الفصل الخامس
فصل قصير، يصف فيما يصف، كيف تولى المستر بكوك قيادة المركبة، وكيف ركب المستر ونكل حصانًا، وكيف تصرَّفَا في هذه المسألة …
***
كانت السماء صافية ممتعة، والهواء عليلًا، وكل شيء في الفضاء الرحيب جميلًا، حين أطلَّ المستر بكوك من فوق سياج «جسر روشستر» يتأمل الطبيعة، وينتظر طعام الفطور.
وكان المشهد في الحق أدعى إلى الاستحواذ على مَن كان أقل من المستر بكوك عقلًا لماحًا، أو دونه خاطرًا مصقولًا، فمن شماله ينهض الجدار الأثري المتداعي من عدة نواحيه، والمطل من بعضها الآخَر على الشاطئ الرملي المترامي — كثبانًا متعرجة، وربوات عالية، وقد نما وتكاثر عشب البحر، فبدا عقدًا ضخمة فوق الأحجار المتثلمة الجوانب، المحددة الأسنان، والعشب يهتز مع كل هبة من أنفاس الريح، بينما راح اللَّبْلَاب الأخضر يتشبث في حزن واكتئاب بالشرفات القواتم الخربة، ومن ورائه يقوم الحصن القديم، أبراجًا بلا سقوف، وجدرانًا ضخمة مهدمة، وإنْ حدَّثْنَا حديث الزهو والفخار عن بأسه القديم، وقوته الغابرة، يوم كان منذ سبعمائة عام، يضج بصليل السيوف، واشتباك السلاح، وتتردد في نواحيه أصدية المآدب والولائم، وضوضاء اللهو والقصف، وقد ترامت على ضفتي نهر المدواي حقول من القمح، ومروج ناضرة، تلوح خلالها طاحونة هواء، أو كنيسة منعزلة، وتبدو مترامية إلى أقصى حدود البصر في مشهد جميل مختلف الألوان، تزيده جمالًا الظلال المارقة التي تخترقه كلما توارت السحب القلائل المتناثرة في ضياء الصباح، والنهر يعكس على صفحته زرقة السماء الصافية، ويلتمع ويبرق ويشع، وهو مستفيض في رفق، منطلق في سكون، ومجاديف الصيادين مغيبة في جوف أمواجه، محدثة صوتًا جليًّا صائلًا، والزوارق الثقال — وإن بدت جميلة الصور — تنساب في بطء على صفحته.
وما لبث المستر بكوك أن انتبه من هذه «الفجوة» التي اجتذبته إليها تلك المشاهد البادية أمامه، على زفرة عميقة ولمسة رفيقة فوق كتفه، فاستدار ليرى من هذا المباغِت.
قال: «أتتأمل هذا المشهد؟»
فوجد «الرجل التعس» واقفًا بجانبه.
قال: «نعم … كنت أفعل.»
فعاد الرجل التعس يقول: «وتهنئ نفسك باليقظة باكرًا هذا البكور؟»
فأومأ المستر بكوك إيماءة الإيجاب.
وواصل الرجل حديثه يقول: «ما أحوج الناس إلى النهوض من فراشهم باكرين؛ ليشهدوا الشمس في روعتها التامة، وكل جلالها؛ إذ قلما يمكث بهاؤها النهارَ كله، فما أقرب الشبه بين صباح اليوم وصباح الحياة.»
وقال المستر بكوك: «لقد قلت حقًّا يا سيدي.»
واسترسل الرجل التعس: «وقد صدق القول السائر: إن الصباح لأبدع وأجمل من أن يدوم. وما أولى بهذا القول أن ينطبق على حياتنا اليومية … يا إلهي … بأي ثمن أود لو استعدت أيام طفولتي، أو استطعت أن أنساها إلى الأبد.»
وقال المستر بكوك بإشفاق ورثاء: «لقد قاسيت كثيرًا في حياتك يا سيدي.»
وأجاب الرجل التعس في عجلة: «نعم، لقد قاسيت أكثر مما يستطيع الذين يرونني اليوم أن يصدقوا جوازه، أو يعتقدوا احتماله.»
وتمهَّل لحظة، ثم عاد يقول فجأة: «أَلَمْ يخطر يومًا ببالك — في ذات صبح كهذا — أن في الموت غرقًا هناءة وراحة وسلامًا؟»
وأجاب المستر بكوك قائلًا: «يا لله! … كلا!» وانثنى قليلًا عن سياج الجسر؛ إذ تصور — على الرغم منه — أن الرجل قد يدفعه من فوقه، ولو على سبيل التجربة.
ومضى هذا في حديثه يقول دون أن يفطن إلى الحركة التي بدرت منه: «ولكني فكرت في ذلك أحيانًا كثيرة، ويلوح لي أن الماء الهادئ البارد إنما يغمغم بدعوتي إلى الراحة والسكون، فما هي إلا قفزة، فرشاش، فمغالبة قصيرة، فدوامة عابرة، ثم تستحيل شيئًا فشيئًا إلى موجة خفيفة رقيقة، وقد أطبق الموج عليك، وانفلق الماء فوق رأسك، فإذا الدنيا قد أغلقت دونك أبواب متاعبك وخطوبك إلى الأبد.»
وكانت عينه الغائرة تشع كالشهاب، وهو يمضي في هذا القول، ولكن هذه الحماسة الخاطفة ما لبثت أن رسبت، فأشاح بوجهه في هدوء، ومضى يقول: «ولكن حسبنا هذا، ودعنا منه … إنني أريد أن أراك لأمر آخَر … لقد دعوتني إلى قراءة تلك الأوراق عليك في الليلة السابقة للبارحة، وأصغيت إليَّ وأنا أتلوها على سمعك.»
قال: «حقًّا … وكان رأيى بلا شك أن …»
ولكن الرجل التعس قاطعه قائلًا: «لم أسألك رأيك، ولست أريد الآن أن أسألك … إنك مسافر جوالة للتسلية والمعرفة معًا، فما قولك إذا أنا بعثت إليك بمخطوط غريب، أقول «غريب» لا لأنه غير معقول، أو غير مرجح، بل إنه لَغريب كصفحة من صفحات قصة الحياة الحقيقية، فهل أنت مبلغها إلى ناديكم الذي حدثتني كثيرًا عنه؟»
قال: «بلا شك إذا شئتَ، وسوف تُدوَّن في محاضرة.»
وأجاب الرجل التعس: «سأوافيك بها، فعلي بعنوانك.» ولما أنبأه المستر بكوك بالموضع الذي يرجح أن ينزل به، أقبل الرجل يكتبه بعناية في «دفتر جيب» ملطَّخ ببقع من الدهن، واعتذر من إلحاح المستر بكوك عليه في دعوته إلى الإفطار، وتركه عند الفندق وانصرف بخطى وئيدة.
ووجد المستر بكوك صحبه الثلاثة قد نهضوا من فراشهم، ولبثوا في انتظار وصوله، ليشرعوا في تناول الفطور، وكان قد أُعِدَّ فوق المائدة، وبدا منظره شهيًّا مغريًا، فجلسوا إليه، وبدأ لحم الخنزير المحمر والبيض والشاي والقهوة وأصناف أخرى من الطعام تتوارى في سرعة ظاهرة، تشهد بجودة المأكل في ذاتها، وحدَّة شهية الآكلين.
وانثنى المستر بكوك يقول: «والآن لنتحدثْ عن رحلتنا إلى ضيعة مانور … كيف يتواتى لنا السير إليها؟»
وقال المستر طبمن: «لعله من الخير أن تستشير غلام الفندق.»
ودُعِيَ الغلام للاستشارة.
وقال حين سئل: «دنجل ديل» أيها السادة … تبعد منا خمسة عشر ميلًا أيها السادة … عند مفرق الطريق … أتريدون مركبة سفر؟»
وقال المستر بكوك: «إن مركبة السفر لا تتسع لأكثر من راكبين اثنين.»
وقال الغلام: «هذا صحيح يا سيدي … أستمحيك معذرة، مركبة ذات أربع عجلات تبدو بديعة جدًّا، يا سيدي … ولها مقعد خلفي يتسع لاثنين، وآخر للسيد الذي سيسوق … آه … أستمحيك عفوًا يا سيدي … إنها لن تتسع إلا لثلاثة ركاب.»
وهنا قال المستر سنودجراس: «وما العمل إذن؟»
قال الغلام وهو ينظر إلى المستر ونكل: «لعل أحد السادة يجب أن يركب حصانًا يا سيدي … إن لدينا جيادًا حسنة للركوب يا سيدي … وفي إمكان أي واحد من خدم المستر واردل يتفق قدومه إلى روشستر أن يعود به يا سيدي …»
وقال المستر بكوك: «هذا هو الحل المطلوب … فما رأيك يا ونكل، هل تركب حصانًا؟»
والواقع أن المستر ونكل شعر بمخاوف بالغة، وتشاؤم شديد في أعماق قلبه من ناحية مدى خبرته بركوب الخيل، ولكنه لم يشأ أن يفطن أحد إلى تلك المخاوف التي تساوره، فأجاب على الفور وبجرأة بالغة: «بلا شك، هذه متعة لي، لا يدانيها شيء.»
وهكذا اندفع المستر ونكل نحو القدر المقدور له، وسلم مسرعًا لمصيره، فليس له عنه رجوع، ولا منه مَرَدٌّ.
وقال المستر بكوك للغلام: «لتكن المركبة والحصان عند الباب في الحادية عشرة …»
وأجاب الغلام: «سمعًا وطاعة يا سيدي.»
وانصرف الخادم، وانتهى الإفطار، وصعد السفر إلى مخادعهم ليعدُّوا الثياب التي سيأخذونها في رحلتهم الدانية.
وفرغ المستر بكوك من المعدات التمهيدية، ووقف يطل من خلال أستار غرفة القهوة على السابلة، الغادين والرائحين في الطريق، فدخل الغلام عليه، وأنبأه أن العجلة على الأهبة، وما لبثت العجلة ذاتها أن أكدت النبأ، بظهورها في اللحظة ذاتها لعين المستر بكوك من خلال الستار.
وكانت العربة صندوقًا صغيرًا، غريب الشكل، أخضر اللون، قائمًا على أربع عجلات، ولها موضع منخفض من خلفها أشبه شيء بصندوق نبيذ، يتسع لجلوس رجلين، ومجلس مرتفع لثالث في المقدمة، ويجرها حصان أسمر ضخم، يبدو متناسق العظام، وقد وقف بقربه سائس، ممسكًا بعِنان حصان آخَر ضخم، يبدو كأنه قريب للحصان المشدود إلى العجلة، وهو مسرج مهيأ لركبة السيد ونكل.
وانثنى المستر بكوك يقول، وهم وقوف على الإفريز، ريثما توضع الثياب في العربة: «يا إلهي! ومَن الذي سيسوقها، ما خطر ذلك يومًا ببالي!»
وقال المستر طبمن: «أوه … أنت طبعًا.»
وردد المستر سنودجراس القول: «طبعًا.»
فصاح المستر بكوك مدهوشًا: «أنا!»
وتدخل السائس فقال: «لا خوف مطلقًا يا سيدي … إني أؤكد لك أنه حصان هادئ يا سيدي؛ حتى ليستطيع طفل في المهد أن يسوقه.»
قال مستفسرًا: «أهو شرود مجفل؟»
وأجاب السائس: «شرود يا سيدي؟ إنه لن يشرد ولن يجفل، حتى ولو لقي في طريقه مركبة ملأى بقردة اشتعلت النار في أذنابها.»
وكانت هذه التوصية لا تقبل الجدل، فدخل المستر طبمن، والمستر سنودجراس في «السحارة» — مقعد السائق — وصعد المستر بكوك الكرسي القائم في المقدم، وأسند قدميه إلى رفٍّ مقام لهذا الغرض.
وقال السائس لصبيه: «هيا يا وليم «المؤتلق»، أعطِ السيد اللجام.»
وتقدم وليم «المؤتلق»، وأكبر الظن أنه سُمِّي بهذا اللقب؛ لشعره الناعم، وسحنته «الزيتية»، فوضع الزمام في يسرى المستر بكوك، بينما دس السائس الكبير سوطًا في يمناه …
وصاح المستر بكوك: «أوه …!» وقد رأى الحصان الطويل يبدي ميلًا ظاهرًا نحو الارتداد إلى شرفة غرفة القهوة.
وردَّد كل من المستر طبمن والمستر سنودجراس آهته، وهما في مقعد السائق.
وانثنى السائس الكبير يقول مشجعًا: «هذه مداعبة منه أيها السادة … امسكه يا وليم.» فتقدَّم هذا إلى الحصان، فرده عن حدته، بينما جرى السائس الكبير ليعين المستر ونكل على الامتطاء.
وقال: «من الجانب الآخر يا سيدي إذا تكرمت.»
وقال غلام في خدمة الخيل، وهو يبتسم هامسًا لغلام الفندق، وهو يكتم ضحكة: «أراهن أن السيد كان سيركب من الجانب الخاطئ.»
وتلقى المستر ونكل هذا الدرس وامتثل له؛ فصعد إلى السرج بمشقة بالغة، لا تقل عن مشقة الصعود إلى بارجة من الطراز الأول.
وسأل المستر بكوك صحابه: «هل كل شيء تام؟» وهو في أعماق صدره يشعر بأن كل شيء … ليس تامًّا …
وصاح السائس: «دَعْهُ ينطلق … أمسك به يا سيدي.»
وانطلقت العجلة، والحصان المسرج، وعلى المقعد الأعلى من الأولى جلس المستر بكوك، واستوى المستر ونكل فوق صهوة الآخَر، وكل مَن في فناء الفندق ينظرون فَرِحين ضاحكين.
وأنشأ المستر سنودجراس، وهو على مقعد السائق يقول للمستر ونكل وهو فوق السرج: «وما الذي يجعله يمشي هكذا مجانبًا؟»
وأجاب المستر ونكل: «لا أدري!»
وكان حصانه قد انطلق في الطريق بشكل غريب كل الغرابة … مندفعًا أولًا بجنبه، ورأسه متجهة صوب جانب من الطريق، وذيله نحو الجانب الآخَر.
ولم يؤت بكوك الفرصة لملاحظة ذلك، أو مشاهدة شيء سواه، فقد كانت كل قواه محصورة في مراقبة حركات الحصان المشدود إلى العجلة، فقد راح يبدي من الغرائب والعجائب ما يجتذب أي مشاهد ويسره، ولكنه لا يسر، ولا يجتذب الجالس من خلفه، بل لقد لبث يرفع رأسه بشكل متعب مزعج، ويشد اللجام إلى حد جعل من المشقة البالغة على المستر بكوك الإمساك به، وكانت للحصان نزعة عجيبة إلى الاندفاع فجأة بين لحظة وأخرى نحو جانب الطريق، ثم الوقوف بغتة، ثم الانطلاق بضع دقائق بسرعة من العسير مراقبتها.
وانثنى المستر سنودجراس يقول حين رأى الحصان يفعل ذلك للمرة العشرين: «ماذا تراه يقصد من هذا؟» فأجابه المستر طبمن قائلًا: «لست أدري … ولكن أليس هذا أشبه شيء بالشرود والإجفال؟»
وهَمَّ المستر سنودجراس بالجواب، لولا أن أسكتته صرخة منبعثة من المستر بكوك، وهو يقول: «ويحي … لقد سقط السوط من يدي …»
فنادى المستر سنودجراس قائلًا: «يا ونكل!»
وجاء هذا «الفارس» يتخطر فوق فرسه الطويلة، وقد هبطت قبعته، حتى غطت أذنيه، وهو يرعش من جميع جهاته، كأنما يوشك أن يتنافر بددًا في كل ناحية، من فرط الجهد الذي كان يبذله.
ومضى المستر سنودجراس يناشده: «التقطْ السوط أيها الشهم الكريم.»
فراح المستر ونكل يشد عِنان الفرس الطويلة حتى امتقع من الجد وجهه، واستطاع بعد لأي وقفها عن المسير، وعندئذٍ ترجَّل، وسلَّم السوط إلى المستر بكوك، وتناول اللجام، واستعد للوثوب فوق الصهوة.
ولسنا ندري أكانت تلك الفرس العالية، من ناحية روح اللعب المستمكنة منها، تريد أن تلهو لهوًا بريئًا مع المستر ونكل، أم خطر لها أن تقطع الرحلة على هواها بغير راكب يعلو صهوتها، فإن ذلك أمر لا نستطيع أن نقطع فيه برأي حاسم، ومهما يكن الباعث الذي بعث الفرس على هذا المسلك، فلا ريب في أن المستر ونكل لم يكد يلمس اللجام، حتى بادرت الفرس إلى التطويح به من فوق رأسها، واندفعت إلى الخلف تجره في إثرها جرًّا إلى نهاية طرفيه.
ومضى المستر ونكل يقول متلطفًا لها مواسيًا: «مسكينة مسكينة … يا لك من فرس كريمة سمحة!» ولكن الفرس «الكريمة السمحة» كانت في مناعة من الملق، أبية على المديح، فجفلت كلما حاول المستر ونكل الدنو منها، تتثنى مبتعدة، ورغم كل صنوف التلطف، والمداراة، والممانعة، راح هو وهي يدوران … ويلفان، زهاء عشر دقائق، ولا يزال كل منهما مبتعدًا عن الآخَر، المسافة ذاتها التي كانت بينهما من البداية، وهو أمر مجهد في الظروف المألوفة، ولكنه أجهد وأشق خاصة على طريق منعزل، يعز فيه الظفر بمعين أو نصير.
وصاح المستر ونكل بعد أن طال الأمد على هذه المراوغة: «ماذا تراني أصنع … وليس في إمكاني التغلب عليها …»
وأجابه المستر بكوك من فوق المركبة قائلًا: «يحسن بك أن تقودها حتى تبلغ بابًا من أبواب المكوس.»
وعاد المستر ونكل يصيح قائلًا: «ولكنها لا تريد أن تسير، هلَّا جئت فأمسكت بها؟»
وكان المستر بكوك المثل المجسم للرفق والإنسانية، فلا عجب إذا هو ألقى باللجام على ظهر الحصان، وهبط من مقعده، وجر العجلة بعناية إلى ناحية السياج؛ مخافة أن يأتي شيء ما على الطريق، وعاد ليعاون صاحبه في محنته، تاركًا صاحبَيْه الآخَرَيْن في المركبة.
ولكن ما كادت الفرس تشهد المستر بكوك يتقدَّم نحوها، والسوط في يده، حتى استعاضت عن الدوران الذي كانت ممعنة فيه، بحركة تراجع حاسم شديد، لم تلبث أن اجتذبت بها المستر ونكل — وهو لا يزال ممسكًا بالطرف الآخر من العِنان — جذبة أسرع من الجري العاجل، في الاتجاه الذي جاءوا منه.
وجرى المستر بكوك لنجدته، ولكنه كلما أسرع في جريه، أسرعت في ارتدادها، واشتد احتكاك الأقدام، والركل بالأرجل، حتى تعالى الغبار وتطاير العثير، وعندئذٍ شعر المستر ونكل بذراعيه تكادان تنخلعان من كتفيه؛ فترك العِنان ينفلت منه.
ووقفت الفرس ساكنة، ثم حملقت، ثم هزت رأسها وتولت بظهرها، وبكل رفق وهدوء انطلقت خببًا عائدة إلى روشستر، تاركة المستر ونكل والمستر بكوك يتبادلان النظرات في ذهول واكتئاب، ولكن لم يلبث أن طرق سمعهما صوت جرجرة من مكان قريب، فرفعا البصر ليريا ماذا جرى.
وفي الحال صرخ المستر بكوك صرخة المبهور المعذب: «ويلنا … إن الحصان الآخَر يريد الفرار!»
وكان ذلك هو الواقع، فقد أجفل الحصان من ذلك الصوت، وأحس بالأعنة فوق ظهره، فكانت النتيجة معروفة، وهي أنه انطلق في وجهه، والمركبة ذات العجلات الأربع من خلفه، والمستر سنودجراس والمستر طبمن في جوفها، وكانت الفرصة قصيرة، والوقت ضيقًا، فألقى المستر طبمن بنفسه فوق السياج، وحذا المستر سنودجراس حذوه، واندفع الحصان بالمركبة ذات العجلات الأربع نحو قنطرة خشبية، ففصل العجلات عن الهيكل، ومقعد السائق عن المقعد الأمامي، ووقف أخيرًا جامدًا، ينظر إلى الدمار الذي أحدثه.
وكان كل هَمِّ الصديقين اللذين لم يسقطا من المركبة، أن يستخلصا صاحبَيْهما المنكودين من وسط الشوك والحَسَك اللذين سقطا فيهما، وهي عملية انتهت بارتياح لا يُوصَف؛ لأنهما تبيَّنَا أنهما لم يصابا بأذى غير مزق في ثيابهما، وخدوش في وجهيهما من الشوك الذي أصابهما، وكان العمل الثاني الذي يُنتظَر منهما أن يفكا الحصان من المركبة المهشَّمة، وما كادا يفعلان هذا حتى انطلق الجميع يمشون في بطء، وهم يجرون الحصان بينهم، تاركين العجلة لمصيرها.
ووصلوا بعد مسيرة ساعة كاملة على جانب الطريق إلى حانة صغيرة، ذات شجرتين من أشجار الدردار، ومسقى للخيل، وأمامها صوة لهداية الناس إلى الطريق، ومن خلفها جرن للدرس، أو جرنان غير منسقين، وعن أحد جانبيها حديقة مطبخ وسقائف عفنة وأكواخ من المدر متناثرة بغير نظام حولها، ورأوا رجلًا أحمر الشعر يعمل في الحديقة، فبادر المستر بكوك إلى مناداته صائحًا: «يا هذا!»
فرفع الرجل ذو الشعر الأحمر بدنه، وظلل عينيه بيده، ووقف يحملق البصر مليًّا في وجه المستر بكوك وصحبه.
وأعاد المستر بكوك النداء قائلًا: «يا هذا!»
فكان جواب الرجل ذي الشعر الأحمر ترديدًا لذلك القول.
قال: «كم تبعد دنجلي ديل من هذا الموضع؟»
قال: «سبعة أميال على الأقل.»
فعاد يسأله: «وهل الطريق معبَّد؟»
قال: «كلا.» ولم يكد يفوه بهذا الجواب المقتضب، ويحاول الاطمئنان — في الظاهر — بإلقاء نظرة فاحصة أخرى، حتى أكبَّ على العمل من جديد.
وقال المستر بكوك: «إننا نريد إبقاء هذا الحصان هنا، أظن أننا مستطيعون … ألا نستطيع؟»
وكرر الرجل الأحمر الرأس السؤال قائلًا، وهو معتمد بفأسه: «تريدون إبقاء هذا الحصان هنا؟»
وأجاب المستر بكوك، وكان قد تقدَّم عندئذٍ، وهو ممسك بالحصان إلى سور الحديقة: «بالطبع.»
وخرج الرجل من الحديقة، ونظر طويلًا إلى الحصان، وصاح مناديًا: «يا سيدة … يا سيدة …»
وجاءت على النداء امرأة طويلة معروفة، بادية العظام من رأسها إلى قدمها، وهي في «إزار» أزرق خشن، وقد هبط صدرها قدر بوصة أو بوصتين إلى ما يلي إبطَيْها.
وتقدَّم المستر طبمن إليها، وراح يقول في أرقِّ صوت ممكن وألطف إغراء: «هل تسمحين لنا أيتها السيد الكريمة أن نُبقِي هذا الحصان هنا؟»
ووقفت المرأة تحدجهم بنظرة قاسية، وأقبل الرجل ذو الرأس الأحمر، فهمس لها في أذنها كلامًا.
وانثنت المرأة تقول بعد تفكير قصير: «كلا … أخشى ألا يتسنى ذلك.»
وهنا صاح المستر بكوك قائلًا: «تخشين! … مِمَّ تخشى هذه المرأة؟»
قالت وهي متكئة إلى الدار: «لقد وقعنا في محرجة آخِر مرة … ليس عندي ما أقوله لك.»
وقال المستر بكوك وهو في دهشة: «هذا أغرب شيء لقيته في حياتي كلها.»
وهمس المستر ونكل في أذنه، وقد أحاط به أصحابه: «أعتقد أنهما يظنان أننا جئنا بهذا الحصان من طريق غير شريف.»
فصاح المستر بكوك في سورة غضب: «ماذا تقول؟»
فأعاد المستر ونكل قوله السابق على استحياء.
وانثنى المستر بكوك ينادي الرجل قائلًا: «أيها الرجل … هل تظن أننا لهذا الحصان سارقون؟»
وأجاب الرجل ذو الشعر الأحمر: «بل أنا على يقين.»
وراح يرسل ابتسامة عريضة غمرت وجهه كله من إحدى أذنيه إلى الأخرى، وتولى عنهم إلى الدار، وأغلق الباب بعنف في إثره.
ووقف المستر بكوك مذهولًا يقول: «إنه لأشبه بحلم … حلم قبيح … كيف يتصور الخاطر إنسانًا يمشي اليوم كله بحصان مخيف، لا يستطيع الخلاص منه؟»
وانطلق «البكوكيون» المحزونون ساهمين واجمين، وذلك الحصان الطويل يتبعهم في رفق، وقد أحسوا جميعًا بأشد الاشمئزاز منه.
وكان الأصيل قد آذن بمغيب حين عرج الأصدقاء الأربعة، ورفيقهم ذو الأربع، على الدرب المؤدي إلى «ضيعة مانور»، وكان السرور لقربهم من الموضع المنشود أقل كثيرًا من الفرح الذي كانوا سيشعرون به، لو لم يقع ذلك الحادث لهم، فقد بدت لهم غرابة مظهرهم، ونكر ما هم فيه … ثياب ممزَّقة، ووجوه مخدوشة، وأحذية علاها الغبار، وأعراض الإعياء بادية عليهم … وأكثر من هذا كله … الحصان.
ولكن راح المستر بكوك يلعن ذلك الحصان، وقد لبث يحدق في ذلك الحيوان الكريم بعينه، بين لحظة وأخرى، ويحدجه بنظرات حقد وجدة، وكان قد حسب في خاطره أكثر من مرة مبلغ الخسارة التي سوف يتكبدها إذا هو قطع رقبته، ولكن فكرة إيراده موارد التلف، أو إطلاق سراحه في هذا العالم الفسيح يصنع فيه ما يشاء، عادت الآن تستبد بخاطره عشرة أضعاف رغبته الأولى، وإذا هو ينتبه من التفكير في هذه التصورات ونحوها، على ظهور شبحين فجأة، عند منعطف زقاق، وما لبث أن تبيَّن أنهما المستر «واردل»، وتابعه الأمين … الغلام البدين.
وابتدره الشيخ المضياف الكريم قائلًا: «ماذا أرى؟ أين كنتم؟ لقد ظللت طيلة النهار أرتقبكم … يا عجبًا! ما بالي أراكم مجهدين حقًّا؟ … وما هذا؟ … أخدوشًا أرى؟ … أرجو ألا تكون جروحًا … إنه ليسعدني أن أسمع أن لا أذى ولا ضير … يسعدني كل السعادة أن أسمع ذلك …
أكذا انكسرت بكم العجلة؟ لا بأس … ذلكم حادث مألوف في هذه الأنحاء … يا جو … أراه قد عاد إلى النوم … جو … خُذْ هذا الحصان من السيد، وقُدْه إلى الإسطبل.»
ومضى الغلام البدين يمشي متثاقل الخطى خلفهم، وهو يجر الحصان، وأما السيد الكبير، فقد راح يواسي أضيافه بكلام رقيق، فيما رأوا من اللباقة أن يحدثوه به من أحداث يومهم هذا، وانطلق بهم إلى المطهى وهو يقول: «لا بد من إصلاح ما أفسده الحادث من ثيابكم هنا، ثم أتقدم بكم للتعارف بالقوم المجتمعين في قاعة الاستقبال … يا «أما» هاتي نقيع الكرز الآن … وأنت يا «جان» هاتي إبرة وخيطًا في الحال، وأنت يا «ماري» فوطًا وماء … هيا يا بنات أسرعن.»
وتفرقت ثلاث فتيات بضات أو أربع سراعًا لإحضار الأشياء التي طلبها السيد الكريم، بينما نهض خادمان ذو رأسين ضخمتين، ووجهين مستديرين، من مقعديهما في ركن المطبخ عند المدخنة، فقد كانا يجلسان بجوار النار المشبوبة كأنهما يصطليان في متعة محببة يوم عيد الميلاد، وإن كان الوقت مساء أحد الأيام في شهر مايو، والموسم الربيع، وانطلقا يغوصان في بعض الزوايا المظلمة، وما لبثا أن أطلعا منه «حُقًّا» من الطلاء الأسود، وبضع فرش لمسح الأحذية …
وعاد الشيخ الكبير ينادي: «قليلًا من السرعة … هيا … تحركوا!» ولكن هذه النصيحة لم تكن ضرورية إطلاقًا، فقد جاءت إحدى البنات فملأت الأقداح شرابًا، وأقبلت أخرى بالفوط والمناشف، وتناول أحد الخادمين فجأة قدم المستر بكوك؛ حتى لقد خيف على الرجل أن يفقد توازنه، وانطلق الخادم ينفض الغبار عن حذائه، حتى أحس بأن أصابع قدمه قد التهبت نارًا، بينما عكف الآخر على مسح ثوب المستر ونكل بفرشاة كثيفة من قماش، وهو لا يفتأ خلال ذلك يرسل ذلك الصوت المخيف الذي اعتاد سائقوا الخيل أن يرسلوه، وهم عاكفون على تطميرها.
وأما المستر سنودجراس، فما إن فرغ من الغسل والتنظيف والتجميل حتى ألقى نظرة عامة على المكان، وهو يولي ظهره إلى النار، ورشف شراب «الكرز» في ارتياح ومتعة، وقد وصف المكان في كناشته بقوله: إنه حجرة رحيبة الجنبات، رُصِفت أرضها بالآجر الأحمر، وازدان سقفها بأفخاذ الخنازير وأجنابها، وتدلت منها حبال من البصل وعقود، بينما تجملت جدرانها بعدة سياط مما يستخدم في الصيد والقنص، وبرذعتين أو ثلاث براذع، وسرج، وبندقية قديمة صدئة كُتِب تحتها ما يفهم منه أنها محشوة … كما كانت — والعهدة على الراوي — منذ نصف قرن على أقل تقدير، وساعة جدار قديمة، تبدو موحشة الصورة رزينة الشكل، لا تقل قِدَمًا عن تلك البندقية، وهي تتدلى من أحد الخطاطيف الكثيرة التي تزيِّن خزانة أدوات المائدة.
وقال الشيخ الكريم: «على استعداد؟» حين فرغ أضيافه من الاغتسال، وإصلاح الهندام، وتنفيض الثياب، والتطمير، فأجاب المستر بكوك قائلًا: «على أتم الاستعداد.»
قال: «هلموا بنا إذن!»
وبعد أن اجتاز الجمع عدة دهاليز مظلمة، ووافاهم المستر طبمن، وكان قد تخلَّف قليلًا لينتزع قبلةً من خد الجارية «أما»، وكان جزاؤه عليها ما يستحق من لكمات وخدشات — وصلوا إلى باب القاعة، فانثنى مضيفهم الكريم يقول وهو يفتح الباب، ويتقدم لإعلان قدومهم: «مرحبًا بكم أيها السادة في ضيعة مانور.»