الفصل الثاني والخمسون
حدث خطير في أسرة ولر، وسقوط المستر استيجنز الرجل الأحمر الأنف … وأفول نجمه قبل الأوان.
***
ورأى المستر بكوك أنه من الخير أن يرجئ اللقاء بين بب سوير وبن ألن، وبين العروسين، حتى يتأهب هذان كل الأهبة للاجتماع بهما، وأحب أن يغني عن «أرابلا» حرج هذا اللقاء ما استطاع، فاقترح أن ينزل هو وسام من المركبة في موضع قريب من فندق «جورج والرخم»، وأن يتخذ الشابان لهما مقرًّا في مكان ما إلى حين، فوافقا على هذا الاقتراح بكل ارتياح، وبدأ إخراجه إلى حيز التنفيذ، فذهب المستر بن ألن، والمستر بب سوير إلى حانة منعزلة من حانات الجعة في أقصى ناحية من الضاحية، كان أسماهما في الأيام الخالية كثيرًا ما يظهران خلف باب محل الشراب مكتوبين بالطباشير على رأس خط مستطيل من الأرقام والحسابات لبيان ما عليهما من ثمن للشراب.
واستقبلت الخادم الحسناء سام لدى الباب وهي تقول: «ويحي يا مستر ولر.»
وأجاب سام، وقد تنحى لكي يتقدم سيده فيبتعد حتى لا يسمعه: «لقد كنت أتمنى أن تكون «ويحي» هذه كلمة أخرى، كقولك: عزيزي، مثلًا ما أعذبك وأجملك من مخلوقة يا ميري.»
وقالت ميري: «لك الله يا مستر ولر، أي كلام فارغ هذا الذي تقوله؟ امتنع يا مستر ولر.»
وقال سام: «أمتنع عن ماذا يا عزيزتي؟»
وأجابت الخادم الحسناء: «عن هذا، هيا، امض في سبيلك»، وراحت بعد هذه النصيحة تدفعه نحو الجدار، قائلة: إنه قد أفسد نظام قبعتها وأتلف تسريحة شعرها.
واستتلت قائلة: «ومنعتني أيضًا عما كنت أريد أن أقوله، إن هنا خطابًا ظل ينتظر قدومك منذ أربعة أيام، وقد وصل بعد سفرك بنصف ساعة وفوق ذلك، قد كتب على غلافه: عاجل.»
وقال سام: «وأين هو يا حبيبتي؟»
وأجابت ميري: «عندي، أنا محتفظة به حتى تعود، ولولا ذلك لفقد من وقت طويل، هاك هو ذا، إنه أكثر مما تستحق.»
وبهذه العبارات، عقب عدة شكوك ومخاوف أبدتها الفتاة في حركات حلوة مغرية جميلة، والدعوات إلى الله أن يهديها إلى مكان الخطاب، راحت تخرجه من خلف صدار بديع من الحرير، وأسلمته إلى سام فتناوله فقبله في جرأة بالغة وإخلاص.
وقالت ميري وهي تسوي أطراف ثوبها الجميل، وتتظاهر بأنها لم تدرك القصد: «يا إلهي، أراك قد أحببته في الحال إذ تناولته.»
فلم يرد المستر ولر على قولها بأكثر من غمزة من طرف عينه، لا يفي أي وصف مهما كان بليغًا بتصوير معانيها، أو التعبير عن أدنى فكرة عنها، ومضى يجلس بجانبها فوق مقعد النافذة، وفض الكتاب وألقى نظرة على ما فيه.
وصاح سام: «ها! ما هذا كله؟»
وقالت ماري وهي تطل من فوق كتفه: «أرجو ألا يكون فيه ما يسوء.»
وقال سام وهو يتطلع إليها: «بارك الله في عينيك هاتين!»
وقالت المليحة: «دعك من عيني، خير لك أن تقرأ الكتاب.»
وما أن قالت ذلك حتى تركت عينيها تبرقان بريق مكر وفتنة وجمال لا سبيل إلى مقاومتها.
المركيس جران، في
دوركن
الأربعاء
عزيزي صمويل١ …
إنني آسف جدًّا لسروري بحمل أنباء سيئة فإن امرأة أبيك أصيبت ببرد بسبب تهورها في الجلوس مدة طويلة فوق الحشيش الرطب تحت وابل المطر؛ لتسمع عظة «راع» لم يتمكن من إنهاء كلامه إلا في ساعة متأخرة من الليل؛ لأنه كان قد أكثر من البراندي الممزوج بالماء، فلم يتيسر له الانقطاع عن الكلام إلا بعد أن أفاق قليلًا من السكر، وهو ما استغرق عدة ساعات، وقال الطبيب: إنها لو كانت بلعت البراندي والماء بعد هذه الجلسة الطويلة لا قبلها، لكانت شحمت عجلاتها، وأمكن شفاؤها بأي طريقة، وكان والدك يؤمل أن تعود إلى حالتها الطبيعية كالعادة، ولكنها عندما وصلت إلى حيث يدور الطريق غلطت ومشت في طريق غير الطريق الصحيح، فنزلت منحدر بسرعة لا مثيل لها، ورغم مبادرة الطبيب إلى إعطائها الدواء، لم تنفع فيها أية حيلة، فدفعت «عوايد المرور» في المكان الأخير قبل الساعة السادسة مساء أمس بعشرين دقيقة، بعد أن قطعت السفر في الوقت المناسب مع (بابا)، الذي يعتقد أن ذلك كان راجعًا بعض الشيء إلى أنها لم تكن تحمل متاعًا كبيرًا في تلك الرحلة الطويلة، وبابا يقول لك: إذا أمكنك الحضور لمقابلته يا سامي فسوف يكون ممتنًّا لك كثيرًا؛ لأنني أشعر بوحشة وحدي يا «صموفيل» — ملحوظة: إنه يصر على تهجيتها بهذا الشكل؛ لأنه هو الصح — ولديه مسائل كثيرة تحتاج إلى تسوية وأنا متأكد أن سيدك الذي أنت عنده سوف لا يمانع بالطبع، إنه لا يمانع يا سامي؛ لأني أعرفه جيدًا، ووالدك يرسل إليه السلام وأنا منضم إليه، ودمتم لوالدكم إلى الأبد يا صموفيل والسلام ختام.
وقال سام: «هذا خطاب غير مفهوم، فمن يعرف ماذا يقصد بكل ما تكرر فيه من «هو» و«أنا» لا يمكن أن تكون هذه كتابة والدي بنفسه، اللهم إلا الإمضاء بهذه الحروف الكبيرة، فهي وحدها بخطه.»
وقالت الخادم المليحة: «لعله وجد أحدًا يكتبه له ثم أمضاه بعد ذلك.»
وقال سام وهو يعيد قراءة الكتاب، ويقف بين فقراته ليفكر: «تمهلي لحظة لقد قلت عين الجد، فقد كتب الرجل كلامًا معقولًا عن الحادثة بطريقة مناسبة، ولكن الوالد وقف على كتفه فأفسد الكلام كله وزاده تعقيدًا بما أدخله عليه من كلامه، هذا هو ما يفعله بعينه، وأنت على حق يا عزيزتي ميري.»
وبعد أن أقنع سام نفسه على هذا النحو، عاد فقرأ الكتاب من أوله إلى آخره مرة أخرى، وبدا عليه أن استطاع تكوين فكرة واضحة عما فيه لأول مرة، وأنشأ وهو يطوي الكتاب يقول ساهمًا واجمًا: «وهكذا ماتت المخلوقة المسكينة، إنني لحزين عليها، فقد كانت طيبة لولا أولئك الرعاة الذين أحاطوا بها، إنني حزين جدًّا عليها.»
وقد فاه المستر ولر بهذه الكلمات وهو كاسف البال متأثر، حتى لم يسع الفتاة المليحة إلا أن تغض من عينيها وتبدو واجمة مكفهرة.
وعاد سام يقول وهو يضع الكتاب في جيبه بزفرة رفيقة: «وعلى كل حال لقد كان ذلك مقدرًا، والمقدر كائن، كما قالت السيدة العجوز بعد أن تزوجت بخادمها. لم تكن ثمة حيلة، أليس كذلك يا ميري؟»
وهزت ميري رأسها وزفرت هي الأخرى.
وقال سام: «لا بد لي من استئذان «الإمبراطور» في الغياب.»
وزفرت ميري مرة أخرى، فقد كان الكتاب مؤثرًا جدًّا.
وقال سام: «إلى اللقاء!»
وأجاب المليحة وهي تشيح بوجهها: «إلى اللقاء.»
قال سام: «ألا تسلمين باليد؟»
ومدت المليحة يدها، وكانت — رغم أنها خادمة — كفًّا صغيرة رقيقة ونهضت لتنصرف.
وقال سام: «لن يطول غيابي.»
وقالت ميري، وهي تطوح برأسها في الفضاء أرق تطويحة ممكنة: «إنك أبدًا غائب، فلا تكاد تعود يا مستر ولر حتى تذهب ثانية.»
وأدنى المستر ولر المليحة من صدره، وأقبل على حديث هامس، لم يكد يمضي فيه شوطًا، حتى تولت بوجهها إليه وسمحت بأن تنظر صوبه، وحين افترقا، وجدت أن لا مندوحة لها على أية حال أن تذهب إلى غرفتها لإصلاح قبعتها الصغيرة وجدائل شعرها، قبل أن تفكر في المثول بين يدي سيدتها، فانطلقت وهي تنعم على سام بوفرة من هزات الرأس والبسمات من فوق سياج السلم وهي صاعدته.
وقال سام للمستر بكوك حين أبلغه فحوى كتاب أبيه وقصة مصابه: «ولن أغيب أكثر من يوم أو يومين يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «غب ما اقتضت الضرورة الغياب، ولك مني الإذن كاملًا.»
وانحنى سام شاكرًا.
ومضى المستر بكوك يقول: «ونبئ أباك يا سام أنني على أتم الاستعداد والرغبة في تقديم أية معونة في إمكاني إذا تسنى لي أن أعاونه في مصابه.»
وأجاب سام: «شكرًا يا سيدي، سأنبئه يا سيدي.»
وافترق السيد والخادم بعد تبادل عبارات المودة والتعاطف.
وفي تمام الساعة السابعة نزل صمويل ولر من مقعده بجانب السائق في مركبة حافلة تمر من حي «دوركنج» حين وقفت عن المسير على مبعدة بضع مئات من الأمتار من حانة «المركيز جرانبي»، وكان المساء قرًّا، والشارع الصغير يلوح مقفرًا قاتمًا كئيبًا، ووجه المركيز في الرسم المعلق فوق الباب تبدو عليه من سمات الحزن والكآبة ما لم يكن من قبل باديًا عليه، وهو يتحرك ذهابًا وجيئة مع الريح ويرسل أنينًا محزنًا كأنين الحداد على الراحلين، وكانت الأستار مسدلة، والشرفات مغلق بعضها، ولم يكن في المحل أحد من أولئك الزبائن المطيلي الجلوس الذين يجتمعون عادة بقرب الباب، والمكان ساكن مهجور.
ولم يجد سام أحدًا يستطيع أن يلقي عليه أسئلة تمهيدية، فدخل برفق، ودار بعينه فيما حوله فأبصر في الحال أباه على قيد خطوات منه.
وكان ذلك «الأرمل» جالسًا إلى منضدة مستديرة صغيرة الحجم في الغرفة الضيقة القائمة خلف مكان الشراب، يدخن في قصبته، مطرق الرأس يتطلع بعينيه إلى النار، وبدا لسام أن الجنازة شيعت في ذلك اليوم بالذات، فقد رأى على قبعته التي كانت باقية فوق رأسه شريطًا يبلغ طوله ياردة ونصف ياردة، متدليًا منها فوق مسند المقعد، مهملًا لا يجد من يرفعه من تراخيه. وكان المستر ولر شاردًا سارح الخاطر ساهمًا، حتى لقد ناداه سام باسمه عدة مرات ولكنه لبث يدخن، هادئًا ذاهلًا، فلم ينتبه أخيرًا من شروده إلا حين وضع سام راحة كفه فوق كتفه.
وقال المستر ولر: «سامي، مرحبًا.»
وقال سامي وهو يعلق قبعته فوق المشجب: «لقد ناديتك عدة مرات ولكنك لم تسمعني.»
وأجاب المستر ولر وهو لا يزال ينظر إلى النار مفكرًا: «لم أسمعك فعلًا يا سامي، كنت سارحًا.»
وقال سامي وهو يقرب معقده من النار: «في أي شيء تسرح؟»
وأجاب الوالد: «كنت سارحًا فيها يا صموفيل.»
وهنا هز المستر ولر رأسه ناحية مقبرة «دوركنج» تفسيرًا صامتًا لقوله وإشارة إلى المرحومة المسز ولر.»
وواصل سامي حديثه قائلًا وهو ينظر إلى ابنه بجد بالغ من فوق قصبته، كأنما يريد أن يؤكد له أنه مهما تبدو أقواله غريبة شاذة لا يمكن أن تصدق، فقد فاه بها في هدوء وبعد تفكير وروية: «لقد كنت أفكر يا سامي في أنني أولى بأن أحزن وآسف على فراقها على كل حال.»
وأجاب سام: «وهذا هو ما يجب عليك.»
وأومأ المستر ولر إيماءة الموافقة على هذا الشعور، ثم عاد يطيل النظر إلى النار، ويتوارى في وسط دخان كثيف، ويفكر تفكيرًا عميقًا.
وعاد يقول وهو يطرد الدخان بيده بعد صمت طويل: «لقد كانت كلماتها معقولة يا سامي ووجيهة جدًّا.»
وقال سام: «أي كلمات؟»
وأجاب الشيخ: «الملاحظات التي أبدتها قبل مرضها.»
وسأل سام: «وما هي؟»
فقال الشيح، كلام في هذا المعنى: «قالت: يا ولر، إنني أخشى ألا أكون قد فعلت لك ما كان أولى بي أن أفعله، فأنت رجل حنون كريم القلب، وكان في وسعي أن أجعل بيتك أكثر سعادة ورغدًا، ولكني بدأت أدرك الآن — بعد فوات الأوان — أنه إذا أرادت المرأة المتزوجة أن تكون متدينة، فلتبدأ أولًا بتأدية واجباتها نحو بيتها، فتجعل كل من حولها سعيدًا هنيًّا، وإذا أرادت أن تذهب إلى الكنيسة، أو المعبد، أو ما أشبه بهما، في المواقيت المقررة للعبادة، فلتحرص على ألا تجعل من هذا التدين عذرًا تبرر به فراغها وإهمالها وإمعانها في رغباتها، وقد فعلت أنا ذلك، فأضعت الوقت والمادة فيهما أكثر من أي امرأة سواي، ولكني أرجو يا ولر حين أرتحل من هذه الدنيا أن تفكر ذلك التفكير الذي كنت تفكره قبل أن أعرف هؤلاء الناس، وكما رأيتني يومئذ على سجيتي وطبعي، فقلت لها وقد فاجأتني يا صمويل بهذا القول الأليم: نعم، لا أنكر يا بني أنها أخذتني به على غرة. قلت: سوزان، لقد كنت زوجة طيبة كريمة علي كل الطيبة، ونهاية الكرم، فلا تقولي مثل هذا القول، وتشجعي يا عزيزتي ولا تحزني، وعيشي حتى تشهديني أكسر دماغ استيجنز. فابتسمت لهذا القول يا صموفيل — وهنا كبت الشيخ بقصبة تبغه زفرة شاهقة، وانثنى يقول: ولكنها مع كل هذا ماتت.»
وقال سام على سبيل تقديم مواساة يسيرة للتخفيف عن أبيه، بعد فترة صمت استغرقت ثلاث دقائق أو أربع، قضاها الشيخ في هز رأسه يمنة ويسرة، ومواصلة التدخين في أسف ووجوم: «نعم، يا معلم، نحن كلنا لها، يومًا.»
وقال المستر صمويل الكبير: «هذا محتم يا سامي، هذا أمر لا بد منه.»
وقال سام: «إن يد الله وتقديره من وراء هذا كله.»
وأجاب الوالد، وهو يومئ إيماءة موافقة حزينة: «بالطبع، وإلا ماذا كان ناقلو الموتى يفعلون، لولا هذا يا سامي؟»
وسرح المستر ولر الكبير في ذلك الوادي الفسيح من الخواطر والأفكار الذي فتحت هذه الفكرة بابه، فوضع القصبة فوق المنضدة وراح يحرك جذوات النار بوجه كاسف غارق في التفكير.
وبينما كان الشيخ في سرحته تلك، جاءت طاهية بضة في ثياب الحداد، كانت من قبل تروح وتغدو حول مكان الشراب، فألقت حين تسللت إلى الغرفة عدة نظرات على سام تدل على أنها تعرفه، ووقفت خلف كرسي أبيه، معلنة قدومها بسعلة خفيفة، لم تكد تتبين أنه لم يفطن إليها، حتى أتبعتها سعلة أخرى أعلى من الأولى صوتًا.
وقال المستر ولر الكبير وقد ألقى المحراك من يده وهو يتلفت حوله، ويبادر إلى سحب مقعده بعيدًا من الموقدة: «نعم! ماذا جرى الآن؟»
وقالت المرأة البضة ملاطفة: «هيا تناول فنجانًا من الشاي أيها الرجل الصالح.»
وأجاب المستر ولر في شيء من الانفعال: «كلا، لا أريد، سأراك.» وهنا أسرع في ضبط نفسه. فقال بصوت منخفض: «فيما بعد.»
وقالت المرأة، وهي ترفع بصرها: «ويحي! ويحي! لكم تغير الشدائد نفوس البشر!»
وتمتم المستر ولر قائلًا: «لن يغير ما بي بعد اليوم غير هذا الذي جرى، والطبيب.»
وقالت المرأة البضة: «ما رأيت في حياتي حقًّا رجلًا غضوبًا حادًّا بهذا الشكل.»
وأجاب الشيخ: «لا بأس، كل هذا في مصلحتي، وهي الفكرة ذاتها التي خطرت للتلميذ النادم عندما مدوه، وضربوه ليهدئوا بالضرب خاطره.»
وهزت المرأة البضة رأسها هزة رثاء وعطف وانثنت إلى سام تسأله ألا ينبغي لأبيه حقًّا أن يحاول التسرية عن نفسه، وألا يستسلم لهذا الحزن الذي استولى عليه قائلة: «لا يخفى عليك يا مستر صمويل أنه سيشعر بوحشة، كما قلت له أمس، فلا يمكن أن يتوقع إلا ما هو كائن ولكن يجب أن يتشجع ويتأسى. وأنا واثقة أننا جميعًا راثون لحاله، شاعرون بمصابه، ومستعدون لعمل أي شيء من أجله، وما من أمر في هذه الدنيا يا مستر صمويل إلا وله علاجه، وهذا هو عين ما قاله لي رجل فاضل كبير عند وفاة المرحوم زوجي.» وهنا وضعت المرأة البضة يدها فوق فمها وسعلت مرة أخرى ونظرت بحنان إلى الشيخ.
وقال هذا بجد وهدوء: «لست بحاجة اللحظة إلى سماع شيء من كلامك، فهلا تكرمت بالانصراف؟»
وأجابت المرأة البضة: «أنا متأكدة يا مستر ولر أنني ما تكلمت إلا من قبيل الشفقة.»
وقال المستر ولر: «لا يبعد يا سيدتي! يا صموفيل خذ السيدة إلى الباب وأغلقه في أثرها.»
ولم يفت هذا التلميح المرأة البضة فغادرت الغرفة في الحال وأغلقت الباب بعنف خلفها، وأسند المستر ولر ظهره إلى المقعد وهو يتصبب عرقًا.
وقال لفتاه: «اسمع يا سامي، إذا أنا بقيت هنا وحدي أسبوعًا آخر، أسبوعًا آخر يا بني، فسوف تتزوجني هذه المرأة بالقوة والإكراه قبل انقضائه.»
وقال سام: «يا للعجب! أهي مولعة بك إلى هذا الحد؟»
وأجاب والده: «مولعة! لقد عجزت عن إبعادها عني، ولو كنت مغلقًا علي في خزانة واقية من النار، وعليها علامة «البراهمة» لما عز عليها أن تهتدي إلى وسيلة للوصول إلي يا سامي.»
وقال سام وهو يبتسم: «ما أحسن حظك، إذا كانت النساء هكذا متهافتات عليك.»
وأجاب المستر ولر وهو يحرك النار بقوة: «أنا لست في مقام التباهي بذلك، ولكن الموقف شنيع، حتى ليضطرني فعلًا إلى ترك البيت والفرار من هذا البلد، فما كادت امرأة أبيك المسكينة تلفظ أنفاسها الأخيرة حتى أرسلت إلي امرأة عجوز «علبة مربى»، وأخرى علبة «فالوذج» وثالثة جرة كبيرة من نقيع اصطنعته من الشاي المخلوط بالبابونج، وجاءت به تحمله بنفسها»، وتمهل المستر ولر ليبدي منتهى الاشمئزاز ثم تلفت حوله وأردف قائلًا: «وكلهن أرامل يا سامي عدا صاحبة الشاي والبابونج فهي شابة في الثالثة والخمسين.»
فكان جواب سام نظرة ماجنة. وراح الشيخ يكسر قطعة من الفحم متأبية على الكاسر، وهو يلوح من شدة الانفعال والحقد كأنه إنما يكسر رأس واحدة من تلك الأرامل.
وأنشأ يقول: «وباختصار يا سامي أشعر بأنني لست آمنًا في أي مكان غير مقعد السائق في المركبة.»
وقال سام: «وكيف تكون أكثر أمانًا فيه من أي موضع سواه؟»
وأجاب المستر ولر وهو يطيل النظر في وجه ابنه: «لأن السائق إنسان ممتاز؛ لأنه يستطيع أن يفعل دون ريبة ما لا يجوز للآخرين أن يفعلوه؛ ولأنه أيضًا قد يكون على أحسن حال من المودة مع المسافرات ولو ثمانين ميلًا، ولا يخطر ببال أحد أنه يقصد الزواج بأي واحدة منهن، فهل في وسع أي إنسان آخر يا سامي أن يقول هذا القول؟»
وقال سام: «صحيح، إن هناك شيئًا في هذا الكلام.»
ومضى المستر ولر في تأييد قوله بالحجة فقال: «لو كان سيدك سائقًا، فهل تظن أن المحلفين كانوا يدينونه إذا فرضنا أن المسألة وصلت فعلًا إلى هذا الحد البعيد؟ أنا واثق أنهم ما كانوا يحكمون هذا الحكم.»
وقال سام بلهجة أقرب إلى الانتقاص من هذه الحجة: «وما الذي كان سيمنعهم؟»
وأجاب المستر ولر: «تسألني لماذا! لأن ذلك كان يتعارض مع ضمائرهم، فإن السائق المحترف المنظم هو نوع من الحلقة الواصلة بين «العزوبة» والزوجية، وهذا هو ما يعرفه كل رجل عملي.»
وقال سام: «ما هذا الذي تقوله! هل تقصد أنهم محظوون عند الناس جميعًا فلا أحد يمكن أن يستغلهم.»
وأومأ والده مؤمنًا على قوله، ومضى يقول: «ولست أدري كيف يحدث هذا، ولكني أعتقد أن للسائقين الذين يسافرون بالمركبات العامة في رحلات طويلة فتنة، وجاذبية، تجعلهم دائمًا منظورًا إليهم، بل يصح لي أن أقول: إنهم معبودو كل امرأة شابة، في كل بلدة يمرون بها، ولا أعرف السبب، وكل ما أعرفه هو أن هذا هو الذي يحدث فعلًا، هو تدبير وضعته الطبيعة أو صرف لها كما كانت المرحومة امرأة أبيك المسكينة تقول عادة.»
وقال سام وهو يصحح كلام أبيه: «تقصد أن تقول: «تصرفات» الطبيعة.»
وأجاب المستر ولر: «جميل جدًّا يا صموفيل، تصرفات الطبيعة، إذا كنت ترى أن هذه الكلمة أحسن وأفضل، ولكني اعتدت أن أسميه «صرفها»، كما رأيته مكتوبًا على المحال التي يعطونك فيها أدوية بالمجان إذا أنت أحضرت الزجاجة الفارغة من عندك هذا هو كل ما في المسألة.»
وانثنى المستر ولر بعد هذه الكلمات يملأ قصبته مرة أخرى ويشعلها، ويتخذ سمات التفكير فيمضي قائلًا: «ولهذا يا بني لا أرى من المستحسن أن أبقى هنا لأتزوج سواء رضيت أو لم أرض، وبما أني لا أحب أن أبتعد كلية عن أفراد هذا الجنس اللطيف في المجتمع، فقد عزمت على أن أسوق المركبة القديمة التي ندعوها «الأمان»، وأعود إلى السكنى في فندق «بل سوفاج»؛ لأنه مسقط رأسي يا سامي.»
وقال سام: «والعمل هنا، ما العمل فيه؟»
وأجاب الشيخ: «العمل هنا يا صموفيل، واسم المحل، والشهرة، والبضاعة، والأثاثات كلها سأبيعها «بالممارسة»، ومن هذا المال، سوف أضع مائتين من الجنيهات باسمك تنفيذًا لوصية المرحومة امرأة أبيك قبل وفاتها بقليل، في ذلك الشيء الذي يسمونه ماذا يا سام؟»
وقال سام: «أي شيء تعني؟»
وأجاب الوالد: «ذلك الشيء الذي يرتفع ويهبط في حي العمل والتجارة.»
وقال سام: «هل تقصد العربات الحافلة؟»
وأجاب المستر ولر: «هراء! ليس هذا، إنما أقصد تلك الأشياء التي تتقلب أسعارها من وقت إلى آخر، وتتصل نوعًا ما بالدين العام وأذونات الخزانة، وما أشبه بها.»
وقال سام: «آه! تقصد الأوراق المالية.»
وأجاب المستر ولر: «آه، الأوراق المالية! سأضع مائتي جنيه باسمك لاستثمارها يا صموفيل بسعر «الفائدة» أربعة ونصف في المائة.»
وقال سام: «كان كريمًا من المرأة العجوز أن تفكر في أمري على هذه الصورة. إنني مدين لها كثيرًا لهذا الجميل.»
ومضى المستر ولر يقول: «وأما الباقي فسأودعه باسمي أنا، وحين أرحل من الطريق سيؤول إليك، فاحرص على ألا تنفقه كله مرة واحدة يا بني، واحذر أن تدع أرملة تظفر منه بشيء وإلا ضعت.»
وعاد المستر ولر بعد هذا التحذير إلى قصبته وقد هدأ وجهه وسكن خاطره كثيرًا، عقب مكاشفة ابنه بهذه المسائل.
وقال سام: «أسمع دقًّا بالباب.»
وأجاب أبوه بكل سكينة وكبرياء: «ليدقوا ما شاءوا.»
وامتثل سام لأمر والده، فلم يذهب ليرى من الطارق، ولكن الدق تكرر مرارًا، وكانت الدقة الأخيرة طويلة المدى، فسأل سام أباه لماذا يريد منع الطارق من الدخول.
وهمس المستر ولر وهو بادي الخوف: «صه! لا تهتم يا سامي إنها إحدى أولئك الأرامل، ربما.»
وإذ كان أحد لم يحفل بذلك الدق المتوالي، فإن الزائر المجهول عقب فترة قصيرة تجرأ ففتح الباب وأطل منه، ولم يكن الرأس الذي ظهر من الفتحة اليسيرة رأس أنثى، ولكنه كان رأس المستر استيجنز بفروعه السود الطوال ووجهه الأحمر، فما كاد المستر ولر يلمحه حتى سقطت القصبة من يديه.
وانثنى السيد المحترم ففتح الباب شيئًا فشيئًا بشكل غير محسوس إطلاقًا، حتى جعل الفتحة من السعة بحيث تسمح لبدنه النحيل بالدخول، وتسلل إلى الغرفة وأغلق بابها في أثره بكل عناية ورفق، وتقدم نحو سام، فرفع يديه وعينيه، وتعبيرًا صامتًا عن حزنه الذي لا يوصف من جراء هذا المصاب الجلل الذي منيت به الأسرة، وحمل المقعد العالي المظهر إلى الركن الذي اعتاد الجلوس فيه بجوار الموقدة، فاقتعد حافته، وأخرج منديلًا أسود فوضعه على عينيه.
وكان المستر ولر خلال ذلك كله قد أسند ظهره إلى مقعده فاتحًا عينيه على سعتهما، وواضعًا يديه فوق ركبتيه، وقد بدت على وجهه سمات الدهشة الغامرة المذهلة، بينما جلس سام قبالته في صمت تام، مترقبًا في لهفة بالغة، ختام هذا المشهد.
وظل المستر استيجنز واضعًا منديله الأسود على عينيه بضع دقائق، وهو يبكي ويئن طويلًا، ثم ما عتم أن تغلب على شعوره بجهد جهيد، فأعاد المنديل إلى جيبه وزرره، ثم حرك النار، ثم فرك يديه، ونظر إلى سام.
قال وهو يبدد ذلك السكون الطويل بصوت خافت: «آه، يا صديقي الشاب، إنه لمصاب أليم.»
وأومأ سام إيماءة خفيفة.
وأردف المستر استيجنز: «وإذا حل بالرجل الغضوب أيضًا فإن القلب ليدمى!»
وسمع سام أباه يغمغم ببعض القول، بسبيل جعل «الأنف» يدمى، ولكن المستر استيجنز لم يسمع شيئًا.
وقرب المستر استيجنز مقعده من سام وهمس قائلًا: «أتعرف أيها الفتى هل تركت لعمانويل شيئًا؟»
وقال سام: «ومن هو عمانويل هذا؟»
وأجاب المستر استيجنز: «الكنيسة، كنيستنا، جمعيتنا يا مستر صمويل.»
وقال سام بلهجة قاطعة: «لم تترك للجمعية شيئًا، ولا للراعي شيئًا، ولا «للبهائم» شيئًا، ولا للكلاب أيضًا.»
ونظر المستر استيجنز بمكر إلى سام، ورمق الشيخ بعينه كذلك، وكان هذا جالسًا مغمضًا جفنيه كأنه نائم.
وعاد المستر استيجنز يقرب مقعده مرة أخرى فقال: «ولا شيء لي أنا يا مستر صمويل؟»
وهز سام رأسه.
وقال المستر استيجنز وقد ارتد وجهه شاحبًا: «أعتقد أن هناك شيئًا لي. فكر يا مستر صمويل، ألا من تذكار صغير؟»
وأجاب سام: «ولا ما يعادل ثمن مظلتك القديمة هذه.»
وقال المستر استيجنز مترددًا بعد تفكير عميق: «ألا يجوز أن تكون قد أوصت الرجل الغضوب بي خيرًا يا مستر صمويل.»
وأجاب سام: «أعتقد مما قاله أن هذا جائز جدًّا لقد كان يتكلم عنك منذ هنيهة.»
وقال المستر استيجنز وقد عاد وجهه يتهلل: «أحقًّا؟ آه، أراه قد تغير، وأحسبنا سنعيش الآن معًا في وئام، أليس كذلك يا مستر صمويل؟ وفي إمكاني أن أعني بممتلكاته في غيابك عناية تامة، أليس كذلك؟»
وسكت المستر استيجنز يرتقب الجواب، بعد أن أرسل زفرة مستطيلة، وأومأ سام برأسه، وأطلق المستر ولر الكبير صوتًا غير مألوف، لا هو بأنين، ولا شهيق، ولا زفير، ولا تنهد، ولا زمجرة، بل صوتًا يجمع بين تلك الأربعة كلها في نبرات واحدة.
وفهم المستر استيجنز أن هذا الصوت ينم عن ندامة فتشجع، وتلفت حوله، وفرك يديه، وبكى، وابتسم، وعاد يبكي، ثم مشى برفق فاجتاز الغرفة إلى رف في ركن كان يذكره حق الذكرى، فتناول من فوقه قدحًا كبيرًا ووضع فيه بكل تؤدة أربع قطع من السكر، وعندئذ وقف يتلفت حوله، وتنهد بحزن شديد، وتقدم بخطى رفيقة إلى محل الشراب، ولم يلبث أن عاد بالقدح ممتلئًا إلى نصفه «روما» من نقيع الأناناس وتقدم نحو الوعاء الذي كان يئز في مرح فوق النار فمزج الشراب، وحركه، وارتشفه، وجلس، ثم أخذ جذبة طويلة من الروم المشعشع، وأمسك ليسترد أنفاسه.
وكان المستر ولر الكبير لا يزال يبدي محاولات غريبة شاذة ليتراءى نائمًا، فلم ينبس بأية كلمة طيلة هذه الفترة، ولكنه ما كاد يرى استيجنز يقف عن الشراب ليسترد أنفاسه، حتى انقض عليه فاختطف القدح من يده، وألقى ببقية الروم والماء فوق وجهه، ورمى القدح ذاته في الموقدة، وتناول السيد المحترم من طوق ردائه بقوة، ومضى يركله فجأة بقدميه ركلًا شديدًا، شافعًا كل ضربة من حذائه الطويل بلكمات ولطمات عنيفة فوق أوصاله وعينيه وسائر أجزاء بدنه.
وصاح قائلًا: «يا سامي اكبس قبعتي فوق رأسي جيدًا.»
وامتثل سام البار أمر أبيه فكبس رأس الوالد في القبعة بشريطها المستطيل، فعاد هذا الركل والضرب بخفة متزايدة، وسقط هو والمستر استيجنز من خلال مكان الشراب، ثم من الممر، حتى الباب الخارجي، ثم إلى الشارع، والركل مستمر متزايد عنيفًا، كلما ارتفع الحذاء المستطيل ثم هوى.
وكان المنظر جميلًا مثيرًا لأشد الضحك، فقد ظل الرجل الأحمر الأنف يتلوى في قبضة المستر ولر ويرعش جسمه كله من شدة الألم كلما توالت الركلات سراعًا، بل كان المشهد أشد إثارة، حين راح المستر ولر بعد نضال شديد، يدخل رأس المستر استيجنز في مسقى ممتلئ ماء لشرب الخيل، ويمسك به كذلك حتى كاد الرجل يختنق.
وصاح المستر ولر: «هاك!» وقد ألقى بكل ما فيه من قوة في ركلة أصابت موضعًا حرجًا أشد الحرج عندما تركه أخيرًا يسترد رأسه من جوف الحوض. ومضى الشيخ يقول: «هيا، أوفد أي أحد من أولئك الرعاة الكسالى؛ لكي أدقه أولًا فأعمل منه هلامًا ثم أغرقه بعد ذلك، يا سامي! كفك لتساعدني على الدخول، واملأ لي كأسًا صغيرة من البراندي، فإني ألهث يا بني.»