الفصل الحادي والخمسون
كيف كان لقاء المستر بكوك برجل يعرفه من قديم، وكيف يشعر القارئ بأنه مدين بالشيء الكثير مما سيجده من الاهتمام البالغ بشأن رجلين مشتغلين بالحياة العامة، وشديدي البأس والسلطان، لتلك الظروف الموفقة التي جمعت بين المستر بكوك وبينهما.
***
ولم يكن النهار الذي طلع على المستر بكوك، حين نهض من فراشه، في الثامنة، منتظرًا أن يسري عن نفسه، أو يرفع من روحه ونشاطه، أو يخفف من ضيق الصدر الذي أحدثته نتيجة سفارته، والاكتئاب الذي استولى عليه. فقد كانت السماء قاتمة، والجو مكفهرًّا، والهواء رطبًا باردًا، والشوارع مبللة موحلة، والدخان متجمعًا متكاثفًا فوق رءوس المداخن، كأنما أعوزته الشجاعة وفقد الجرأة، على التصاعد في أطباق الفضاء، والمطر يتساقط بطيئًا متراخيًا، كأنما لا يجد روحًا إلى التدفق والانسكاب، وقد بدا «ديك» من الديكة المدربة على الشجار، في فناء الاسطبل، فاترًا لا ينزع كعادته إلى الحركة، ولا يستروح إلى النشاط، متوازنًا في كآبة على إحدى ساقيه في ركن، كما ظهر حمار تحت السقيفة مطأطئ الرأس، تنم سحنته الساهمة الكالحة عن التفكير في الانتحار، ولم تكن العين تقع في الشوارع على شيء غير المظلات، ولا تسمع الأذن غير أصوات الأحذية الخشبية ورشاش المطر.
ولم يتخلل طعام الفطور غير حديث قصير، وحتى المستر بب سوير نفسه شعر بتأثير الجو وما جرى في الليلة الماضية من اهتياج، ووصف ما به في لغته الخاصة بقوله: «إنه سطيحة»، تعبيرًا عن الفتور والخمود، وكذلك كان المستر بن ألن، والمستر بكوك.
وعكف الجماعة في انتظار عودة الجو إلى الصفاء على قراءة الصحيفة المسائية الواردة من لندن، وإعادة قراءتها باهتمام شديد، لا يلجأ الناس إليه إلا في حالات الفراغ التام من كل عمل، أو لهو، ولم يبق بوصة واحدة من البساط المفروش في الحجرة إلا ديست بالأقدام من كثرة الجيئة والذهاب في أرجائها، كما كثر الإطلال من النوافذ إلى حد يشعر بأنه أضحى واجبًا إضافيًّا فرض عليهم فرضًا، وابتدأوا الحديث في مختلف الشئون ثم انقطعوا عن متابعتها سآمة وضجرًا حتى حانت الظهيرة، ولما يتحسن الجو، فلم يسع المستر بكوك إلا أن يدق الجرس بعزم ويأمر بإعداد المركبة.
وكانت الطرق كثيرة الأوحال، وتساقط الرذاذ أشد مما كان من قبل، والوحل والماء يرتفعان فيصدمان نوافذ المركبة إلى حد مزعج للراكبين في جوفها، والجالسين خارجها، ولكن الشعور الغالب على هذا الإزعاج، بأن الحركة والمسير والتنقل أهون وطأة على النفس من الاحتجاز في غرفة قاتمة، والإطلال على المطر البليد في الطريق القفر، جعلهم متفقي الرأي حين انطلقت بهم المركبة على أن هذه النقلة كانت خيرًا وأجدى، يتساءلون من العجب كيف تراخوا في الإقدام عليها كل ذلك الوقت الطويل، ولم يعمدوا من البداية إليها.
وعندما وقفوا لتغيير الخيل في «كفنتري» كانت الأبخرة المتصاعدة من الجياد متكاثقة إلى حد حجب شبح السائس عن أبصارهم، وإن بلغ أذانهم صوته وهو يعلن من خلال الغمام أنه ينتظر الظفر «بالمدلاة الذهبية» من الجمعية الخيرية في اجتماعها القادم لتوزيع الجوائز، جزاءً له على مبادرته إلى نزع القبعة عن رأس السائق؛ لأن الماء المتساقط من حاشيتها كان حتمًا مغرقة لولا سرعة بديهته، وبداره إلى انتزاعها من فوق هامته، وتجفيف وجهه وهو يلهث متقطع الأنفاس، بحزمة من القش.
وقال المستر بب سوير، وهو يرفع طوق سترته، ويسحب طرف الملفعة عل فمه لكي يحصر البخار المتصاعد من كأس من البراندي فرغ في تلك اللحظة من ابتلاعها: «هذا شيء لطيف.»
وأجاب سام بهدوء: «جدًّا.»
وقال بب: «ولكن لا يبدو عليك اهتمام به.»
وقال سام: «لا أرى فائدة ما في اهتمامي به.»
وقال بب: «هذا سبب مُسكت على أية حال.»
وأجاب المستر ولر: «نعم يا سيدي، إن الواقع هو الحق، كما قال الشاب الوجيه بلطف حين وضعوا اسمه في كشف أرباب المعاشات؛ لأن جد زوجة خال أمه أشعل في ذات مرة قصبة تبغ الملك من علبة ثقاب صغيرة.»
وقال المستر بب سوير باستحسان: «هذه فكرة ليست رديئة يا سام.»
وأجاب سام: «هذا هو ما كان يردده الشاب الوجيه من يوم قبض المعاش إلى بقية العمر.»
وراح سام يسأله، وهو ينظر إلى السائق، بعد صمت قصير، مخافتًا بصوته كأنه يهمس بسر: «ألم تدع مرة وأنت تتمرن على «نشر العظام» للكشف على أحد السائقين؟»
وأجاب بب: «لا أذكر أني دعيت في يوم من الأيام.»
قال: «ألم تكشف مرة على سائق في المستشفى وأنت مار على المرضى، كما يقال عن الأشباح والعفاريت؟ ألم تفعل؟»
وأجاب بب: «كلا، لا أظنني فعلت.»
قال سام وهو يواصل استجوابه: «ألم تعرف مقبرة حوت قبر سائق أبدًا، أو رأيت سائقًا ميتًا في يوم من الأيام؟»
وأجاب بب: «كلا، لم يحدث.»
وقال سام فرحًا طروبًا بانتصاره: «كلا!، لم يحدث، ولن يحدث، وهناك شيء آخر يستحيل على الإنسان أن يراه، وهو الحمار الميت، فما رأى إنسان حمارًا ميتًا في يوم من الأيام، اللهم إلا ذلك السيد الذي كان مرتديًا سراويل قصارًا من الحرير الأسود ويعرف أن المرأة الشابة كانت تربي «جديًا» ولكنه كان حمارًا فرنسيًّا، وأغلب الظن أنه لم يكن حمارًا من الحمير الأصيلة.»
وقال بب سوير: «وما علاقة هذا كله بالسائقين؟»
وأجاب سام: «انتظر، لست أريد أن أجزم كما يفعل العقلاء بأن السائقين والحمير مخلدون لا يموتون أبدًا، أقنع أنا بالقول: أنهم عندما يشعرون بأنهم تيبسوا وعجزوا عن تأدية العمل، يركبون معًا وينطلقون، كل سائق مع اثنين من الحمير كما جرت بذلك العادة، ولا يعرف أحد من الناس ماذا صار إليه أمرهم، ولكن من المرجح جدًّا أنهم يذهبون ليتمتعوا في دنيا أخرى، ما دام الناس لا يرون في حياتهم حمارًا ولا سائقًا متمتعًا ولا واجدًا راحة في دنيانا هذه!»
وأفاض سام في شرح هذه النظرية العلمية الرائعة وأورد عدة إحصاءات غريبة، واستشهد بكثير من الوقائع على صحتها، وبذلك صرف الوقت في الكلام والدعابة حتى وصلوا إلى «ضنتشرتش» حيث ظفروا بسائق آخر لم يبلله المطر، وجياد مستريحة لم تجهد بعد، وكانت الوقفة التالية في دفنتري والتالية في «تاوسستر»، وكان المطر في نهاية كل مرحلة منها أشد مما كان في بدايتها.
وقال بب سوير محتجًّا وهو ينظر من النافذة حين وقفت بهم المركبة أمام فندق «سرسنزهد» (رأس العربي) في «تاوسستر»: «اسمعا، إن هذه الحالة لا يمكن أن تستمر.»
وقال المستر بكوك، وهو يصحو من إغفاءة قصيرة: «يا للعجب! إني أراك مبتلًّا.»
وأجاب بب: «آه! وأنت ألست كذلك؟ إنني فعلًا مبتل قليلًا، بل ربما أكون في رطوبة تسبب لي بعض التعب.»
وكان بب في الواقع مبللًا تتساقط قطرات المطر من رقبته، ومرفقيه وردنيه، وثيابه، وركبتيه، كما كانت ملابسه تلمع من البلل، حتى ليخطئ الناظر فيحسبها حلة مفصلة كاملة من المشمع.
وقال بب، وهو يهز جسده ويرسل رشاشًا من الماء حوله، كأنه كلب من كلاب «نيوفاوند لاند» خرج لتوه وساعته من تحت الماء: «أحسبني فعلًا مبللًا.»
وقال بن: «أظن أنه من المتعذر متابعة السفر الليلة.»
وقال سام ولر وقد جاء ليشترك في الحديث: «بلا نزاع يا سيدي، إنها لقسوة على الحيوانات أن يطلب ذلك إليها، إن في هذا الفندق مراقد يا سيدي»، والتفت إلى سيده ومضى يقول: «كل شيء هنا نظيف ومريح، والعشاء طيب يا سيدي، وفي الإمكان تهيئته في نصف ساعة؛ فرختان وضلع من لحم العجول، وفاصوليا، وحلوى … ونظافة وترتيب؛ ولهذا يحسن يا سيدي أن تبقى حيث أنت، إذا جاز لي أن أشير بشيء، طاوعني يا سيدي، كما يقول الطبيب.»
ومن محاسن المصادفات أن يظهر رب الفندق في تلك اللحظة؛ ليؤكد أقوال المستر ولر عن استعداد الفندق وتوافر مطالب الراحة فيه، ويؤيد توسلاته بعدة حركات وإشارات كئيبة عن رداءة الطرق، والخوف من تعذر الظفر بخيل أخرى في المرحلة التالية، واليقين التام بأن المطر سيستمر طول الليل، والاطمئنان إلى إقلاع السماء عن المطر في الصباح، وعودة الجو إلى الصفاء، وغير ذلك من الكلام المغري الذي اعتاد الناس سماعه من أرباب الفنادق ومديريها.
وقال المستر بكوك: «ليكن، ولكني مضطر إلى إرسال كتاب إلى لندن بأية وسيلة من الوسائل، حتى يسلم في الصباح الباكر، وإلا فلا مندوحة لي عن السفر على ما فيه من مغامرة ومكاره.»
وابتسم رب الفندق جذلًا، وقال: إنه ليس ثمة شيء أسهل ولا أيسر من أن يضع السيد الكتاب في غلاف سميك أسمر ويرسله بالبريد، أو في المركبة الحافلة التي ستقوم الليلة من برمنجهام. وإذا كان السيد شديد الرغبة في إرساله بكل سرعة ممكنة فما عليه إلا أن يكتب على غلافه «يسلم فورًا»، فإن ذلك كفيل بإعطاء الكتاب الاهتمام المطلوب، أو أن يدفع لحامله نصف كراون زيادة لتسليمه على الفور، وهذا أكثر من الطريقة السابقة ضمانًا.
وقال المستر بكوك: «جميل جدًّا، إذن فلننزل هنا.»
وصاح رب الفندق لغلامه: «أضئ الأنوار في قاعة الشمس يا جون، وأوقد النار، إن السادات مبتلون، من هنا أيها السادة، ولا تشغلوا بالكم بأمر السائق الآن، فسأرسله إليكم حين تدقون الجرس طالبيه. والآن يا جون، الشموع!»
وأحضرت الشموع، وحركت الجذوات في الموقدة، وألقيت الأخشاب فيها من جديد، ولم تنقض عشر دقائق أخرى حتى كان الغلام يفرش الغطاء فوق الخوان استعدادًا للعشاء، وأسدلت الأستار، وبدأت النار تتوهج، وبدا كل شيء على نحو ما يبدو أبدًا في جميع الفنادق الإنجليزية الحسنة، كأن المسافرين كانوا مرتقبين قبل مقدمهم، ووسائل الراحة معدة لهم قبل وصولهم ببضعة أيام.
وجلس المستر بكوك إلى منضدة جانبية فكتب في عجلة رقعة إلى المستر ونكل، ينبئه فيها أن الأحوال الجوية هي التي عاقته عن السفر، ولكنه سيكون بلا شك في لندن في اليوم التالي؛ ولهذا يؤجل الحديث عما جرى حتى يلتقيا، ولم يزد في كتابه عن هذا النبأ العابر، ووضع الرقعة في غلاف سميك وأرسله إلى مكان الشراب على يد المستر صمويل ولر.
وترك سام الكتاب لربة الفندق، وانكفأ لتنظيف حذاء سيده، بعد أن جفف ثيابه على نار المطبخ، وحانت منه نظرة في فرجة باب مفتوح نصف فتحة، فلمحت عينه مشهد رجل ذي رأس أصفر كلون الرمل، وأمامه على المنضدة رزمة كبيرة من الصحف وهو مكب على مطالعة مقال افتتاحي في عدد منها، وقد بدت على أنفه غضبة ساخرة، وغمرت معارف وجهه أمارات واضحة تنم عن الترفع والاحتقار.
وقال سام: «ها! إنني أعرف هذا الرأي وهذه التقاطيع، وهذا المنظار أيضًا، وهذه القبعة العريضة الحاشية كذلك. هذه ريح «ايتنزول» وإلا كنت رومانيًّا.»
وانتابت سام سعلة مزعجة في الحال، افتعلها لاجتذاب نظر الرجل، فانتبه هذا على صوتها ورفع رأسه ومنظاره، وكشف عن معارف وجه المستر بت محرر «الغازيت ايتنزول».
وقال سام وهو يتقدم وينحني بالتحية: «معذرة يا سيدي! إن سيدي هنا يا مستر بت.»
وصاح بت وهو يجر سام على الحجرة ويغلق الباب، وقد بدت على وجهه سمات رعب غريب وإشفاق ظاهر: «صه، صه!»
وقال سام وهو يتلفت حوله مذهولًا: «ما الخبر يا سيدي؟»
وأجاب بت: «لا تهمس همسة واحدة باسمي، فنحن في ناحية تابعة لحزب الصفر ولو عرف أهلها المتحمسون السريعو الهياج أنني هنا لمزقوني إربًا.»
وسأل سام: «لا تقل هذا هل تمزق إربًا حقًّا يا سيدي؟»
وأجاب بت: «سوف أكون فريسة حنقهم، والآن يا فتى، ما أنباء سيدك؟»
وقال سام: «إنه نازل الليلة هنا في طريقه إلى المدينة مع صاحبين له.»
وسأل بت بعبسة قليلة: «وهل المستر ونكل أحدهما؟»
وأجاب سام: «كلا يا سيدي، إن المستر ونكل مقيم في بيته الآن، لقد تزوج.»
وصاح بت بحدة مروعة: «تزوج!» ووقف عن الكلام، وابتسم ابتسامة مكفهرة وأضاف قائلًا في صوت منخفض مفعم بالتشفي: «هذا جزاء حق!»
وبعد أن نفس عن صدره ذلك الحقد الدفين، وكشف عن انتصاره في حرب باردة على عدوه الذي سقط في المعركة، بتلك النفثات القاسية، راح يسأل سام عن صديقي المستر بكوك، هل هما من «الزرق»؟ وما كاد يتلقى منه ردًّا شافيًا بالإيجاب، وكان سام لا يقل معرفة بهذه المسائل ونحوها عن بت نفسه، حتى وافق على الذهاب معه إلى غرفة المستر بكوك، حيث لقي ترحابًا صادقًا به، وتم الاتفاق معه على حفلة عشاء، وإصدار الأمر في الحال بإعدادها.
وقال المستر بكوك بعد أن جلس بت بقرب الموقدة وخلع القوم أحذيتهم المبللة، ولبسوا نعالًا جافة: «والآن هل الأمور سائرة على ما يرام في ايتنزول؟ ألا تزال صحيفة «الانديبندنت» تصدر؟»
وأجاب بت: «إن الصحيفة يا سيدي لا تزال تطلع في مشيتها، وهي ماضية في طريقها الأنكد وئيدة عارجة، ممقوتة محتقرة حتى من القليلين الذين يشعرون بوجودها المعيب المشين، مختنقة من كثرة المقاذر التي تفيض بها، عمياء صماء من استنشاقها وأوساخها، وقد أخذت هذه الجريدة الخاملة القذرة، وهي تجهل لحسن حظها حالها المهينة السوأى، تغرق سريعًا في أوحالها الناعمة التي تسوخ فيها الأقدام، وهي أوحال تجعلها تبدو راسخة المكانة عند السفلة والأرذال من أفراد المجتمع، ولكنها مع ذلك تعلو فوق رأسها، ولن تلبث حتى تبتلعها.»
وتمهل المحرر لحظة ليتمالك أنفاسه عقب إلقاء هذا «البيان»، الذي كان جزءًا من مقاله الافتتاحي في عدد الأسبوع الماضي، وانثنى ينظر بهيبة وجلال إلى بب سوير.
قال: «أنت شاب يا سيدي.»
وأومأ المستر بب سوير إيماءة إيجاب.
وانثنى إلى المستر بن ألن فقال: «وأنت كذلك يا سيدي.»
وأقر بن هذا الاتهام الرقيق.
وأجاب بب سوير: «والله لست أدري بالدقة شيئًا عن هذا ونحوه، إنني …»
وقاطعه بت وهو يسحب كرسيه إلى الخلف: «ليس من الصفر يا مستر بكوك، إن صاحبك ليس من الصفر يا سيدي؟»
وأجاب بب: «كلا، كلا، أنا في الوقت الحاضر مزيج من كل الألوان.»
وقال بت بلهجة رهيبة: «متردد، مذبذب، أحب أن أريك سلسلة من ثماني مقالات يا سيدي ظهرت في أعداد «الغازت ايتنزول»، وأظن أن في إمكاني أن أقول: إنك لن تلبث بعد قراءتها أن تقيم آراءك على أساس ثابت من المبادئ «الزرقاء» يا سيدي.»
وأجاب بب: «وأجرؤ أن أقول: إنني سأرتد «أزرق» كل الزرقة قبل أن آتي على نهايتها بوقت طويل.»
ولبث المستر بت ينظر إلى بب سوير مستريبًا بضع ثوان، ثم انثنى إلى المستر بكوك فقال: «هل اطَّلعت على الفصول الأدبية التي ظهرت على فترات من الوقت في «الغازت ايتنزول» خلال الثلاثة الأشهر الماضية، والتي أثارت الاهتمام الشديد والإعجاب البالغ، إن لم أقل: الإعجاب العام؟»
وأجاب المستر بكوك وقد شعر بشيء من الارتباك لهذا السؤال: «الواقع أنني كنت مشغولًا إلى حد كبير بمسائل أخرى فلم تواتني في الحقيقة فرصة لمطالعتها.»
وقال بت عابسًا: «لا بد لك من مطالعتها يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «سأفعل.»
ومضى بت يقول: «لقد ظهرت في صورة عرض شامل لكتاب عن «علم ما وراء الطبيعة عند الصينيين» يا سيدي.»
وصاح المستر بكوك: «عجبًا! بقلمك؟ أرجو أن يكون الأمر كذلك.»
وقال بت باعتزاز: «من قلم ناقدي يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «يخيل إلي أنه موضوع عريض.»
وأجاب بت وهو يتظاهر بأشد مظاهر الحكمة: «جدًّا يا سيدي، وقد أضطر إلى تناوله بالبحث والاطلاع بناء على رغبتي في دائرة المعارف البريطانية إلى حد «التخمة»، كما هو الاصطلاح الشائع، وإن كان يعبر بالضبط عن المعنى المقصود.»
وقال المستر بكوك: «فعلًا! لم أكن أعرف أن هذا المؤلف القيم يحوي أية معلومات عن علم ما وراء الطبيعة عند الصينيين.»
ومضى بت يقول وهو يلقي كفه على ركبة المستر بكوك، ويتلفت حوله مبتسمًا ابتسامة التفوق العقلي: «لقد قرأ عن مادة ما وراء الطبيعة في باب «الميم»، وعن الصين في باب «الصاد» وجمع المعلومات التي تواتت له من هذين البابين يا سيدي.»
ولم تلبث معارف المستر بت أن اتخذت مزيدًا من «التعاظم» عقب ذكر البحث المستطيل، والدراسة الوافية، التي اقتضاها ذلك الموضوع العويص، حتى لقد اضطر المستر بكوك إلى الانتظار بضع دقائق قبل أن يجرؤ على معاودة الحديث، حين رأى وجه الصحفي قد بدأ، يهدأ شيئًا فشيئًا ويعود إلى اتخاذ سمت الرفعة المألوفة منه، فتشجع وانثنى يسأله قائلًا: «هل من بأس في سؤالي ما هو الهدف العظيم الذي جاء بك كل هذه الشقة البعيدة من موطنك؟»
وأجاب بت بابتسامة هادئة: «هو الهدف ذاته الذي يحفزني دائمًا إلى بذل جهودي الجبارة يا سيدي، وأعني به مصلحة بلادي.»
وقال المستر بكوك: «لقد ظننت أنها مهمة عامة.»
وأجاب بت: «نعم، هي كذلك يا سيدي»، وهنا أقبل على المستر بكوك وهمس له بصوت أجوف أجش «إن حفلة رقص سيقيمها «الصفر» يا سيدي في برمنجهام مساء غد.»
وصاح المستر بكوك: «يا عجبًا!»
وأردف بت: «أي نعم، ومأدبة عشاء أيضًا.»
وعاد المستر بكوك يقول مندهشًا: «لا تقل كلامًا كهذا.»
ولكن بت أومأ إيماءة تطير وإشفاق.
مؤامرة «الصفر» من وراء ستار
وقد رأينا في الأيام الأخيرة حية معاصرة تنفث سمها الزعاف، محاولة عبثًا وبلا أمل تلويث سمعة نائبنا المحترم، وممثل دائرتنا العظيم، النائب المستر أسلمكي الذي تنبأنا قبل ظفره بمركزه الحالي ومكانته السامية بوقت طويل أن يصبح في يوم من الأيام — كما هو الآن — أشرف عنوان لبلاده، وأكبر موضع فخارها وأن يمسي أيضًا بطلها الهمام، ومحمدتها المشرفة. نقول: إن هذه الحية المعاصرة أحبت أن تلهو على حساب تكريم رفيع أراد ناخبوه المعتزون به إقامته لذلك الرجل المجيد، وهو تكريم زعمت تلك المنكودة التي نترفع عن ذكر اسمها أن النائب المحترم المستر أسلمكي نفسه تبرع بأكثر من ثلاثة أرباع المال الذي جمع لهذه المأدبة، من طريق صديق من أصدقاء الخادم الموكل بشرابه، فهلا رأت هذه الحية الزاحفة أن ذلك، حتى مع افتراض صحته، لا يزيد النائب المحترم المستر أسلمكي إلا محبة بين الناس، وسناءً باهرًا إن صح أن لهذه المحبة، وذلك السناء، مكانًا لمزيد؟ وهلا خطر لهذه العمياء الضالة أن هذه الرغبة الجميلة المؤثرة في تلبية رغبات الناخبين، تكسبه إلى الأبد معزة مكينة في قلب كل مواطن من مواطنيه الآخرين الذين ليسوا شرًّا من الخنازير، أو بعبارة أخرى، الذين لا يحاكون في المهانة والحقارة زميلتنا ذاتها؟ ولكن لا عجب، فتلك هي ضلالة صحيفة «الصفر»، وأباطيلها المهينة، وأخاديعها السافلة التي تلوذ بالجحور والمكامن. ولم تكتفِ بهذه الأضاليل وحدها، بل مضت تعلن عنها في الخارج، وتكشفها للناس كافة في البلاد، وفي إمكاننا الآن أن نقرر وقد هالنا ما عرفنا، وحفزنا ما اكتشفنا إلى مناشدة البلاد وشرطتها الحماية. نقول: إن في إمكاننا الآن أن نقرر أن هناك استعدادات تتخذ في هذه اللحظة لإقامة حفلة راقصة من الصفر في بلدة من لونهم وسط إقليم من الصفر، يشرف عليه منظم منهم، ويحضره أربعة من غلاوة الصفر في البرلمان، وسيكون الدخول برقاع من عند الصفر. فهل ترى الزميلة الأثيمة تفزع وتجفل من كشف الستار عن هذا الجرم؟ فلتفزع ولتجفل من الحقد العاجز، ونحن نكتب العبارة التالية: سنكون هناك.
وطوى بت الصحيفة وقد أحس جهدًا بالغًا وانثنى يقول: «هاك يا سيدي، هذه هي حقيقة الأمر وواقعه.»
ودخل رب الفندق والخادم في تلك اللحظة يحملان العشاء، فبادر المستر بت إلى وضع إصبعه فوق شفته، إشارة إلى أنه يعد حياته في يد المستر بكوك ويعتمد على كتمان السر. وكان بب سوير وبنجمن ألن قد استولى النعاس عليهما خلال قراءة تلك النبذة من «الغازت» والمناقشة التي تلتها، ولكنهما استيقظا على مجرد الهمس بتلك الكلمة الساحرة، واللفظة الطلسمية «العشاء»! في أذنيهما، فأقبلا عليه بشهية متحرقة يتبعها بالطبع هضم سريع، وصحة جيدة، وخادم واحد في خدمة هذه الثلاث مجتمعة.
وهبط المستر بت خلال العشاء وفي المجلس الذي أعقبه، إلى الحديث فترة قصيرة عن شئونه الخاصة، فنبأ المستر بكوك أن هواء ايتنزول لم يوافق زوجته فسافرت في رحلة لزيارة عدة مدن مشهورة بمياهها المعدنية، طلبًا للاستجمام والشفاء من السقام. وكانت تلك الكلمات تعبيرًا لطيفًا في كشف حقيقة الأمر، وهي أن مسز بت نفذت ما كانت قد أكثرت من التهديد به، وهو الانفصال، فتركت المنزل، طبقًا للاتفاق الذي تولى شقيقها «الملازم» المفاوضة فيه وأقره المستر بت، وهجرت الحياة معه هجرة بغير رجعة، وأخذت معها حارستها «الأمينة»، راضية بنصف الإيراد السنوي والأرباح التي تجتمع له من تحرير الجريدة وبيعها.
وبينما كان المستر بت العظيم يواصل الحديث في هذا الموضوع وغيره من الموضوعات، وينعشه من وقت إلى آخر بشذرات مختلفة من كتاباته الخاصة العظيمة، وقفت في رحبة الفندق مركبة عامة لإنزال الطرود، قبل مواصلة المسير إلى البلاد المجاورة، وأطل من نافذتها رجل غريب عبوس الوجه، وطلب أن يعرف هل يتيسر له إذا لم يواصل السفر إلى بغيته، وأراد المبيت في الفندق إلى الصباح، أن يجد فراشًا وسريرًا.
وأجاب رب الفندق: «بلا شك يا سيدي.»
وقال الغريب، وكان يبدو عليه أنه المستريب المتشكك عادة: «أستطيع؟ هل أستطيع حقًّا؟»
وأجاب رب الفندق: «بلا شك يا سيدي.»
قال: «جميل، أيها السائق أنا نازل هنا، أيها الحارس، عليَّ بحقيبتي القماش!»
وبعد أن حيَّا الركب الآخرين تحية خاطفة، نزل من المركبة، فإذا هو سيد يميل إلى القصر، خشن الشعر فاحمه، مقصوص بشكل قنفخي جعله واقفًا قائمًا فوق رأسه كله، وتلوح عليه سمات العجرفة، وحدة العينين وكثرة اختلاجهما، وينم مظهره في الجملة عن شدة اعتداده بنفسه وشعوره بالسمو المتناهي على الناس جميعًا.
وأعطي ذلك الغريب الغرفة التي كانت قد خصصت في الأصل للمستر بت الوطني الغيور، ولاحظ الخادم في دهشة صامتة، غرابة الاتفاق بين الرجلين، فلم يكد هذا النزيل الجديد يرى الشموع قد أضيئت، حتى دس يده في جوف قبعته، فأخرج إحدى الصحف، وبدأ يقرأها بتلك السخرية المزيجة بالغضب التي بدت على وجه بت وتقاطيعه الجليلة منذ ساعة فقط، وكادت تشل حركة الخادم وتقضي على نشاطه، كما لاحظ أن سخرية المستر بت أثارتها صحيفة كتب اسمها في رأسها وهو «ايتنزول انديبندنت»، وأن سخرية هذا السيد أيضًا أثارتها صحيفة تدعى «غاريت ايتنزول».
وقال الغريب: «أرسل رب الفندق.»
وأجاب الغلام: «سمعًا وطاعة يا سيدي.»
ودعي رب الفندق فجاء.
وسأل السيد: «هل أنت رب الفندق؟»
وأجاب هذا: «نعم يا سيدي.»
قال: «هل تعرفني؟»
وأجاب صاحب الفندق: «لم يتح لي هذا الشرف يا سيدي.»
قال: «إن اسمي سلرك.»
وأمال رب الفندق رأسه قليلًا.
وعاد الرجل يردد القول بكبرياء وزهو: «اسمي سلرك، هل عرفتني الآن يا رجل؟»
وهرش رب الفندق رأسه ونظر إلى السقف ثم إلى الغريب وابتسم ابتسامة واهنة.
وعاد الغريب يسأله بغضب: «هل تعرفني يا رجل؟»
وأبدى رب الفندق جهدًا شديدًا، وأجاب أخيرًا: «والله يا سيدي لست أعرفك.»
وقال الغريب وهو يضرب المنضدة بجمع كفه: «يا إله السموات! ثم يقولون: إن هذه هي الشهرة!»
وخطا رب الفندق خطوة أو اثنتين نحو الباب، وجعل الغريب يتبعه ببصره، ومضى يقول: «هذا هو ما يجزى به جهد السنين ودرس الأعوام في سبيل مصلحة الجماهير، أنزل من المركبة مبللًا متعبًا، فلا تتدافع الحشود المتحمسة لتحية بطلها العظيم، ولا تقرع النواقيس لاستقباله، ولا يجد ذكر اسمه استجابة من الصدور الجياشة، والنفوس المتقدة.» وهنا مضى المستر «سلرك» في هياج وحنق يروح ويغدو في الحجرة قائلًا: «إن هذا ليكفي لأن يجف المداد في الأقلام، ويحمل المرء على اعتزال الجهاد، والتنحي عن النضال آخر الحياة.»
وقال رب الفندق، على سبيل التلميح: «هل قلت يا سيدي براندي بالماء؟»
وأجاب المستر سلرك وهو ينقض عليه بغضب شديد: «قلت: روم! أليست لديك نار مشبوبة في مكان ما؟»
قال: «يمكننا أن نوقد نارًا في الحال يا سيدي.»
ولكن المستر سلرك قاطعه قائلًا: «وهي نار لن ترسل أوارًا ولا تبعث دفئًا قبل موعد النوم، هل هناك أحد في المطبخ؟»
ولم يكن فيه أحد، فقد انصرف الجميع، وأوصدت أبواب الفندق بقية الليل، ولا تزال في المطهى نار متقدة متلظية.
وقال المستر سلرك: «سأشرب رومي الممزوج بالماء بجانب نار المطبخ»، وانثنى فتناول قبعته وجريدته، وتسلل في أثر رب الفندق إلى ذلك المكان الوضيع، وألقى بنفسه على متكأ قريب من الموقدة، وعاد إلى اتخاذ سيمياء السخرية، وبدأ يقرأ ويشرب في وقار وصمت.
وفي تلك اللحظة كان شيطان مريد من شياطين الشر والسوء، يحلق فوق الفندق، فحانت منه التفاتة من الفضول وحب الاستطلاع لا أكثر ولا أقل، فأبصر «سلرك»، وهو جالس جلسة المستريح المطمئن بجوار نار المطبخ، وألمت عيناه ببت وهو نشوان من الشراب في غرفة أخرى، فلم يلبث أن هبط عليها بسرعة لا يتصورها العقل، ودخل في رأس المستر بب سوير في الحال، فوسوس له في سبيل تحقيق غرضه الخبيث أن يقول: «لقد تركنا النار تخبو فاشتد القر على غير العادة عقب المطر، أليس كذلك؟»
وأجاب المستر بكوك وهو يرعش: «هو كذلك فعلًا.»
وقال بب سوير والشيطان الخبيث لا يزال يدفعه ويحفزه: «لا أحسن ثمة بأسًا من تدخين لفافة كبيرة بجانب موقدة المطبخ، هل من بأس؟»
وأجاب المستر بكوك: «بالعكس، أعتقد أنا أن ذلك سيريحنا كثيرًا، ما قولك يا مستر بت؟»
وأبدى المستر بت استعدادًا لإقرار تلك الفكرة، فنهض المسافرون الأربعة في الحال، وقد حمل كل منهم كأسه بيده، وانطلقوا إلى المطبخ، يتقدم موكبهم سام ولر ليهديهم إلى الطريق.
وكان الغريب لا يزال يقرأ، فتطلع ببصره، وأجفل، بينما تولى الذعر المستر بت، فأجفل كذلك.
وهمس المستر بكوك: «ما الخطب؟»
وأجاب بت: «هذا الحيوان الزاحف.»
وقال المستر بكوك وهو يتلفت حوله مخافة أن يطأ بقدميه خنفساء سوداء كبيرة أو عنكبوتًا ضخمًا: «أي حيوان زاحف تعني؟»
وهمس بت وهو يمسك المستر بكوك من ذراعه ويشير إلى الغريب: «هذا الحيوان الزاحف «سلرك» رئيس تحرير الانديبندنت.»
وقال المستر بكوك مخافتًا بصوته: «لعل من الصواب أن نرجع.»
ومضى يتخذ مجلسه فوق المتكأ المقابل. واختار عددًا من الأعداد التي تحويها الرزمة، وبدأ «يباري» خصمه ويجاريه في القراءة.
وقد راح المستر بت طبعًا يقرأ «الانديبندنت» وكان المستر سلرك يقرأ بالطبع «الغازت»، فلم يلبث كلاهما أن ذهب يعبر بصوت مسموع عن احتقاره لمقال الآخر، بضحكات مريرة وحركات اشمئزاز سافر بأنفه، ثم ما لبثا أن تدرجا إلى الكلام الصريح، والتشاتم العلني، كقولهما: سخيف، منكود، بشع، مهاتر، وغد، قذر، وسخ، ماء المجاري. وغيرها من السباب المماثل.
وشاهد المستر بب سوير والمستر بن ألن أعراض هذه الكراهية المتبادلة، والخصومة الواضحة، بشيء من السرور أضاف لذة جديدة إلى متعة التدخين، فجعلا يشدان من اللفافتين أنفاسًا قوية، وما كادا يسترخيان، حتى انثنى المستر بب سوير يقول موجهًا الخطاب بأدب إلى المستر سلرك: «هل تسمح لي بإلقاء نظرة على جريدتك يا سيدي حين تفرغ منها؟»
وأجاب سلرك، وهو ينظر إلى بت نظرة شيطانية: «لن تجد ما يعوضك يا سيدي عن تعب القراءة في هذا الشيء المحتقر المهين.»
وقال بت وهو يتطلع ببصره في حنق شديد، ويرعش في كلامه من فرط الغضب: «ستتناول هذه بعد لحظة ها! ها! وستطرب لقحة هذا، المخلوق.»
وكان كل من الرجلين قد شدد في النطق بكلمة «شيء»، ولفظة «مخلوق»، وأخذ وجههاهما يتقدان تحديًا واستخفافًا.
وقال بت، وهو يتظاهر بأنه يخاطب بب سوير: «إن فحش هذا الرجل التعس يبعث في النفس اشمئزازًا لا يوصف.»
وهنا قهقة المستر سلرك ضاحكًا من أعماقه وطوى الصحيفة؛ لكي يتمكن من قراءة نهر آخر براحة، وقال: إن هذا الأحمق يسليه فعلًا.
وقال بت، وهو متغير اللون من القرنفلي إلى الأرجواني: «ما أشد حماقة هذا المخلوق وضلالته!»
وقال سلرك متسائلًا بب سوير: «هل قرأت يومًا شيئًا من سخافة هذا الرجل يا سيدي؟».
وأجاب بب: «أبدًا هل هو رديء إلى هذا الحد؟»
وقال سلرك: «بشع! بشع!»
وصاح بت عندئذ، وإن لبث يتراءى منشغلًا بالقراءة: «أحقًّا؟ يا للعجب، هذا فظيع، وأي فظاعة.»
وقال سلرك وهو يقدم الجريدة إلى بب: «لو استطعت الخوض في هذا المستنقع من الشر والخبث بضع خطوات، ورأيت كيف تكون المهانة، واللغو، والزور، والبهتان، والرياء، فلعلك واجد بعض الجزاء عن العناء في ضحكة من أسلوب هذا الثرثار الجاهل بالنحو والصرف.»
وقال المستر بت وهو يرفع بصره عن الصحيفة ويرعش من فرط الغضب: «ما هذا الذي قلته اللحظة يا سيدي؟»
وأجاب سلرك: «وما شأنك أنت وما قلت يا سيدي؟»
وقال بت: «هل قلت: ثرثار جاهل بالنحو والصرف؟ أقلت هذا يا سيدي؟»
وأجاب سلرك: «نعم قلته، وأزيد أيضًا عليه. فدم «أزرق» إن كنت تستحسن هذا الوصف ها! ها!»
ولم يجب المستر بت بكلمة عن هذه الإهانة المقترنة بالضحك، بل طوى في تؤدة نسخة «الانديبندنت» وبسطها بكل هدوء، وألقاها تحت حذائه فوطئها بقدمه وبصق فوقها، بكل احتفال وسكون، ثم ألقى بها إلى النار، وهو يقول منثنيًا عن الموقدة: «هذا مكانها يا سيدي، وهذا هو سبيلي في معاملة الثعبان الذي يصدر، لولا أنني لحسن حظه ممنوع من هذا بسلطان القوانين القائمة في بلادي.»
وصاح سلرك، وهو ينهض من مجلسه: «أتعامله هكذا يا سيدي؟ إنه لن يلجأ مطلقًا إلى هذه القوانين في حالة كهذه، تعامله بهذه الوسيلة يا سيدي!»
وقال بب سوير: «مرحى! مرحى!»
وتبعه المستر بن ألن فقال: «لا شيء أعدل من هذا.»
وعاد سلرك يردد بصوت مرتفع قوله: «أتعامله بهذه الطريقة يا سيدي!»
وحدجه المستر بت بنظرة احتقار لو وقعت على مرسى سفينة لفلقته.
ومضى الآخر يردد كلمته ذاتها بصوت أشد ارتفاعًا: «أتعامله بهذه الوسيلة يا سيدي!»
وأجاب بت: «لن أفعل يا سيدي.»
وقال سلرك بلهجة تقريع: «آه! لن تفعل يا سيدي، أتسمعون هذا أيها السادة؟ ولا يريد أن يقول: إنه «خائف»، كلا بل إنه لن يفعل، ها! ها!»
وأجاب المستر بت وقد هاجته هذه السخرية: «إنني أعدك يا سيدي ثعبانًا، وانظر إليك يا سيدي نظري إلى رجل وضع نفسه خارج سياج المجتمع، بتصرفه المتناهي في القحة، وسلوكه المعيب للغاية، وسيرته المقيتة بين الناس، ولا أراك شخصيًّا وسياسيًّا يا سيدي إلا أنك ثعبان لا أقل.»
ولم ينتظر محرر «الانديبندنت» الهائج الغاضب ليستمع إلى نهاية هذا التشنيع الشخصي؛ لأنه أمسك بحقيبة القماش المحشوة بالمنقولات، فلوح بها في الهواء، في اللحظة التي تولى فيها بت بظهره، وتركها تسقط في حركة دائرة فوق رأسه، من ركنها الذي يحوي فرشاة شعر صلبة، فأحدثت صوتًا حادًّا في أرجاء المطبخ وجعلته يخر في الحال على الأرض.
وصاح المستر بكوك حين رأى بت ينهض ويمسك بمجراف النار: «أيها السيدان، فكرا في العاقبة بحق السماء! النجدة … يا سام … الغوث … ليتدخل بعض الناس في الأمر.»
وهرع المستر بكوك وهو يطلق هذه الصيحات المتعطفة فوقف بين المتشاجرين الهائجين في اللحظة التي تلقي فيها حقيبة القماش في جنبه، والمجراف في الجنب الآخر، وسواء كانت الخصومة بين ممثلي الرأي العام في ايتنزول قد أعمت بصيرتيهما، أو أدركا بالفطانة — لأن كلًّا منهما المفكر المنطيق — مدى الفائدة التي تعود من قيام شخص ثالث بينهما؛ ليتحمل الضربات المتبادلة كلها، فلا نزاع في أنهما لم يكترثا أقل اكتراث بالمستر بكوك، بل راح كل منهما يتحدى مناجزه، ويتراشقان بالحقيبة والمجراف بمنتهى الاستهتار وأشد الاستخفاف. وكان المستر بكوك بلا شك سيصاب بآلام شديدة لقاء تدخله الكريم، وتوسطه بدافع الإنسانية، لو لم يبادر المستر ولر على صيحات سيده في تلك اللحظة، فيتناول زنبيلًا مليئًا بالمواد الغذائية، فيوقف الشجار بإلقائه فوق هامة بت العظيم، ويمسك بكتفيه بقوة شديدة ليمنعه من الحركة.
وصاح سام ببب سوير وبن ألن قائلًا: «انزعا هذه الحقيبة من ذلك المجنون الآخر»، وكان الشابان قد وقفا لا يفعلان شيئًا غير اللف حولهما والدوران، وقد حمل كل منهما في يده مشرطًا من صدفة سلحفاة، وهو على استعداد لحجم أول رجل منهما يسقط مجندلًا.
وعاد سام يصيح قائلًا: «أكفف أيها المخلوق القصير التعس عن التلويح بهذه الحقيبة وإلا خنقتك في جوفها.»
وريع محرر «الاستقلال» من هذا الوعيد واستخذى، ولهثت أنفاسه من الجهد، فترك السلاح ينزع منه، وعمد المستر ولر إلى انتزاع المجراف من بت وأطلق سراحه منذرًا متوعدًا.
وقال سام في نذيره: «اذهبا إلى فراشكما بكل هدوء، وإلا حملتكما إليه بنفسي، وجعلتكما تعاودان القتال مكممين، كما لو كان أمامي عشرة أو أكثر من أمثالكما في شجار كهذا أو شبهه. وأنت يا سيدي تكرم بالابتعاد من هنا.»
وكان الخطاب الأخير موجهًا إلى المستر بكوك، وتناول سام ذراعه، ومشى به، بينما سيق الصحفيان المتنافسان إلى سريريهما، وتولى رب الفندق نقل كل منهما على حدة، تحت إشراف المستر بب سوير، والمستر بنجمن ألن، وهما لا يكفان عن تبادل كلمات الوعيد الدموي وتحديد مواعيد غامضة للقتال المميت في غداة اليوم التالي. ولكنهما حين سكنا بعد الغضب، وترويا بعد التهور، بدا لهما أن في إمكانهما أن يتقاتلا ويتبارزا فوق القرطاس، ويسنا القلم، أفضل وأبرع من التقاتل بحد الحسام، وشرعا في غير توان يتبادلان خصومة مميتة من الغداة، ودوت أرجاء ايتنزول كلها بأنباء بسالتهما التي ظهرت على صفحات الجريدتين.
وسافر كل منهما في مركبة مستقلة في الصباح الباكر قبل أن يتحرك أحد من النزلاء من سريره، وكان الجو قد صحا، فعاد الرفاق في عجلتهم مولين وجوههم شطر لندن.