الفصل التاسع والأربعون
قال التاجر المتجول: «كان عمي أيها السادة من أكثر خلق الله مرحًا، وأبرعهم دعابة، وأشدهم فطانة وذكاءً، وليتكم عرفتموه أيها السادة، لكني بعد التروي والتفكير، لا أتمنى لكم معرفته؛ لأنكم لو كنتم عرفتموه، لأصبحتم اليوم جميعًا، في خطة الطبيعة، ومجرى الزمان، أقرب ما تكونون من الموت، إن لم تكونوا قد متم فعلًا، فاضطررتم إلى أن تخلدوا إلى المقام في بيوتكم، وإيثاركم العزلة عن الناس، وهو ما كان يحرمني من متعة التحدث إليكم الآن. أيها السادة لوددت لو أن آباءكم وأمهاتكم عرفوا عمي، إذن لأولعوا حقًّا به ولا سيما أمهاتكم، وإني لواثق أنهن كن سيرحن عنه راضيات معجبات، وإذا كانت ثم صفتان فيه غالبتان على ما عداهما من الصفات وأنها لكثيرة متعددة، فهما الإقبال على شرب «البنتش» المشعشع، والغناء بعد العشاء، وأستميحكم معذرة عن الوقوف طويلًا عند هذه الذكريات المحزنة للأقدار الراحلة، فإنكم لن تشهدوا رجلًا كعمي في كل يوم من أيام الأسبوع التي تمر بنا في هذه الحياة.
ولقد كنت أبدًا أعد من محامد عمي الكبرى أيها السادة، تلك الصداقة الوثيقة التي كانت بينه وبين صديقه الحميم توم اسمارت، ومن بين بيلسن واصلم التجاري بشارع كتنتن بحي «المدنية»، وكان عمي محصلًا في شركة «تيجن وولبس»، ولكن رحلاته وأسفاره ظلت عهدًا طويلًا قريبة من رحلات توم اسمارت وسفراته أو تكاد تكون واحدة. وأحس عمي ميلًا إليه لأول عهده بلقائه في ذات مساء، وشعر توم بميل نحو عمي كذلك، وكانا قد تراهنا على قبعة جديدة قبل تعارفهما بنصف ساعة، وكان الرهان على أيهما أحسن إعدادًا لفنتين من «البنتش» وأسرع من صاحبه في اجتراعه، وقد حُكم لعمي بأنه أبرعهما في إعداده، ولكن توم غلبه في سرعة شربه بما يملأ نحو نصف ملعقة ملح، وعادا فتناول كل منهما على حدة فنتين آخرين في صحة صاحبه، ومن ذلك العهد أصبحا صديقين حميمين على الدهر، إن في هذه الأشياء أيها السادة قدرًا مقدورًا هيهات لنا أن نجد منه المفر.
وكانت أهم أسفار عمي في الخريف على سقوط أوراق الشجر، لتحصيل الديون، وتصدر إليه الأوامر بالسفر إلى الشمال، من لندن إلى أدنبره، ومنها إلى جلاسجو، ثم الأوبة إلى لندن، في مركب ذي شراع وأرجو أن تذكروا أن زورته الثانية لأدنبره كانت لمزاجه ومتعته الخاصة، فقد اعتاد الذهاب إليها لقضاء أسبوع أو نحوه، ورؤية أصدقائه القدامى وتناول الفطور مع هذا، والغداء مع ذاك، والعشاء مع ثالث، وطعمة الليل مع رابع، فكان الأسبوع كله حافلًا بمتع ومآدب ومجالس سمر وشراب، ولست أدري هل أسهم أحدكم يومًا أيها السادة في الاستمتاع بفطور اسكوتلندي شهي كريم، ثم الاشتراك في غداء خفيف لا يحوي أكثر من نصف «إردب» من محار البحر، وست زجاجات أو نحوها من الجعة، وزجاجة أو زجاجتين من الويسكي «لتختموا» بها الطعام، فإن كنتم قد استمتعتم بشيء من هذا أو نحوه فسوف توافقون على قولي أن الذهاب بعد ذلك إلى تناول عشاء يحتاج إلى «رأس قوي» هوفاما.
ولكن — بارك الله لكم في قلوبكم وحواجب أعينكم، أيها السادة، لقد كان ذلك كله شيئًا تافهًا لا يذكر بالنسبة إلى عمي، فقد كان قوي «الشهية» حتى ليبدو ذلك لديه «لعب أطفال». ولقد سمعته يقول: إن في إمكانه أن يتفوق على أهل مدينة «ضندي» كلهم في أي يوم في كثرة الشراب، وينصرف إلى البيت غير مهتز ولا متعثر، ولا مترنح، مع أن أهل ضندي أيها السادة قد أوتوا رءوسًا صلبة، ومعدًا قوية، لا أحسبكم تلتقون بأمثالهم في أي بلد من البلاد الواقعة بين القطبين، فقد سمعت عن رجل من أهل جلاسجو، كان يشارب آخر من سكان «ضندي»، خمس عشرة ساعة في جلسة واحدة، وقيل لي: إنهما اختنقا معًا في وقت واحد — وهو المنتظر أو قريب منه — ولكن مع فارق لا يذكر أيها السادة، وهو أن ذلك الشرب الرهيب لم يحدث أي أثر سيئ فيهما أو تبدو عليهما أمارات السكر الشديد.
وكانت الليلة شديدة الريح، حين أغلق عمي باب منزل الأسرة وأنزل قبعته على رأسه حتى لا تطيرها الريح ودس يديه في جيبيه، وتطلع ببصره ليتفقد أحوال الجو، وكانت السحب مندفعة صوب القمر بأقصى سرعتها، حتى حجبته تمامًا في لحظة ما، ثم تركته في لحظة أخرى ينبعث من خلالها متجليًّا بكل روعته، مرسلًا ضياءه يعم كل ما حوله، ولا يلبث أن يعود فيغطيه بسرعة متزايدة غامرًا الكون كله في ظلام، وقال عمي مخاطبًا الجو: «هذا عمل غير نافع فعلًا»، كأنما أحس أن ما فعله الجو والسحاب إهانة شخصية له، ومضى يقول بقوة: «ليس هذا بالجو المناسب لي في الذهاب إلى البيت، هذا لا ينفع بأي حال» وظل يردد هذه العبارة، حتى أصبح من المشقة عليه استرداد توازنه، لما أصابه من الدوار لإطالة التطلع ببصره إلى السماء. وانطلق مرحًا مسرورًا في سبيله.
وكانت دار «آل بيلي» في حي «كننجيت»، وكان عمي يريد الذهاب إلى الطرف الآخر من طريق «ليث» وهي مسافة تتجاوز ميلًا بقليل، وكانت الدور على كلا جانبيه قوائم ذاهبات برءوسها في الفضاء المظلم كالعمالقة، ذوات وجهات لفح الزمان منها الألوان والطلاء، وشرفات ونوافذ تبدو كأنها تحاكي أبصار الأحياء، وتماثل أعين الناس، قوائم غائرات في المحاجر من طول العمر، وامتداد السنين، ولاحت له البيوت مؤلفة من ستة أدوار أو سبعة أو ثمانية، بعضها فوق بعض طبقات، كما يبني الولدان بيوتًا من الأوراق وهي تلقي ظلالها السود على الطريق الوعر الصلب الأديم، وتحيل الليل المظلم أشد ظلامًا، وكانت بضعة مصابيح مضاءة بالزيت متناثرة إلى مكان بعيد، ولكنها لم تكن تكشف إلا عن مدخل قذر إلى درب ضيق، وإلا عن سلم مشترك كثير المنعرجات، يربط بين مختلف الطباق، وراح عمي يرمق بنظره هذه الأشياء كلها رمقة الخبير الذي طالما ألم على أمثالها من قبل، فلم تعد تستحق الاهتمام، وهو يمشي في وسط الطريق واضعًا كل إبهام من إبهاميه في جيب صداره، متسليًا بين لحظة وأخرى بنتف من أغنية، يرفع بها عقيرته في سرور وحماسة ولذة، حتى أيقظ النوام في ذلك الحي الهادئ من أحلى نومة وجعلهم يستوون جلوسًا راعشين في سررهم، حتى يتلاشى الصوت مبتعدًا في الفضاء، مقنعي أنفسهم أنه لا بد من أن يكون ذلك الصوت صوت سكران لا يعي وهو راجع إلى بيته، فلا يلبثون أن يتغطوا ليدفئوا أنفسهم ويعودوا إلى النوم.
وإذا رأيتم أيها السادة أنني مدقق في وصف عمي وهو يسير في وسط الطريق واضعًا إبهاميه في جيبي صداره؛ فما ذلك إلا لأن هذه القصة — كما اعتاد في أغلب الأحيان أن يقول، وهو على حق تمامًا — تبدو عادية لا غرابة مطلقًا فيها، إذا أنتم لم تفهموا بوضوح من البداية أنه لم يكن مطلقًا بالرجل الخيالي، النازع إلى التصورات الغريبة والأوهام.
«وكذلك ظل عمي أيها السادة منطلقًا وإبهاماه في جيبي صداره، متخذًا مشرع الطريق لنفسه خاصة، ومترنمًا تارة بأبيات من أغنية غرام، وأخرى بأغنية سكر وخمر، وإذا مَلَّهُمَا معًا، انبعث يطلق صفيرًا منغمًا، حتى وصل إلى الجسر الشمالي «نورث بردج» الذي يصل في ذلك الموضع بالذات بين مدينة أدنبره القديمة وبين المدينة الجديدة، فوقف لحظة لينظر إلى تلك العناقيد الغريبة من المصابيح والأنوار المتراكمة المتلألئة كأنها الكواكب، المنبعثة من جدران الحصن القائم في ناحية، وتل كولتن من ناحية أخرى، كأنما تضيء حصونًا، وقصورًا في الفضاء، بينما كانت المدينة القديمة البديعة الشكل نائمة تغط في سبات عميق، وظلمة غامرة، وقصرها وكنيسة «هوليرود» وقد قام على حراستهما ليلًا ونهارًا، كما اعتاد صديق لعمي أن يقول: «قصر آرثر» الشامخ مطلًّا في نظرة عابسة قاتمة كبعض الجان على المدينة القديمة التي حرسها من قديم الزمان. أقول أيها السادة: إن عمي وقف في ذلك المكان لحظة ليتلفت حوله، ثم انثنى يحيي الجو ويشكر له أن رآه قد راق قليلًا وصفا، وإن لبث القمر هابطًا منحدرًا، ثم عاد يسير في روعة وجلال كما كان من قبل متخذًا مشرع الطريق لنفسه في أبهة بادية، وكأنه يود لو يلتقي بأحد يريد أن ينازعه ملكية ذلك الطريق، ولم يكن ثمة إنسان في ذلك الوقت بالمصادفة حتى ينازعه، فانطلق كالحمل الهادئ، ولا يزال إبهاماه في جيبي صداره.»
«ولما وصل عمي إلى نهاية طريق «ليث» وجد نفسه مضطرًّا إلى اختراق قطعة كبيرة من الأرض الفضاء تفصله عن شارع قصير، ينعطف عنده ويذهب رأسًا إلى مسكنه، وكان في تلك الأرض الفضاء، في ذلك العهد، فناء مسور يملكه مقاول مركبات، متعاقد مع مصلحة البريد على شراء مركباتها البالية، وكان عمي مولعًا كل الولوع بالمركبات، الجديد منها والقديم، والتي منها بين بين، فلم يلبث أن خطر بباله أن ينحرف عن جادَّة الطريق لا لشيء سوى إلقاء نظرة على تلك المركبات من خلال السياج، وكانت نحو اثنتي عشرة منها كما يذكر متقاربات في داخل الفناء، مفككة الأوصال في حالة حزن ووحشة بالغة وكان عمي أيها السادة رجلًا سريع الحماسة، شديد التدقيق، فلما وجد أنه لم يستطع الظفر بنظرة شاملة من خلال قضبان السور، انثنى يتخطاه، ويهبط بهدوء فوق محور دواليب قديم، وبدأ يتأمل المركبات باهتمام شديد.»
«ومن المحتمل أن يكون الفناء قد حوى اثنتي عشرة منها أو من الجائز أن يكون العدد أكثر، فإن عمي لم يكن متأكدًا كل التأكيد، فقد كان رجلًا كثير التشكك في مسألة الأعداد، وحساب الأرقام؛ ولهذا لم يقطع برأي في عددها بالضبط، ولكنها كانت في ذلك الفناء متحاضنة متلاصقة في أشد ما تكون الوحشة، وأكأب ما يكون الانفراد، وكانت الأبواب منزوعة من مفاصلها وملقاة طرائح في كل مكان، والبطانات منحسرة ممزقة لم يبق منها إلا مزق متدلية هنا وهناك من مسمار صدئ، وذهبت المصابيح عنها، وتوارت العمد، وصدأ منها الحديد، وانمحى الطلاء، وجعلت الريح تصفر من خلال الثقوب البادية في الأخشاب الجرداء، والمطر المتجمع فوق السطوح يتساقط قطرات إلى أجوافها محدثًا أصواتًا حزينة جوفاء، فقد كانت تلك البقايا هياكل بالية لمركبات راحلة، تبدو في ذلك المكان القفر، وفي تلك الساعة من الليل، بشعة الصور نكراء.»
«وأغمد عمي رأسه بكفيه وأنشأ يصور في خاطره زحام الخلق الذين كانوا منذ سنين يسافرون في تلك المركبات فأمسوا اليوم في الأحداث هامدين، أو تغيرت الدنيا لهم، وتقلبت بهم السنون، وتمثل في ذهنه عديد الركب الذين كانت تقلهم مركبة منها ليلة بعد ليلة، على مطال الأعوام، وفي مختلف الجواء، وما كانوا يتلهفون عليه من أنباء، ويتطلعون إليه من آمال، وما يؤكد الأساة لهم من صحة وأمان، وما يفاجأون به من سقام ومنايا، ومنهم التاجر، والزوجة، والعاشق والأرملة والأم والطالب، بل الطفل الصغير ذاته الذي يعدو إلى الباب، على دقة ساعي البريد … وكم كان أولئك جميعًا يتطلعون إلى وصول المركبة لاهفين واليوم أين هم، وماذا صنع الدهر بهم؟!»
«وكان من عادة عمي أيها السادة أن يقول: إنه كان يفكر في ذلك كله في وقت واحد، ولكني أحسبه قد عرفه من بعض الكتب بعد ذلك؛ لأنه اعترف بصريح القول أنه أغفى وهو جالس فوق ذلك المحور القديم، ينظر إلى حطام تلك المركبات التالفة، وأنه أفاق من إغفاءته فجأة على ناقوس كنيسة يدق اثنتين، ولم يكن عمي مفكرًا سريع التفكير، وإذا كان قد فكر في ذلك كله فلا ريب عندي في أن التفكير فيها لبث إلى الساعة الثانية والنصف على أقل تقدير، فلا عجب أيها السادة إذا اعتقدت جازمًا أن عمي قد أغفى دون أن يفكر في شيء إطلاقًا.»
«ومهما يكن من هذا الأمر فإن ناقوس الكنيسة كان قد دق اثنتين، فصحا عمي من إغفائه وفرك عينيه ووثب من فوق المحور القديم مدهوشًا.»
ولم يكد الناقوس يؤذن الثانية حتى استحالت هذه البقعة القفر الهادئة إلى مشهد حياة ونشاط غير مألوف، وحركة نهاية في الغرابة، فإذا أبواب المركبات قد ردت إلى مفاصلها، والبطائن أعيدت إلى أماكنها، والمصابيح أضيئت، والوسائد والمعاطف قد وضعت على الرفوف، والحمالون يدفون بالرزم والحقائب في كل مستودع، والحراس يقطرون زكائب البريد، وساسة الخيل يلقون بدلاء مليئة بالماء على العجلات، وخلق كثير من الناس رائحون غداة، يركبون أعمدة في كل مركبة، والمسافرون قد وصلوا إلى الموضع، فسلموا ما لديهم من الحقائب، والخيل قد أسرجت، وبدا كل شيء باختصار يوحي بأن جميع مركبات البريد على أتم الأهبة للمسير. وفتح عمي عينيه أيها السادة على سعتهما إزاء هذا المشهد العجيب، حتى لقد ظل إلى آخر لحظة من حياته يعجب كيف تواتى له أن يغمضهما بعد ذلك.
وسمع صوتًا، وشعر بيد على كتفه، وقال الصوت: «والآن، إنك محتجز لنفسك مقعدًا في الداخل فيحسن بك أن تدخل.»
وتلفت عمي حوله قائلًا: «أنا محتجز مقعدًا؟!»
– «نعم، بلا شك.»
«ولم يستطع عمي أن يقول شيئًا، فقد كان رهن دهشة متناهية، وكان أغرب ما في الأمر أن الزحام كان شديدًا، وأن سيلًا آخر من الوجوه كان يتدفق في كل لحظة ولا يدري عمي من أين أتوا حشودًا وجموعًا على تلك الصورة، كأنما قد انشقت الأرض عنهم، أو هبطوا من أقطار السموات، وراحوا يتوارون بذلك الشكل الغريب الذي أقبلوا به، فقد رأى عمي حمالًا قد وضع عنه أحماله فألقاها في جوف المركبة وتلقى أجره، ثم دار بعينيه، وتلاشى كأن لم يغن منذ لحظات، وقبل أن يتمكن من التساؤل عجبًا أين تراه ذهب، لاحت منه نظرة فإذا هو يبصر آخرين قد تراءوا أمامه وهم يرزحون تحت الحقائب والأمتعة الثقال التي كانوا ينوءون بها وتكاد تحطم ظهورهم حطمًا، وكان المسافرون أيضًا في أزياء غرائب، بين سترات وأردية فضفاضة عريضة الحواشي ذوات أكمام طوال، ودون أطواق، وبين ضفائر وجدائل ذوات «عدائب» وأناشيط في أذيالها وأطرافها، حتى لقد وقف عمي حائرًا مترددًا لا يدرك من كل ذلك شيئًا.»
«وقال الذي تحدث إلى عمي من قبل: «والآن، ألا تنوي أن تدخل؟»
«وكان يرتدي زي حراس المركبات ويضع ضفيرة صغيرة فوق رأسه، وله ردنان رحيبان، وهو يحمل مصباحًا بإحدى يديه، وبندقية قصيرة ضخمة بالأخرى، كان يهم بإلقائها في صندوق سلاحه.»
وعاد ذلك الحارس يقول وقد رفع المصباح إلى وجه عمي: «ألست تريد أن تدخل يا جاك مارتن؟»
وأجاب عمي وهو يتراجع خطوة أو خطوتين: «ها، أهكذا من غير كلفة؟»
وقال الحارس: «هذا هو الاسم المكتوب في قائمة المسافرين.»
وقال عمي: «أليس فيها السيد فلان؟»
فقد شعر عمي أيها السادة بأن مناداة حارس لا يعرفه باسمه هكذا مجردًا من أي احترام تصرف جريء لن ترضى عنه مصلحة البريد إذا علمت به.
وأجاب الحارس: «كلا، ليس في القائمة شيء كهذا.»
وقال عمي: «وهل الأجر مدفوع؟»
وأجاب الحارس: «بالطبع، مدفوع.»
وقال عمي: «إذن هيا: في أي مركبة أدخل؟»
«وقال الحارس وهو يشير إلى مركبة قديمة الطراز مخصصة للسفر بالبريد بين أدنبره ولندن، وقد أنزل سلمها لكي يصعد عيله الركاب: هذه قف، ها هم أولاء المسافرون الآخرون؛ ليدخلوا هم أولًا.»
«وما أن قال الحارس هذا، حتى بدا القوم في الحال أمام عمي، ومن بينهم سيد في مقتبل العمر يضع ضفيرة مزدانة بالمساحيق، ويرتدي سترة زرقاء صافية كأديم السماء، مزخرفة الأطراف بالفضة، عريضة الحواشي، مبطنة بقماش خشن من البكرام، وقد ظهر اسم «تيجن وولبس» على البفتة المطبوعة، والصدار، فعرف عمي أيها السادة، كل الأقمشة والمواد المصنوعة منها في الحال، وكان ذلك الشاب يلبس سراويل قصيرة إلى الركبتين ويغطي جوربيه الحريريين بنوع من اللفائف، وينتعل حذاء بمشبك، ويزين ردنيه عند المعصمين بكشكشة مزركشة، ويضع قبعة مثلثة الزوايا فوق رأسه، وسيفًا مستدق الطرف إلى جانبه. وكانت أطراف صداره متدلية إلى فخذيه، وأذيال ربطة عنقه تبلغ الخاصرة، وقد تقدم بجلال واتزان إلى باب المركبة، فحسر عن رأسه، وأمسك بالقبعة فوقه على طول ذراعه، هازًّا خنصره في الهواء كما يفعل بعض الناس حين يتناولون قدحًا من الشاي، ثم لصق قدميه إحداهما بالأخرى، وانحنى انحناءة وقورًا مهيبة، ثم مد يده اليسرى، وكان عمي يهم بالتقدم ليتناولها في كفه مصافحًا، ولكنه أدرك أن هذه اللفتات لم تكن موجهة إليه، بل إلى شابة تراءت في تلك اللحظة عند أسفل السلم مرتدية ثوبًا من القطيفة الخضراء قديم الطراز ذا خصر طويل، وصدرية، ولم تكن على رأسها قبعة، بل كانت حاجبته بغطاء من الحرير الأسود، وقد وقفت لحظة متلفتة حولها قبل دخول المركبة، فكشفت في استدارتها عن وجه جميل، لم ير عمي أيها السادة وجهًا في مثل جماله، ولا في الصور والرسوم، وصعدت المركبة وهي ممسكة طرف ثوبها بإحدى يديها، حاسرة عن ساقين وقدمين لم يكن عمي كما اعتاد أن يقول ويشفع القول بأغلظ الأيمان، كلما قص القصة، يصدق أن تكون السيقان والأقدام يومًا بذلك الجمال والكمال ما لم يرها رأي العين.»
«ولكن عمي بنظرة واحدة إلى ذلك الوجه الجميل رأى الحسناء تلقي عليه نظرة توسل ورجاء، وأدرك أنها تبدو مروعة واقعة في خطب شديد. ولاحظ أيضًا أن ذلك الشاب ذا الجديلة المجملة بالطلاء كان رغم ترائيه بالأدب الجم، والشهامة الرائعة، في معاملة النساء، واحترام الغيد، قد أمسكها بشدة من معصمها، حين دخلت المركبة، وتبعها هو في الدخول، على الأثر، وكان بين الركب رجل قبيح الصورة إلى حد غير مألوف، وضع على رأسه ضفيرة كثيفة سوداء وارتدى حلة خوخية اللون، وتمنطق بسيف ضخم، وانتعل حذاءً طويلًا يرتفع إلى حقويه، وقد جاء فجلس بجانب الحسناء، فانزوت على مقربة منه في ركن، فلم يلبث عمي أن تأكد أن الخاطر الأول الذي بدا له في محله، وهو أن هناك كيدًا يُكاد، وأن ثمة أمرًا غامضًا يوشك أن يقع، أو كما اعتاد أبدًا أن يقول: إن هناك مسمارًا رخوًا فالتًا في مكان ما، ومن العجيب كل العجب أن تصح في الحال نية عمي على نجدة الحسناء ولو استهدف لأي خطر، إذا كانت حقًّا بحاجة إلى المنجد والنصير.»
«وصاح الشاب وهو يضع يده على سيفه حين دخل عمي المركبة: الموت والبرق!»
«وزأر السيد الآخر: الدم والرعد، وانثنى يخرج سيفه، ويوجه به طعنة إلى عمي دون مقدمات ولا تمهيد، ولم يكن عمي يحمل سلاحًا، ولكنه ببراعة بالغة راح يختطف من فوق رأس الرجل الدميم الجهم قبعته المثلثة الأركان، فتلقى بها سنان سيفه في جوفها وطبق جانبيها وأمسك بها بقوة وبأس شديد.»
«وصاح الرجل القبيح الصورة مخاطبًا رفيقه، وهو يحاول جاهدًا استرداد سيفه: انخسه من الخلف!»
«وصرخ عمي وهو ينزع أحد حذاءيه ويلوح بكعبه مهددًا: «أحسن به ألا يفعل، وإلا أخرجت مخه، إن كان له مخ، أو فدغت جمجمته إن لم يكن له»، وأقبل عمي يستجمع كل ما أوتي من قوة، وينتزع السيف من قبضة ذلك الرجل الدميم، ويطوح به من النافذة، وعندئذ صرخ الشاب: الموت والبرق مرة أخرى، ووضع يده على مقبض سيفه بوحشية ظاهرة وهياج شديد، ولكنه لم يخرجه من قرابه، ولعله أيها السادة كما اعتاد عمي أن يقول، خشي أن يروع السيدة الحسناء.»
«وقال عمي وهو يتخذ في تؤدة وأناة مجلسه: والآن أيها السيدان، لست أريد موتًا ببرق أو غير برق، في حضرة السيدة، وحسبنا ما كان من دم ورعد في رحلة واحدة، فلنجلس إذا تكرمتم في أماكننا كما يجلس الركاب الهادئون في داخل مركبة. أيها الحارس، التقط سكين القطع التي يملكها هذا السيد.»
«ولم يكد عمي يفوه بهذه الكلمات حتى ظهر الحارس عند نافذة المركبة، وسيف الفتى في يده، ورفع مصباحه ونظر بجد إلى وجه عمي، وهو يسلم السيف، ولشد ما كانت دهشة عمي، إذ رأى على ضوء المصباح جمعًا جامعًا من حراس المركبات مزدحمين حول النافذة، وكل منهم يتفرس مليًّا في وجهه، إذ لم يكن قد رأى في حياته بحرًا زاخرًا كهذا من الوجوه البيضاء، والأجسام الحمر، والأعين المتفرسة المحدقة فيه، فذهب يقول لنفسه: هذا أغرب شيء رأيته في حياتي. اسمح لي يا سيدي أن أرد إليك قبعتك.»
وتلقى الرجل الدميم قبعته المثلثة الأركان في صمت ونظر إلى الثقب الذي بدا في وسطها نظرة المتفحص، وأخيرًا لصقها فوق ضفيرته بجد بالغ، ووقار شديد، أفسده إلى حد ما بعطس خفيف انتابه في تلك اللحظة فأزاح القبعة مرة أخرى عن مكانها فوق هامته.
«وصاح الحارس حامل المصباح وهو يصعد إلى مقعد صغير في المؤخرة: كل شيء كامل، وانطلقت المركبة، وانثنى عمي يطل من النافذة، وهي خارجة من الفناء، فتبين له أن المركبات الأخرى بسائقيها وحراسها وخيلها وركابها جميعًا، راحت تدور وتلف معًا في دوائر بحركة وئيدة، وسرعة لا تتجاوز خمسة أميال في الساعة، فكاد عمي يتميز من الغيظ أيها السادة، فقد كان رجلًا ذا صلة بالتجارة، ويشعر بأن حقائب البريد لا يصح العبث بها، وأسر في نفسه أن يقدم مذكرة في هذا الشأن إلى مصلحة البريد، بمجرد وصوله إلى لندن.»
«ولكنه في اللحظة الراهنة ترك خواطره وأفكاره منشغلة بالحسناء الجالسة في أقصى ركن من المركبة، حاجبة وجهها بغطاء رأسها، بينما جلس قبالتها السيد ذو السترة الزرقاء، وبجانبها السيد الآخر في الثوب الخوخي اللون، وهما يراقبانها باهتمام شديد، فإن هي حركت أطواء خمارها، ألقى الرجل الدميم السحنة يده فوق سيفه بحركة واضحة يسمعها عمي، كما تيسر له أن يسمع أنفاس الآخر؛ لأن الظلام كان شديدًا فلم يستطع رؤية وجهه. ويخيل إليه أنه قد انتفخ وهمَّ بأن يأكلها في لقمة واحدة، فازداد عمي انتباهًا وغضبًا فانتوى أن يرقب هذا المشهد إلى نهايته، مهما تكن النتيجة، فقد كان عمي أخا صبابة، تعجبه الأعين النجل، وتفتنه الوجوه الملاح، وتستبيه السيقان والأقدام الجميلة. وجملة القول لقد كان عمي مولعًا بالجنس اللطيف كله، وهو ولع يجري في دم الأسرة أيها السادة، وأنا كذلك.»
«وحاول عمي مختلف الحيل ليجتذب إليه أنظار الحسناء، أو على كل حال جر السيدين الغريبين إلى الحديث، ولكن محاولاته ذهبت سدى، فإن السيدين أبيا أن يتحدثا، والحسناء لم تجسر على النظر إليه، فجعل يخرج رأسه على فترات من نافذة المركبة، ويصيح مسائلًا لماذا لا تسرع المركبة في سيرها، وظل يصيح حتى بح صوته، دون أن يعير أحد صيحاته تلك أقل اهتمام، فأسند ظهره إلى مقعده، وراح يفكر في الوجه الجميل والساقين والقدمين الفاتنتين، فكان ذلك خيرًا وأجدى، إذ روح عنه الملالة من طول الوقت، وأنساه التعجب من أمره، والتفكير في وجهته، وكيف وجد نفسه في ذلك الموقف الغريب، وإن لم يكن ذلك مزعجًا لخاطره كثيرًا، ولا هو على كل حال مثار قلق في نفسه، فقد كان عمي أيها السادة رجلًا حرًّا سهلًا حوامًا رحالة لا يأبه بشيء، ولا يحمل للدنيا همًّا.»
«ووقفت المركبة فجأة، وقال عمي: «ها! ما الذي أتت به الريح الآن؟»
«وقال الحارس وهو ينزل السلم: انزل هنا!»
«وصاح عمي: هنا؟»
«وأجاب الحارس: نعم، هنا»
«وقال عمي: لن أفعل شيئًا كهذا.»
«وقال الحارس: حسن جدًّا، فلتبق إذن في مكانك.»
«وقال عم: سأفعل.»
«وأجاب الحارس: ليكن.»
«وأعار الركب الآخرون هذا الحوار اهتمامًا كبيرًا، ولما رأوا أن عمي مصمم على البقاء في مقعده، انفلت الشاب من أمامه منكمشًا ليعاون الحسناء على النزول، بينما كان الرجل الآخر الدميم الخلقة يتفحص الثقب الذي في قمة قبعته المثلثة الأركان، وفيما كانت الحسناء تمر بعمي وثوبها يحف به، ألقت أحد قفازيها في يده وهمست له وشفتاها لصق وجهه حتى لقد أحس حرارة أنفاسها تهب على أنفه، كلمة واحدة، وهي «النجدة!»، وإذا عمي أيها السادة يقفز في الحال من المركبة بشدة متناهية جعلتها تهتز فوق «لوالبها» اهتزازًا.»
وقال الحارس حين رآه قد هبط الأرض: آه، هل غيرت رأيك إذن؟
«ولبث عمي ينظر إليه بضع ثوان، متشككًا، مترددًا، هل ينتزع بندقيته منه فيطلقها في وجه الرجل ذي السيف الطويل، ويضرب الآخر بمؤخرها على أم ناصيته، ويختطف الحسناء منصرفًا بها في غمرة الدخان وذوائبه المتصاعدة؟»
«ولكنه بعد إعمال الفكر عدل عن هذه الخطة، إذ بدت له أقرب ما تكون إلى حركة «مسرحية» عند التنفيذ، فلم يلبث أن قنع باقتفاء الرجلين الغريبين، وكانا قد انطلقا، وهما محيطان بها من كلا الجانبين، فدخلا بيتًا قديمًا كانت المركبة قد وقفت قبالته، وعرجا على الردهة، فتبعهما إليه.»
«وكان ذلك البيت دون سائر الدور العتيقة المهدمة، والمساكن الخربة المهجورة التي شهدها عمي في حياته، أكثرها تداعيًا، وأهجرها أفقًا، فقد بدت كأنها كانت في سالف الدهر ملهى كبيرًا، وإن تهدمت سقوفه في عدة مواضع منه، وتداعت مدارجه وتحطم سلمه العالي، وكانت في الحجرة التي دخلاها موقدة كبيرة، وبدت المدخنة مسودة من كثرة السخام الذي علا أديمها، ولكن لم تكن النار في الموقدة مشتعلة، ولا مرسلة وهجًا ولا ضياء، ولا تزال ذرات الرماد الناعم الأبيض متناثرة حولها، وإن أمست باردة، والظلام حالكًا غامرًا مرهوبًا.»
«وقال عمي، وهو يدير العين فيما حوله: «يخيل إلي أن مركبة بريد تسير بسرعة ستة أميال ونصف ميل في الساعة، ثم تقف فترة غير محدودة بباب جحر كهذا هو أمر غريب لا عهد لأحد به. وسأعرف الناس به، وأكتب إلى الصحف عنه.»
«وكان عمي قد فاه بهذه الكلمات بصوت جهير، وصراحة لا تحفُّظ فيها ولا احتياط، لكي يجر الرجلين الغريبين إلى الحديث إذا أمكن، ولكن أحدًا منهما لم يعره التفاتًا، بل ظلا يتهامسان وهما يهمهمان ناحيته، ويزمجران له، وكانت الحسناء في أقصى الحجرة، وقد تجاسرت مرة فلوحت بيدها، كأنما تلتمس منه المعونة.»
«وأخيرًا تقدم الغريبان قليلًا وبدأ الحديث بجد.»
«وقال الفتى ذو السترة الزرقاء: أحسبك يا صاح لا تعرف أن هذه حجرة خاصة؟»
«وأجاب عمي: كلا، لا أعرف يا هذا، ولكن إذا كانت خاصة، وقد أعدت لهذه المناسبة بالذات، فإني أعتقد أن الحجرة العامة يجب أن تكون مريحة جدًّا.»
وانثنى يجلس في مقعد ذي مسند مرتفع، وينظر إلى الرجل نظرة متفحصة؛ ليقيسهما قياسًا صحيحًا بعينيه، حتى ليتيسر لمصانع «تجن وولبس» للغزل والنسيج أن تزوده بقدر من قماش القطن يكفي لحلة كاملة، فلا تزيد ولا تنقص بوصة واحدة، عن هذا القياس الذي قدره.
«وصاح الرجلان به في نفَس واحد وهما يمسكان بسيفهما: اخرج من هذه الحجرة.»
«وقال عمي وهو لا يبدي أي علامة على أنه فهم مرادهما: إيه؟»
«وعاد الرجل المنكر الطلعة يقول، وهو يسحب سيفه الكبير ويشهره في الفضاء: اخرج من الحجرة وإلا فأنت في الهالكين.»
«وصاح الآخر ذو الرداء الأزرق بلون السماء، وهو يشهر سيفه كذلك ويتراجع خطوتين أو ثلاث خطوات: ليسقط إذن! ليسقط!»
وأرسلت المرأة صرخة عالية، وكان عمي معروفًا في كل حين بالشجاعة البالغة، وحضور البديهة، ورباطة الجأش، وكان في الوقت الذي تراءى فيه غير مكترث بما يجري على عينيه، قد راح يجيل بصره فيما حوله بخبث ومكر، ملتمسًا مقذوفًا أو سلاحًا للدفاع عن نفسه، فإذا هو في تلك اللحظة التي امتشق الغريبان فيها سيفيهما، يبصر في ركن المدخنة خنجرًا قديمًا ذا مقبض في جراب صدئ، فهجم عليه بقفزة واحدة فتناوله في كفه واستله، ورفعه بجرأة فوق رأسه، وصاح بالمرأة أن تقف بمعزل، وقذف الرجل ذا الرداء الأزرق بالمقعد، والآخر ذو الرداء الخوخي، بالجراب، وانتهز الاضطراب الذي حدث عقب هاتين الحركتين، فانقض عليهما انقضاضة واحدة.»
«وهناك أيها السادة قصة قديمة، لا يزيدها سوءًا أنها حقيقة لا زيف فيها، عن سيد «أيرلندي» بديع في مقتبل الشباب، سئل يومًا هل يستطيع العزف على الرباب، فأجاب بأنه لا يشك في أنه مستطيع ذلك، ولكنه ليس واثقًا تمامًا؛ لأنه لم يجرب ذلك من قبل إطلاقًا، وهو مثل ينطبق على عمي في مناجزته الغريبين بذلك الخنجر المصلت في يمينه، فلم يحمل يومًا في كفه سيفًا، اللهم إلا مرة حين كان يمثل «رتشارد الثالث» على مسرح خاص. وكان الاتفاق يومئذ قد تم على أن يطعن رتشموند من الخلف، دون إبداء أي حركة، أو إظهار نزوع إلى قتال، ولكنه كان في ذلك الموطن الذي نحن بسبيله يجول ويصول حيال رجلين بارعين في اللعب بالسيف حاذقين لفنون الكر والفر، وهو المهاجم المتوقي، والطاعن المتوثب، والضارب المجيد المتصرف تصرف المناجز الجسور، وإن كان إلى تلك اللحظة لا يدري شيئًا من مطالب هذا الفن ومستوجباته ولم يؤت أقل فكرة عنه، وهو ما يدل على صدق المثل القديم، القائل: أيها السادة، إن المرء لا يعرف يومًا ما في إمكانه أن يفعل، حتى يبلو ويجرب، وإن المعرفة ثمرة الاختبار.»
«وكانت جلبة القتال مروعة، فقد انطلق المناجزون الثلاثة يرسلون مغلظ الأيمان كالجنود، وأسيافهم تحدث صليلًا مترددًا مدويًا، كأن كل السكاكين والمدى وأدوات القطع التي في سوق «نيو بورت» مقعقعة من تشابكها واصطدامها معًا، ولم تكد المعركة تبلغ الذروة، حتى حسرت الحسناء القناع عن محياها — أكبر الظن أنها لم تفعل ذلك إلا لتشجيع عمي وإلهاب حميته — وكشفت عن وجه يخطف حسنه بالأبصار، حتى ليقدم على مقاتلة خمسين رجلًا لمجرد الظفر بابتسامة منه، ويسلم نفسه إلى الموت راضيًا، ولقد أتى بالعجائب قبل أن ينحسر القناع عن تلك الطلعة الباهرة، ولكنه بعد أن شهدها وبهره جمالها، ارتد جنًّا مصورًا، وعفريتًا مريدًا، مذهوب اللب هاذيًا.»
«وفي تلك اللحظة حانت من الشاب ذي الردأة الزرقاء نظرة إلى الخلف، فرأى الشابة حاسرة عن وجهها، فأطلق صرخة غضب وغيرة، ووجه سيفه إلى صدرها الجميل، وسدد ذبابته إلى قلبها، وإذا بعمي يرسل صيحة هلع ارتج البيت منها ارتجاجًا، ولكن الحسناء تنحت قليلًا واختطفت السيف من كف الشاب قبل أن يسترد توازنه، ودفعت به إلى الجدار، وأنفذت النصل فيه إلى المقبض، وحجزته في مكانه، وتركته لا يريم، ولا يستطيع حراكًا، وكان ذلك مثلًا رائعًا يحتذى، فهجم عمي، وهو يرسل صرخة انتصار مدوية، ويحشد قوة غلابة لا سبيل إلى مقاومتها، فأرغم مناجزه على التراجع، في الاتجاه ذاته، وأطلق الخنجر القديم في قلب زهرة حمراء كبيرة كانت في صداره، فجعله يتسمر ويجمد في مكانه بجانب صاحبه، حيث وقفا أيها السادة يهزان أذرعهما وسوقهما حولها، من شدة الألم، كتلك الدمى التي نراها في دكان اللعب، والتي تحركها الخيوط والحبال، وما برح عمي بعد ذلك الحادث يقول: إن هذه الوسيلة هي أضمن الوسائل التي عرفها للغلبة على العدو والتخلص منه، وإن كان ثمة اعتراض واحد عليها، وهو من ناحية الأكلاف؛ لأنها تقتضي فقدان سيف لقاء كل رجل يقهر فيعجز عن أية مقاومة أو نضال.»
«وصاحت الحسناء وهي تعدو نحو عمي فتطوق عنقه بذراعيها الجميلتين: إلى المركبة، إلى المركبة، فلعلنا ناجيان.»
«وصاح عمي قائلًا: لعلنا! ولم تقولين: لعلنا يا عزيزتي، هل من أحد آخر يراد قتله؟»
«وكان عمي أيها السادة قد شعر عندئذ بشيء من الاستياء؛ لأنه كان يعتقد أن قليلًا من المغازلة في هدوء مستحب مستطاب عقب هذا التقتيل، ولو على سبيل التنويع، أو تغيير الموضوع.»
«وقالت الحسناء: ليست أمامنا لحظة واحدة نضيعها هنا، فإن هذا (مشيرة إلى الفتى الأزرق الرداء) هو الابن الوحيد لمركيز فيلتوفيل الكبير النفوذ والجاه.»
وقال عمي وهو ينظر ببرود إلى الشاب وهو مسمر جامد في مكانه لصق الجدار شبه الدمية التي وصفناها: ولكني أخشى يا عزيزتي ألا يرث يومًا هذا اللقب؛ لأنك قطعت ذنبه يا حبيبتي.
وقالت الحسناء وقد أضاءت تقاطيع وجهها من شدة الغضب: لقد انتزعني هذان الشقيان من أهلي وأصحابي، وكان هذا المنكود سيتزوجني بالإكراه قبل أن تنقضي ساعة واحدة.
«وقال عمي وهو يلقي نظرة احتقار على وريث فيلتوفيل المتحضر: لعنة الله عليه وعلى جرأته.»
«وقالت الحسناء: ولعلك حزرت مما رأيته بعينيك أن الرجلين كانا على استعداد لقتلي إذا توسلت إلى أحد أن يمد إلي يد النجدة، ونحن هالكان لا محالة إذا اهتدى شركاؤهما إلينا هنا، وقد يكون تأخرنا في هذا المكان دقيقتين عائقًا لا رجاء لنا في التغلب عليه، فإلى المركبة، إلى المركبة. وارتمت في أحضان عمي، وقد طغت عليها مشاعرها، والجهد البالغ الذي بذلته في التغلب على مركيز فيلتوفيل الشاب حتى سمرته في مكانه، فتناولها عمي واحتملها إلى باب البيت، فإذا المركبة واقفة بخيلها الأربعة الدهم الطوال الأذيال المتموجة المعارف، وهي مسرجة مهيأة للمسير، ولكن بلا سائق، ولا حارس، ولا سائس عند رءوسها.»
«وأرجو أيها السادة ألا أكون ظالمًا لذاكرة عمي حين أعلن رأيي فيه، فأقول: إنه سبق أن تناول نساء في أحضانه، وإن كان أعزب لم يبن بواحدة منهن، وأعتقد حقًّا أنه كان من عادته تقبيل الساقيات في الحانات، وأعرف أنه في حادثة أو حادثتين شوهد، كما ثبت من أقوال أشهاد يعتد بأقوالهم، ولا يعرف الكذب عنهم، وهو يحتضن ربة حانة بشكل ظاهر واضح، وأنا في إيراد هذه الواقعة إنما أريد أن أبين إلى أي حد غير مألوف كانت تلك الحسناء قد أثرت فيه، حتى استولت على لبه بلا شك واستبته استباء، وقد اعتاد أن يقول: إنه شعر حين ترامى شعرها الأسود الأثيت على ذراعه، واستقرت عيناها الجميلتان السوداوان على وجهه، عندما أفاقت من غشيتها، باضطراب شديد، وهياج عصبي غريب، جعلا ساقيه ترجفان من تحته، ولكن لعمري من ذا الذي يستطيع أن ينظر إلى عينين ناعمتين فاحمتين، ولا يحس إحساسًا غريبًا كهذا، أنا أيها السادة لا أستطيع، بل في الحق إني لأخاف أن أنظر إلى بعض هذه العيون …»
«وغمغمت الحسناء قائلة: إنك لن تتركني أبدًا.»
«وقال عمي: أبدًا، وكان يعني ما قال حقًّا.»
«وقالت الحسناء: يا منقذي العزيز، أيها المنقذ الرحيم الشجاع الكريم.»
«وقال عمي مقاطعًا: حسبك.»
«وقالت: ولماذا؟»
«وقال: لأن ثغرك يبدو وأنت تتكلمين من فرط الحسن بحيث أخشى أن أتهور فأقبله.»
«ومدت الحسناء يدها كأنما تحذره من أن يفعل وقالت: استغفر الله لم تقل شيئًا بل ابتسمت، وأنت حين تنظر إلى شفتين من أعذب الشفاه في العالم وتشهدهما تفتران برفق عن ابتسامة فاتنة ماكرة، وأنت منهما قريب، ولا أحد حاضر أمركما، لن تجد وسيلة أفضل لتوكيد إعجابك بشكلهما الجميل ولونهما البديع من البدار إلى تقبيلهما. وهذا ما فعله عمي، وإني أجل ذلك منه وأكبره من أجله.»
«وصاحت الحسناء مجفلة: صه، صوت عجلات وسنابك خيل.»
«وأصغى عمي ثم قال: هي كذلك.»
«وكانت لعمي إذن سماعة لصوت العجلات ومواقع الحوافر، ولكن بدا له أن تلك الأصوات توحي بأن عدة خيول ومركبات قادمات نحوهما من مكان سحيق، وإن استحال عليه تقدير عددها، فقد كان الصوت أشبه بحركات خمسين ضابطة في كل مركبة ستة خيول مسرجة.»
«وصاحت الحسناء وهي تشبك يديها: إنهم مقتفون أثرنا، مطاردونا لا رجاء لي سواك.»
«وكان وجهها الجميل ينم عن رعب شديد جعل عمي يعتزم في الحال عزمته، ويقرر في نفسه نيته، فراح يرفعها إلى جوف المركبة، ويسري عن نفسها، ويرسل الطمأنينة إلى جوانحها، ويضم شفتيه مرة أخرى إلى شفتيها، ويشير إليها بأن تغلق النافذة اتقاء البرد، ويصعد هو إلى مكان السائق.»
«وصاحت الحسناء: قف يا حبيبي!»
«وقال عمي من مكانه: ماذا جرى؟»
«قالت: أريد أن أتحدث إليك: أريد أن أقول كلمة واحدة، كلمة واحدة فقط يا أعز إنسان لدي.»
«قال: هل أهبط من موضعي؟»
«ولكنها لم تحر جوابًا، وإنما ابتسمت مرة أخرى، وكانت هذه الابتسامة أيها السادة تفوق الأخرى بلا شك، فتحيلها كلا شيء فهبط عمي من فوق المقعد في خطف البرق.»
«قال وهو ينظر من النافذة: وما هي هذه الكلمة يا عزيزتي؟»
«وكانت الحسناء قد انحنت إلى الأمام مصادفة في تلك اللحظة ذاتها، فبدت لعمي أجمل وأفتن مما كانت من قبل، وكان منها قريبًا جدًّا أيها السادة. فهو في الواقع أولى بأن يعرف، وأحرى به خبيرًا.»
«قال: وما هي يا عزيزتي؟»
«قالت: أتعدني أنك لن تحب على الدهر أحدًا سواي، وأنك لن تتزوج يومًا غيري؟»
«وأقسم عمي جهد أيمانه أنه لن يتزوج امرأة سواها آخر الحياة، فردت رأسها عن النافذة وأغلقتها، ووثب هو إلى مكان السائق، واعتدل في مجلسه، وتناول السوط من فوق سطح المركبة، وضرب به الحصان الأول عن يساره فانطلقت الخيول الأربعة الطوال الأذناب المتدفقة المعارف بسرعة خمسة عشر ميلًا في الساعة، وهي تجر مركبة البريد القديمة وراءها، كالعاديات ضبحًا، والموريات قدحًا، لا تلوي على شيء.»
«واشتدت الجلبة خلفهما، وكلما أسرعت مركبة البريد المسير، ازدادت الأصوات صخبًا، وزادت المسافة قربًا بينها وبين المطاردين لها، رجالًا وخيلًا وكلابًا حاشدين.»
«وكانت الضوضاء مرعبة، ولكن صوت الحسناء كان أعلى جرسًا منها، وهي تستحث عمي صارخة: أسرع، أسرع!»
«وانطلقت المركبة بهما مارقة تجتاز أشباح الشجر، فتحيلها أشبه شيء بالريش في مهاب ريح صرصر، وما فتئت الحسناء تصيح به: أسرع، أسرع.»
«وفي حماسة اللحظة، وحرج الموقف، ركل عمي بقدمه مؤخر المركبة … فوجد الصبح قد تنفس، وتبين له أنه جالس في الفناء الذي يملكه تاجر المركبات فوق مقعد السائق في مركبة بريد قديمة، وهو يرعش من البرد والبلل ويضرب بقدميه لتدفئتهما.»
«وترجل وراح يتطلع بلهفة في جوف المركبة إلى الغادة الحسناء ولكن وا أسفاه! لم يجد للمركبة بابًا ولا مقعدًا ولا متكأ. لقد كنت خاوية مجرد «محارة» فارغة.»
«ولا ريب في أن عمي أدرك حق الإدراك أن في الأمر سرًّا يجهله، وأن كل شيء جرى تمامًا كما اعتاد أن يروي ولبث بارًّا بقسمه العظيم الذي أقسمه لتلك الغادة الحسناء، فرفض عدة ربات حانات صالحات للزواج وقضى أخيرًا نحبه أعزب لم يبنِ منهن بواحدة.»
«وكان أبدًا يقول: إنه من الغريب أن يكتشف من مجرد تخطيه السور، بمحض المصادفة، أن أشباح مركبات البريد، والخيل، والحراس، والسائقين والركاب، اعتادت القيام بهذه الرحلات المنظمة في كل ليلة، وكان من عادته أن يضيف قائلًا: إنه مؤمن بأنه الشخص الوحيد على قيد الحياة الذي أخذ مسافرًا في إحدى تلك الرحلات، وأنا أعتقد أنه كان على حق أيها السادة؛ لأنني على الأقل لم أسمع بشيء كهذا عن أحد سواه.»
وقال رب الفندق وكان قد أصغى إلى القصة كلها باهتمام شديد: «إني لأعجب ماذا تحمل أشباح مركبات البريد في حقائبها وزكائبها؟»
وقال رب الفندق: «آه! آه! مؤكد! ولكن هذا لم يخطر لي ببال أبدًا.»