الفصل السادس والخمسون
ولبث المستر بكوك وسام ولر أسبوعًا كاملًا عقب قدوم المستر ونكل السعيد يقضيان النهار كله خارج الفندق، ولا يعودان إليه إلا أوان العشاء، وقد بدت عليهما أمارات غموض وخطورة غريبة لا تتفق مع طبيعتهما. وكان واضحًا أن هناك أعمالًا ذات شأن كبير كانت في دور التنفيذ، وإن كثرت التخمينات وتضاربت الأقوال في حقيقة نوعها، وخافية مرادها، فذهب فريق — ومن بينهم المستر طبمن — إلى القول: بأن المستر بكوك يعتزم الزواج، ولكن هذه الفكرة لقيت اعتراضًا شديدًا عليها من السيدات، بينما كان فريق آخر يميل إلى الاعتقاد بأنه يفكر في رحلة بعيدة، فهو في الوقت الحاضر منشغل بإعداد العدة لذلك السفر، ولكن هذا الرأي أيضًا وجد من ينفيه قطعًا ويكذبه، فقد راح سام يقول لماري بلهجة جازمة حين مضت تسأله وتمعن في استجوابه: إنه ليس ثمة نية في القيام برحلات جديدة. وأخيرًا، بعد أن لبثت الأذهان حيرى متسائلة ستة أيام طوال، وظلت العقول هائمة في أودية الحدس والتخمين، أجمع القوم على وجوب مطالبة المستر بكوك بشرح سر مسلكه، ومصارحتهم بدواعي غيابه كل هذا الوقت الطويل عن مجالس أصحابه المعجبين به؛ ولهذا الغرض وجه المستر واردل الدعوة إلى أفراد هذه الندوة جميعًا لتناول الطعام على مائدته في «الأدلفي»، وبعد أن أديرت الكئوس مرتين بدأ دور الكلام، فانبرى ذلك السيد الكبير في السن يقول: «إننا جميعًا في قلق شديد ونريد أن نعرف ما الذي فعلناه من سوء أدى بك إلى هجران مجامعنا والإخلاد إلى رياضتك في معزل منا.»
وقال المستر بكوك: «أحقًّا أنتم في قلق؟ إنه لمن غرائب الاتفاق أنني كنت منتويًا اليوم بالذات الإدلاء ببيان تام في هذا الشأن، فإذا تكرمتم علي بكأس أخرى من النبيذ رويت فضولكم.»
وتناقلت الأكف الكئوس في حماسة بالغة، وانثنى المستر بكوك يقول، وهو يدير عينيه في وجوه أصحابه ويبتسم ابتسامة وضاحة متهللة: «إن كل هذه التغيرات التي جرت بيننا، وأعني بها الزواج الذي تم، والزواج الآخر الذي سيتم، وما سيؤديان إليه من تغيرات، اقتضت مني أن أبادر من فوري إلى التفكير الجدي في خططي ومصيري، فقر رأيي على الإيواء إلى مكان هادئ جميل في بعض أرياض لندن، وهداني التوفيق إلى مسكن يتفق مع خيالي كل الاتفاق، فاتخذته وأثثته، وهو الآن على أتم الاستعداد لانتقالي إليه، وفي نيتي أن أنتقل في الحال داعيًا الله أن يمد في فسحة الأجل حتى أقضي في أكنافه عدة سنين في ظلال السكينة والعزلة الهادئة، يروح عني خلال الحياة محضر أصحابي، ويتبعني في الممات، تذكرهم للأيام الخاليات التي عشتها معهم على محض المودة والوفاء.»
وهنا تمهل المستر بكوك، فسرت حول المائدة موجة خافتة من الغمغمة والهمس.
وواصل المستر بكوك حديثه قائلًا: «ولهذا البيت الذي اخترته في «ضلوتش» بستان فسيح الجنبات، ويقع في حي من ألطف الأحياء القريبة من المدينة، وقد جهزته بكل ما يكفل الرفاهية، والراحة التامة، وقد أكون جمعت إلى ذلك بعض الرواء، ولكني تارك ذلك لحكمكم، وسيصحبني سام إليه، وقد استأجرت بفضل تزكية بركر مديرة للبيت — وهي عجوز جدًّا — وعددًا من الخدم الذين تعتقد أنها سوف تحتاج إليهم، وفي نيتي أن «أدشن» هذه العزلة الصغيرة بحفلة يهمني كثيرًا أن تقام في المسكن الجديد، وأود — إذا لم يكن لدى المستر واردل مانع — أن يكون قران ابنته في مسكني الجديد، في اليوم الذي تبدأ ملكيتي فيه»، وهنا بدا التأثر عليه فأردف يقول: «ذلك أن سعادة الشباب كانت ولا تزال أكبر متعة في حياتي، وإن قلبي ليمتلئ دفئًا وحرارة حين أشهد سعادة أعز أصحابي تتجلي تحت سقف بيتي.»
وعاد المستر بكوك يتمهل، بينما انثنت أميلي وأرابلا تجهشان بالعبرات.
واستتلى مستر بكوك قائلًا: «وقد اتصلت بالنادي شخصيًّا ومن طريق المراسلة، وأبلغتهم ما أنا مقدم عليه، وكان النادي في فترة غيبتنا الطويلة قد عانى كثيرًا من جراء المنازعات الداخلية فيه، وجاء سحب اسمي منه مع ظروف مختلفة أخرى فأدى إلى إغلاقه، واليوم لم يعد لنادي بكوك وجود.»
وغض المستر بكوك من صوته ومضى يقول: «ولن آسف يومًا على أن قضيت الشطر الأكبر من العامين الماضيين في الاختلاط بصنوف متباينة، وأنماط مختلفة، من الطبائع البشرية وصور عدة من أخلاق الناس، وإن كان هذا البحث من جانبي عن كل طريف وجديد قد بدا لكثير من الخلق تافهًا لا يؤبه به. وكنت قد قضيت حياتي الماضية كلها أو جلها متوفرًا على الأعمال والبحث عن الغنى والتماس اليسار، ولكني في هذين العامين الأخيرين قد ألممت بعدة مشاهد وألوان من الصور لم تخطر يومًا ببالي، وانبثقت لخاطري انبثاق الفجر في مطالع الضياء، وهي مشاهد وصور أرجو أن يتسع بها نطاق تفكيري، وينصقل بها وجداني، وتتهذب بها مداركي. وإن كنت قد فعلت خيرًا قليلًا، فحسبي عزاء أنني لم أفعل أذى كثيرًا، وإن أكثر مغامراتي وجولاتي لن تكون سوى مورد ذكريات طيبة لي، ومجال تفكير في أعوامي الباقية. وليبارككم الله جميعًا!»
وعلى أثر هذه الكلمات ملأ المستر بكوك الكأس واشتفها جملة واحدة بيد راعشة، وقد نديت عيناه، حين نهض أصحابه نهضة رجل واحد وشربوا نخبه من أعماق أفئدتهم.
ولم يحتج الأمر إلى استعدادات كثيرة لإقامة حفل قران المستر سنودجراس، فقد كان الفتى يتيمًا من أبويه وكان المستر بكوك وصيًّا عليه وهو قاصر حتى شب عن الطوق، فكان هذا السيد عليمًا بما يملكه الشاب، وما ينتظره من مستقبل. وحين عرف المستر واردل مقدار ما يملكه، وحساب ما قد يرتقبه، أبدى ارتياحه. وكان أي بيان آخر لذلك الشيخ الكريم مرضيًا، لما كان تفيض به نفسه من مرح، وتمتلئ به جوانحه من حدب وعطف، فراح يضفي على أميلي جزءًا طيبًا من ماله، وتقرر أن يكون الزواج بعد أربعة أيام من ذلك التاريخ، وهي مهلة قصيرة للاستعداد جعلت ثلاث حائكات وحائكًا يبلغون من السرعة في العمل حدود الجنون.
واستأجر الشيخ واردل خيلًا للمركبة وانطلق من الغداة لإحضار أمه إلى المدينة، فما كادت العجوز تعرف النبأ منه، بطريقته المتهورة، حتى أغمي عليها، ولكن لم تلبث أن أفاقت من غشيتها، فأمرت بإعداد الثوب الحريري المزركش ووضعه في الحقيبة بغير توان، وأنشأت تقص قصصًا مماثلة عن زواج كبرى بنات المرحومة السيدة توليمجلوار واستغرقت ثلاث ساعات في روايتها، ولم تكن قد جاوزت بعد نصفها.
وكان من المتعين إبلاغ مسز ترندل أنباء الاستعدادات التي تجري في المدينة، ولكنها كانت معتلة الصحة، فتولى المستر ترندل الأمر بنفسه، مخافة أن يكون الخبر أقوى من أن تحتمله ولكن تبين أن الأمر ليس كذلك؛ لأنها ما كادت تعلم به من زوجها حتى كتبت إلى بلدة «ماجلتون» تطلب إرسال قبعة جديدة وثوب حريري أسود، وأعلنت عزمها على حضور القران، فلم ير المستر تراندل بدًّا من دعوة الطبيب، فكان رأيه أنها أعرف منه بما تحس، فكان ردها أنها تحس ألا ضير عليها من الذهاب، وأنها قد انتوته، وعندئذ لم يسع الطبيب، وكان حكيمًا بعيد النظر يعرف مصلحته كما يعرف مصلحة غيره من الناس، إلا أن يقول: إن احتجازها في البيت قد يؤذيها بالملالة والانفعال أكثر مما يؤذيها الذهاب، فيحسن أن تذهب إذن، وفعلًا ذهبت وعني الطبيب بأمرها فأرسل ستة أصناف من الأدوية لتتناولها في الطريق.
وكان واردل إلى جانب هذه المشاغل ونحوها قد عهد إليه بكتابين صغيرين إلى فتاتين صغيرتين كان مطلوبًا منهما أن تكونا للعروس وصيفتين، ولكنهما حين تلقتا الدعوتين هاجتا وحنقتا؛ لأنهما لم تعدا شيئًا لهذا الحدث الخطير، وليس أمامهما متسع من الوقت لإعداده، وهو ظرف جعل أبويهما يحمدان الله عليه ويغتبطان في سرهما به، ولكن لم يمنع ذلك تناول بعض الأكواب القديمة بشيء من الإصلاح والتهذيب، وتفصيل قبعات جديدة، حتى بدت الفتاتان كما كان ينتظر منهما أن تبدوا. وفيما كانتا تبكيان في أثناء الاحتفال بالإكليل عند كل موضع يحسن فيه البكاء، وترعشان حيث يستحب الرعش كان منظرهما وسلوكهما موضع إعجاب المشاهدين.
ولا يعرف أحد على وجه اليقين كيف وصل القريبان الفقيران إلى لندن … هل جاءا سعيًا على الأقدام وخلف المركبات متعلقين، أو التقطتهما مركبة نقل، أو حمل كل منهما الآخر تناوبًا. ولكن الواقع أنهما جاءا قبل أن يدق واردل والذين استبقوا معه باب مسكن المستر بكوك في صباح يوم الزفاف وهما مفعما الوجهين ابتسامات وإيماضات، وعليهما قميصان نظيفان.
ولكنهما وجدا ترحابًا صادقًا؛ لأن الغنى والفقر لا أثر لهما في نفس المستر بكوك، وبدا الخدم جميعًا خفافًا متلببين، وكان سام في حال لا مثيل لها من المرح والحماسة والهياج، بينما كانت «ميري» تسطع جمالًا، وأشرطة أنيقة.
وخرج «العريس» وكان قد جاء فأقام في البيت يومين أو ثلاثة أيام قبل موعد القران، فقصد في جلال واتزان إلى كنيسة «ضلوتش» لاستقبال العروس، وقد صحبه المستر بكوك، وبن ألن، وبب سوير، والمستر طبمن. ووقف سام ولر في خارج الكنيسة وقد وضع في عروة ردائه وردة بيضاء، حبته بها مالكة فؤاده، واشتمل بحلة جديدة فاخرة أعدت لهذه المناسبة، وكان في استقبالهم آل واردل، وأهل ونكل، والعروس والوصيفتان وآل ترندل، ولم تكد حفلة الإكليل تتم، حتى استقل الجميع المركبات لتناول الفطور في دار المستر بكوك، حيث كان المستر بركر في انتظارهم.
وكانت الغمائم الخفاف التي تغمر الجزء الديني من حفل القران قد انقشعت، فتطلقت الوجوه فرحًا، وساد البشر الطلعات، فلم يعد أحد يسمع غير التهاني والمديح وكلمات الإعجاب، وكان كل شيء جميلًا بهيًّا، العشب الناضر في مدخل الدار والبستان المنسق خلفها، والحوض الصغير لحفظ النباتات، وقاعة الطعام، وحجرة الجلوس والمخادع وحجرة التدخين، وفوق تلك كلها المكتبة بألواحها الزيتية ومقاعدها المريحة وخزائن الكتب العجيبة، ومناضدها الغريبة، والكتب التي لا عد لها، والشرفة الفسيحة المطلة على العشب النضير، والمشهد الذي يفتن الألباب، حيث تبدو الدور الصغيرة متناثرة في مختلف أرجائه، تكاد الأشجار تحجبها عن العيان ثم السدول والأستار والبسط والمقاعد والأرائك وكل ما هو جميل وضاء مرتب، يدل على نهاية في حسن الذوق، وجودة الاختيار، حتى لقد مضى كل إنسان في الجمع يقول: إنه لحائر لا يدري أيها أحق بأشد الإعجاب.
وفي وسط ذلك كله وقف المستر بكوك وضاح المحيا بالبسمات، في مشهد لا يقوى قلب رجل، ولا مهجة امرأة، ولا فؤاد وليد، على الامتناع عن الإسهام في هذه السعادة البادية من حوله، والفرح العام المحيط به، وكان هو أسعد الجمع وهو يصافح الأيدي مرارًا، ويكرر هز الأكف تكرارًا، ويحيي الناس عودًا على بدء، ومرة بعد أخرى، فإن لم يستعن بيديه على تحياته، ومصافحاته، انثنى يقلبهما بلذة، ويفركهما بفرح، ويدور في كل ناحية، ويتلفت في كل جهة، وعند كل بادرة، من سرور أو فضول، أو لهفة، ويوحي إلى كل نفس بنظرات الإحساس بالغبطة والابتهاج.
وأعلن الفطور، وتقدم المستر بكوك إلى السيدة العجوز، وكانت قد أكثرت من القول عن السيدة تولينجلوار، فمشى بها إلى رأس مائدة مستطيلة، بينما اتخذ واردل مجلسه عند طرفها الآخر، ووزع الباقون أنفسهم على جانبيها ووقف سام خلف مقعد سيده، وما أن انقطع الضحك، وكف الحديث، حتى حمد المستر بكوك ربه، ثم تمهل لحظة، ودار بعينيه حوله، وكانت الدموع تتقاطر فوق خديه من فرط السرور.
فلندع صديقنا الشيخ يستمتع بلحظة من لحظات السعادة الصرف النقية التي إذا نحن ذهبنا نلتمسها، فلا بد من أن نجد شيئًا منها، يرفع من نفوسنا، في هذه الحياة الفانية. إن في هذه الأرض ظلالًا قاتمة، ولكن أنوارها أقوى من ظلمتها، وضياءها أشد من حلكتها، وقد نرى في دنيانا أناسًا كالخفافيش والبوم، أوتوا أعينًا أحد بصرًا في الظلام الدامس، منها في الأنوار الباهرة، فلنقنع نحن الذين لم نؤت هذه القوى البصرية، بمتعة تملية العين بآخر نظرة وَدَاعِيَّة من أصدقائنا في الخيال الذين قضينا معهم ساعات وحدتنا، وخلونا إليهم في فترات عزلتنا، وأضواء الدنيا ساطعة بكل بهائها حولهم، وأنوار الرغد تشع عليهم من كل مكان.
لقد قدر على أكثر الذين يختلطون بالعالم، ويبلغون عنفوان الحياة، أن يكسبوا عديدًا من الأصحاب الصادقين، ثم يفقدوهم على مر الأيام وتبعًا لسنن الطبيعة، كما قدر على معاشر الكُتاب ومؤرخي الأحداث، أن يخلقوا لهم صحابًا في عالم الخيال ثم يفقدونهم طوعًا لخطط الفن ومطالبه، وليس هذا وحده نهاية شقوتهم، وآخر مدى ألمهم؛ لأنهم مطالبون أيضًا بتقديم بيان عما انتهى إليه أمر أولئك الصحاب الوهميين.
ونحن امتثالًا لمقتضيات هذا العرف — وإنه بلا نزاع عرف سيئ، وتقليد قبيح — لا يسعنا إلا أن نضيف هنا بيانًا ختاميًّا موجزًا عن كل فرد من أفراد الجمع الذين أحاطوا بالمستر بكوك في ذلك اليوم المشهود.
فأما المستر ونكل وعروسه فقد عمدا بعد أن رضي الشيخ عنهما ووطأ من أكنافه لهما، إلى الانتقال فترة قصيرة إلى المقام في بيت جديد لا يبعد أكثر من نصف ميل من دار المستر بكوك، بينما اشتغل المستر ونكل في حي الأعمال وكيلًا أو مراسلًا لأبيه واستبدل بثوبه القديم لباسًا مألوفًا في المدينة وراح يبدو بعد ذلك على الدوام في زي المسيحيين المتحضرين.
وأقام المستر سنودجراس وزوجته في ضيعة «دنجلي دل» حيث ابتاعا مزرعة صغيرة وعكفا على الزرع والضرع، للعمل والمتعة، أكثر منه للربح، ولا يزال المستر سنودجراس، بسبب شرود خاطره أحيانًا وخلوه إلى تفكيره، مشهورًا إلى يومنا هذا بأنه الشاعر الكبير في زمرة أصحابه ومعارفه، وإن لم نجده قد نظم شيئًا يشجع على هذا الاعتقاد، ولا يزال هناك فريق كبير من ذوي المكانة البارزة في ميادين الأدب، والفلسفة، ونحوهما يحتلون مكانًا رفيعًا، ويستمتعون بشهرة عالية، وإن لم يجد الناس لهم كتبًا، ولا تواليف، أو يظفروا منهم بثمرات القريحة.
وأما المستر طبمن، فلم يكد أصحابه يتزوجون ويرى المستر بكوك قد أخلد إلى العزلة، حتى اتخذ مسكنًا له في «رتشمند» حيث هو إلى اليوم مقيم لا يكف عن الرواح والغدو خلال أشهر الصيف في الشرفة ممتلئًا شبابًا ومرحًا أكسباه إعجاب كثيرات من الغيد العوانس اللاتي يسكن في الحي، ولكنه لم يعاود يومًا أن يحوم حول الحي، مخافة الوقوع فيه، ولم يتقدم إلى واحدة منهن.
وأما المستر بب سوير، فقد ظهر اسمه في «الغازيت» الرسمية، طبيبًا مسموحًا له بمزاولة المهنة، فسافر إلى «البنغال» مصطحبًا المستر بنجمن ألن، بعد أن عينا طبيبين جراحين في شركة الهند الشرقية، وقد أصيب كل منهما بالحمى الصفراء أربع عشرة مرة، ففكرا في تجربة الامتناع عن الشراب قليلًا، وقد صلح أمرهما، وتحسنت صحتهما، من ذلك التاريخ.
وطفقت مسز باردل تؤجر الغرف لعدة عزاب كثيري الكلام، والاستطراد في الحديث، وتظفر منهم بربح كبير، ولكنها لم ترفع إلى الآن أية قضايا للنكث بوعود القران، ولا يزال وكيلاها ددسن وفج منصرفين إلى أعمالهما، كاسبين منها موردًا كبيرًا، ولا يزال الناس عامة يعدونهما أشد المحتالين في دنيا الاحتيال.
وبر سام ولر بعهده فقضى عامين أعزب، وقضت المرأة التي تتولى إدارة شئون البيت نحبها في ذلك الحين، فرفع المستر بكوك ميري إلى مكانها الشاغر مشترطًا الزواج بالمستر ولر في الحال، فرضيت دون اعتراض أو امتناع، وأن وجود وليدين ممتلئين صحة وعافية يلعبان ويرتعان في البستان؛ ليحمل على الظن بأن سام أصبح رب أسرة.
ولبث المستر ولر الكبير اثني عشر شهرًا في قيادة إحدى المركبات العامة، غير أنه اضطر إلى الاعتزال حين أصيب بالنقرس، ولكن المال الذي كان مودعًا جوف المحفظة الصغيرة كان قد وظف واستثمر لأجله بفضل رعاية المستر بكوك وحكمته، فأصبح يدر عليه قدرًا من الإيراد يكفيه في معتزله، ولا يزال يقيم عليه ويحيا في حانة بديعة بقرب «شوترز هل»، حيث أصاب احترام الشرب والجلاس لصدق نبوءاته، وهو لا يكف عن الإشادة بفضل المستر بكوك، ولا يفتأ يحس مقتًا للأرامل لا يستطيع مغالبته أو الانثناء عنه.
وظل المستر بكوك نفسه مقيمًا في داره الجديدة، يقضي ساعات فراغه في إعداد المذكرات التي قدمها بعد ذلك أمين النادي الذي كان في سالف الدهر ذائع الصيت، أو في الاستماع إلى سام ولر وهو يقرأ عليه بصوت جهير، ويشفع ما يقرأ بما يعن لقريحته من الملاحظات، وهي أفاكيه لم تفتر عن إمتاع المستر بكوك بلذة بالغة، وكان المستر بكوك قد تعب كثيرًا في بداية الأمر من كثرة إقبال المستر سنودجراس، والمستر ونكل، والمستر تراندل عليه في الفينة بعد الفينة، يلتمسون منه أن يكون «أبًا» في العماد لولدانهم، ولكنه اعتاد الآن ذلك وألفه وأصبح يؤديه على أنه عمل مألوف، وعادة جارية، ولم يشعر يومًا بسبب يدعوه إلى الندامة على ما أفاء به على المستر جنجل؛ لأنه هو وجب ترتر أصبحا على مر الأيام عضوين فاضلين في المجتمع، وإن ظلا ممتنعين أبدًا عن العودة إلى مسرح حياتهما القديم ومغرياته الماضية. وقد أمسى المستر بكوك اليوم شيخًا هرمًا كبيرًا، وإن حرص على شباب روحه، ولا يزال يشاهد وهو يتطلع إلى الألواح والرسوم في معرض «ضلوتش» أو مستمتعًا بالرياضة والمشي في تلك الضاحية البهيجة في يوم صاف، ونسيم عليل. وقد أضحى معروفًا من جميع أهل الفاقة حوله، وكلما مر على ملأ منهم بادروا إلى رفع قبضاتهم له في احترام شديد، وبات الولدان عابديه، كما أحبه الناس جميعًا في ذلك الموضع، وجعل في كل عام يذهب ليشترك في حفلات سرور عند الشيخ واردل ويحضر مآدبه الشيقة، يصحبه سام الأمين الذي لا يفارقه والذي ربطته بسام علاقة ثابتة مقيمة متبادلة لا شيء يستطيع فصم عراها غير الموت.