الفصل السادس عشر
وصف معارك العراق
إلى سقوط كوت الإمارة
في أوائل شهر أكتوبر سنة ١٩١٤ سار الجيش البريطاني من بمباي في الهند بقيادة السر أرثر بارت، وعدده نحو ١٥٠٠٠ مقاتل، فبلغ العراق في ١٤ نوفمبر، واحتلَّ البصرة في ٢٢ منه، والقرنة في ٩ ديسمبر، وفي شهر مارس سنة ١٩١٥ أُنجد هذا الجيش بفرقة أخرى وجُعِل تحت قيادة السر جون نكسن.
وفي ٣ يونيو سنة ١٩١٥ احتلَّ جيش الجنرال تونزند الشهير العمارة على دجلة، وفي ٢٥
يوليو
احتلَّ جيش الجنرال كورنج الناصرية على الفرات، وفي ٢٥ سبتمبر كسر الجنرال تونزند العثمانيين
في الثنيات، وفي ٢٩ منه استَوْلى على كوت الإمارة وأسر ألفين من الجيش العثماني، وفي
٢٢
نوفمبر زحف على مدائن كسرى «كتيزيفون»، واخترق خط خنادقها الأول والثاني، وفتك بالفرقة
العثمانية الخامسة والأربعين فتكًا ذريعًا، لكنَّ القائد العثماني نور الدين تلقَّى نجدةً
كبيرةً، وكرَّ على تونزند فأكرهه على التقهقُر في ليل ٢٧-٢٨ نوفمبر إلى كوت الإمارة،
حيث
حوصر من ٧ ديسمبر سنة ١٩١٥ إلى ٢٩ أبريل سنة ١٩١٦ حينما اضطُرَّ أن يسلِّم هو وجميع الباقين
من جيشه.١
دارتْ رحى الحرب في الدنيا على عجلِ
تُجرِّع الناسَ صابَ الْيُتْم والثَّكَلِ
لم يَخْلُ في الأرض منها موضع فبُلي
بشرِّها الغربُ حتى الشرق غير خَلِي
أضحى ومِن هولها أهلوه في شُغُلِ
وفي العراق لظاها شبَّ والْتهبا
وسام مَن في العراق الويلَ والحربا
وكان أنور في إيقادها السببا
لأنه ضلَّ عن نهج الهدى وأبَى
إلَّا ركوبَ الهوى والغيِّ والخطلِ
لم يُجدِ نصحٌ ولا وعدٌ أفاد ولم
يَخَفْ وعيدًا ولم يحفِلٍ برعْيِ ذِمَم
والحرب في جانب الألمان كان عزم
فزجَّ دولته في نارها وفَصَمْ
عُرى مودتها مع أعظم الدولِ
على بريطانيا العظمى الكنودِ عدا
وفضْلها وهو بادٍ كالضحى٢ جحدا
وظلَّ يَنزَغ٣ حتى أغضب الأسدا
هاج والجوُّ من تزآره ارتعدا
ومادت الأرض وارتجت من الوجلِ
وجيشُ سلطانة البحر العراقَ نحا
والبصرةَ احتلَّها والقرنة افتتحا
وملْتَقى الرافدين٤ اجتاز مكتسحًا
أمامه ساقةَ الأتراك فانفسحا
له التقدُّم فوق السهل والجبلِ
على الفرات توالى زحفه صُعُدا
والناصرية منها نال ما قصدا
وفوق دجلة للتدويخ مدَّ يدا
وفي عمارة تنزند ابتدا فغدا
من ذلك الحين يُكنَى عنه بالبطلِ
عليه نكسن أملى كُرَّ مقتحمًا
وازحَف شمالًا وغامِرْ واغزُ مغتنِمَا
أجاب لا فلقد قالوا لنا قِدمًا:
«ليس المخاطرُ محمودًا ولو سلِما»
فهل أخالف هذا القولَ بالعملِ؟!
فقال نكسن خالفهُ ودع حذرًا
يَثْنيك إيجاسه عن نيلك الوَطرا
واعمل بموجب قولٍ صدقُه ظهرا
«لن يبلغ المجدَ مَن لم يركب الخطرا»
فاعزم وأقدِم تَفُزْ واهجم وصلْ تَنَلِ
أطاع تنزند أمرًا فاه قائدهُ
به وأقدَم تحدوه مقاصدهُ
وراضَ دجلة حتى ذلَّ ماردُه
واشتدَّ في الفتح والتدويخ ساعدهُ
وبات فيما أتاه مضرب المثلِ
بعد الثنيَّات لم تبطئ وقد وهنتْ
كوتُ الإمارة أن دانتْ له وعَنَتْ
كلتاهما أكسبتْه شهرة علنتْ
وأصبحتْ وبذكْرَى فتْحِه اقترنتْ
ملءَ المسامع والأفواه والمُقَلِ
وجيشه كان قد أكرى٥ ولم يَزِدِ
وسعيهُ في تلافي النقص لم يُفِدِ
رآهُ إذْ ذاك محتاجًا إلى المددِ
وغير مستكملٍ ما شاء من عددِ
وليس في وُسعه إصلاح ذا الخللِ
لكنه مع هذا كله نشطًا
إلى مواصلةِ التدويخ ما قنطا
على مدائنِ كسرى كالقضا هبطا
واحتلَّها مالِكًا أرباضَها وسَطَا
واستاق أجنادَها كالأَيْنُق الذُّلُلِ
وفي مدائن كسرى وهو قد عزما
على التقدُّم للزَّوْراءِ٦ مقتحِمَا
إذا على الفَوْر نور الدين قد هجما
عليه فاضطرَّ أن يرتدَّ مُلْتَزِمَا
نهجَ الدفاع وأخذَ الخصم بالحِيَلِ
لكنَّ عسكر نور الدين ما رفقا
في زحفهِ بل جرى في سَيْره عَنَقَا
وواصَلَ الكَرَّ والإقدام واستبقا
إلى الهجوم على تنزند مندفِقَا
على جوانبه كالعارِض الهَطِلِ
وكان تنزند يدري حالَ عسكره
وغير خافٍ عليه سِرُّ مخبرهِ
فلم يَجِدْ ثَمَّ بُدًّا من تقهقره
فارتدَّ وهو يحامي عن مؤخَّرِه
مدافعًا غير هيَّابٍ ولا وَكِلِ
كوت الإمارة فيها اضطرَّ أن يقفا
إذْ خلْفَه كان نور الدين قد زحفا
من الجنوب عليه التفَّ منعطفَا
وكوتُ شدَّ عليها الحصر مكتنفَا
من كلِّ ناحية بالبيضِ والأَسَلِ
وجيش تنزند فيها بات منعزلَا
وشقُّهُ لنطاق الحصر ما سهلا
وكان منتظرًا غوثًا فما وصلا
وسعيُ أعوانه في نجده حصلا
لكنه خاب لم ينتج سوى الفشل
وإذْ رأى السعي في إمداده ذهبا
سدًى وأنَّ مَعِين الزاد قد نضبا
عنَا وسلَّم مُضطرًّا كما طلبا
خليل باشا وأخلى كوتَ وانقلبا
مع جيشه يحتويهم سور معتقل
١
نحو أحد عشر ألفًا.
٢
الشمس.
٣
يفسد ويوسوس.
٤
دجلة والفرات.
٥
نَقَص.
٦
بغداد.