الفصل التاسع
كان العشاء قد أُعِدَّ فوق الخوان، وصُفت المقاعد من حوله، ونُسقت الزجاجات والجرار والأقداح فوق النضد الجانبي، وكان كل شيء يشير إلى اقتراب أبهج فترة في الساعات الأربع والعشرين كلها.
وسأل المستر واردل: «أين راشل؟»
وأضاف المستر بكوك قائلًا: «أي والله، وأين جنجل؟»
وقال رب الدار عجبًا: «لم يغب لحظة قبل الآن عن ناظري غريب حقًّا، لست أحسبني قد سمعت له صوتًا منذ ساعتين على الأقل، يا عزيزتي إملي، دقي الجرس.»
ودق الجرس، وظهر الغلام البدين.
وسئل: «أين مس راشل؟» وكان جوابه أنه لا يدري.
وقيل له: «وأين المستر جنجل إذن؟» فقال: «إنه لا يعرف.»
وبدت الدهشة على الجميع، وكانت الساعة متأخرة قد جاوزت الحادية عشرة، وضحك المستر طبمن في سره، فقد كان وحده الذي يعرف أنهما ذهبا يتمشيان في مكان ما، ويتحدثان عنه … ها … ها … فكرة بديعة هذه … ومضحكة.
وأنشأ المستر واردل بعد لحظةِ سكونٍ يقول: «لا بأس … لن يلبثا أن يظهرا … والحق أقول: إنني لا أطيق انتظار أحد على العشاء.»
وقال المستر بكوك: «هذه قاعدة بديعة … خليقة بالإعجاب.»
وقال المضيف: «تفضل بالجلوس.»
وأجاب المستر بكوك قائلًا: «بالتأكيد.»
واتخذ إلى المائدة مجلسه.
وكان فوق الخوان كتلة ضخمة من لحم البقر البارد، وقُدِّمت إلى المستر بكوك حصة وفيرة منها، ولكنه ما كاد يرفع الشوكة إلى شفتيه، ويهم بفتح فمه لتلقي قطعة من اللحم، حتى ارتفعت فجأة أصوات مختلطة من جانب المطبخ، فأمسك ووضع شوكته، وتمهل المستر واردل أيضًا، وأرخى قبضته على السكين، وهو لا يعي، فبقيت مغروزة في كتلة اللحم، ونظر إلى المستر بكوك، ونظر المستر بكوك إليه.
وسمعت مواقع أقدام ثقال في الردهة، وانفتح الباب فجأة، وإذا ذلك الرجل الذي مسح حذاء المستر بكوك عند مقدمه قد اندفع إلى القاعة، يتبعه الغلام البدين وبقية الخدم.
وصاح رب الدار بهم: «ما معنى هذا؟ ويحكم!»
وسألت السيدة العجوز حفيدتها: «هل شبَّ حريق في المطبخ يا إملي؟»
وصرخت الفتاتان معًا: «يا إلهي … يا جدتاه … كلا … لا قدر الله!»
وزأر رب الدار قائلًا: «ما الخطب؟ وما الأمر؟»
ووقف الرجل يحاول استعادة أنفاسه، وانثنى يقول بصوت خافت: «لقد ذهَبَا يا مولاي … هرَبَا يا سيدي!»
ولوحظ في هذه اللحظة أن المستر طبمن وضع الشوكة والسكين من يديه، وارتدَّ شاحبًا مبهورًا.
وسأل المستر واردل الرجل بحدة: «مَن هما اللذان ذهبا؟»
قال: «المستر جنجل، ومس راشل … في مركبة من فندق الأسد الأزرق في ماجلتون، لقد كنت هنالك، ولكني لم أستطع الإمساك بهما، فأسرعت إلى هنا لإبلاغكم …»
ولم يكد المستر طبمن يسمع هذا النبأ حتى نهض من المائدة مذعورًا هائجًا، وقال: «لقد ذهب على حسابي … أخذ نفقة السفر مني … لقد أخذ مني عشرة جنيهات، أمسكوه! لقد نصب عليَّ واحتال، لا يمكن أن أحتمل هذا، العدالة يا مستر بكوك، لن أحتمل هذا مطلقًا!»
ومضى المسكين في هذه الصيحات المتقطعة وأمثالها يلف ويدور حول نفسه، وحول القاعة، وهو في جِنَّة.
وصاح المستر بكوك، وهو ينظر إلى حركات صديقه الغريبة بدهشة مروعة: «يا حفيظ يا رب! لقد جنَّ، فماذا نصنع؟»
وقال الشيخ المضيف البدين، ولم يكن قد ألقى باله إلى شيء، غير هذه العبارة الأخيرة: «ماذا نصنع؟ نشد الحصان إلى المركبة، ونستأجر أخرى من فندق الأسد الأزرق، ونطاردهما بغير توانٍ، أين؟» وقد صاح بهذه الكلمة الأخيرة، بينما كان الرجل قد انطلق لينفذ الأمر، وعاد يصيح قائلًا: «أين ذلك الوغد جو؟»
وأجاب صوت يقول: «أنا هو، ولكني لست وغدًا.»
وكان ذلك صوت الغلام البدين.
وصرخ الشيخ وهو يندفع نحو ذلك الغلام المنحوس: «دعني أنقضَّ عليه يا بكوك، لقد رشاه ذلك المجرم جنجل، ليصرف أنفي عن اشتمام الحقيقة باختلاقه حكاية سخيفة عن أختي وصديقك طبمن.»
وهنا هبط المستر طبمن في جوف أحد المقاعد: «دعني أنقضَّ عليه.»
وصرخت النساء: «لا تدعه يذهب وحده إنه سيقتل إذن الغلام البدين.» وإجهاشاته بالعبرات كانت أعلى، وأوضح من صرخاتهن.
وصاح الشيخ: «لا يمنعني أحد … يا مستر ونكل، ارفع يديك عني، وأنت يا مستر بكوك اتركني من فضلك يا سيدي.»
وكان مشهدًا جميلًا في وسط تلك الجلبة والأصوات المختلطة، أن يرى المرء ذلك التعبير الهادئ الفلسفي الذي بدا على وجه المستر بكوك، وقد احمر قليلًا من الإجهاد، وهو واقف وذراعاه محيطان بقوة حول خصر مضيفه البدين، وبطنه الرحيب؛ ليكبح جماح غضبه، ويحتجزه عن إيذاء الغلام البدين، بينما تكاثرت السيدات جميعًا على الغلام فأوسعنه خدشًا وجذبًا، وجررنه جرًّا، ودفعنه من القاعة دفعًا، وما إن أرخى المستر بكوك قبضته حتى دخل الرجل ليعلن أن المركبة قد أُعِدَّتْ.
وصرخت النساء جميعًا قائلات: «لا تدعه.» ولكن صيحات ترك لغضبه.
وهنا قال المستر بكوك: «سأذهب معه.»
وقال المضيف وهو يتناول يده: «إنك لرجل كريم يا بكوك، إملي، أعطِ المستر بكوك لفاعة يلقيها حول رقبته، وعَجِّلي … ويا بنات، خذن بالكن من جدتكن، لقد أغمي عليها، والآن هل أنت على استعداد؟»
وراح المستر بكوك في عجلة يلف فمه وذقنه في لفاعة كبيرة، ويضع قبعته على رأسه، ويلقي بمعطفه الكبير على ذراعه، حتى إذا انتهى من ذلك كله أجاب بالإيجاب.
ووثبا إلى العجلة، وصاح رب الدار: «أطلق لها العِنان يا توم.» وانطلقا يقطعان الأزقة والدروب الضيقة، والعجلة تهتز وتعلو وتهبط، وهي مارقة فوق الأخاديد، تصطدم بأسوار العوسج على كلا الجانبين، كأنما توشك أن تتكسر إربًا في كل لحظة.
وصاح واردل حين وصلوا إلى باب فندق الأسد الأزرق، وقد رأى جمعًا قليلًا قد وقفوا حوله على الرغم من أن الوقت كان متأخرًا: «كم من الوقت ترونهم سبقونا؟»
فكان جواب الجميع: «ليس أكثر من ثلاثة أرباع ساعة.»
وصرخ الشيخ: «مركبة وأربعة خيول في الحال، هيا أسرعوا، ودعوا العجلة لتدخلوها فيما بعدُ.»
وصاح رب الفندق: «والآن يا أولاد: مركبة وأربعة خيول في الحال، عَجِّلوا، شيئًا من الهمة، هلموا.»
وجرى رب الفندق وخدمه سراعًا مبادرين، وأنوار «المصابيح» لماحة، وهم يروحون بها ويغدون، وسُمِعت حوافر الخيل وهي تدق أرض الفناء غير المستوية، وجاءت المركبة من المرابط رجراجة، والمكان يعج جلبة وحركة.
وصاح واردل قائلًا: «هيه … أليست المركبة آتية الليلة؟»
وأجاب رب الفندق قائلًا: «إنها تقطع الفناء اللحظة يا سيدي.»
وجاءت المركبة، وشُدَّت الخيل، وفوق صهواتها وثب الأولاد، وفي جوفها دخل الراكبان.
وصاح واردل: «افهموا. سبعة أميال في أقل من نصف ساعة، اجعلوا هذا نصب أعينكم، هيا انطلقوا.»
وأعمل الأولاد السوط والمهماز وسط صراخ الخدم وصاحب الفندق، وانطلقت المركبة سريعة مغضبة هائجة.
وأنشأ المستر بكوك يحدث خاطره، حين وجد لحظة تتسع للتفكير: «موقف حرج للرئيس العام لنادي بكوك، مركبة رطبة، خيل غريبة، خمسة عشر ميلًا في الساعة، والساعة الثانية عشرة ليلًا!»
ولم يتبادل السيدان كلمة واحدة، خلال الأميال الثلاثة أو الأربعة الأولى، فقد كان كل منهما مستغرقًا في أفكاره، منشغلًا بهواجسه وخواطره، حتى لا يجد شيئًا يمكن أن يقوله لصاحبه، ولكن حين اجتازا هذه المسافة من الرحلة، وبدأت الخيل تستحث وتؤدي مهمتها بشكل حسن، وسرعة معقولة، لم يلبث المستر بكوك أن اغتبط بتلك السرعة إلى حد لم يستطع عنده أن يبقى ملازمًا الصمت على تلك الصورة، فقال: «أعتقد أننا سنلحقهما بلا شك.»
وأجابه صاحبه: «أرجو ذلك.»
وتطلع المستر بكوك إلى القمر، وكان ضياؤه باهرًا فقال: «ليلة صافية.»
وأجاب واردل قائلًا: «هذه هي المصيبة؛ لأنهما استغلَّا ضياء القمر فسبقانا، أما نحن فسوف نفقد كل مزايا هذا البزوغ وفائدته … إذ لن تمضي ساعة أخرى حتى يتوارى نور القمر.»
فسأله المستر بكوك: «أظن أن المسير بهذا المعدل غير مستحب في الظلام، أليس كذلك؟»
وقال صاحبه بجفاء: «فعلًا.»
وبدأ اضطراب المستر بكوك العابر يهدأ قليلًا، فمضى يفكر في المتاعب والأخطار التي تكتنف هذه الرحلة التي أقدم بغير تروٍّ عليها، ولكنه انتبه من تأملاته على صيحة الغلام الراكب فوق الحصان الذي في المقدمة، وهو يقول: «لو … لو … لو … لو …»
وعلى أثره صاح الغلام الثاني: «لو … لو … لو … لو …»
وتبعهما المستر واردل نفسه يصيح، في حماسة صيحتهما ذاتها، وقد أخرج رأسه ونصف جسمه من نافذة المركبة
وصاح المستر بكوك أيضًا: «لو … لو … لو …» مردِّدًا النغمة عينها، وإن لم تكن لديه أقل فكرة عن معناها، أو الغرض منها، وفي وسط هذه «الصيحات» من السيدين والغلامين وقفت المركبة.
وسأل المستر بكوك: «ما الخطب؟»
وأجاب الشيخ واردل: «هنا باب … وسنسمع شيئًا عن الهاربَيْن.»
وبعد أن انقضت خمس دقائق في دق متواصل وصياح، خرج من بيت المكوس رجل متقدم في العمر في قميص وسراويل، وفتح البوابة، فابتدره المستر واردل قائلًا: «كم من الوقت انقضى منذ مرت مركبة من هنا؟»
قال: «كم من الوقت؟»
قال «آه.»
وعندئذٍ مضى الرجل يقول: «لست أدري تمامًا، ولكن من وقت غير طويل، ولا هو قصير، ولعله بين ذلك.»
وعاد الشيخ يسأله: «هل مرت مركبة من هنا فعلًا؟»
قال: «أي نعم مرت مركبة.»
وتدخل المستر بكوك فسأله: «متى يا صديقي؟ هل من ساعة مثلًا؟»
فأجاب الرجل قائلًا: «أستطيع أن أقول ذلك.»
وسأله الغلام الراكب في العربة: «أو من ساعتين؟»
وأجاب الرجل بلهجة المتشكك: «لا يبعد أن يكون الأمر كذلك.»
وهنا صاح الشيخ غاضبًا: «انطلقا أيها الغلامان بنا، ولا تضيِّعَا الوقت مع هذا العجوز المغفل.»
وصاح الرجل وهو يومض بابتسامة: «مغفل!» وقد وقف في وسط الطريق، وفتح البوابة قليلًا، وراح يرقب بنظره المركبة وهي تتضاءل وشيكًا كلما أمعنت في المسير وأوغلت: «كلا لست مغفلًا إلى هذا الحد، وقد أضعتم عشر دقائق هنا، وانصرفتم جاهلين الحقيقة كما جئتم، ولو أن رجلًا على الطريق أصاب جنيهًا، وعرف كيف يكسبه كما عرفت، لما لحقتم بتلك المركبة قبل موسم عيد الميلاد أيها الشيخ القصير البدين.»
وانثنى الرجل يغلق البوابة، وهو يبتسم ابتسامة أخرى مستطيلة، وعاد إلى البيت، وأغلق الباب في أثره.
وكانت المركبة في تلك اللحظة موغلة في المسير دون إبطاء صوب نهاية الرحلة، وكان القمر كما تكهَّن واردل، قد أخذ يضعف نوره سريعًا، وبدأت قطع كبيرة من سحب قاتمة ثقال كانت منذ لحظات تتجمع رويدًا، وتغمر وجه السماء، تتحول إلى كتلة سوداء واحدة، وأخذت قطرات كبيرة من المطر تتساقط بين هنيهة وأخرى على نافذة المركبة، كأنما تنذرهما بوشك اقتراب ليل عاصف، وكانت الريح أيضًا ضدهم، وهي تهب في زفيف وعصف على الطريق الضيق تزمجر وتعصف من خلال الشجر الذي يحف به، فعمد المستر بكوك إلى جمع أطراف معطفه حول بدنه، وانزوى منكمشًا في ركن من المركبة، وهبط في سبات عميق، لم يستيقظ منه إلا على وقوف المركبة، وصوت جرس رب الفندق، وصيحة عالية تقول: «علينا بخيل في الحال.»
ولكن حدث هنا أيضًا بعض التأخير، فقد كان الخدم في سبات عميق، اقتضى خمس دقائق لإيقاظ كل خادم منهم، وكان رب الفندق قد وضع مفتاح الإسطبل في مكان ما ونسيه، فمضى يبحث عنه، ولما وجده أخطأ خادمان منهم لا يزال النوم يداعب أجفانهما، فوضعا على حصان سرج الحصان الآخر، واضطر الأمر إلى تكرار الأسراج من جديد، ولو كان المستر بكوك هو المسافر وحده لكانت هذه العقبات المتكررة كافية لعدوله في الحال عن هذه المطاردة، ولكن الشيخ لم تكن هذه الحوائل لتثنيه عن واجبه بهذه السهولة، فطفق يستجمع كل عزمته، ويستعين بكل قوته، ويلكز هذا الغلام، ويدفع ذاك، ويفك رباطًا هنا، ويشد حلقة هناك، حتى تهيأت المركبة للمسير في فترة أقل مما كان متوقعًا وسط كل هذه الحوائل والعقبات.
وواصلوا المسير، ولكن المدى أمامهم لم يكن ليغري بأمل، فإن المرحلة تبلغ خمسة عشر ميلًا، والليل حالك، والريح عاتية، والمطر يهطل مدرارًا، وليس في الإمكان قطع شوط كبير مع اجتماع هذه العوائق كلها، وكان الوقت قد جاوز الواحدة بعد نصف الليل، ولا بد من انقضاء ساعتين أو قرابتهما لبلوغ نهاية المرحلة، ولكن شيئًا تراءى لهم، فجدَّد آمالهم وأحيا موات هممهم، وعاد يرفع من أرواحهم المتخاذلة.
وصاح المستر واردل وهو يقفز من مكانه في المركبة، ويشير إلى مركبة أخرى علاها الطين الرطب، وهي واقفة في الفناء: «متى جاءت هذه المركبة؟»
قال رب الفندق الذي وُجِّهَ السؤال إليه: «من أقل من ربع ساعة يا سيدي.»
وعاد المستر واردل يسأله، وهو لاهث الأنفاس من اللهفة والقلق: «وهل كانت تحوي سيدة وسيدًا؟»
– «نعم يا سيدي.»
– «والسيد طويل، وعليه سترة، وساقاه مستطيلتان، وناحل البدن؟»
– «نعم يا سيدي.»
– «والسيدة نصف، ولها وجه نحيل، وتبدو عجفاء إيه؟»
– «نعم يا سيدي.»
وصاح السيد الكبير: «وحق السموات إنهما هما يا بكوك!»
وواصل رب الفندق حديثه يقول: «كان من الجائز أن يكونا الآن هنا، ولكنهما أرادا أن لا يشق لهما غبار.»
قال واردل: «هو كذلك، والله هو كذلك، مركبة وأربعة خيول في الحال، وسنلحقهما قبل أن يبلغا المرحلة التالية، هلموا يا أولاد، جنيه لكل منكم إذا نشطتم، هيا أظهروا همة يا أيها الفتيان الطيبون.»
ومضى الشيخ بهذه الاحتثاثات والحوافز ونحوها، يروح ويغدو في جنبات الفناء في حالة من الهياج، انتقلت عدواها إلى بكوك أيضًا، فلم يلبث هذا تحت تأثير العدوى أن ورَّط نفسه في عملية الإسراج، وتهيئة الخيل والعجلات، في صورة تبعث أشد الدهشة، اعتقادًا جازمًا منه بأنه بعمله هذا قد يعاون معاونة فعلية في الاستعداد لمواصلة المسير.
وصاح واردل بصاحبه وهو يقفز إلى المركبة، ويرفع سلمها: «ادخل، ادخل.» وانثنى يغلق الباب بعنف في إثره، ويعاود الصياح قائلًا: «هيا بنا، أسرعوا.» وقبل أن يعي بكوك شيئًا مما حوله أحس بمَن يرفعه رفعًا من الباب الآخَر، وإذا الشيخ يجتذبه إلى الداخل، وصاحب الفندق يدفعه من الخارج، وإذا المركبة منطلقة تنهب الطريق نهبًا.
وقال الشيخ الكبير بسرور بالغ: «آه … نحن الآن متابعون السير حقًّا.»
والواقع أنهم كانوا كذلك، بدليل ما كان المستر بكوك يحسه بين لحظة وأخرى من الاصطدام مرة بالجزء الخشبي الصلب من المركبة، وأخرى بجسم صاحبه.
وصاح المستر واردل البدين: «اثبت.» حين رأى المستر بكوك يضرب برأسه في بطنه الرحيب، وهو يقول: «لم أشعر بخضخضة كهذه في حياتي.»
وقال صاحبه: «لا عليك؛ فلن تلبث أن تزول، ثباتًا، ثباتًا.»
وراح المستر بكوك يغرز نفسه في ركنه، محاولًا أن يثبت فيه ما استطاع، بينما راحت المركبة أشد سرعة من قبلُ، وأكثر اندفاعًا.
ولبثت على تلك السرعة مارقة حتى قطعت قرابة ثلاثة أميال، أخرج بعدها المستر واردل رأسه من النافذة، وأطل على الطريق دقيقتين أو ثلاث دقائق، ثم أدخل وجهه وقد غمره رشاش من المطر، وصاح لاهثًا في لهفة شديدة: «ها هما …»
وعندئذٍ أخرج المستر بكوك رأسه من النافذة؛ فإذا هو يبصر حقًّا مركبة وأربعة جياد، على مسافة قصيرة منهما، وهي مندفعة في سرعة بالغة.
وقال الشيخ بصوت يكاد يكون صراخًا: «تقدما، تقدما، جنيهان لكل منكما، لا تدعاهما يسبقاننا، هلما، احرصا على اللحاق بهما.»
وكانت الخيل المسرجة في المركبة الأولى قد شرعت تعدو بأقصى السرعة، ومركبة واردل تنهب الأرض في إثرها نهبًا، ولا تلوي على شيء.
وصاح الشيخ الغضوب قائلًا: «إني أرى رأسه — لعنه الله — إني لأرى رأسه!»
وقال المستر بكوك: «وأنا أيضًا، هذا هو.»
ولم يكن المستر بكوك مخطئًا، فقد كان وجه المستر جنجل الذي غمره الوحل المتطاير من العجلات ظاهرًا للعين من شرفة المركبة، وحركة ذراعه التي كان يلوح بها بعنف صوب السائقين لتشجيعهما واحتثاثهما على زيادة السرعة.
وكان الموقف قد استحمى واستحر، وبدت الحقول والأشجار وأسوار العوسج تمرق من أمامهما بسرعة «الدوامة»، وشدة انطلاق المركبة واندفاعها، حتى دنت من جانب المركبة المستبقة، وكان صوت جنجل في تلك اللحظة غالبًا على أصوات العجلات، وهو يستحث الغلمان، واشتد غضب الشيخ، وثارت ثائرته، وذهب يزأر شاتمًا لاعنًا عشرات الشتائم واللعنات، صارخًا: «أيها الأوغاد، أيها المجرمون!» جامعًا قبضة يده، ملوحًا بها، يهزها في الفضاء هزًّا لذلك المستهدف لغضبه، ولكن المستر جنجل لم يجاوز في الرد على هذا الوعيد أكثر من الابتسام المستخف، والجواب عن هذه التهديدات بصيحات المنتصر، حين انطلقت خيله مستجيبة لمهوى السياط المتزايدة، ووخزة المهماز في الخاصرة، في سرعة متجددة، تركت المطاردين في إثرها متخلفين.
وما كاد المستر بكوك يُدخِل رأسه من النافذة، ويفعل المستر واردل مثله من الجهد والتعب بعد ذلك الصياح الشديد، حتى حدثت رجة عنيفة طوحت بهما فوق مقدم المركبة، وتلتها خبطة فجائية، وصوت تهشم شديد، وانطلاق عجلة من مكانها، وانقلاب المركبة رأسًا على عقب.
وبعد بضع ثوانٍ في ذهول واضطراب بالغين، لا يتبيَّن خلالهما غير اندفاع الخيل، وتحطم الزجاج، شعر المستر بكوك بأيدٍ تجذبه من تحت أنقاض المركبة، ولم يكد يستوي على قدميه، ويستخرج رأسه من أطراف معطفه الفضفاض الذي حال في الواقع بينه وبين الانتفاع بمنظاره، حتى بدت النكبة واضحة لعينيه.
ورأى الشيخ واردل حاسر الرأس، طارت القبعة من فوقه، ممزق الثياب في عدة أجزاء منها، واقفًا بجانبه، وبقايا المركبة متناثرة عند قدميه، وأما الغلامان فقد استطاعا بعد جهد قطع «السيور» والحلقات التي تربط الخيل، ووقفا بجانب رءوسها، تعلوهما الأوحال، ويلوحان أشعثين أغبرين من عناء السفر، ومجهدة الركوب.
وعلى قيد مائة خطوة أو نحوها، وقفت المركبة الأخرى على صوت الاصطدام، والغلامان يبتسمان ابتسامة يختلج لها وجهاهما أشد الاختلاج، وهما يشهدان ما حل بالمركبة الأخرى من فوق سرجيهما، بينما أطل المستر جنجل من النافذة، يتأمل المشهد بارتياح ظاهر.
وكان النهار قد طلع منذ لحظة، فبدا المشهد جليًّا للعين على مطالع خيوطه.
وصاح جنجل الصفيق الذي لا يعرف الحياء: «هل أصيب أحد؟ شيخان كبيران، ليسا من الوزن الخفيف، عملية خطرة جدًّا.»
وصرخ واردل، وزأر قائلًا: «إنك لوغد!»
وأجاب جنجل ضاحكًا: «ها ها!» ثم أردف يقول بغمزة ذات دلالة من طرف عينيه، وهزة من أنملته صوب داخل مركبته: «إنها بخير، وتحملني إليك السلام، وترجو أن تكف عن إتعاب نفسك، الحب لطبي، ألا تركبان في المؤخرة؟ سق يا غلام.»
فعاد الغلامان إلى مجلسهما من المركبة، وانطلقت بهم، وقد رفع المستر جنجل منديلًا أبيض، وأخذ يلوح به من النافذة سخرية واستهزاء.
ولكن هدوء طبع المستر بكوك، وسكينة نفسه لم يكدرهما شيء مما جرى، ولم يزعجهما انقلاب المركبة ذاتها، وإنما كانت تلك الخسة التي بلغ من نكرها أن يقترض في أول الأمر مالًا من مريده الأمين، ثم تختصر اسمه اختصارًا وقحًا، فتدعوه «طبي» أكثر وأشد مما يطيق صبره، حتى راح يتنفس بمشقة، ويحمر وجهه إلى طرف منظاره ذاته، وهو يقول في رفق ولهجة جد: «لو أتيح لي لقاء هذا الرجل مرة أخرى فلأ …»
ولكنه لم يتم؛ فقد عاجله المستر واردل بقوله: «نعم، نعم، هذا كله جميل ولكنهما، ونحن هنا واقفان نتكلم، سيظفران بعقد قرانهما في لندن.»
فتمهل المستر بكوك، وكبت غضبه، كما يملأ المرء الزجاجة ويغلقها بالسدادة.
والتفت المستر واردل إلى الغلامين فقال: «كم المسافة بيننا وبين المرحلة التالية؟»
قال أحدهما لزميله: «ستة أميال، أليس كذلك يا توم؟»
وأجاب هذا: «أكثر قليلًا.»
وانثنى الأول يقول: «ستة أميال أو نحوها.»
وقال المستر واردل: «لا بد مما ليس منه بد، سنقطعها مشيًا يا بكوك؛ ليس ثمة شيء غير هذا.»
وأرسلا غلامًا على حصان ليظفر لهما بمركبة أخرى وخيل، وتركا الآخَر لحراسة المركبة المحطمة، ثم انطلقا بعزمة الرجال يقطعان بقية الطريق على الأقدام، بعد أن لفا لفاعيتهما حول عنقيهما، وأرخيا قلعتيهما لكي يحتميا ما استطاعا من هطل المطر، وكان قد عاد بعد انقطاع يسير يتساقط صببًا مدرارًا.