وجوب اصطناعها احترامًا لمركزه، حين تبين أعراض نزعة غير مستحبة إلى المجون عند بعض سامعيه.
ومضى المستر بل يقول: «إن قاضي القضاة السابق أيها السادة كان يحبني كثيرًا.»
وقاطعه المستر ولر بقوله: «وهذا يزيده فضلًا على فضله.»
وقال «زبون» المستر بل: «لا عجب، لا عجب، ولم لا؟»
وقد رجل أحمر الوجه إلى حد بعيد، وكان قد لبث صامتًا لا يقول شيئًا، ومن المرجح كثيرًا أنه لن يقول بعد هذا حرفًا آخر: «صحيح، فعلًا، ولم لا؟»
وسرت غمغمة موافقة في صفوف الجمع.
ومضى المستر بل يقول: «أذكر أيها السادة إنني كنت أتغدى معه في ذات يوم، وكنا معًا بمفردنا، ولكن كان كل شيء فاخرًا كأن عشرين ضيفًا ينتظر قدومهم، وكان عن يمينه خاتمه الكبير موضوعًا فوق رف متحرك وحاجب في ضفيرة كبيرة ولأمة كاملة لحراسة الصولجان بالسيف مصلتًا في يمينه، والجورب الحريري في ساقيه، ليل نهار، وإذا هو فجأة يقول: «اسمع يا بل، إن رأيي فيك بغير كلفة كاذبة ولا اصطناع هو أنك رجل ذو مواهب، وفي إمكانك أن تخرج أي إنسان بريئًا من محكمة التفاليس، وأن وطنك لفخور بك»، هذه كانت كلماته بالذات. قلت: يا مولاي، إنك تجاملني، فكان جوابه: اسمع يا بل، لعنة الله علي إذا كنت أجاملك.»
وسأل المستر ولر: «هل قال ذلك؟»
وأجاب بل: «نعم، قاله.»
وقال المستر ولر: «حسن جدًّا، وأنا أقول: إنه كان من واجب البرلمان التحقيق في هذه المسألة، ولو كان الرجل فقيرًا لأجرى فيه تحقيقًا، ولكنه غني يا سيدي.»
وبادر المستر بل إلى تصحيح الموقف فقال: «ولكن يا صديقي العزيز، لقد كان هذا سرًّا بيني وبينه.»
وقال المستر ولر: «كان ماذا؟»
وأجاب المستر بل: «سرًّا بينه وبيني دون سوانا.»
وأجاب المستر ولر بعد تفكير قصير: «آه، جميل جدًّا، إذا كان قد أساء إلى نفسه في السر، فهذه بالطبع مسألة أخرى.»
وقال المستر بل: «بالطبع مسألة أخرى، والفرق واضح كما ترى.»
وأجاب المستر ولر: «ويغير الوضع كل التغيير، استمر يا سيدي.»
وقال المستر بل وهو يغض من صوته ويتخذ سمات الجد: «كلا، لن أستمر يا سيدي، فقد نبهتني يا سيدي إلى أن ذلك الحديث كان خاصًّا. نعم خاصًّا وسريًّا أيها السادة، إنني محامٍ أيها السادة، ومن الجائز أنني منظور إليَّ كثيرًا في وسط مهنتي، ومن الجائز ألا أكون كذلك، إن أكثر الناس يعرفون، ولهذا لا أقول شيئًا، لقد أبديت قبل الآن ملاحظات في هذه الغرفة تمس سمعة صديقي العظيم، أستميحكم معذرة أيها السادة، لم أكن حكيمًا فيما قلته، وأشعر بأن لا حق لي في ذكر هذه المسألة قبل الحصول على موافقة منه، شكرًا لك يا سيدي، شكرًا.» وما أن انتهى المستر بل من إنقاذ نفسه على هذا النحو حتى دس يديه في جيبيه، وعبس في وجوه من حوله عبسة شديدة، وراح يهز ثلاثة أنصاف بنسات في كفه بشدة ظاهرة.
ولم يكد يبدي هذه الحركة الجدية الرهيبة حتى اندفع إلى الحجرة بعنف غلام المحامي وحامل حقيبته الزرقاء، وهما متلازمان لا يكادان يفترقان، فقالا — أو قال الغلام على الأقل؛ لأن حامل الحقيبة لم يشترك في الإعلان —: إن القضية ستنادى بعد لحظات، فلم يلبث القوم على سماع هذا النبأ أن خرجوا جميعًا مسرعين فعبروا الطريق إلى دار المحكمة وراحوا يشقون السبيل متدافعين، وهي عملية تمهيدية يقدر لها في الأحوال العادية أن تستغرق بين خمس وعشرين دقيقة وثلاثين.
وكان المستر ولر ضخمًا، فانثنى يلقي بنفسه في الحال وسط الزحام، مستميتًا، لعله في النهاية واصل إلى موضع ملائم له، ولكن نجاحه لم يأت معادلًا لأمله، ولم يحدث ما كان يرجوه؛ لأنه نسي أن ينزع قبعته عن رأسه، وإذا شخص مجهول يرخيها فوق عينيه مغضبًا؛ لأن المستر ولر وطئ إحدى قدميه بقوة، والظاهر أن ذلك الشخص شعر بندم عاجل على فعلته تلك؛ لأنه غمغم بعبارة مبهمة تدل على دهشة فجائية، وجر الشيخ من وسط الزحام إلى البهو، وتمكن بعد جهد جهيد من إخراج رأسه ووجهه.
وصاح المستر ولر بمجرد رؤية وجه منقذه: «صمويل.»
وأومأ سام برأسه.
وقال المستر ولر: «إنك لولد بار ودود، إذ أتيت تلقي قبعة أبيك عن رأسه وهو شيخ كبير، أليس كذلك؟»
وأجاب ابنه: «من أين لي أن أعرف أنك أنت؟ هل تظن أنني كنت أعرف ذلك من وطأة قدمك وثقلها؟»
وقال المستر ولر وقد هدأ غضبه في الحال: «هذا صحيح يا سامي، ولكن ماذا جاء بك إلى هنا؟ إن معلمك لا شأن له هنا ولا فائدة، إنهم لن يصدروا ذلك الحكم يا سامي، ولن يصدروه.» وراح يهز رأسه هزة الواثق الخبير بالقانون.
وصاح سام قائلًا: «يا لك من شيخ معاند … لا تكف أبدًا عن الكلام في الأحكام، وأدلة النفي، وما شابه ذلك، من الذي تكلم عن القرار؟»
ولكن المستر ولر لم يحر جوابًا، وإنما عاد يهز رأسه هزة الخبير الواسع العلم.
وقال سام وقد نفد صبره: «كفى تحريكًا لرأسك هكذا، إذا لم تكن تريد أن تخرجه عن دواليبه وكن عاقلًا في تصرفاتك، لقد سرت طول الطريق ليلة أمس إلى المركيز جرانبي لمقابلتك.»
وسأل المستر ولر وهو يرسل زفرة من صدره: «وهل رأيت المركيزة جرانبي يا سامي؟»
وأجاب سام: «نعم، رأيتها»
قال: «وكيف حال المخلوقة العزيزة؟»
وأجاب سام: «غريبة جدًّا، أعتقد أنها ستؤذي نفسها وتضر بصحتها تدريجًا من الإفراط في الروم المستخرج من الأناناس وغيره من الأدوية القوية المماثلة له.»
وقال المستر ولر الكبير بلهجة الجد: «هل تقصد أن تقول هذا حقيقة يا سامي؟»
وأجاب المستر ولر الصغير: «أقصد ذلك حقيقة.»
وتناول المستر ولر يد ابنه وأمسك بها ثم تركها تسقط من كفه، وقد بدت على وجهه وهو يفعل ذلك أمارات لا توحي بحزن أو جزع أو خوف، بل هي أقرب إلى علامات الأمل الحلو اللطيف، بل لقد خطفت على وجهه كذلك ومضة من استسلام أو فرح، وهو يقول برفق: «لست متأكدًا يا سامي كل التأكد، ولا أميل إلى القول: بأني على يقين تام، مخافة أن تنتهي المسألة بخيبة أمل، ولكني مع ذلك أظن يا بني أن الراعي مريض بالكبد.»
وقال سام: «هل يبدو المرض عليه؟»
وأجاب أبوه: «إنه شاحب إلى حد غير مألوف إلا الأنف فهو أشد احمرارًا مما كان من قبل، وشهوته إلى الطعام بين بين، ولكنه في الشرب عجب.»
وبدا على المستر ولر أن ذكر «الروم» أثار بعض الأفكار والتصورات في خاطره، فقد ظهرت عليه أعراض الاكتئاب والوجوم، ولكنه لم يلبث أن أفاق منها، بدليل كثرة الغمز بطرف عينه، وهي عادة لا يلجأ إليها إلا حين يستولي السرور عليه.
وقال سام: «والآن، لنتحدث في مسألتي، فأرجو أن تفتح أذنيك هاتين وتنصت ولا تنطق بشيء حتى أنتهى من قولي.» وأنشا سام، بعد هذه المقدمة المختصرة يقص على أبيه، بكل الإيجاز الذي تواتى له، فجوى ذلك الحديث المشهود الذي دار بينه وبين المستر بكوك.
وصاح المستر ولر: «أيقيم في ذلك المكان بمفرده؟ يا له من مخلوق مسكين! أيبقى وحده لا أحد بجانبه يتولى خدمته؟ هذا لا يمكن يا صمويل، هذا لا يمكن.»
وقال سام: «طبعًا لا يمكن، وأنا عارف ذلك قبل مجيئي إليك.»
وعاد المستر ولر يصيح قائلًا: «إنهم سيأكلونه حيًّا هناك يا سامي.»
وأومأ سام موافقًا على هذا الرأي.
ومضى المستر ولر يقول على سبيل التشبيه والمجاز: إنه قد ذهب إلى السجن «نيئًا» يا سامي، ولكنه سيخرج منه محروقًا أسود أشد السواد، حتى ليصعب على أعز أصدقائه أن يعرفوه، إن الحمام المشوي لن يُذكر عندئذ بجانبه يا سامي.
وأومأ سام ولر مرة أخرى.
وقال المستر ولر بجد بالغ: «وهذا لا ينبغي أن يحدث يا صمويل.»
وأجاب سام: «لا يصح حتمًا.»
وقال المستر ولر: «لا ينبغي بلا شك.»
وقال سام: «وما العمل الآن؟ بعد كل هذا التنبؤ الذي أكثرت منه، وصورته أحسن تصوير «كنيكسون» الأحمر الوجه الذي يرسم على الكتب التي تباع بستة بنسات وتحوي رسومًا وصورًا.»
وسأل المستر ولر قائلًا: «ومن يكون نيكسون هذا؟»
وأجاب سام: «دعك من السؤال عنه، لم يكن سائقًا ويكفيك أن تعرف ذلك.»
وقال المستر ولر مفكرًا سارحًا: «لقد كنت أعرف سائحًا بهذا الاسم.»
وقال سام: «لم يكن هو، إن هذا الذي ذكرته لك كان نبيًّا.»
وقال المستر ولر وهو ينظر بعبوس إلى ابنه: «ومن هو النبي؟»
وأجاب سام: «ألا تعرف من هو النبي؟ إنه رجل ينبئ بما سيحدث.»
وقال المستر ولر: «ليتني عرفته يا سام، فلعله كان يلقي ضوءًا على عاقبة مرض الكبد الذي كنا منذ لحظة نتحدث عنه»، ثم واصل حديثه وهو يتحسر: «ومع ذلك فإذا كان هذا النبي قد مات، ولم يترك الصنعة لأحد، فقد ذهبت بذهابه. استمر يا سامي.»
وأنشأ سام يقول: «لقد كنت اللحظة تتنبأ بما قد يحدث للمعلم إذا ترك في السجن وحده، فهل ترى وسيلة للعناية به؟»
وقال المستر ولر وقد بدا التفكير على محياه: «كلا، يا سامي، لا أرى.»
وقال سام: «ألا من وسيلة أبدًا؟»
وأجاب المستر ولر: «لا وسيلة إلا إذا …»، وفي تلك اللحظة خطف على وجهه شعاع من الإلهام فغض من صوته، وقرب فمه من أذن ابنه وهمس قائلًا: «إلا إذا عملنا على إخراجه في سرير مقلوب لا يعرفه الحراس يا سامي، أو ألبسناه زي امرأة عجوز وأخفينا وجهه ببرقع أخضر.»
وتلقى سام ولر هذين الاقتراحين باستهزاء غير منتظر، وعاد يردد السؤال على سمع أبيع ويتوسع في شرحه.
وقال الشيخ لفتاه: «لا أرى سبيلًا إذا هو لم يسمح لك بالبقاء معه، الطريق مسدود يا سامي، الطريق مسدود.»
وقال سام: «سأقول لك إذن ما هي الوسيلة، سأزعجك بطلب قرض مقداره خمسة وعشرون جنيهًا.»
وسأله أبوه قائلًا: «وماذا يفيد هذا؟»
وأجاب سام: «لا شأن لك بهذا، فلعلك ستطلبه مني بعد خمس دقائق، فأقول لك مثلًا: «لا أدفع» وأغلظ لك في القول، وأرفض السداد بتاتًا، ولن ترضى أنت أن تفكر في القبض على ابنك من أجل هذا المال وترسله إلى سجن «فليت»، هل ترضى أيها الشريد المطبوع على التشرد؟»
وعندئذ تبادل الوالد والابن اصطلاحات برقية من الغمزات والإشارات، ثم جلس المستر ولر فوق سلم حجري، وظل يضحك حتى امتقع لونه.
وقال سام في غيظ من ضياع الوقت على هذا النحو: «يا لها من صورة غريبة! ما الذي يجعلك تجلس هكذا، قالبًا سحنتك أشبه بأكرة باب الشارع، وأمامنا عمل كثير يجب أن نفرغ سريعًا منه؟ أين النقود؟»
وأجاب المستر ولر وهو يسكن من ثائرة انفعالاته: «هنا في الحذاء يا سامي، امسك القبعة يا سامي.»
ولم يكد المستر ولر يتخلص من القبعة المزعجة حتى نفض بدنه نفضة فجائية إلى أحد جانبيه، وبعوجة بارعة، تمكن من دس يده اليمنى في جيب رحيب، فأخرج منه محفظة كبيرة الحجم ملفوفة بحزام ضخم من الجلد، وأطلع منها زوجًا من حبل السياط وثلاثة مشابك أو أربعة وعينة من القمح في كيس، وأخيرًا حزمة صغيرة من أوراق النقد قذرة، اختار منها المبلغ المطلوب فأسلمه إلى ابنه.
وقال بعد أن رد الحبل والمشابك والقمح إلى مواضعها وأودع المحفظة جوف ذلك الجيب الرحيب: «والآن يا سامي، اسمع، إنني أعرف هنا سيدًا يستطيع أن يؤدي لنا بقية المهمة في أقصر وقت ممكن، إنه رجل قانون أوتي عقلًا كعقول الضفادع موزع في جميع أجزاء جسمه وواصل إلى أطراف أنامله، وصديق لقاضي القضاة، ما عليه إلا أن يقول له عن حاجته، فيعطيك في الحال «تأييده»، إذا كان هذا هو كل المطلوب.»
وقال سام: «أقول لك: إني لا أريد شيئًا من هذا.»
وسأله المستر ولر: «لا شيء من ماذا؟»
وقال المستر ولر: «ولكن ما علاقة هذا بما نحن فيه؟»
وأجاب سام: «العلاقة هي أنني سأتولى الأمر بنفسي وأدخل السجن من هذا الطريق دون حاجة إلى الكلام همسًا مع قاضي القضاة ولا سواه، أنا لا أقبل هذه الفكرة؛ لأن من الجائز ألا تكون العاقبة سليمة، من ناحية الخروج ثانية.»
واحترامًا لهذا الشعور الذي أبداه ابنه بادر إلى البحث عن العلامة «سلمون بل»، وأبلغه رغبته في استصدار حكم في الحال لمصلحته بطلب أداء دين قدره خمسة وعشرون جنيهًا والمصاريف والأتعاب، والتنفيذ المعجل، على شخص يدعى صمويل ولرق على أن تدفع الأتعاب مقدمًا إلى «سلمون بل».
وفرح المحامي فرحًا شديدًا؛ لأن الحكم كان قد صدر بشطب اسم السائق الغريق في الديون إلى ذقنه من جدول «المفلسين» في الحال، فلم يكد يسمع قصة سام حتى امتدح موقفه من مخدومه وأثنى ثناءً مستطابًا على إخلاصه ووفائه، وقال: إن ذلك يذكره بوفائه وولائه لصديقه قاضي القضاة، وسار في الحال بالمستر ولر الكبير إلى المحكمة المدنية لتحرير إقرار بالدين المطلوب، وكان الغلام قد فرغ من تحريره في التو واللحظة، مستعينًا بحامل الحقيبة الزرقاء.
وكان سام قد قدم في الوقت ذاته إلى السائق الذي برئ من التهمة، وإلى أصدقائه السائقين الآخرين، على أنه ابن المستر ولر، فأقبلوا عليه محتفين به، ودعوه إلى الاشتراك معهم في الاحتفال بهذه المناسبة السعيدة، وهي دعوة لم يتردد في تلبيتها.
والمألوف بين هذه الفئة من الناس أن مرحها يتخذ عادة سمات الوقار والهدوء، ولكن هذه المناسبة كانت ذات طابع خاص، فلا عجب إذا هم تسامحوا فيها ومدوا البساط، وبعد أن شربوا وسط الضوضاء والصياح نخب القاضي الذي حكم في القضية، ثم نخب المستر سلمون بل، الذي أظهر في ذلك اليوم مقدرة عالية، انبرى سيد منهم «مرقط» الوجه في «شال» أزرق اللون فاقترح أن يشنف أحدهم الأذان بأغنية. وكان الرأي الظاهر أن السيد الراغب في الغناء هو الذي يتولاه بنفسه، ولكن الرجل رفض هذا الرأي بعناد، بل في شيء من الغضب أيضًا، فدار عندئذ حوار بين القوم وقامت مشادة كما هي العادة في أمثال هذه الأحوال.
وصاح السائق صاحب الاقتراح: «أيها السادة، بدلًا من إفساد مجلسنا اللطيف، والإخلال بانسجامه، أحسب أن المستر صمويل ولر سيتفضل على المجلس بتشنيف أذانه.»
وقال سام: «في الحقيقة أيها السادة إنني لم أعتد كثيرًا الغناء بغير آلات، ولكن لا بد من التضحية بأي شيء في سبيل الحياة الهادئة كما قال الرجل الذي تسلم نوبة الوقوف لحراسة المنارة.»
وانثنى المستر صمويل ولر عقب هذه المقدمة يغني على الفور هذه الأقصوصة الجميلة الحماسية التالية التي نستبيح لأنفسنا اقتباسها، اعتقادًا منا أنها ليست معروفة للناس عامة، راجين توجيه الأنظار خاصة إلى المقطع الواحد في نهاية السطرين الثاني والرابع؛ لأنه لا يساعد المغني على استرداد أنفاسه عند هذين الموضعين فحسب، بل يعاون كثيرًا على مراعاة الوزن.
١
المذهب
٢
المذهب «بنغمة تهكمية»
وما أن بلغ المغني هذا الحد من أغنيته حتى عاجله السيد ذو الوجه المرقط فقال: إنني أعتقد أن هذه الأغنية تعبر عن واقعة حال خاصة من أولها إلى آخرها وأطلب معرفة اسم ذلك السائق.
وأجاب سام: «لا يعرف أحد اسمه؛ لأنه لم تكن بطاقته في جيبه.»
وعاد الرجل يقول: «إنني أعارض الدخول في السياسة، وأقرر أمام هذا الجمع أن هذه الأغنية سياسية، وأنها أيضًا غير صحيحة، وأقول: إن ذلك السائق لم يهرب مطلقًا، ولكنه مات غيلة. مات اصطيادًا كما تصاد القطاة، ولا أقبل اعتراضًا على قولي هذا.»
وكان السائق يتكلم بقوة بالغة وإصرار شديد، وبدت الآراء مختلفة، حتى كاد الموقف يثير مشادة جديدة، وإذا المستر ولر والمستر بل قد وصلا في أنسب وقت.»
وقال المستر ولر: «كل شيء على ما يرام يا سامي.»
وتبعه المستر بل قائلًا: «وسيكون الضابط هنا في الساعة الرابعة، ولا أظنك تهرب قبل هذا الموعد. ها! ها!»
وأجاب سام بابتسامة عريضة: «ربما يندم «بابا» القاسي القلب قبل حلول الموعد.»
وقال المستر ولر الكبير: «لا يمكن.»
وقال سام: «أرجوك.»
وأجاب الدائن العنيد: «لا يمكن بأي حال.»
وقال سام: «سأعطيك سندات بالمبلغ على أن أدفع فائدة قدرها ستة بنسات عن كل شهر.»
وأجاب المستر ولر: «لا أقبل أبدًا.»
وقال المستر سولومون بل، وهو ماض في عمل حساب المصاريف: «ها، ها، جميل جدًّا، جميل جدًّا، تلك حادثة لطيفة فعلًا، يا بنجمن، انسخ هذا.» وعاد المستر بل إلى الابتسام وهو يوجه نظر المستر ولر إلى المبلغ المطلوب.
وقال رجل القانون وهو يتناول ورقة قذرة من الأوراق المالية التي أخرجها المستر ولر من جوف محفظته: «أشكرك، أشكرك، ثلاث عشرات وعشرة تساوي خمسة، شاكر لك يا مستر ولر، إن ابنك شاب جدير كل الجدارة، حقًّا إنه لكذلك. وهذه الأخلاق جميلة جدًّا من شاب مثله.» وأردف يقول وهو يبتسم بلطف للجمع الذين حوله، ويزرر على المال الذي دسه في جيبه: «هذا جميل جدًّا.»
وقال المستر ولر وهو يبتسم: «ما ملح هذا! هل هو ابن فذ قَل أن يأتي الزمان بمثله؟»
وقال المستر بل متلطفًا ليصحح العبارة له: «قل: فلتة من فلتات الطبيعة يا سيدي.»
وأجاب المستر ولر بكل هدوء: «لا بأس يا سيدي، إنني أعرف كم الساعة وحين لا أعرف سأسألك يا سيدي.»
وكان سام قد تملك إعجاب الجميع وظفر بمكانة كبيرة في نفوسهم، حين قدم الضابط، فقرر القوم أن يصحبوه لتوديعه حتى باب السجن في حفل حافل، وكذلك انطلقوا فسار المدعي والمدعى عليه ذراعًا لذراع، والضابط في الطليعة وثمانية سائقين ضخام الأبدان في المؤخرة. ولما وصلوا إلى مقهى «سرجنتز ان» وقف الموكب، لتناول الشراب، ريثما تتم الإجراءات القانونية، ثم عاودوا المسير.
وحدثت ضجة يسيرة في شارع «فليت»، لهذا المشهد المضحك، فقد أصر السادة الثمانية الذين يؤلفون «المؤخرة» على أن يسيروا رباع في صف، ورباع في صف آخر، واضطروا أيضًا إلى ترك صاحبهم السائق المرقط الوجه متخلفًا وراءهم للاشتجار مع حمال بعد أن اتفقوا على أن يوافوه عند رجوعهم، ولم يحدث في الطريق غير هذه الحوادث الصغيرة، حتى بلغوا باب السجن، وما أن أعطاهم «المدعي» الإشارة حتى هتفوا ثلاثًا بصوت مدوٍّ للمدعى عليه، وبعد أن صافحوه جميعًا تركوه وقفلوا عائدين.
ولما تم تسليم سام إلى السجان، وكان ذلك مثارًا لدهشة شديدة استولت على نفس روكر، وحركة انفعال ظاهرة حتى من جانب ذلك الرجل البارد المتراخي «ندى» انتقل سام في الحال إلى داخل السجن، وانطلق رأسًا إلى غرفة سيده فدق الباب.
وقال المستر بكوك: «أدخل.»
وظهر سام ونزع قبعته عن رأسه وابتسم.
وصاح المستر بكوك في اغتباط واضح برؤية خادمه الأمين مرة أخرى: «آه، سام، يا بني العزيز، لم أكن أقصد أمس جرح شعورك يا صاح بما قلته لك، اخلع قبعتك يا سام ودعني أشرح لك المعنى الذي أردته في شيء من التوسع في البيان.»
وقال سام: «ألا يمكن التأجيل لحظة يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «بكل تأكيد، ولكن لم لا يكون الآن؟»
وقال سام: «إنني أفضل ألا يكون ذلك الآن يا سيدي.»
وسأله المستر بكوك: «ولماذا؟»
وقال سام مترددًا: «لأن …»
وعاد المستر بكوك يسأل بعد أن أقلقه كلام خادمه: «لأن ماذا؟ تكلم بصراحة يا سام.»
وأجاب هذا قائلًا: «لأن، لأن عندي عملًا صغيرًا الآن أريد أن أنتهي منه.»
وقال المستر بكوك وهو في دهشة من ارتباكه: «أي عمل تقصد؟»
وأجاب سام بابتسام: «لا شيء بالذات يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «آه! إذا لم يكن شيء بالذات، فلتكلمني أولًا.»
وأجاب سام وهو لا يزال مترددًا: «أظن أنه يحسن أن أفكر في المسألة حالًا.»
وبدت الدهشة الشديدة على وجه المستر بكوك ولكنه لم يقل شيئًا.
وانثنى سام يقول: «الحقيقة هي أنني …»، ولم يتم الكلام.
وعاد المستر بكوك يقول: «قل صراحة يا سام.»
وأجاب سام وهو يحاول جاهدًا: «الحقيقة هي أنه من الأفضل أن أبحث عن سرير لي قبل أن أفعل أي شيء آخر.»
وصاح المستر بكوك مدهوشًا: «سرير لك!»
وأجاب سام: «أي نعم، سرير لي يا سيدي، إنني سجين، وقد قبض علي بعد ظهر اليوم، لدين علي.»
وقال المستر بكوك مبهوتًا وهو يتهالك على مقعد: «أنت مقبوض عليك لدين؟»
وأجاب سام: «نعم، لدين يا سيدي، والرجل الذي زج بي في السجن لن يدعني أخرج منه حتى تخرج أنت.»
وصاح المستر بكوك وهو في عجب بالغ: «يا سبحان الله! ماذا تعني؟»
وأجاب سام: «أعني ما أقوله يا سيدي، وإذا كان البقاء هنا أربعين سنة، فسأمكث هنا حتى تنتهي، وأنا الفرح المبتهج، ولو كان في سجن «نيوجيت» لما تغير الوضع أيضًا، والآن وقعت الواقعة، وانتهى الأمر.»
وبهذه الكلمات التي راح يرددها بقوة توكيد، ألقى بقبعته إلى الأرض، في انفعال غير معهود منه، ثم شبك ذراعيه فوق صدره ووقف ينظر طويلًا على وجه سيده.