الفصل الثالث والخمسون
يصف خاتمة المستر جنجل وجب ترتر، إلى جانب عمل كبير في ذات صباح في ميدان «جريز ان»، وينتهي بدق متكرر بباب المستر بركر.
***
ولما أقدم المستر بكوك أخيرًا على أنباء أرابلا بتلك النتيجة غير المرضية التي أسفرت عنها زيارته لبرمنجهام بعد أن مهد لهذا النبأ بعض التمهيدات اللطيفة، وأكد لها مرارًا أنه ليس ثمة أقل سبب يدعو إلى الاكتئاب، لم تلبث أن ذرفت الدمع وأجهشت بالعبرات، وأبدت أسفها البالغ أن تكون هي السبب لهذه القطيعة بين أب وابنه.
وقال المستر بكوك بحنان: «إن الذنب ليس ذنبك يا ابنتي العزيزة، لقد كان من المستحيل التنبؤ بأن ذلك الشيخ سيعارض معارضة شديدة في زواج ابنه، كما لا يخفى.» ونظر إلى وجهها المليح وأردف يقول: «إنني متأكد أنه خالي الذهن من السرور الذي أبى إلا أن يحرم نفسه منه.»
وقالت أرابلا: «رآه، يا عزيزي المستر بكوك، ماذا نحن صانعون إذا هو أصر على غضبه علينا؟»
وأجاب المستر بكوك وهو منشرح: «صبرًا يا عزيزتي حتى يفكر ويتدبر، ويعدل عن رأيه الأول.»
وعادت أرابلا تقول: «ولكن يا عزيزي المستر بكوك ماذا تكون حال ناثانيال إذا امتنع أبوه عن معونته؟»
وأجاب المستر بكوك: «في هذه الحال يا حبيبتي سأجرؤ على التنبؤ بأنه سوف يجد عندئذ صديقًا آخر لن يتردد في معاونته على تنظيم أحواله والبدء في العمل لمستقبله.»
ولم يحسن المستر بكوك كثيرًا في إخفاء دلالة هذا القول، ففطنت أرابلا إلى المراد منه، فطوقت عنقه بذراعيها، وقبلته قبلات بر وشكر، ومضت تنتحب أشد من قبل.
وقال المستر بكوك وهو يتناول يديها: «لا عليك، لا عليك، كفكفي الدمع، سنطيل المقام هنا بضعة أيام أخر لنرى هل يكتب أو يعني بالرد على كتاب زوجك، فإن لم يفعل فإن في خاطري عدة خطط تكفي أية واحدة منها لإسعادكما في الحال، فلا عليك يا بنية، لا عليك!»
وبهذه الكلمات ضغط المستر بكوك يدها برفق وطلب إليها أن ترقأ دموعها، ولا تزعج خاطر زوجها، فلم تلبث أرابلا، العاقلة الأريبة، التي تعد في مصاف خير النساء في هذا العالم وفضلياتهن، أن وضعت منديلها في حقيبتها الصغيرة. ولم يكد المستر ونكل يوافيهما حتى انثنت تبدي بريق تلك البسمات المشرقة وتينك العينين الباهرتين اللتين فتنتاه من قبل وأسرتا فؤاده.
وفي صباح اليوم التالي مضى المستر بكوك يناجي خاطره بقوله: «إن هذه لحال مزعجة لهذين الزوجين الشابين، فلأذهب إلى مكتب بركر ولأستشره في الأمر.»
وكان ثمة حافز آخر يقتضي المستر بكوك الذهاب إلى ذلك المكتب في ميدان «جرايز ان»، وهو رغبته الشديدة في إجراء تسوية مالية مع ذلك المحامي الطيب الحدب، بلا تأخير طويل، فتناول فطورًا سريعًا، وبادر إلى تنفيذ عزمته، فلم تكن الساعة قد دقت بعد العاشرة، حين وصل إلى «جرايز ان».
وكانت قد بقيت عشر دقائق أخرى على تمام العاشرة، في اللحظة التي كان فيها يصعد السلم إلى مكتب وكيله، فلم يكن الكتبة قد وصلوا بعد فوقف لقضاء الوقت بالتطلع من نافذة السلم.
وكان الضياء المشرق في ذلك الصباح الصافي، في أحد أيام شهر أكتوبر، قد جعل الدور القديمة القاتمة نفسها تسطع قليلًا، وبعض النوافذ المغبرة تلوح فرحة بهيجة المشهد في أشعة الشمس الساطعة عليها، فرأى كاتبًا بعد كاتب قد أقبل مسرعًا إلى الساحة، من بعض المداخل المتفرقة إليها، وهو ينظر إلى ساعة الجدار المعلقة في البهو العام، فيزيد في سرعته، أو ينقص منها، تبعًا لموعد ابتداء العمل في المكتب الذي يعمل فيه، ولم يلبث الذين كان موعد وصولهم النصف بعد التاسعة أن نشطوا فجأة في مسيرهم، بينما خفف القادمون عادة في العاشرة من خطاهم، فمشوا بطاء كأنهم أهل الوجاهة والمحتد. ودقت الساعة العاشرة، فازداد تدفق الكتبة على المبنى وهم سراع مبادرون، وكل منهم أشد تصببًا بالعرق من سابقه، وكانت أصوات المفاتيح في الأقفال وفتح الأبواب المغلقة تتردد في كل ناحية، وبدت الرءوس من النوافذ كأنها جاءت إليها بسحر ساحر، واتخذ حراس الأبواب أماكنهم لنوبة النهار، وجاءت الغسالات في أخفافهن مسرعات، وراح ساعي البريد يعدو من بيت إلى بيت، واشتدت الحركة والعجيج في تلك «الخلية» الكبيرة المليئة بمكاتب المحامين.
وقال صوت من الخلف: «لقد أتيت مبكرًا يا مستر بكوك.»
وأجاب هذا السيد وهو يلتفت وراءه، ويتبين صديقه القديم: «آه، يا مستر لوتن.»
وقال لوتن وهو يخرج مفتاحًا من نوع «البراما» من جيبه. له غطاء مستدير صغير لمنع الغبار: «المشي السريع مدفئ للجسم، أليس كذلك؟»
وأجاب المستر بكوك، وهو يبتسم للكاتب الذي بدا أحمر الوجه من حرارة المشي السريع: «الظاهر أنك تشعر بأنه كذلك.»
وأجاب لوتن: «الحقيقة أنني قطعت المسافة مسرعًا، فقد كانت الساعة التاسعة والنصف وأنا أخترق «البوليجن»، ولكني قد وصلت قبل قدومه، فلا يهم إذن شيء بعد ذلك.»
وبهذا الخاطر الذي أزال المستر لوتن به انزعاجه، وأرسل الطمأنينة إلى نفسه، انتزع المفتاح من القفل، وفتح الباب، ودس المفتاح في جيبه والتقط الخطابات التي ألقاها ساعي البريد من خلال فتحة الصندوق، وأشار إلى المستر بكوك بالدخول، وفي لمح البصر خلع رداءه ولبس رداءً خشنًا أطلعه من الدرج، وعلق قبعته وأخرج بضع صفحات من الورق المقوى «الكرتون» وورق النشاف، واحتجز القلم خلف أذنه ومضى يفرك يديه في ارتباك شديد.
وأنشأ يقول: «هكذا ترى يا مستر بكوك أنني الآن مستعد تمامًا. فقد لبست سترة المكتب، وأخرجت المسند والنشاف، فليأت وقت ما يعجبه. أليست معك ولا كمية صغيرة من السعوط؟»
وأجاب المستر بكوك: «كلا، ليس معي.»
وقال لوتن: «متأسف، ولكن لا بأس، سأذهب في الحال وأحضر زجاجة من الصودا. قل لي يا مستر بكوك، هل أبدو غريبًا حول العينين؟»
ووقف المستر بكوك يتطلع إلى عيني لوتن من مسافة قريبة، ثم قال: إنه لا يرى شيئًا غريبًا حول العينين.»
وقال لوتن: «الحمد لله! لقد أطلنا السهر في حانة «الاستامب» الليلة البارحة، وأنا في هذا الصباح منحرف المزاج قليلًا. وبهذه المناسبة أقول: إن بركر بحث في مسألتك خلال اليومين الماضيين.»
وسأل المستر بكوك: «أي مسألة؟ هل تعني مسألة الأتعاب المطلوبة من مسز باردل؟»
وقال المستر بكوك في عجلة: «آه، المستر جنجل، وماذا تم في أمره؟»
وعاد لوتن يقول وهو يصلح من قلمه: «لقد تم تدبير الأمر، ويقول وكيل الشركة في لفربول إن لك عليه عدة مآثر حين كنت في العمل، وأنه يسره أن يقبله إذا أوصيت به.»
وقال مستر بكوك: «هذا حسن، ويسرني سماعه.»
وقال لوتن وهو يمسح ظهر القلم استعدادًا لثقبه من جديد: «ولكني أقول: إن الشخص الآخر رخو.»
– «أي شخص آخر؟»
– «ذلك الخادم، أو الصديق، أو كائنًا من يكون، وأنت عارفه، أقصد ترتر.»
وقال المستر بكوك وهو يبتسم: «آه! لقد كنت دائمًا أعتقد أنه عكس ما وصفته به.»
وأجاب لوتن: «لقد كان هذا هو رأيي بالذات من القليل الذي رأيته منه، وهذا يدل على أن المرء كثيرًا ما ينخدع، ولكن ما رأيك في ذهابه «هو» أيضًا إلى دمرارا؟»
وصاح المستر بكوك من فرط الدهشة: «ماذا! ويرفض ما عرض عليه هنا!»
وأجاب لوتن: «لقد قابل ما عرضه عليه بركر وهو ثمانية عشر شلنًا في الأسبوع، وترقيته إذا هو أحسن السلوك، قابل هذا العرض بالرفض، وقال: إنه لا بد له من الذهاب مع الآخر، وما زالا ببركر حتى كتب مرة أخرى، فأعطوه شيئًا في المكان عينه، وإن قال بركر: إن الذي عرض عليه ليس حسنًا إلى الحد الذي يعطى للسجين المرسل إلى مستعمرة «نيو ساوث ويلز» إذا هو بدا عند الكشف عليه في حلة جديدة.»
وقال المستر بكوك وعيناه تبرقان: «يا له من أحمق، يا له من أحمق.»
وأجاب لوتن وهو يجدد سنان القلم، وقد بدت أمارات الاحتقار والازدراء على وجهه: «بل إنه لشر من ذلك وأسوأ، إنها خسة متناهية كما ترى، وهو في تبرير موقفه يقول: إنه الصديق الوحيد الذي أتيح له في هذا العالم، وأنه متعلق به، وما إلى هذه الشفائع وأمثالها. والصداقة شيء جميل جدًّا في ذاته، ونحن جميعًا على مودة وصداقة وعلاقة طيبة في حانة «الإستامب» مثلًا، وإذا اجتمعنا على الشراب، ودفع كل منا حسابه، ولكن الإضرار بالنفس لأجل خاطر الغير، شيء سخيف، وعمل لا مبرر له، وليس لأي امرئ في هذه الحياة غير شيئين يستحقان التعلق بهما. أولًا أو رقم (١) هو نفسه، ورقم (٢) النساء. هذا هو رأيي، ها! ها!» وختم المستر لوتن قوله هذا بضحكة صاخبة، كانت مزيجًا من ممازحة وسخرية، ولكنها لم تطل، إذ ارتفع صوت مواقع قدمي المستر بركر فوق السلم، فبادر الكاتب إلى كرسيه العالي بخفة عجيبة كل العجب، وأكب على الورق وراح يكتب منهمكًا في كنايته.
وكان السلام المتبادل بين المستر بكوك ومستشاره القضائي حارًّا ووديًّا، ولكن ما كاد العميل يستقر في المقعد الرحيب في غرفة محاميه، حتى سمعا دقًّا بالباب وصوتًا يسأل: «هل بركر هنا؟»
وقال بركر: «صه! هذا أحد صاحبيك المتشردين، جنجل نفسه يا سيدي العزيز، هل تحب أن نقابله؟»
وسأل المستر بكوك بتردد: «ما رأيك أنت؟»
وأجاب بركر: «أرى أنه يحسن بك أن تراه. أنت يا هذا، ما اسمك؟ تعال، ادخل.»
وامتثالًا لهذه الدعوة الجافة الخلية من كل احتفال أو سلام، تقدم جنجل، وفي أثره جب، ولكن لم يكد الأول يلمح المستر بكوك حتى وقف في شيء من الارتباك.»
وقال بركر: «حسن، ألا تعرف هذا السيد؟»
وأجاب جنجل وهو يتقدم خطوات: «لدي أسباب قوية تعرفني به. المستر بكوك، مدين له بأكبر الصنائع والأفضال، منقذ الحياة، جعل مني رجلًا، لن تندم يومًا يا سيدي على ما صنعت.»
وقال المستر بكوك: «يسعدني أن أسمعك تقول ذلك، إنك لتلوح أحسن كثيرًا مما كنت.»
وأجاب جنجل وهو يهز رأسه: «والفضل لك يا سيدي، تغيير شديد، سجن فليت الملكي، مكان غير صحي، سفر، إلى أقصى حد»، وكان جنجل في زي حسن، وهندام نظيف وكذلك بدا جب الذي وقف خلفه يحملق ببصره في وجه المستر بكوك، بسحنة كالحديد.
وسأل المستر بكوك بصوت خافت محاميه: «ومتى سيسافران إلى ليفربول؟»
وقال جب، وهو يتقدم خطوة: «في السابعة من مساء اليوم يا سيدي، في المركبة الحافلة التي تغادر المدينة يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «وهل حجز لكما مكان؟»
وأجاب جب: «نعم يا سيدي.»
قال: «وهل عزمت عزمًا أكيدًا على الذهاب؟»
وأجاب جب: «نعم يا سيدي.»
وانثنى المستر بركر يقول متجهًا إلى المستر بكوك بصوت مرتفع: «أما مسألة الأمتعة التي لا غنى لجنجل عن أخذها معه، فقد أخذت على عاتقي شخصيًّا اتخاذ التدابير لاقتطاع مبلغ صغير من مرتبه كل ثلاثة شهور، لمدة سنة واحدة، وهو كاف لأداء نفقات تجهيزه بما هو بحاجة إليه، إنني لا أوافق مطلقًا على أن تتولى أنت عمل أي شيء له، يا سيدي العزيز، بل تتركه لمجهوده وحسن سلوكه.»
وقال جنجل بلهجة قاطعة: «بلا شك، تفكير سليم — رجل عمل — هذا حق — تمامًا».
ومضى بركر يقول دون اكتراث بملاحظات جنجل: «وقد اتصلت بدائنه، للإفراج عن ملابسه المرهونة حين كان في السجن، ودفعت عنه أجر السفر، فكان مجموع المال الذي خسرته في سبيله أكثر من خمسين جنيهًا».
وقال جنجل في عجلة: «لم يخسره — سأدفعه كله — مسألة عمل — وحساب — سأسدده إلى آخر درهم — الحمى الصفراء جائز — ليس لي فيها حيلة — أما إذا لم». وهنا تمهل المستر جنجل، فضرب قمة قبعته بعنف شديد، ومر بكفه على عينيه، ثم جلس.
وتقدم جب بضع خطى فقال: «إنه يقصد أن يقول: إنه إذا لم تمته الحمى فسوف يرد المال كله، وثق أنه فاعل يا مستر بكوك إذا ظل حيًّا، وسأتولى الرقابة على السداد، فإني على يقين أنه مسدده، وفي وسعي أن أقسم اليمين على ذلك.»
وقال المستر بكوك، وكان قد رمق بركر بعشرات من النظرات العابسة والتجهمات؛ ليمنعه من الاسترسال في تعداد الصنائع والجمائل، والمحامي لا يعبأ بعبوسه ويأبى إلا المضي في التعداد: «حسن، حسن، ولكن لتحرص بعد اليوم فلا تلعب في مباريات «كريكت» خطرة يا مستر جنجل، ولا تجدد معرفتك بالسير توماس بليزو، ولا أكاد أشك في أنك ستحافظ على صحتك.»
وابتسم المستر جنجل لهذه «المغامز» وإن بدا رغم ابتسامه مرتبكًا لا يدري كيف يكون الجواب، فلم يسع المستر بكوك إلا أن يغير الموضوع، فانثنى يقول: «ألا تعرف ماذا صنع الله بصديق آخر لك، صديق أكثر ذلك وضعة، كنت قد رأيته في روشستر؟»
وسأل جنجل: «هل تقصد جيمي الكئيب؟»
– «نعم.»
وهز جنجل رأسه فقال: «مجرم بارع — شخص غريب الأطوار — عبقري ألعبان — إنه شقيق جب.»
وصاح المستر بكوك: «عجبًا، شقيق جب! إنني حين أنظر الآن إليه من قرب، أفطن إلى الشبه بينهما.»
وقال جب بنظرة مكر مختبئة في ركني عينيه: «لقد كان الناس دائمًا يعدوننا شبيهين قريبي الشبه يا سيدي، وإن كنت أنا في الحقيقة أكثر جدًّا بطبيعتي، أما هو فلم يعرف الجد في حياته، وقد هاجر إلى أمريكا يا سيدي لكثرة مطاردة الناس له في حياته، وبحثهم المستطيل عنه، مما لا يريح المرء ولا يهنأ له عيش من جرائه، ومن ذلك الحين لم يسمع أحد عنه شيئًا.»
وقال المستر بكوك مبتسمًا: «ومن أجل هذا لم أتلق منه «قصة من صميم الحياة»، وعد أن يرسلها إلي في ذات صباح، حين بدا كأنما يفكر في الانتحار بإلقاء نفسه من فوق جسر روشستر، ولا أحسبني بحاجة إلى السؤال هل كان في ذلك حزينًا حقًّا أو متصنعًا؟»
وأجاب جب: «إنه يستطيع أن يتصنع أي شيء يا سيدي، فلتعد نفسك سعيدًا جدًّا إذ نجوت منه بسهولة، فهو حتى في المودة، وتوثق الصلات، ليروح أشد خطرًا من …»، وهنا نظر جب إلى جنجل، وتردد، ثم أردف أخيرًا يقول: «من — مني أنا نفسي!»
وقال بركر وهو يختم كتابًا كأن قد فرغ من كتابته: «أسرة فيها خير … أسرتك يا مستر ترتر.»
وأجاب جب: «نعم يا سيدي، كثيرًا جدًّا.»
وقال المحامي ضاحكًا: «أرجو أن تخيب رجاءها، خذ هذا الكتاب وسلمه إلى الوكيل عند وصولك إلى ليفربول، وإني لأنصح لكما أيها السيدان ألا تستخدما ذكاءكما المفرط، وعلمكما الواسع، في جزائر الهند الغربية، فإن تركتما هذه الفرصة تفلت منكما، فأنتما أحق بالشنق، وأني لعلى يقين أنكما ستشنقان، والآن يحسن بكما أن تتركانا أنا والمستر بكوك وحدنا؛ لأن لدينا موضوعات أخرى سنتحدث فيها، والوقت ثمين»، ونظر بركر صوب الباب، برغبة ظاهرة في جعل فترة الوداع قصيرة بقدر الإمكان.
وكان الوداع في الواقع قصيرًا مختصرًا من جانب جنجل، فقد شكر المحامي في بضع كلمات سريعة على الحدب والاستعداد العاجل اللذين أبداهما في مساعدتهما، ثم التفت إلى المحسن إليه فوقف بضع ثوان مترددًا لا يدري ماذا عسى أن يقول، أو يفعل. وبادر جب ترتر إليه ليغني عنه هذا الارتباك، فانحنى للمستر بكوك انحناءة شاكرة، وتناول صاحبه برفق من ذراعه، ومشى به منصرفًا.
وما أن أغلق الباب عقب خروجهما حتى أنشأ المستر بركر يقول: «صاحبان فاضلان!»
وأجاب المستر بكوك: «أرجو الله أن يصبحا كذلك. ما رأيك فيهما؟ هل تحسبهما سينصلحان أبدًا ويستقيمان؟»
وهز بركر كتفيه هزة المتشكك، ولكنه حين فطن إلى نظرة المستر بركر النامة عن القلق وخيبة الأمل، مضى يقول: «إن أمامها فرصة بلا شك، واستقامتهما جائزة، وأرجو أن تكون هذه الفرصة طيبة، وليس من شك في أنهما الآن نادمان تائبان، ولكنك تعلم أيضًا أنهما لا يزالان يذكران المتاعب والمحن التي ألمت بهما من وقت قريب، فهي قائمة إلى الساعة في خاطرهما، ماثلة في ذاكرتهما، وليس في إمكاني ولا إمكانك أن نقطع برأي فيما سيكون من أمرهما إذا أصبحت هذه الذكريات قديمة، وذهبت من خاطرهما نسيا منسيًّا، إن هذه مشكلة لا نستطيع لها حلًّا.»
وهنا وضع المستر بركر يده على كتف المستر بكوك وأردف قائلًا: «ومع ذلك يا سيدي العزيز إن هدفك لمشرف، ومرادك كريم جدير بالإكبار، مهما تكن العاقبة، وإني لتارك لمن هم أحجى مني وأكبر عقولًا أن يقدروا هل ذلك النوع من البر الذي يحاط بأشد الحذر، ويقترن بأبلغ بعد النظر، حتى لا يكاد يتم؛ لئلا يقع صاحبه في ضلال، أو ينتهي منه إلى خدعة أو بأذى لعزته وجرح لكرامته، هو إحسان حقًّا، أو زهو باطل في هذا العالم، وتظاهر بالبر، وهو ليس منه في شيء، ولكن إذا عمد هذان المخلوقان إلى ارتكاب جريمة سطو غدًا، فإن رأيي في عملك سيظل كما هو، رفيعًا عظيمًا.»
وعقب هذه العبارات التي ألقاها المستر بركر بحرارة وجد أشد مما عرف عادة بين رجال القانون، راح يدني مقعده من مكتبه، ويستمع إلى قصة عناد المستر ونكل الكبير كما مضى المستر بكوك يرويها له.
وهز المستر بركر رأسه هزة النبوءة وقال: «أمهلوه أسبوعًا.»
وقال المستر بكوك: «هل تعتقد أنه سيرجع عنه؟»
وأجاب بركر: «أظن ذلك، فإذا لم يرجع، فلنجرب ماذا سيكون من العروس نفسها وتأثيرها في نفسه، لقد كان هذا هو أول عمل يلجأ إليه أي إنسان سواك.»
وكان المستر بركر يتناول قدرًا من السعوط مصحوبًا باختلاجات وتقلصات غريبة في عضلات وجهه، للتعبير بها عن قوة تأثير الغيد وسلطانهن، حين سمعت أصوات في المكتب الآخر بين أسئلة وأجوبة، وخطوات لوتن وهو يمشي إلى الباب فيطرقه طرقًا خفيفًا.
وصاح المحامي الصغير الجسم: «ادخل.»
ودخل الكاتب، وأغلق الباب وراءه بحركة غريبة كل الغرابة.
وقال بركر: «ما الخبر؟»
وأجاب لوتن: «أنت مطلوب يا سيدي.»
وقال بركر: «ومن الذي يطلبني؟»
ونظر لوتن إلى المستر بكوك وسعل.
وعاد المستر بركر يسأل: «من الذي يطلبني، ألا تستطيع الكلام يا مستر لوتن؟»
وأجاب هذا قائلًا: «إنه يا سيدي ددسن ومعه فج.»
وقال المحامي وهو ينظر في ساعته: «يا للعجب العجاب، لقد عينت لهما الساعة الحادية عشرة والنصف للقدوم إلى هنا لتسوية مسألتك يا مستر بكوك، فقد أعطيتهما تعهدًا بالدفع، وقاما من جانبهما بتبرئة ذمتك فأفرج عنك. إن الموقف حرج يا سيدي العزيز كما ترى، فماذا أنت فاعل؟ فهل تحب أن تدخل الحجرة الملاصقة؟»
وكانت الحجرة الملاصقة هي نفس الحجرة التي دخلها ددسن وفج، فكان جواب المستر بكوك أنه سيبقى حيث هو؛ وخاصة لأن من واجب الرجلين أن يستحيا من لقائه وجهًا لوجه، ولا يستحي هو من مواجهتهما. وهنا طلب إلى المستر بركر أن يلاحظ هذه النقطة بالذات، وقد احمر وجهه وبدت عليه بوادر الغضب والانفعال.
وأجاب المستر بركر: «حسن جدًّا، حسن جدًّا يا سيدي العزيز، ولكني أحب أن أقول شيئًا واحدًا، وهو أنك إذا كنت تنتظر من ددسن أو فج أن ينظر إليك، أو إلى أحد سواك، وجهًا لوجه، ويشعر بحياء أو يبدي أعراض خجل أو اضطراب فأنت مخدوع، بل أنت أسلم رجل رأيته في حياتي نية وأشدهم طيبة. أدخلهما يا مستر لوتن.»
وانصرف لوتن وهو يبتسم، وعاد على الأثر يعلن الشريكين بحكم الأسبقية، ددسن أولًا، وفج وراءه.
وقال بركر لددسن وهو يشير بقلمه إلى المكان الذي كان المستر بكوك جالسًا فيه: «أعتقد أنك رأيت المستر بكوك.»
وقال ددسن بصوت مرتفع: «كيف أنت يا مستر بكوك؟»
وصاح فج: «يا للعجب! كيف حالك يا مستر بكوك؟ أرجو أن تكون بخير يا سيدي. أعتقد أنني رأيت هذا الوجه»، وراح فج يسحب كرسيًّا ويتلفت حوله مبتسمًا.
وأحني المستر بكوك رأسه قليلًا ردًّا على هذه التحيات، ورأى فج يخرج حزمة من الأوراق من جيب ردائه فنهض من مقعده ومشى إلى النافذة.
وقال فج وهو يفك الرباط الأحمر الذي يحيط بالرزمة الصغيرة، ويبتسم مرة أخرى ابتسامة أرق من الأولى: «لا حاجة بالمستر بكوك إلى القيام من مكانه يا مستر بركر، فهو عليم حق العلم بهذه الإجراءات، ولا أظن أن هناك أسرارًا بيننا! ها! ها! ها! ها!»
وقال ددسن: «لا أظن أن هناك أسرارًا كثيرة ها! ها! ها!» وضحك الشريكان معًا، بمرح وسرور، كدأب الذين يتوقعون أن يتسلموا نقودًا في أغلب الأحايين.
وقال فج بذلك المجون المعروف عن معاشر أمثاله، حين نشر أوراقه بين يديه: «سنطالب المستر بكوك بأن يدفع ثمن وقوفه من بعيد لينظر إلينا، إن جملة الأتعاب هي مائة وثلاثون جنيهًا وستة شلنات وأربعة بنسات يا مستر بركر.»
وأقبل فج وبركر على مقارنة الأوراق، ومراجعة الصفحات وتقليبها، عقب هذا البيان الذي ألقاه فج عن قيمة الأرباح والخسائر، بينما راح ددسن يقول بلطف للمستر بكوك: «لا أظنك تبدو بتلك البدانة ذاتها التي كنت تبدو بها حين حصل لي السرور بلقائك آخر مرة يا مستر بكوك.»
وقال المستر بكوك وكانت عيناه ترسلان نظرات غضب محتدم فلا تحدث تلك النظرات أقل أثر في نفس هذين النصابين الماكرين: «ربما لا يا سيدي، أعتقد أنني لا أبدو كما كنت قد أرهقني وآلمني «المجرمون» من عهد قريب يا سيدي.»
وهنا سعل بركر سعلة شديدة وسأل المستر بكوك: ألا يحب أن يقرأ جريدة الصباح؟ فرد هذا على السؤال برفض قاطع.»
وقال ددسن: «هذا صحيح، أعتقد أنك تألمت في سجن «فليت»، فهو يحوي شذاذًا وقومًا منكرين، وأين كنت فيه نازلًا يا مستر بكوك؟»
وأجاب السيد الذي قاسى كثيرًا: «كانت لي حجرة في الدور الذي يقع فيه المقهى.»
وقال ددسن: «آه، حقًّا، أعتقد أن هذا جناح لطيف جدًّا.»
وأجاب المستر بكوك بجفوة: «جدًّا.»
وكان ذلك كله يجري بهدوء يجعل أي امرئ أوتي مزاجًا سريع التأثر في ظروف كهذه، أجنح إلى الغضب، وأنزع ما يكون إلى الهياج. ولكن المستر بكوك كبت غيظه بجهد جهيد، ولكن حين انثنى بركر يكتب صكًّا بالمبلغ المطلوب، وأخذه فج فوضعه في محفظة صغيرة، مبتسمًا ابتسامة فوز وانتصار تغمر تقاطيع وجهه المليء بالبثور، وتنتقل في الوقت ذاته إلى وجه ددسن العبوس، لم يلبث المستر بكوك أن أحس الدم يتصاعد إلى خديه في شدة الغضب.
وقال فج وهو يرد المحفظة إلى موضعها ويضع قفازه في كفيه: «والآن يا مستر ددسن، أنا تحت أمرك.»
وأجاب ددسن وهو ينهض: «جميل جدًّا … أنا على أتم الاستعداد.»
وقال فج وقد هدَّأَ «الصك» من خاطره: «إنني جد سعيد بمعرفة المستر بكوك، وأرجو ألا يكون رأيك فينا سيئًا يا مستر بكوك كما كان عندما حظينا أول مرة بلقائك.»
وقال ددسن بلهجة ذي الفضل الذي أوذي في فضله، وأسيء من قبل إليه: «أرجو ألا يكون كذلك، ويقيني أن المستر بكوك قد عرفنا الآن أحسن مما كان يعرفنا، ومهما يكن رأيك في أهل مهنتنا، فإني أؤكد لك يا سيدي أنني لا أضمر لك سوءًا في نفسي أو تشفيًا، من أثر ذلك الشعور الذي رأيت من المناسب أن تبديه في مكتبنا في فريمتر كورت بحي كورنهل، في ذلك الحادث الذي أشار إليه زميلي منذ لحظة.»
وقال فج بلهجة صفح متناهٍ: «كلا! كلا! ولا أنا أيضًا.»
وعاد ددسن يقول: «إن تصرفنا غني بنفسه عن كل بيان، وأرجو أن يجد في ذاته ما يبرره في كل موقف، لقد قضينا في هذه المهنة أعوامًا، يا مستر بكوك، تشرفنا فيها بثقة عدة عملاء من أحسن طراز، طاب صباحك يا سيدي.»
وقال فج في أثره: «صباحًا طيبًا يا مستر بكوك» وراح يتأبط مظلته، وينزع قفاز يده اليمنى، ومد يد التراضي لذلك السيد الثائر المحنق، ولكن هذا انثنى يلقي يديه تحت ذيل ردائه، وينظر إليه نظرات دهشة وسخرية.
وعندئذ صاح بركر: «يا لوتن، افتح الباب.»
وقال المستر بكوك: «انتظر لحظة، سأتكلم يا مستر بركر.»
وقال هذا وهو في حالة عصبية من الإشفاق طيلة ذلك الحديث من أوله: «أرجوك يا سيدي العزيز أن تدع المسألة تستقر حيث استقرت، أرجوك يا مستر بكوك!»
وأجاب المستر بكوك في عجلة: «لن يمنعني شيء يا سيدي من الكلام — يا مستر ددسن، لقد وجهت لي بعض الملاحظات.»
والتفت ددسن حوله، وأحنى رأسه بهدوء وابتسم.
ومضى المستر بكوك يقول وهو يكاد يكون متقطع الأنفاس: «لقد وجهت إلي بعض الملاحظات، وبسط شريكك لي يده، واتخذتما لهجة الصفح والرفعة، وهو إمعان آخر منكما في القحة والجرأة لم أكن أتوقعهما من أحد حتى ولا منكما.»
وصاح ددسن: «ما هذا يا سيدي؟»
وردد فج قوله: «ما هذا يا سيدي؟»
وواصل المستر بكوك قوله: «ألا تعرفان أنني كنت ضحية كيدكما وفريسة مؤامراتكما، وهل تعرفان أنني أنا الرجل الذي ظللتما تسجنانه وتسرقانه، وهل تعرفان أنكما كنتما الوكيلين عن المدعية في قضية باردل وبكوك؟»
وأجاب ددسن: «نعم يا سيدي، نعرف ذلك.»
وتبعه فج وهو يضرب بيده على جيبه، ولعلها جاءت قضاءً وقدرًا: «بالطبع نعرف ذلك يا سيدي.»
وقال المستر بكوك، وهو يحاول لأول مرة في حياته إبداء حركة اشمئزاز واحتقار بشفتيه وأنفه، فلم يوفق مطلقًا في محاولته: «أراكما تتذكران ذلك برضا وارتياح، وقد كنت منذ وقت طويل في لهفة على أن أقول لكما بصريح العبارة عن رأيي فيكما، وكان أولى بي أن أترك هذه الفرصة تمر، احترامًا لرغبات صديقي بركر، ولكن هذه اللهجة التي عمدتما فجأة إليها، ورفع الكلفة في الحديث معي بشكل متبجح، أقول: إن هذه الألفة الوقحة التي أبديتماها يا سيدي»، وهنا التفت إلى فج بحركة موحشة جعلته يتراجع صوب الباب مسرعًا.
وقال ددسن، وكان أضخم القوم كلهم بدنًا، ولكنه وقف خلف فج محتميًا، وانثنى يتكلم من فوق رأسه وهو شاحب اللون مصفره: «خذ حذرك يا سيدي، دعه يهاجمك يا مستر فج، ولا تقابل هجومه بهجوم مثله مهما يكن من الأمر.»
وقال فج وهو يتراجع أكثر من قبل، حتى اطمأن شريكه إلى أن تراجعه جعله يقترب من المكتب الخارجي شيئًا فشيئًا: «كلا! كلا! لن أقابل هجومه بمثله.»
واستتلى المستر بكوك، مستعيدًا خيط الكلام الذي كان قد بدأه: «إنكما شريكان متعادلان كل التعادل، في اللصوصية والإجرام والتلاعب بالقضايا والعبث بالقانون.»
وهنا تدخل بركر قائلًا: «كفى! ألا يكفي هذا؟»
وأجاب المستر بكوك: «إن الأمر كله يتلخص في كلمات، وهي أنهما لصان سافلان مجرمان متلاعبان بالذمم.»
وقال بركر بلهجة إرضاء بالغ: «كفى، لقد قال يا سيديْ العزيزين كل ما كان في نفسه أن يقوله. فالآن تفضلا. يا لوتن هل ذلك الباب مفتوح؟»
وأجاب لوتن وهو يضحك من بعيد: «إنه كذلك.»
ومضى الرجل القصير النحيل يقول وهو يدفع ددسن وفج على كره منهما، نحو الباب: «طاب صباحكما، طاب صباحكما — أرجوكما يا سيدي العزيزين — يا مستر لوتن، الباب! من هنا يا سيدي العزيزين، يا مستر لوتن، الباب، لماذا لا تسمع؟»
وقال ددسن وهو ينظر صوب المستر بكوك ويضع القبعة فوق رأسه: «إذا كان في إنجلترا قانون يا سيدي، فسوف تنال عقابك على هذا الذي قلته.»
وصاح المستر بكوك: «إنكما لسافلان.»
وقال فج: «تذكر يا سيدي أنك ستحاسب على هذا حسابًا عسيرًا.»
وواصل المستر بكوك قوله، دون أقل مبالاة بهذا الوعيد الموجه إليه: «إنكما لصان مجرمان متلاعبان.»
وجرى إلى رأس السلم، وهما يهبطانه، صائحًا: «أيها اللصوص!» وتخلص من لوتن وبركر وأطل برأسه من نافذة السلم وهو يصيح «لصوص!»
ولما رد رأسه عنها كان وجهه باسمًا هادئًا، وعاد إلى المكتب في رفق وسكون قائلًا: إنه قد شعر عندئذ بأنه قد أزاح عبئًا ثقيلًا كان جاثمًا فوق صدره، ولكنه الساعة مستريح تمامًا ومسرور السرور كله.
ولم يقل بركر شيئًا حتى أفرغ كل ما في حق السعوط وأرسل لوتن ليملأه، وإذا نوبة ضحك تستولي عليه، وتستمر خمس دقائق، وعندئذ راح يقول: إنه كان يظن أنه أولى به أن يغضب، ولكنه لم يستطع أن يفكر في هذه المسألة جديًّا إلى الآن، ولكنه سيفعل حين يتمكن.
وقال المستر بكوك: «حسن، والآن دعنا نسوي ما بيننا.»
وأجاب بركر بضحكة أخرى: «من النوع الأخير ذاته؟»
وقال المستر بكوك وهو يخرج محفظة جيبه ويهز وكيله بيده هزة المودة والوفاء: «ليس منه تمامًا، إنما أقصد مجرد «تسوية مالية» إنك قد أسديت إلى عدة صنائع ليس في إمكاني الوفاء بها في يوم من الأيام، ولست أريد أن أفي بها؛ لأني أوثر أن أظل لك مدينًا.»
وبعد هذه المقدمة أكب الصديقان على حسابات ومستندات مختلفة، تولى فحصها بركر بنفسه، وبادر المستر بكوك إلى أدائها مشفوعة بكثير من آيات الاحترام والود.
وما كادا يصلان إلى هذه النقطة حتى سمعا دقًّا عنيفًا بالباب مزعجًا أشد الإزعاج، ولم يكن دقة مزدوجة عادية بل كان دقات مفردة مستمرة غير منقطعة، فتوالى الطرق واحدًا في أثر واحد، كأن المطرقة ذاتها مصابة بحركة دائمة أو كأن الطارق قد نسي أن يدعها قليلًا، ثم يعاودها على فترات.
وقال بركر منزعجًا: «يا عجبًا! ما عسى أن يكون هذا؟»
وقال المستر بكوك: «هذا دق بالباب» كأن الأمر يحتاج إلى أقل شك.
ولكن جواب المطرقة كان أسرع وأبلغ من كل كلام؛ لأنه استمر بقوة مدهشة وجلبة صاخبة دون أن يكف لحظة واحدة.
وقال المستر بركر وهو يدق جرسه: «يا لله! إننا سنزعج بيت القضاء كله. يا مستر لوتن ألا تسمع هذا الدق؟»
وأجاب الكاتب: «سأرد عليه في الحال يا سيدي.»
وبدا كأن الطارق قد سمع ذلك الجواب، ولكي يعلن أنه من المستحيل أن ينتظر أكثر مما انتظر، أرسل زئيرًا مرعبًا مدويًا.
وقال المستر بكوك، وهو يضع يديه على أذنيه لكيلا يسمع: «هذا شيء مرعب.»
وصاح بركر: «أسرع يا لوتن، إني أخشى أن يتحطم الزجاج.»
وكان لوتن عندئذ يغسل يديه في غرفة مظلمة فخف إلى الباب، وأدار الأكرة، فأبصر شبحًا سنصفه لك في الفصل التالي.