الفصل الثاني والعشرون
ثورة الحجاز
مما يُؤسَف له كلَّ الأسف أنَّ أنور وطلعت وجمال وغيرهم من الاتِّحاديين القابضين
على أزِمَّة
الأحكام في تركيا أقدموا في أثناء هذه الحرب على ارتكاب جرائم تقشعرُّ لشدة فظاعتها
الأبدان، واقترفوا مآثِمَ لم تسمع بمثلها أذن، ولا رأتْه عين، ولا خطر على بال إنسان؛
فإنهم وهم
مشتبِكون في الخارج بحرب طاحنة عرَكَتْهم عركَ الرَّحى بثِفالِها، أعانوا العدوَّ عليهم
بأن أطلقوا في
الداخل أيديَ التدمير والتخريب والإرهاق والتعذيب، وعمدوا إلى رعايا الدولة من الرُّوم
والأَرْمَن١ وأعملوا فيهم السُّيوف والرَّصاص والمشانق، واستباحوا أموالهم وأعراضهم، وسبَوْا
نساءهم وأولادهم، وبلغوا في بهظ العرب والتنكيل بهم مبلغًا ارتجَّتْ مِن هَوْلِه الأرض
والسماء،
وأغضب الشريفَ الهاشميَّ سليلَ سيدِ البَطْحاء، فخرجَ خروجَ الأَسَد من عرينه، واستلَّ
مرهفَ أبيه
بيمينه، ونهض بأنجالِه٢ نهضةَ الضِّرْغام بأشبالِه، وأعلنَ قطْعَ علاقاتِه بالحكومة التركية، وانضمامَه إلى
دول
الحُلَفاء. وكان ذلك في أوائل شهر يونيو سنة ١٩١٦ (٩ شعبان سنة ١٣٣٤)، وما عتَّمَ أن
استَوْلَى
رجالُه بقيادة أنجاله على مكة المكرَّمة وجدَّة والطائف وغيرها من الأقطار الحجازية،
وحاصروا
الحامية العثمانية في المدينة المنورة، ونُودي بالشَّريف حسين بن علي مَلِكًا على الحجاز،
وأجمعتْ
دُوَل الحلفاء كلُّها على الاعتراف به.
ولم يَفِ الاتِّحاديون إذْ حكموا
بالوعد أن يعدلوا في الحكم بل ظلموا
وخالَفوا خطةً كانوا لها رسموا
وحوَّلوا ما رعاياهم بهِ نَعِموا
إلى شقاءٍ بأن ينتابهم حتموا
وبعدما أعلنوا الدستور ما لبثوا
أنِ استبدُّوا وفي أَيْمانهم حنثوا
ولم يصونوا حقوقَ الشعب بل عبثوا
بها وعهدَ التساوي بيننا نكثوا
كأنَّه لم يكن عهدٌ ولا ذِمَمُ
منُّوا علينا كثيرًا أنهم خلعوا
عبدَ الحميد وعنَّا نِيرَهُ نزعوا
حريةً وإخاءً بيننا وضعوا
وفي عطاءِ مساواةٍ لنا شرعوا
حتى تظللنا الخيراتُ والنعمُ
بهم وَثِقْنا وأخلَصْنا لهم وعلى
إنجاز ما وعدونا كلُّنا اتَّكلا
لكننا لم نَجِدْ فيما أَتَوْا عملًا
مؤيِّدًا قولَهم بل خيَّبوا الأملا
وما بنينا على دستورهم هدموا
بخلعِ عبدِ الحميد الحيفَ ما اقتلعوا
بل معهُ أضعافَه في أرضنا زرعوا
تفنَّنوا فيه ما شاءوا بل اخترعوا
له أساليب مكرٍ كلُّها بِدَعُ
والله منهم عليها سوف ينتقمُ
وكان أفظع إثمٍ بابه فتحوا
تلك الدماء التي سفحًا لها سفحوا
أعني دما الأرمن القوم الأُلى ذُبِحوا
ذبح النعاج وما خانوا ولا اجترحوا
سوى براءتهم مما به اتُّهِموا
بسَفْكِها اتَّهموا عبدَ الحميد٣ وَمَنْ
معه فصدَّقهم مَن في نُهاه وَهَنْ
والله يعلمُ والأملاكُ تشهدُ أنْ
عبد الحميد بعيدٌ في الحقيقة عن
هذه الفِعال وأنَّ الفاعلين هُمُ
وبالرزايا مَنَوْا كالأرمن العربا
وأرهقوهم فذاقوا الويلَ والحربا
والعُرْبُ أشرفُ أُمًّا منهم وأبا
في عهد دولتهم هذي غدَوْا ذنبا
لشرِّ رأسٍ تحاشتْ حملَهُ البهمُ
بنعمة العربِ الأتراكُ قد كفروا
وفضْلَهم غمَطوا عمدًا فما ذكروا
وفي بني جنسهم إحسانَهم حصروا
وفي سواهم تمشَّى منهم الضررُ
كما تمشَّى بجسم المُدْنَف السقمُ
ومنذ ما الحرب مع ألمانيا دخلوا
وما لهم ناقةٌ فيها ولا جملُ
لبَّاهم العُرب والهيجاء تشتعلُ
لَمَّا دعَوْهم وبالأرواح ما بخلوا
ولُجَّها معهُم لَمَّا طمَا اقتحموا
لكنهم وسعير الحرب يلتهب
والعُربُ معهم إلى حوماتها وثبوا
لم يتَّقُوا ربَّهم فيهم كما يجبُ
وقد نسوا أو تناسَوْا أنهم عَرَبُ
لا يصبرون على مَن حقَّهم هضموا
في السِّلْم ما عدلوا فينا ولا رفقوا
وفي الوغى جُنْدهم عن جُنْدنا فرقوا
وألفَ عذرٍ لهم في ضَيْمنا اختلقوا
وكم على يدهم منَّا نُفوا فشقوا!
وكم وكم في غيابات السجون رُموا!
وعمَّ سوريةَ الجورُ الذي ارتكبوا
فضجَّتِ القدس منه واشتكتْ حلبُ
وأرضها بدما أبنائها خضبوا
حتى المشانق في ساحاتها نصبوا
وكم شهيد عليها عنقهُ قصموا!
ذا بعضُ ما شرهُ أهل الشآمِ عرا
به اجتزأتُ عن التطويل مختصِرا
لكنه ذاعَ بين الناس منتشرَا
حتى به سمعتْ أمُّ القرى خبرا
فأكبرتْهُ وضجَّ البيت والحرمُ
إذْ ذاك هبَّ الحسينُ الأشرف ابن علي
يذودُ عن قومه بالبِيض والأَسَلِ
وصاح في تركيا يا ضيفنُ ارتحلِ٤
عنَّا ويا ظلَّها من أرضنا انتقلِ
واذهب إلى حيث ألقَتْ شاعَك٥ العدمُ
وكرَّ أشبالهُ معهُ وما زأَروا
إلَّا إليهم حجازيُّوهم ابتدروا
والحربَ شبُّوا على الأتراك فانتصروا
وطاردوهم حتى عِقْدَهم نثروا
من أرضهم وعُرَى استئثارهم فصموا
وإنَّ هذي لأسْمى نهضةٍ ثلجت
لها صدور بني قحطان وابتهجتْ
بها ألوفُ نفوس أُنقِذَتْ ونجَتْ
وأَلْسُن الخلق طُرًّا بالثَّنا لهجَتْ
على الأُلى الدِّين والدنيا بها خدموا
وقبلها أَرْجَف الأتراك واختلقوا
ما أنشأ الخوف في الإسلام لو صدقوا
قالوا لنا الحلفا سرًّا قد اتفقوا
على مناهضة الإسلام بل طَفِقوا
يسعون فيما على إجرائه عزموا
وعندما ابنُ النبيِّ انضمَّ للحلفا
وانحاز كذَّبَ هذا الإفترا ونفى
ومسلمو الشرق كلٌّ منهمُ عرفا
هذا النفاقَ فما بالاه بل صدفا
عنِ الوُشاة ولم يعبأ بما رجموا
ولم يَرَ الاتحاديون ما نشدوا
بل شرَّ ما زرعوه بيننا حصدوا
تفريقَنا طلبوا لكنهم وجدوا
منَّا اتفاقًا عليهم عكس ما قصدوا
وبئس منقلَب القوم الأُلى ظلموا
١
بلغ عدد الذين فتكوا بهم من الأرمن مليون ونصف مليون، وقد لا يَقِلُّ عنه عددُ الذين
اغتالُوهم من الرُّوم.
٢
الأمراء علي وعبد الله وفيصل وزيد.
٣
الإشارة هنا إلى مذابح الأرمن سنة ١٩٠٩؛ فإنَّ الاتِّحاديين اتَّهموا
بها السلطان عبد الحميد ليتمكَّنوا من خلْعه، وكانوا بالحقيقة هم الذين
ارتكبوها.
٤
الضيفن مَن يجيءُ مع الضيفِ متطفِّلًا.
٥
تبعك.