الفصل الخامس والخمسون
كيف تولى المستر سلمون بل بمعاونة لجنة منتخبة من سائقي المركبات يدبر شئون المستر ولر الكبير.
***
وقال المستر ولر مخاطبًا ابنه في صباح اليوم التالي لتشييع الجنازة: «اسمع يا صموفيل، لقد وجدتها، لقد كنت أعتقد أنها هناك.»
وسأل سام: «ما هي التي اعتقدت أنها هناك؟»
وأجاب المستر ولر: «وصية امرأة أبيك يا سامي التي بمقتضاها سوف تتخذ التدابير التي قلت لك عنها في الليلة الماضية بشأن المال.»
وسأل سام: «ألم تكن قالت لك: أين وضعتها؟»
وأجاب المستر ولر: «أبدًا لم تخبرني قط بشيء عنها، فقد كنا نصفي خلافاتنا الصغيرة، وكنت أشجعها وأواسيها وأقوي روحها فنسيت أن أسألها عنها، ولست أدري هل كنت أسألها عنها حتى لو تذكرتها؛ لأنه ليس لطيفًا مطلقًا يا سامي أن تنطلق في الكلام عن أملاك أحد وأنت ترعاه في مرضه، إن ذلك لأشبه بمساعدة راكب في خارج المركبة سقط منها فجأة بينما أنت تدس يدك في جيبيه، وتسأله في مسرة كيف حاله.»
وبهذه الاستعارة التي صور بها مراده، راح المستر ولر ينزع محفظة جيبه فيفتحها ويخرج منها ورقة قذرة من أوراق الخطابات، نقشت عليها حروف مختلفة متزاحمة متلاصقة في اضطراب عجيب.
وقال المستر ولر: «هذه هي «الوثيقة» يا سامي، وجدتها في علبة شاي سوداء صغيرة على الرف العلوي في غرفة الشراب، وكانت قد اعتادت أن تحفظ أوراق النقد فيها قبل زواجها يا صموفيل، فقد رأيتها وهي ترفع الغطاء لتدفع حسابًا كان عليها، عدة مرات. يا لها من مسكينة! لقد كان ممكنًا أن تملأ كل علب الشاي التي في المحل بالأوراق المالية، ولا تجد في ذلك تعبًا؛ لأنها لم تكن تخرج منها شيئًا كثيرًا في الأيام الأخيرة، إلا في الليالي التي تجتمع فيها جمعية «منع المسكرات» التي جعلت شرب «الشاي» أساسًا، تضع فوقه المشروبات الروحية.»
وسأل سام: «وماذا تقول الوصية؟»
وأجاب الوالد: «ما قلته لك يا بني تمامًا، فيها مائتا جنيه أسهمًا وسندات بسعر مخفض باسم ابن زوجي صموفيل، وكل ما بقي من تركتي بجملته وأنواعه وأوصافه لزوجي المستر توني ولر الذي عينته المنفذ الوحيد لوصيتي.»
وقال سام: «أهذا كل شيء؟»
وأجاب المستر ولر: «هذا هو كل ما فيها، وأظن أنه حق ومريح لي ولك بصفتنا الطرفين الوحيدين، فلا بأس إذن من إلقاء هذه الورقة في النار.»
وصاح سام: «ماذا تريد أن تفعل يا مختل؟ وراح ينتزع الورقة منه، وكان أبوه بسلامة نية قد أخذ يحرك جذوات النار استعدادًا لتأييد القول بالفعل. وأردف سام قائلًا: «يا لك من منفذ وصية بديع! أهكذا؟»
وقال المستر ولر وهو يتلفت حوله عابسًا ولا يزال المحراك في يده: «وما المانع؟»
وأجاب سام: «المانع؟! لأنه لا بد من إثبات الوراثة، وتأدية اليمين، وشهادة الشهود، وكل الإجراءات الرسمية المتعلقة بالتركات.»
وألقى المستر ولر المحراك من يده مبهوتًا وقال: «هل تقول جدًّا؟»
ووضع سام الوصية في أحد جيبيه بكل حرص وأفهم أباه بإشارة من عينيه أنه يقصد ما يقول وأنه جاد فيه كل الجد.
وأجاب المستر ولر بعد أن فكر لحظة: «إذن استمع إلى، هذه مسألة لا ينفع فيها سوى صاحبنا صديق كبير القضاة. يجب أن يتولى المسألة صاحبنا «بل» يا سامي؛ لأنه الرجل الحلال لكل عقدة في القانون فلنقدم القضية في الحال يا سامي أمام محكمة التفاليس.»
وصاح سام منفعلًا: «لم أر في حياتي عجوزًا مخرفًا كهذا. كل مخه ممتلئ بمحاكم الجنايات، ومحاكم التفاليس، وعدم الوجود في مكان الحادث، وكل ما هو هزر وكلام فارغ. الأفضل أن تذهب فترتدي ثياب الخروج، لنذهب إلى المدينة ونقضي هذه المسألة، بدلًا من الوقوف للوعظ والإرشاد فيما لا تفهم منه شيئًا.»
وأجاب المستر ولر: «جميل جدًّا يا سامي، إنني مستعد لأي عمل ينهي هذه المسألة بسرعة يا سامي، ولكن افهم مني يا بني شيئًا واحدًا، وهو أن لا نستشير فيها غير «بل»، «بل» وحده، لا أحد سواه.»
وأجاب سام: «أنا لا أريد أحدًا آخر، والآن هل أنت آت أو لا؟»
وأجاب المستر ولر: «انتظر دقيقة يا سامي» وأقبل الشيخ يتلفع بملفعته أمام المرآة المعلقة في النافذة، وبدأ بمجهود عجيب متناه في العجب، يحاول ارتداء ثيابه الخارجية، ثم أردف قائلًا: «يا سامي صبرًا لحظة واحدة يا سامي، فإنك عندما تكبر وتبلغ عمر أبيك سوف لا تدخل في ثياب بالسهولة التي تدخل بها الآن يا بني.»
وأجاب الفتى: «إذا لم يتيسر لي ذلك أسهل من هذا، فلا لبستها إذن ولا وضعتها فوق جسدي.»
وقال المستر ولر بكل وقار السن ورزانته: «أنت تتصور هذا الآن، ولكنك ستجد كلما أصبحت أعرض أنك أمسيت أعقل، فإن العرض والحكمة يا سامي ينموان معًا على الدوام.»
وفيما كان المستر ولر يلقي بهذه الحكمة الصادقة التي لا تخطئ، والتي أتت ثمرة خبرة السنين الطوال، ومشاهداتها، راح يحاول بحركة التواء بارعة، إدخال الزر الأخير في سترته إلى عروته، وبعد أن تمهل بضع ثوان ليسترد أنفاسه نفض قبعته بمرفقه، وأعلن أنه على استعداد للمسير.
وأنشأ يقول وهما راكبان في طريق لندن إلى وجهتهما: «إن أربعة أدمغة خير من اثنين يا سامي، ولما كانت هذه البركة إغراءً شديدًا لرجل القانون، فالأفضل أن نأخذ معنا صديقين من أصدقائي، ينقضان عليه في الحال إذا أتى عملًا غير سليم، وهما بعض الذين أوصلوك إلى سجن «فليت» قبل الآن.» وهنا غض صوته قليلًا وأضاف يقول: «إنهم أحسن خبراء بالخيل يمكن أن تلتقي بهم في الحياة.»
وسأل سام: «وهل هما خبيران بالمحامين أيضًا؟»
وأجاب الوالد: «إن الرجل الذي يستطيع أن يكون رأيًا صحيحًا في الحيوان يستطيع تكوين رأي صحيح في أي شيء»، وكان هذا التقرير القاطع من القوة والجزم بحيث لم يحاول سام قلب النظرية أو إدحاضها.
وعملًا بهذا الرأي الحصيف استعان الأب والابن بخدمات الرجل «المرقط» الوجه واثنين آخرين من السائقين مفرطين في البدانة — وأكبر الظن أن المستر ولر هو الذي اختارهما، أخذًا بحكمته القائلة: إن العرض والحكمة مقترنتان. وانطلق الجمع إلى الحانة الواقعة في شارع «برتيوجل» حيث أوفدوا رسولًا إلى محكمة التفاليس المجاورة للبحث عن المستر سلمون بل ودعوته إلى الحضور في الحال.
ووجد الرسول المستر سلمون بل لحسن الحظ في المحكمة، يلهو لقلة الأعمال، وينعش نفسه بطعام يسير من اللحم البارد والبقسماط والقديد.
وما أن همس الرسول له في أذنه بالرسالة حتى دس الطعام في جيبه مع مختلف الأوراق والمذكرات المتعلقة بالمهنة، وسارع بقطع الطريق بفرح شديد حتى لقد وصل إلى الغرفة قبل أن يتمكن الرسول من مغادرة المحكمة.
ورفع المستر بل يده إلى قبعته وقال: «أيها السادة أنا في خدمتكم جميعًا، ولست أقول ذلك لأتملقكم أيها السادة ولكن ليس في العالم كله خمسة أناس آخرين كان يمكنني أن أترك المحكمة من أجلهم اليوم.»
وقال سام: «إيه؟ أمشغول جدًّا؟»
وأجاب بل: «مشغول! بل قل: «مثقل» بالعمل إلى أقصى حد، كما كان صديقي كبير القضاة يقول لي مرارًا أيها السادة، كلما فض الجلسة عقب سماع العرائض المرفوعة إلى مجلس اللوردات. يا له من مسكين! لقد كان أشد الناس حساسية بالتعب، وكان يحس بثقل تلك القضايا المستأنفة إحساسًا غير عادي، حتى لقد ذهبت بي الظنون أكثر من مرة إلى القول: بأنه كان موشكًا أن يرزح تحتها وينوء بحملها. أي: والله، هذا كان شعوري فعلًا.»
وهز المستر بل رأسه وتمهل، وعندئذ لكز المستر ولر الكبير جاره، كأنما يطلب إليه أن يلاحظ صلات المحامي بالكبراء، وانثنى يسأله هل عادت واجبات كبير القضاة على صحته بآثار سيئة، أو أصابت صديقه الكبير بمرض.
وأجاب بل: «لا أظن أنه شفي منها تمامًا أو الواقع أنني متأكد أنه لم يشف أبدًا منها، وكانت عادته أن يقول لي: عجبي لك يا بل كيف يتواتى لك احتمال هذا العمل الشاق الذي تقوم به؟ هذا لغز لا أفهمه، فكنت أجيب قائلًا: وأنا أيضًا، لا أكاد والله أدرك كيف أقوم به، فكان يقول وهو يتنهد وينظر نحوي بشيء من الحسد — الحسد الودي كما لا يخفى عليكم أيها السادة، مجرد حسد الأصدقاء؛ ولهذا لم أكن أجد منه بأسًا — إنك لأعجوبة يا بل، أعجوبة. آه لو كنتم عرفتموه أيها السادة لأحببتموه كثيرًا، أحضري قليلًا من الروم لي يا عزيزتي لا يزيد على ثلاثة بنسات.»
وكان الخطاب الأخير موجهًا إلى الخادمة بلهجة حزن كظيم، وانثنى يتنهد وينظر إلى حذائه، ثم إلى السقف، وكان الروم قد حضر في تلك اللحظة فاجترعه اجتراعًا.
وعاد يقول، وهو يقرب كرسيًّا من المائدة: «ولكن رجل القانون لا يملك حق التفكير في علاقاته الخاصة حين تطلب إليه المساعدة القانونية، وبهذه المناسبة، أيها السادة لقد حدث منذ آخر لقاء لنا هنا حادث أليم أسفنا له وذرفنا العبرات.»
وأخرج المستر بل منديلًا من جيبه، حين وصل إلى كلمة «العبرات»، ولكنه لم يستخدمه إلا في مسح قطرة صغيرة من الروم كانت معلقة فوق شفته العليا.
ومضى يقول: «لقد قرأت النعي يا مستر ولر في «الأدفرتيزر» وا حر قلباه! لم تكن تجاوزت الثانية والخمسين وا أسفاه! تصور يا سيدي.»
وكانت هذه الكلمات الأخيرة التي تنم عن روح طبعت على التأمل والتفكير موجهة إلى الرجل المرقط الوجه، التقت عينا مستر بل مصادفة به بعينيه، وكان إدراك ذلك الرجل للأمور إلى القبض على أحد، أن الحجز بالطرق الودية يغني كما تعلمون. أظننا هنا أصدقاء كلنا؟
وقال المستر ولر لابنه: «أعطني الوثيقة يا سامي.»
وأخذ الوصية من ابنه، وكان هذا يبدو مسرورًا بالحديث إلى حد مدهش، وقال للمحامي: «إن ما نطلبه يا سيدي هو إثبات صحة هذه الورقة.»
وقال بل مصححًا: «تقصد ثبوت الوراثة يا سيدي، ثبوت الوراثة.»
وأجاب المستر ولر بحدة: «إثبات، ثبوت، كلاهما سيان، وإذا كنت لا تفهم يا سيدي ما أقصد فاسمح لي أن أقول: إنني سأجد من يفهمني.»
وقال بل بحلم واستكانة: «لا أقصد إساءة يا سيدي، لا إساءة.» وألقى نظرة على الورقة وأضاف قائلًا: «يبدو لي أنك المنفذ.»
وأجاب المستر ولر: «نعم أنا يا سيدي.»
وسأل بل وهو يبتسم ابتسامة التهنئة: «وأظن أن هؤلاء السادة الآخرين هم الورثة؟ أليس كذلك؟»
وأجاب المستر ولر: «سامي وارث، أما هؤلاء السادة الآخرون فهم أصدقائي جاؤوا ليتأكدوا أن كل شيء يسير في الطريق الصحيح شبه محكمين.»
وقال بل: «آه، جميل جدًّا لا مانع عندي طبعًا، ولكني محتاج قبل ابتداء العمل إلى شيء كخمسة جنيهات مثلًا ها! ها! ها!»
وبعد البحث قررت اللجنة أن لا مانع من دفع الجنيهات الخمسة مقدمًا، فأخرج المستر ولر المبلغ المطلوب، وتلت ذلك مشاورات طويلة في غير شيء معين، جعل المستر بل خلالها يثبت للسادة المحكمين ويبين لهم بصورة أرضتهم جميعًا وأقنعتهم كل الإقناع، أن المسألة كانت ستتعرض لتصرفات غير صحيحة، وتتخذ طريقًا غير مستقيم، لو لم يسند أمرها إليه، لأسباب لم يوضحها، ولكنها بلا شك أسباب كافية. وبعد أن انتهى المستر بل من هذه النقطة الخطيرة الشأن، انثنى ينعش نفسه، ويجدد نشاطه بثلاث شرائح من اللحم، وأشربة من نقيع الشعير — الجعة — وأخرى من الكحول، على حساب «التركة» ثم انصرف الجميع إلى المحكمة.
وفي اليوم التالي عادوا إلى المحكمة أيضًا حيث حدث نزاع طويل مع سائس جيء به شاهدًا، وكان ثملًا فرفض أن يؤدي اليمين المصطلح عليها في هذه الحالات، وأبى إلا أن يقسم أقسامًا نابية، مما كان فضيحة أمام الوكيل ونائبه، وتعددت الزيارات للمحكمة في الأسبوع التالي، كما قصدوا مرة إلى إدارة ضريبة التركات، واقتضى ذلك تحرير أوراق وإقرارات للإذن بالتصرف والمصادقة عليه، وعمل «جرد» لما في المحل من أمتعة ومنقولات واحتاج الأمر إلى غدوات تؤكل، ووجبات عشاء تقدم، وعدة أشياء نافعة تهيأ، وأكداس من الورق تجمع، حتى بلغ من ذلك كله أن أصبح المستر بل وصبيه والحقيبة الزرقاء من التضخم والسمن بحيث لم يعد أحد تقريبًا يعرف الرجل ولا الصبي ولا الحقيبة، ولطالما ترددا بها على شارع برتيوجل، منذ بضعة أيام.
وأخيرًا، وبعد إنجاز كل هذه المسائل الجسيمة تحدد يوم لبيع الأسهم والسندات ونقل ملكيتها، ومقابلة السيد ويكلنز فلاشر السمسار في سوق الأوراق المالية، حيث يقيم في مكان مجاور للمصرف، وكان المستر سلمون بل هو الذي زكاه لهذا الغرض.
وكانت هذه المقابلة بمثابة عيد أو مهرجان، فتجمل القوم بأحسن ثيابهم، ومسح المستر ولر حذاءه الطويل ونظفه، ونظم هندامه بعناية خاصة، ووضع الرجل المرقط في عروة ردائه زهرة كبيرة من نوع «الداليا» ذات عدة أوراق، كما زان السائقان الآخران ردائيهما بزهرات من الغار وغيره من أزاهر النباتات الدائمة الاخضرار، وقد بدا ثلاثتهم في ثياب الأعياد، أي: إنهم اشتملوا بثياب ترتفع إلى الأذقان، ولبسوا أكبر قدر ممكن من الملابس، وهي الفكرة السائدة بين معاشر السائقين، عن قولنا: «الزي الكامل» منذ اخترعت المركبات إلى يومنا هذا.
وكان المستر بل منتظرًا في المكان المعهود، والموعد المضروب، وكان هو كذلك قد لبس قفازًا وقميصًا نظيفًا بدا طوقه ونهاية كمه عند المعصم ناصلتين من كثرة الغسيل.
وقال بل وهو يتطلع إلى الساعة المعلقة فوق الجدار: «الساعة الآن الثانية إلا ربعًا، فإذا أمكننا أن نقابل المستر فلاشر في الساعة الثانية والربع، كان هذا أحسن الأوقات لمقابلته.»
واقترح الرجل ذو الوجه المرقط: «ما قولكم أيها السادة في نهلة من الجعة؟»
وقال السائق الثاني: «وقطعة صغيرة من اللحم البارد.»
وأضاف الثالث: «أو قليل من المحار» وكان هذا سيدًا خشن الصوت ينهض على ساقين مفرطتين في الاستدارة.
وقال بل: «مرحى، مرحى! على سبيل الاحتفال بتهنئة المستر ولر بمناسبة انتقال الملكية إليه، آه؟ ها! ها!»
وأجاب المستر ولر: «أنا موافق جدًّا يا سادة. اضرب الجرس يا سامي.»
وفعل سام ذلك، ولم تلبث أن جاءت الجعة واللحوم والمحار وأقبل القوم عليها فأدوا لها حقها من الإنصاف. ونحسب من الأمور المثيرة للاستياء أن يحدث شيء من التمييز، حين يكون كل مشترك في الطعام ناشطًا له مقبلًا عليه، ولكن إذا كان منهم أحد قد أظهر قوة أكبر من الآخرين، فقد كان ذلك الشخص هو السائق الخشن الصوت، فقد أخذ قدرًا بالغًا من الخل مع المحار دون أن ينم عن أقل تأثر أو انفعال.
وقال المستر ولر وهو يحرك كأسًا من البراندي بالماء بعد أن وضع كأسًا منه أمام كل واحد منهم عقب إزالة محار الفارغ: «يا مستر بل سيدي، لقد كنت أعتزم أن أقترح نخب المال في هذه المناسبة، ولكن صموفيل همس لي قائلًا …»
وهنا صاح المستر صمويل ولر وكان قد أتى على نصيبه من المحار في صمت، قائلًا بابتسامات هادئة، وصوت مرتفع: «مرحى!»
وواصل والده حديثه قائلًا: «لقد همس لي قائلًا: إنه من الخير أن نخصص الشراب لنخبك مع دعواتنا لك بالنجاح والتوفيق، ولشكرك على الطريقة التي اتبعتها في إنهاء هذه المسألة على خير، فلنشرب في صحتك إذن يا سيدي.»
وتدخل السيد ذو الوجه المرقط بغتة فقال بحماسة: «قف هنالك! وانظروا جميعًا نحوي أيها السادة!»
ونهض السيد ذو الوجه المرقط بعد أن فاه بتلك العبارة ونهض الجميع كذلك، واستعرض الوجوه، ورفع ببطء يده، وأخذ كل منهم حتى السيد المرقط الوجه، نفسًا طويلًا، ورفع كأسه إلى شفتيه. وفي الحال أنزل السيد ذو الوجه المرقط يده، وهبطت الأقداح في أثره على المائدة فارغة. ومن المستحيل وصف الأثر المدهش البالغ الذي أحدثه هذا الاحتفال العجيب، فقد جمع كل عناصر العظمة على ما حوى من روعة وجلال ووقار.
وأنشأ المستر بل يقول: «جميل جدًّا أيها السادة، وكل ما في وسعي أن أقوله: إن هذه الأمارات الدالة على الثقة تسر بلا شك نفس رجل القانون وتثلج صدره، ولست أحب أن أقول شيئًا تشتم منه رائحة الأنانية أيها السادة، ولكني في غاية السرور من أجلكم لمجيئكم لي، هذا هو كل ما أريد أن أقول. واعتقادي الجازم أنكم لو كنتم ذهبتم إلى عضو من أصاغر رجال المهنة لوجدتم أنفسكم حيارى في ضلال مبين، ولما وصلتم إلى هذا الاحتفال الذي نقيمه الآن. إنني أؤكد لكم ذلك بوصفه حقيقة وواقعًا، ولكم وددت لو أن صديقي اللورد كبير القضاة كان اليوم حيًّا فشاهد مبلغ إدارتي وحسن تصرفي في هذه القضية، ولست أقول ذلك عن تفاخر، ولكني أعتقد مع ذلك أيها السادة أنه لا يصح لي أن أضايقكم بشيء من هذا القبيل، إنني هنا أيها السادة عادة إذا طلبتموني وجدتموني، فإذا لم أكن هنا، ولا في الناحية الأخرى من الطريق، فهذا هو عنواني، وسترون أن أتعابي زهيدة ومعقولة، وأن ليس في وسط المحامين أحد أكثر رعاية لعملائه مني، وأرجو أن أكون على شيء من العلم بمهنتي أيضًا، فإن سنحت لكم فرصة لتزكيتي عند أحد من أصحابكم، كنت لكم من أصدق الشاكرين، وهم أيضًا حين يعرفونني، في صحتكم أيها السادة.»
وبعد أن عبر بهذه الطريقة عن عواطفه وضع ثلاث بطاقات مكتوبة أمام أصحاب المستر ولر، وعاد ينظر إلى الساعة، وقال: إنه قد حان لهم أن ينصرفوا، وعلى أثر هذا التلميح دفع المستر ولر الحساب، وانطلق الجميع — منفذًا ووريثًا ومحاميًا وشهودًا — صوب حي الأعمال في المدينة.
وكان مكتب السيد ولكنز فلاشر السمسار في سوق الأوراق المالية في الطبقة الأولى من عمارة خلف مصرف إنجلترا، بينما كانت داره في بركستون، واسطبل حصانه ومركبته في موضع مجاور، وكان سائس المستر ولكنز فلاشر في طريقه إلى حي «وست اند» لتسليم بعض القنائص التي جمعت من الصيد، وكان كاتب المستر ولكنز فلاشر قد ذهب لتناول الغداء، فلم يكن ثمة أحد غير المستر ولكنز فلاشر في المكتب حين دق المستر بل وصحبه الباب، فصاح بنفسه قائلًا: «ادخل.»
وقال بل: وهو ينحني انحناء ظاهرًا: «طاب صباحك يا سيدي. نريد أن ننفذ شيئًا من التحويل إذا تفضلت.»
وقال المستر فلاشر: «آه! تفضلوا ادخلوا. اجلسوا لحظة، سأتفرغ لكم حالًا.»
وقال بل: «شكرًا لك يا سيدي، لا مدعاة للعجلة، خذ لك كرسيًّا يا مستر ولر.»
واتخذ هذا كرسيًّا، واختار سام صندوقًا، وتناول المحكمان ما استطاعا أن يجداه وراحوا جميعًا يتطلعون إلى التقويم المعلق فوق الجدار وجريدة أو جريدتين كانتا معلقتين فوقه كذلك، وهم جاحظو الأعين من الإكبار كأن الجريدتين من أروع رسوم العباقرة الخالدين.
وقال المستر ولكنز فلاشر، مواصلًا الحديث الذي كان المستر بل قد قطعه بدخوله إلى حين: «إني لمستعد أن أراهنك عليه بست من زجاجات النبيذ الأحمر — الكلاريت — إذا شئت المراهنة.»
وكان هذا القول موجهًا إلى شاب رشيق يضع قبعته على اليمين من رأسه، وهو منحن فوق المكتب يقتل الذباب بالمسطرة، بينما كان السيد ولكنز فلاشر يوازن نفسه فوق ساقي مقعد طويل، ويطعن بسن المبراة علبة ورق اللصق، فينفذ السن بين لحظة وأخرى ببراعة بالغة في وسط ورقة صغيرة حمراء لاصقة خارج العلبة، وكان كل من السيدين يرتدي صدارًا مفتوحًا وطوقًا مستديرًا وحذاء صغيرًا، ويلبس خواتيم كبيرة، وساعة دقيقة الحجم وسلسلة صخمة، وكل هندامه آية في التناسق ومناديله عباقة برائحة زكية.
وقال الآخر: «أنا لا أراهن أبدًا بست زجاجات، ولكني أقبل المراهنة باثنتي عشرة.»
وأجاب السيد ولكنز فلاشر: «وأنا قابل يا سمري، اتفقنا!»
وقال الآخر: «من النوع الأصيل.»
وأجاب ولكنز فلاشر: «طبعًا.» ودوَّن الرهان في دفتر صغير له ممسك قلم ذهبي كما دوَّنه الآخر في دفتر مماثل ذي ممسك قلم ذهبي كذلك.
وقال المستر سمري: «لقد رأيت في هذا الصباح إعلانًا عن «بفر»، يا للشيطان المسكين! لقد فصلوه من المحل.»
وقال المستر ولكنز فلاشر: «أراهنك بعشرة جنيهات لخمسة على أنه سيقطع رقبته.»
وأجاب المستر سمري: «وأنا قبلت الرهان.»
وقال المستر ولكنز فلاشر، وقد لاحت عليه علائم التفكير: «قف! أنا مستدرك، فمن الجائز أن يشنق نفسه.»
وأجاب المستر سمري وهو يخرج ممسك القلم الذهبي مرة أخرى: «حسن جدًّا، لا مانع عندي من مجاراتك في هذا السبيل، لنقل مثلًا أن الرهان على أنه «سيتخلص» من نفسه.»
وقال المستر ولكنز فلاشر: «سيقتل نفسه في الحقيقة.»
وأجاب المستر سمري: «وهو كذلك، ولنقيد الرهان على هذا الشرط، وأخذ يكتب: فلاشر عشرة جنيهات لخمسة. الرهان: بوفر سيقتل نفسه، والآن لنتفق على المدة التي سيقتل فيها نفسه.»
واقترح المستر ولكنز فلاشر: «أسبوعين.»
وقال المستر سمري، وقد وقف عن الكتابة لحظة ليقتل ذبابة بالمسطرة: «لعنة الله. كلا لنقل أسبوعًا.»
وقال المستر ولكنز فلاشر: «لنقسم الفرق قسمين فنقول: عشرة أيام.»
وأجاب المستر سمري: «لتكن عشرة أيام.»
ودوَّن الرجلان في دفتريهما الصغيرين القول: بأن بفر سيقتل نفسه في غضون عشرة أيام، أو يدفع المستر ولكنز فلاشر إلى المستر فرانك سمري مبلغ عشرة جنيهات، وإذا قتل بوفر نفسه في هذه المدة فيدفع المستر فرنك سمري خمسة جنيهات إلى المستر ولكنز فلاشر بدلًا من العشرة.
وقال المستر ولكنز فلاشر: «إنني متأسف جدًّا لإفلاسه، لقد كان يقيم مآدب فاخرة.»
وقال المستر سمري: «ونبيذ معتق أيضًا، وسنرسل ساقينا غدًا إلى المزاد؛ ليلتقط لنا بعض الزجاجات التي تسمى (٦٤).»
وقال المستر ولكنز فلاشر: «يا لك من شيطان، إن الساقي الذي في خدمتي ذاهب كذلك، أراهنك بخمسة جنيهات على أن خادمي سيزايد على خادمك.»
وقال الآخر: «وأنا قبلت الرهان.»
ودون الرهان الجديد في الدفترين الصغيرين بالقلمين ذوي الممسكين الذهبيين، وكان المستر سمري عندئذ قد «قتل» كل الذباب، ودون كل الرهان، فانطلق إلى المصفق ليرى سير المضاربات.
وهنا تواضع المستر ولكنز فلاشر فاستمع لطلبات المستر سلمون بل، وبعد أن ملأ بعض الأوراق المطبوعة، طلب إلى الجمع أن يتبعوه إلى المصرف، ففعلوا، وكان المستر ولر وأصحابه الثلاثة محملقي الأبصار في كل ما يمر بهم في دهشة لا حد لها، بينما كان سام يقابل كل شيء بهدوء لا يزعجه مزعج.
واجتازوا فناء يعج جلبة وصخبًا وحركة، ومروا باثنين من البوابين يناسب زيهما آلة إطفاء الحريق الحمراء التي كانا يدفعانها على عجلاتها إلى ركن فيه، حتى دخلوا إلى المكتب الذي سينجز فيه عملهم، حيث تركهم بل والمستر فلاشر وقوفًا بضع لحظات، ريثما صعدا إلى إدارة الوصايا.
وهمس ذو الوجه المرقط للمستر ولر الكبير: «ما هذا المكان؟»
وأجاب منفذ الوصية مخافتًا بصوته: «مكتب المستشار.»
وسأل السائق الأجش الصوت: «ومن هؤلاء السادة الجلوس خلف المنصات؟»
وأجاب المستر ولر: «هؤلاء فيما أظن هم الذين يقال عنهم: صغار المستشارين، أليس كذلك يا صموفيل؟»
وسأله سام باحتقار: «هل تظن أن صغار المستشارين أناس أحياء يأكلون ويشربون؟»
وأجاب المستر ولر: «ومن أين لي أن أعرف لقد حسبت أنهم يشبهون هؤلاء ومن هم إذن؟»
وأجاب سام: «هؤلاء هم الكتبة.»
وسأل الوالد: «ولماذا تراهم جميعًا يأكلون الشطائر؟»
وأجاب سام: «لأن ذلك واجبهم وجزء من النظام ذاته، وهم يفعلونه هنا على الدوام، طول النهار!»
وما كاد المستر ولر وأصحابه يقضون لحظة في التفكير في هذا النظام الفريد الذي يتصل بالحركة المالية في البلاد، حتى وافاهم بل والمستر فلاشر، فاقتاداهم إلى ناحية من المنصة كتب فوقها على لوح أسود مستدير الحرف «و» بشكل ظاهر.
وهنا قال المستر ولر وهو يلفت نظر بل إلى ذلك اللوح: «لماذا يضعون هذا الحرف فوق ذلك اللوح؟»
وأجاب بل: «هذا هو الحرف الأول من اسم المتوفاة.»
والتفت المستر ولر إلى المحكمين فقال: «اسمعوا هنا شيء خطأ، إن «الواو» هي اسمنا نحن هذا لا ينفع.»
وقرر الحكام من فورهم أن الإجراءات لا يمكن أن تتخذ تحت حرف «الواو»، وكان أكبر الظن أن المسألة كانت ستتأخر وتتعطل يومًا آخر على الأقل، لولا تلك المبادرة، التي قد تبدو لأول وهلة سلوكًا جافيًا من جانب ولد في حق والده، فقد بادر سام فأمسك والده من ذيل سترته وجذبه إلى المنصة واحتجزه أمامها حتى انتهى من إثبات توقيعه على وثيقتين، وكانت عملية التوقيع بالنسبة لما اعتاده المستر ولر من كتابة الحروف غليظة كالمطبعة، مسألة شاقة وتستغرق وقتًا وجهدًا، حتى لقد استطاع الكاتب المختص تقشير ثلاث تفاحات وأكلها في الفترة التي قضاها المستر ولر في الإمضاء.
وأصر المستر ولر الكبير على بيع نصيبه في الحال، فانتقلوا من المصرف إلى سوق الأوراق المالية فوقفوا بالباب الخارجي، وهنا غاب المستر ولكنز فلاشر لحظة ثم عاد يحمل صكًّا على مصرف سميث — بين سميث بمبلغ خمسمائة وثلاثين جنيهًا، وهو القدر الذي يستحقه المستر ولر بسعر السوق من رصيد المال الذي ادخرته زوجته الثانية، بينما تم تحويل المائتي جنيه نصيب سام إلى اسمه، ولم يكد المستر ولكنز فلاشر يتناول عمولته، ويلقي بالمال في جيبه بغير اكتراث، حتى عاد أدراجه إلى مكتبه.
وكان المستر ولر في مبدأ الأمر مصرًّا على صرف الصك جنيهات ذهبية، رافضًا قبول شيء سواها، ولكن الحكمين أفهماه أن هذا سيقتضي دفع نفقات «زكيبة» صغيرة لحملها فيها إلى البيت، فرضي أخيرًا قبول المبلغ أوراقًا من فئة الخمسة الجنيهات.
وقال المستر ولر وهم منصرفون من المصرف بعد قبض المال: «إن لدينا أنا وابني موعدًا خاصًّا في عصر اليوم، وأحب أن أنهي هذه المسألة وأغسل يدي منها، فلنذهب إلى مكان ما حيث نستطيع تصفية الحساب.»
ولم يلبثوا أن اهتدوا إلى غرفة هادئة، وتم البحث في الحسابات ومراجعتها، وتولى سام دفع حساب «بل»، وقال الحكمان «بشطب» بعض المفردات، وعلى الرغم من أن المستر بل قد صرح عقب توكيدات وأيمان أنهم كانوا في المراجعة قساة في الواقع عليه، فإن هذه «العملية» كانت أحسن عملية قانونية أتيحت يومًا له، وقد عاش بعدها ستة أشهر ينفق منها على مسكنه وطعامه وغسيل ملابسه.
وتناول الحكمان كأسًا، وتصافحا ثم انصرفا فقد كان لا بد لهما أن يخرجا بعرباتهما من المدينة في تلك الليلة، ورأى اللطيفة التي كان المستر بكوك ينظر بها إليها، حين فرغت من قولها، ولكن المؤكد أنها أطرقت وجعلت تفحص ركن مبذلتها الرشيقة الصغيرة فحصًا أدق مما يبدو أن الحاجة تدعو إليه.
وقال المستر بكوك: «نبئيهما أن في إمكانهما المجيء إلى هنا في الحال.»
وبدا على الفتاة الارتياح للخلاص من هذا الموقف فأسرعت منصرفة لإبلاغ رسالتها.
وانثنى المستر بكوك يروح في الحجرة ويغدو مرتين أو ثلاثًا، وعرك ذقنه بيسراه، وهو يبدو مستغرقًا في التفكير.
وراح يقول لنفسه بعد لحظة بصوت رفيق وإن كان حزينًا إلى حد ما: «جميل، جميل، هذه هي أحسن وسيلة لمجازاته على إخلاصه لي ووفائه، فليكن ذلك إذن على بركة الله. فذلك هو مصير كل شيخ وحيد، كل الذين من حوله ينشئون علاقات جديدة، وصلات مختلفة، ويتركونه في النهاية وحده، ولا يحق لي أن أتوقع شيئًا غير ذلك.» وهنا أردف يقول وهو أكثر تهللًا وابتسامًا: «كلا، كلا، أن توقع أكثر من هذا أثرة، وجحود، وكفر بالصنيع، أولى بي أن أغتبط وأهنأ أن تواتت لي الفرصة لكي أطمئن على مصيره هو كذلك أني بلا ريب لمغتبط سعيد.»
وفيما كان المستر بكوك مستغرقًا في هذه الخواطر ونحوها دق الباب ثلاثًا أو رباع قبل أن ينتبه إلى دقاته. وما كاد يجلس ويستعيد إشراقه وتهلل أساريره كعادته، حتى أذن للقادمين في الدخول، فدخل سام يتبعه والده.
وبادره المستر بكوك قائلًا: «يسرني أن أراك قد عدت يا سام. كيف حالك يا مستر ولر؟»
وأجاب الشيخ الأرمل: «بخير، وشكرًا يا سيدي، أرجو أن تكون بعافية يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «كل العافية، أشكرك.»
وقال المستر ولر: «لقد أردت أن أتحدث إليك قليلًا يا سيدي، إذا كان في الإمكان أن تستغني عن خمس دقائق أو نحوها لسماع قولي يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: «بكل تأكيد. يا سام، قدم إلى والدك كرسيًّا.»
وقال المستر ولر: «شكرًا يا صموفيل، ها هو الكرسي هنا — وراح يحمل مقعدًا بنفسه، ويقول وهو يضع قبعته على أرض الغرفة، حين اتخذ مجلسه: «إن اليوم لصاف بشكل غير مألوف يا سيدي.»
وأجاب المستر بكوك: إنه لكذلك إلى حد بديع. يوم لطيف حقًّا مناسب لهذا الفصل من السنة.»
وقال المستر ولر: «أنسب جو رأيته في حياتي يا سيدي.»
وهنا انتابت الشيخ نوبة سعال شديد لم تكد تفارقه حتى مضى يهز رأسه ويغمز بعينيه ويبدي عدة إشارات توسل وحركات تهديد ووعيد لابنه، ظل سام ولر ممتنعًا عن رؤيتها في عناد وإصرار.
وأدرك المستر بكوك أن الشيخ مرتبك فتظاهر بأنه منشغل بقطع حواف صفحات كتاب كان موضوعًا بجانبه، وانتظر مليًّا حتى يصل المستر ولر إلى الإفصاح عن غرضه من زيارته. وقال المستر ولر وهو ينظر بغضب إلى ابنه: «ما رأيت في حياتي ولدًا قاسيًا مثلك يا صموفيل، ولا ابنًا شنيعًا بهذا الشكل.»
وسأل المستر بكوك: «ماذا فعل يا مستر ولر؟»
وأجاب الوالد: «إنه لا يريد أن يبدأ الكلام يا سيدي، وهو يعرف أنني عاجز عن التعبير عما أريد، عندما تكون هناك مسألة تحتاج إلى العمل، بل يقف وينظر إلي وأنا جالس هنا، مضيع شيئًا من وقتك الثمين، ويجعلني هدفًا للمشاهدة، بدلًا من أن يسعفني ولو بحرف واحد، هذا عقوق يا صموفيل»، وهنا انثنى يمسح عرقه، «ليس هذا برًّا من الأبناء بآبائهم مطلقًا.»
وأجاب سام: «لقد قلت: إنك ستتكلم، فمن أين لي أن أعرف أنك انتهيت قبل أن تبتدئ؟»
وأجاب الوالد: «كان في إمكانك أن ترى أنني قد عجزت عن الابتداء، إنني سائق على الجانب الخاطئ وداخل على الحواجز، ومرتبك، ومع ذلك كله لا تمد يدك لمساعدتي. أنا خجلان منك يا صموفيل.»
وقال سام وهو ينحني انحناءة خفيفة: «الحقيقة يا سيدي أن المعلم سحب ماله.»
وقال المستر ولر وهو يهز رأسه مرتاحًا راضيًا: «حسن جدًّا يا صموفيل، حسن جدًّا، لم أكن أقصد الكلام بشدة معك يا سامي. حسن جدًّا، هذا هو المطلع الحسن الذي يصح الابتداء به. هيا إذن أدخل في الجد حالًا. جميل جدًّا يا صموفيل.»
وانثنى المستر ولر يكرر هز رأسه عددًا غير مألوف من المرات، للتعبير عن فرط ارتياحه وسروره، وانتظر مرهفًا سمعه لابنه حتى يواصل الكلام.
وقال المستر بكوك مشفقًا من أن يطول الحديث أكثر مما كان ينتظر: «اجلس يا سام!»
وعاد سام ينحني ثم جلس، وبينما راح أبوه يتلفت حوله، مضى هو يقول: «إن المعلم سحب يا سيدي خمسمائة وثلاثين جنيهًا.»
وهمس المستر ولر الكبير قائلًا: «بفئات مخفضة.»
وقال سام: «لا يهم كثيرًا أنها بفئات مخفضة أو غيرها، المبلغ هو خمسمائة وثلاثون جنيهًا. أليس كذلك؟»
وأجاب المستر ولر: «هو كذلك يا صموفيل.»
ومضى سام يقول: «كما أضاف إلى هذا المبلغ ثمن المحل ونفقات العمل.»
وأردف أبوه في أثره: «والإيجار، وخلو الرجل، والبضاعة، والأخشاب، والمنقولات.»
وأكمل سام الحساب بقوله: «يعني في الجملة ألفًا ومائة وثمانين جنيهًا.»
وقال المستر بكوك: «أحقًّا؟ يسرني أن أسمع هذا، وأهنئك يا مستر ولر بهذا التوفيق.»
وقال المستر ولر وهو يرفع يده دلالة على الاستنكار: «انتظر لحظة يا سيدي، استمر يا صموفيل!»
وقال سام في شيء من التردد: «وهو يريد أن يضع هذا المبلغ في حرز حريز، أو مكان أمين، وهذه هي رغبتي أنا أيضًا؛ لأنه إذا تركه لديه فسوف يذهب يقرض الناس، أو يستثمره في اقتناء الخيول، أو يضيع أغلبه فيما لا يفيد أو يتحول إلى ممياء فرعونية بأي شكل كان.»
وقال المستر ولر مسرورًا كأن سام يشيد بحكمته، ويمتدح بعد نظره أكبر المديح: «جميل جدًّا يا صموفيل، جميل جدًّا.»
واستتلى سام، وهو يشد بعصبية حافة قبعته: «ولهذه الأسباب قبض المبلغ اليوم وجاء إلى هنا معي ليقول، أو على الأقل ليعرض، أو بعبارة أخرى لكي …»
وهنا عاجله المستر ولر الكبير وقد نفد صبره فقال: «لكي أقول هذا: وهو أن المبلغ لا نفع لي منه؛ لأنني عازم على الرجوع إلى سوق المركبات العامة بانتظام، ولا أجد مكانًا أحفظه فيه إلا إذا دفعت لحارس المركبة أجرًا على حراسته، أو وضعته في أحد جيوب المركبة، فيكون ذلك إغراء للركاب الجالسين في جوفها، فإذا تكرمت يا سيدي فحفظته لي عندك كنت لك من الشاكرين.» وهنا تقدم إلى المستر بكوك وهمس له في أذنه: «ربما يساعد قليلًا على مصاريف ذلك الحكم، وكل ما أريد أن أقوله هو أن تحفظه لديك إلى أن أطلبه.» وراح المستر ولر يضع محفظة جيبه في يدي المستر بكوك، وتناول قبعته، وجرى منصرفًا من الغرفة بخفة قلما تنتظر من شيخ بدين مثله.
وصاح المستر بكوك بجد قائلًا: «أمسكه يا سام، ألحق به، أعده في الحال! يا مستر ولر، تعال، ارجع!»
وتبين سام أن لا سبيل إلى مخالفة الأمر، فأمسك أباه من ذراعه وهو يهبط السلم وصحبه بالقوة والإكراه.
وقال المستر بكوك وهو يتناول الشيخ من يده: «يا صديقي الكريم، إن ثقتك الصادقة بي لتتملك نفسي وتطغى على مشاعري.»
وأجاب المستر ولر بعناد: «لا أرى داعيًا إلى شيء كهذا يا سيدي.»
وقال المستر بكوك: «أؤكد لك يا صديقي الكريم أن لدي من المال ما لا حاجة لي يومًا به، بل أكثر مما يجوز لشيخ في مثل سني أن يعيش حتى ينفقه.»
وقال المستر ولر: «لا يعرف أحد كم في إمكانه أن ينفق حتى يجرب.»
وأجاب المستر بكوك: «ربما، ولكني لست أنوي تجربة شيء كهذا، وأكبر ظني أنني لهذا السبب لن أحتاج؛ ولهذا أرجوك أن تسترد مالك يا مستر ولر.»
وقال المستر ولر بنظرة استياء: «حسن جدًّا اسمع مني يا سامي، إنني سأفعل بهذا المال فعل المتهور البائس، أي والله مثل المتهور البائس.»
وأجاب سام: «خير لك ألا تفعل.»
وفكر المستر ولر لحظة قصيرة، ثم زر رداءه بعزم بالغ، واستتلى يقول: «سأفتح موقف مرور.»
وصاح سام مندهشًا: «تفتح ماذا؟»
وأجاب المستر ولر وهو مطبق أسنانه: «موقف مرور! سأقف بجوار مكان العوائد، فودع يا صموفيل أباك فإني سأكرس بقية أيامي في مكان العوائد.»
وكان هذا النذير مروعًا كل الترويع، كما بدا المستر ولر صادق العزيمة على تنفيذه، بعد أن تأثر أشد التأثر من رفض المستر بكوك إجابته إلى سؤاله، حتى اضطر الشيخ بعد التفكير في الأمر لحظة، إلى مراجعة قراره، فقال: «حسن، حسن يا مستر ولر، سأحفظ المبلغ لدي، وفي وسعي أن أفعل به خيرًا مما قد يكون في وسعك أنت.»
وتهلل وجه المستر ولر وقال: «هذا هو الكلام البديع، في إمكانك طبعًا يا سيدي.»
وقال المستر بكوك، وهو يضع المحفظة في الدرج ويقفله: «انتهينا فلنتحدث في شيء آخر، إنني شاكر لك من كل قلبي يا صديقي الكريم، والآن اجلس، فإني أريد أن أسألك نصيحة.»
ولم يلبث الضحك الذي انبعث في صدره من نجاته وانتصاره في هذه الزيارة، ذلك الضحك الذي لم يقتصر أثره العصبي على وجهه، بل جاوزه إلى ذراعيه وساقيه، وجميع أجزاء بدنه، وهو يشهد المستر بكوك يضع المحفظة في الدرج ويقفله، أن تحول فجأة إلى وقار شديد، حين سمع تلك العبارة الأخيرة.
وقال المستر بكوك: «انتظر في الخارج لحظة يا سام من فضلك.»
وانسحب سام في الحال.
وبدا المستر ولر حكيمًا متزنًا على غير عادته، ولاحت أمارات الدهشة الشديدة عليه، حين بدأ المستر بكوك الحديث بقوله: «لا أظنك يا مستر ولر نصيرًا لفكرة الزواج، أليس كذلك؟»
وهز المستر ولر رأسه، وعجز عن الكلام عجزًا تامًّا، وتمثلت له أخيلة وأفكار غامضة عن أرملة شريرة عرفت كيف تغرر بالمستر بكوك، وتنجح في خداعه فكاد يختنق، ولا يحير قولًا.
وقال المستر بكوك: «ألم تصادف في طريقك إلى هنا مع ولدك فتاة صغيرة.»
وأجاب المستر ولر باقتضاب: «نعم رأيت فتاة صغيرة.»
وقال: «وما رأيك فيها الآن؟ أجب بصراحة يا مستر ولر، ما رأيك فيها؟»
قال بلهجة الناقد: «أعتقد أنها بضة جدًّا، وحسنة الصورة.»
وأجاب المستر بكوك: «هي كذلك، وما رأيك في أدبها وسلوكها، كما يدل عليها ما رأيته منها؟»
وأجاب المستر ولر: «لطيفة جدًّا ومريحة.»
ولم يظهر المعنى الذي أراده المستر ولر بهذه الصفة الأخيرة التي ذكرها، ولكن كان الواضح من اللهجة التي قيلت بها أنها تعبير عن رضى، فاكتفى المستر بكوك بذلك واستنار من حيث الموضوع.
وقال: «إنها تهمني كثيرًا يا مستر ولر.»
وسعل المستر ولر.
ومضى المستر بكوك يقول: «أقصد أنني مهتم بمستقبلها، وأود أن تتوافر لها الراحة والرفاهية والرغد، هل فهمت مرادي؟»
وأجاب المستر ولر: «بكل وضوح»، وإن لم يفهم بعد شيئًا.
وعاد المستر بكوك يقول: «إن هذه الفتاة متعلقة بابنك.»
وصاح الوالد: «بصموفيل ولر؟»
وأجاب المستر بكوك: «نعم.»
وقال المستر ولر بعد تفكير قصير: «طبيعي، طبيعي وإن كان مزعجًا، لا بد لسامي من الحرص والاحتياط.»
وسأل المستر بكوك: «وماذا تقصد بهذا؟»
وأجاب الشيخ: «يجب أن يكون حريصًا فلا يقول لها شيئًا، ومحاذرًا فلا ينساق معها في لحظة بريئة فيقول ما قد يؤدي به إلى الاتهام بخلف الوعد. إن الرجل منا لا يأمن يومًا على نفسه منهن يا مستر بكوك إذا هن قصدن الكيد له، وأنت لا تدري كيف تملكهن، وبينما أنت تفكر كيف يتم لك امتلاكهن، يكن هن قد امتلكنك، وأنا نفسي يا سيدي قد تزوجت بهذا الشكل أولًا، وجاء سامي ابني ثمرة تلك الحركات.»
وقال المستر بكوك: «إنك لا تشجعني كثيرًا على الانتهاء مما أردت أن أقوله، ولكن يحسن بي أن أتمه في الحال، إن هذه الفتاة ليست فقط متعلقة بابنك يا مستر ولر، ولكن ابنك أيضًا متعلق بها.»
وقال المستر ولر: «والله إن هذا لخبر عجيب يطرق أذن والد، حقًّا إنه لكذلك.»
وأجاب المستر بكوك دون تعليق على عبارة المستر ولر الأخيرة: «لقد لاحظتهما في عدة مناسبات، ولا يخامرني أي شك في حقيقة أمرهما، فافرض أنني راغب في ربطهما برباط الزوج والزوجة، ومساعدتهما على الاستقرار في عمل ما أو وضع، يرجى أن يعيشا منه عيشة راضية، فما قولك في هذا يا مستر ولر؟»
وتلقى المستر ولر في أول الأمر فكرة زواج من يهتم بأمره، ويحرص على مصيره، بتصعير الوجه وتقليب السحنة اشمئزازًا واستنكارًا، ولكن المستر بكوك مضى يحاجه في هذه النقطة ويردد القول بأن ميري ليست أرملة، وما زال به حتى أخذ شيئًا فشيئًا يلين ويسلس قياده، ذلك أن المستر بكوك له كثيرًا من السيطرة على مشاعره، وكان المستر ولر نفسه قد تأثر من قبل بجمال ميري وحسن منظرها، بل كان في الواقع قد غمز لها بعينيه غمزات أنفى ما تكون للأبوة، فلم يسعه أخيرًا إلا أن يقول: إنه لا يستطيع معارضة أمر يرتضيه المستر بكوك ويميل إليه، وأنه يسعده كل الإسعاد أن ينزل على نصيحته، فما أن سمع المستر بكوك ذلك منه حتى بادر في فرح شديد إلى أخذه بكلامه ودعوة سام إلى المثول في حضرته.
وقال المستر بكوك وهو يستعد للكلام: «اسمع يا سام. لقد كنت أنا ووالدك نتحدث عنك.»
وقال المستر ولر بلهجة الرعاية والعطف والتوكيد: «نعم، عنك يا صموفيل.»
واستتلى المستر بكوك: «لست أعمى يا سام إلى الحد الذي يمكن أن يقال: إنني لم أشهدك منذ عهد بعيد تطوي الجوانح على شيء أكثر من مجرد الشعور الودي نحو وصيفة مسز ونكل.»
وقال المستر ولر بعين اللهجة الأولى، كأنه قاض يحكم في قضية: «هل سمعت هذا يا صموفيل؟»
وأجاب سام موجهًا القول إلى سيده: «أرجو يا سيدي ألا يكون ثمة بأس في اهتمام شاب بفتاة لا ينكر أحد عليها أنها حسنة الشكل والسير والسلوك.»
وقال المستر بكوك: «لا بأس طبعًا.»
وقال المستر ولر بلطف ولكن بعظمة وجلال: «لا بأس مطلقًا.»
واستتلى المستر بكوك: «حاشا أن أفكر في استنكار سلوك طبيعي كهذا، ولكني أريد أن أساعد في تحقيق رغباتك في هذا الشأن؛ ولهذا تحدثت قليلًا مع أبيك ووجدت أنه يرى رأيي.»
وقاطعه المستر ولر قائلًا على سبيل التفسير: «ما دامت السيدة غير أرملة.»
وتبعه المستر بكوك قائلًا وهو يبتسم: «ما دامت السيدة غير أرملة، فإني أريد أن أطلقك من القيد الذي يفرضه عليك مركزك الحالي، وأبين لك حقيقة شعوري وتقديري لإخلاصك وسجاياك الكثيرة، بتمكينك من الزواج بهذه الفتاة في الحال، وكسب رزقك ورزق أسرتك في حرية واستقلال.» وهنا اضطرب صوت المستر بكوك وتلعثم منطقه قليلًا، ولكنه أردف يقول بصوته المألوف: «وسأعتز وأهنأ يا سام بأن أجعل مستقبلك وآمالك في الحياة موضع عنايتي الخاصة ومظهر شعوري بالعرفان.»
وساد سكون، وما لبث سام أن قال بصوت خافت متهدج، ولكنه قوي ثابت: «إنني شاكر لك يا سيدي أجزل الشكر كرمك الخليق بمثلك، ولا شبيه له بين الناس، ولكن هذا لا يمكن.»
وصاح المستر بكوك في دهشة: «لا يمكن!»
وصاح مستر ولر في مهابة: «يا صموفيل!»
وكرر سام قوله بصوت أكثر ارتفاعًا من ذي قبل: «نعم، يا سيدي أقول: إن هذا غير ممكن. ماذا سيكون مصيرك أنت يا سيدي؟»
وأجاب المستر بكوك: «إن التغيرات التي حدثت أخيرًا يا صديقي العزيز بين أصحابي ستغير أسلوبي في الحياة كل التغيير، ثم إنني بدأت أشيخ، وأحتاج إلى الراحة والهدوء. لقد انتهت يا سام جولاتي في العالم ومطافي.»
وقال سام في لغة المنطق، ولهجة الحوار: «من أين أعرف هذا يا سيدي، إن هذا هو تفكيرك الآن، ولكن افرض أنك غيرت رأيك، وهو شيء غير بعيد؛ لأنك لا تزال تحيا بروح الخامسة والعشرين وشبابها، فما عسى أن يكون مصيرك من غيري؟ إن هذا غير ممكن يا سيدي، غير ممكن.»
وقال المستر ولر مشجعًا: «جميل جدًّا يا صموفيل، إن في هذا لحكمة بالغة.»
وقال المستر بكوك وهو يهز رأسه: «لقد تكلمت بعد طول التروي والتفكير يا سام، وبالثقة الأكيدة أني سأبر بعهدي. وأحرص على كلمتي، لقد أطبقت على مشاهد جديدة ووصلت جولاتي إلى آخرها.»
وأجاب سام: «جميل جدًّا، ولكن هذا هو أقوى داع يقتضي أن يكون بجانبك أحد يفهمك ويواسيك ويوفر لك أسباب الراحة، أما إذا كنت تريد شخصًا أكثر صقلًا وألمع بريقًا، فلا مانع لدي، اتخذ من ترى، واختر من تشاء، ولكن بصرف النظر عن الأجر أو دونه، والمهلة أو بغيرها، والغداء أو لا غداء، والسكن أو غير السكن، سيبقى سام ولر الذي استأجرته من الفندق القديم في الضاحية، بجانبك وفي جوارك، مهما يكن من شيء، فدع كل شيء، وكل إنسان، يفعل ما هو فاعل، ويقض ما هو قاض، ولتأت الأحداث بأسوأ السوء، فلن يثنيني شيء عن عزمي!»
وما كاد سام ينتهي من هذا البيان الذي ألقاه وهو في أشد حالات التأثر والانفعال، حتى نهض المستر ولر من مقعده، ناسيًا كل اعتبارات الزمان والمكان واللياقة وراح يلوح بقبعته فوق رأسه، ويهتف ثلاثة هتافات مدوية.
وقال المستر بكوك حين عاد المستر ولر إلى مجلسه خجلان مستحييًا من حماسته: «ولكنك يا صديقي العزيز مضطر حتمًا إلى التفكير في هذه الشابة أيضًا.»
وأجاب سام: «لقد فكرت فعلًا فيها يا سيدي، وتكلمت معها، وشرحت لها موقفي، وهي مستعدة أن تنتظر حتى أستعد أنا الآخر، وأعتقد أنها ستنتظر، فإن لم تفعل فليست بالمرأة التي أتطلع إليها، ولن أتردد في التخلي عنها، لقد عرفتني من قبل يا سيدي، ولقد عقدت عزمي، فلن يثنيني عنه ثان.»
ومن ذا الذي يستطيع أن يغالب ذلك العزم؟ ليس في مقدور المستر بكوك أن يفعل. فقد أحس في تلك اللحظة من الاعتزاز وسمو الأحاسيس والاعتداد بهذه العلاقة المجردة من الغرض، هذا التفاني البريء من جانب صديقيه الصغيري الشأن ما لا تستطيع أن تثيره في أعماق فؤاده عشرة آلاف اعتراض من أكبر العظماء في هذه الحياة.
وبينما كان هذا الحديث يدور في غرفة المستر بكوك، وصل إلى الفندق شيخ قصير القامة نحيف في ثياب بنية اللون، يتبعه حمال يحمل حقيبة سفر صغيرة، فاحتجز غرفة للمبيت، وسأل غلام الفندق هل تنزل به سيدة تدعى مسز ونكل، فكان رد الغلام طبعًا بالإيجاب.
وسأل الشيخ الصغير الجسم: «وهل هي وحدها؟»
وأجاب الغلام: «أعتقد ذلك يا سيدي، وفي إمكاني أن أدعو إليك وصيفتها إذا …»
ولكن الشيخ أجاب في عجلة: «كلا، لا أريدها، بل خذني إلى غرفتها دون ذكر اسمي.»
وقال الغلام: «ماذا يا سيدي؟»
وسأل الشيخ: «هل أنت أصم؟»
وأجاب الغلام: «كلا يا سيدي.»
قال: «اسمع إذن من فضلك، هل أنت سامع الآن؟»
– «نعم يا سيدي.»
– «حسن، خذني إلى غرفة مسز ونكل دون ذكر اسمي.»
وانثنى الشيخ بعد أن أصدر هذا الأمر يدس خمسة شلنات في كف الغلام ويتفرس في وجهه.
وقال الغلام: «في الحقيقة يا سيدي، لا أدري يا سيدي هل …»
وعاجله الشيخ قائلًا: «آه، أرى أنك ستفعل ذلك. فمن الخير أن تعجل هيا، اقتصادًا في الوقت.»
وكان يبدو على الشيخ من الهدوء والثبات ما جعل الغلام يدس الشلنات الخمسة في جيبه، ويمضي به فيصعد السلم بغير كلمة أخرى.
وقال الشيخ: «أهذه هي الغرفة؟ لك أن تذهب من حيث أتيت.»
وامتثل الغلام للأمر وهو في عجب بالغ، من عسى أن يكون ذلك الرجل وماذا يريده، وانتظر الشيخ حتى توارى الغلام فدق الباب.
وقالت أرابلا: «ادخل!»
وغمغم الشيخ لنفسه قائلًا: «صوت رخيم على كل حال، ولكن رخامة الصوت ليست شيئًا.» قال هذا وهو يفتح الباب ويدخل الغرفة، وكانت أرابلا جالسة تطرز، فنهضت عند رؤية رجل غريب مرتبكة قليلًا، ولكن ارتباكها كان جميلًا لا شائبة فيه.
وقال الغريب وهو يدخل ويغلق الباب في أثره: «أرجو يا سيدتي ألا تنهضي من مجلسك — مسز ونكل فيما أعتقد؟»
وأومأت أرابلا إيجابًا.
وقال الشيخ وهو ينظر إليها بفضول ظاهر: «مسز نثنايل ونكل التي تزوجت بابن الشيخ الذي يقيم في برمنجهام؟»
وأومأت أرابلا مرة أخرى وتلفتت حولها بقلق كأنها لا تدري، هل تطلب غوثًا أو لا حاجة بها إليه.
وقال الشيخ: «أراني قد فاجأتك يا سيدتي.»
وأجابت أرابلا وهي في دهشة متزايدة: «لا يسعني إلا أن أعترف بأنني قد فوجئت شيئًا ما.»
وقال الغريب: «سأتخذ مقعدًا إذا سمحت يا سيدتي.»
واتخذ مجلسًا، وأخرج علبة منظاره من جيبه، فأخرج المنظار بكل هدوء منها وأقامه فوق أنفه.
وانثنى يقول وهو يطيل النظر إلى أرابلا حتى بدأت تنزعج: «ألا تعرفينني يا سيدتي؟»
وأجابت أرابلا متهيبة: «كلا يا سيدي.»
وقال الشيخ وهو يربت ساقه اليسرى: «طبعًا لا — وأنى لك معرفتي — ولكنك مع ذلك تعرفين اسمي يا سيدتي.»
وقالت أرابلا وهي راجفة وإن لم تدر السبب: «أحقًّا؟ هل لي أن أسألك عنه؟»
وأجاب الشيخ، وهو لا يزال مطيلًا النظر إلى وجهها: «ستعرفينه حالًا يا سيدتي، هل كان زواجكما من عهد قريب يا سيدتي؟»
وقالت أرابلا بصوت لا يكاد يكون مسموعًا، وقد ألقت تطريزها جانبًا، وبدا الاضطراب يستولي على خاطرها، من فكرة قامت في ذهنها من قبل، ثم لم تلبث أن تملكتها: «نعم يا سيدي.»
قال: «ودون أن تشيري على زوجك بوجوب استشارة أبيه أولًا، وهو كما أظن يعتمد على معونته؟»
وهنا رفعت أرابلا منديلها إلى عينيها.
واستتلى الغريب يقول: «ودون محاولة التأكد بأي وسيلة غير مباشرة ما عسى أن يكون شعور ذلك الشيخ من ناحية أمر سوف يشعر بطبيعة الحال باهتمام شديد به؟»
وقالت أرابلا: «لا أستطيع أن أنكر ذلك يا سيدي.»
ومضى الشيخ يقول: «ودون أن يكون لك ما يكفي لأن يكفل لزوجك معونة ثابتة لقاء المنافع الدنيوية التي تعرفين أنها كانت تعود عليه إذا هو تزوج استجابة لرغبات أبيه، إن هذا هو ما يدعوه الأولاد والبنات حبًّا منزهًا من الغرض، حتى يرزقوا هم أولادًا وبناتًا وعندئذ يختلف رأيهم فيه وتتباين نظرتهم إليه!»
وتقاطرت العبرات واكفة من عيني أرابلا، وأنشأت تعتذر وتلتمس الشفاعة بأنها صغيرة غفل لم تجرب الحياة، وإن حبها هو وحده الذي حملها على أن تخطو هذه الخطوة التي فزعا إليها، وأنها حرمت من نصيحة أبويها وإرشادهما منذ نعومة أظفارها تقريبًا.
وقال الشيخ مخففًا من حدة لهجته: «لقد كان هذا خطأ، خطأ كبيرًا، كان حمقًا وخيالًا وتصرفًا غير عملي.»
وأجابت أرابلا المسكينة وهي تنتحب: «لقد كان الخطأ خطئي يا سيدي، وأنا المذنبة.»
وقال الشيخ: «هراء! لم يكن ذنبك على ما أظن ولا خطأك أنه وقع في حبك.» وهنا نظر إليها بمكر وأردف قائلًا: «وإن كان خطأك فعلًا؛ لأنه لم يكن له في الأمر حيلة ولا منه بد.»
وكانت هذه اللفتة الصغيرة، أو الطريقة الشاذة التي استعان الشيخ بها على إظهارها، أو تغير أسلوبه ولهجته، إلى الرفق واللطف، أو كل هذه العوامل مجتمعة، هي التي انتزعت من أرابلا ابتسامة بدت على ثغرها، وسط عبراتها المنهمرة.
وانثنى الشيخ يسأل فجأة وهو يغالب ابتسامة بدت آتية حثيثًا إلى وجهه: «وأين زوجك؟»
وأجابت أرابلا: «إنني منتظرة قدومه من لحظة إلى أخرى يا سيدي، فقد ألححت عليه في الخروج إلى الرياضة في هذا الصباح، حين بدا مغتمًّا مهمومًا؛ لأنه لم يتلق كتابًا من أبيه.»
وقال الشيخ: «أتقولين: إنه المغتم المهموم؟ إنه بذلك لخليق!»
وقالت أرابلا: «أعتقد أن شعوره بالهم هو من أجلي، وإني لمحزونة له يا سيدي أبلغ الحزن إن كنت السبب الوحيد في هذا الموقف الأليم الذي أحاط به.»
وقال الشيخ: «لا تحزني له ولا تبتئسي يا عزيزتي من أجله، فهو الذي صنع بنفسه ما صنع، وإني لفرح، أي نعم إني لمسرور فعلًا فيما يتعلق به.»
وما كادت هذه الكلمات تخرج من شفتي الشيخ حتى سمعت مواقع أقدام فوق السلم، وفطنت إليها أرابلا والشيخ معًا، فارتد الصغير الجسم وجهه شاحبًا، وحاول جاهدًا أن يبدو هادئًا رابط الجأش، فنهض من مجلسه، في اللحظة التي دخل فيها المستر ونكل.
وصاح هذا متراجعًا من فرط الدهشة: «أبي!»
وأجاب الشيخ الصغير الجسم: «نعم، يا سيدي، والآن ماذا تريد أن تقول لي يا سيدي؟»
ولبث المستر ونكل صامتًا.
وقال الشيخ: «أرجو يا سيدي أن تكون قد استحييت من نفسك؟»
ولكن المستر ونكل ظل على صمته.
وسأل الشيخ: «هل أنت مستح من نفسك أم لا يا سيدي؟»
وأجاب المستر ونكل وهو يدخل ذراع أرابلا في ذراعه: «كلا، يا سيدي لست مستحييًا من نفسي ولا من زوجتي أيضًا.»
وصاح الشيخ متهكمًا ساخرًا: «ما شاء الله!»
وقال المستر ونكل: «إنه ليحزنني أنني فعلت ما أوهن من محبتك لي يا سيدي، ولكني في الوقت ذاته أقول: إنه ليس ثمة ما يدعوني إلى الاستحياء من اتخاذ هذه السيدة لي زوجة، ولا في اتخاذك لها ابنة.»
ولم تنقض بضع دقائق حتى ذهب المستر ونكل للبحث عن المستر بكوك، وجاء به، وقدمه إلى أبيه، فتصافح الشيخان خمس دقائق متصلة.»
وأنشأ المستر ونكل الكبير يقول في صراحة خالية من المجاملة: «أشكرك يا مستر بكوك من أعماق قلبي على عطفك على ابني وجملة صنائعك له، إني رجل متسرع، وقد كنت في لقائنا الأخير مغيظًا ومأخوذًا على غرة، والآن قد ذهب عني الغيظ ورضيت وزيادة بعد أن حكمت بنفسي ورأيت بعيني. فهل أزيدك معاذير يا مستر بكوك؟»
وأجاب هذا قائلًا: «ولا معذرة واحدة، لقد فعلت الشيء الوحيد الذي كنت بحاجة إليه لتتم سعادتي.»
وتلت ذلك مصافحات أخرى لبثت خمس دقائق، واقترنت بجملة من الخطب والتحيات والمدائح، كانت على ما حوت من مجاملة وثناء مقترنة بروح الصدق والإخلاص.
وكان سام قد صحب والده رعاية لحق الأبوة إلى حانة «بل سفج» وعند عودته لقي الغلام البدين في فناء الفندق، وكان قد جاء يحمل رسالة من أميلي واردل.
وقال جو وقد بدا كثير الكلام على غير عادته: «أقول: ما أجمل ميري! أليست جميلة؟ إنني أحبها كثيرًا، أحبها!»
ولكن المستر ولر لم يرد عليه ردًّا شفويًّا، بل أطال النظر إليه، وهو مأخوذ من كلامه هذا، ثم سحبه من رقبته إلى الركن، وأطلقه بركلة لا أذى منها، بل ركلة لطيفة تكريمية»، وانطلق سام بعدها في سبيله صافرًا.