الفصل الثالث والعشرون
تدويخ العراق وفتح بغداد
في ٢٣ ديسمبر سنة ١٩١٦ شرعتِ الجنود البريطانية بقيادة الجنرال ستنلي مود١ تستأنف الهجوم في العراق، فضربت مواقع العدو في الثنيَّات، وهاجمتْ ضواحي كوت
الإمارة، واستَوْلتْ على كوت في ٢٤ فبراير سنة ١٩١٧، وحمَّلتِ الجيش العثماني خسارةً
نهكتْ قواه
وأضعفتْ عزائمه، فولَّى أمام مُطارديه الأدبار، وأمْعَن في الفرار حتى كان في أول مارس
قد اجتاز
العزيزية، وبلغ عدد المأسورين منه ٧ آلاف.
وفي ٨ مارس اجتاز فرسان الجيش البريطاني مدائن كسرى (كتيزيفون)، وعبروا نهر دياله، وفي ١٠ منه بلغوا ضواحي بغداد، وفي ١١ منه دخلوها، والمسافة بين كوت الإمارة وبغداد ١١٠ أميال، قطعوها في أقلَّ مِن أسبوعين وهم يطاردون الأتراك، وعبروا دجلة ٣ مرات.
وفي العراق التركُ ما كذَّبوا
أنِ استلذُّوا النصر واستعذبوا
وأوْهموا أتباعهم أنه
نصرٌ مبينٌ باهرٌ أشهبُ
وأنَّ ضنكًا شفَّهم زال والصـ
ـعاب هانتْ وانجلى الغَيْهَبُ
وأنَّ في استرجاع كوتٍ لهم
فخرًا صداه في الورى يذهبُ
وأنهم راعوا بريطانيا الـ
ـعُظمى فباتتْ بَأْسَهم ترهب
وأنهم في جيشها أحدثوا
صدعًا بعيدَ الغور لا يُشعَبُ
وأنَّ غربان القضاء على
فُلولِهم لا بُدَّ ما تنعبُ
وأنَّ هذي الحرب في رأيهم
ليستْ سوى ألعوبة تُلعَبُ
•••
بسمع هذي المضحكات وما
أشبهها آذانَهم أطربُوا
والطيش أعماهُم فاستبعدوا
ما كان منهم شرُّه يقربُ
سارين في داجي الغرور ولا
يَرَوْن ما في جوِّهم ينشبُ
وفاتهم أنَّ الهِزَبْرَ الذي
هاجُوه منه ما لهم مهربُ
وأنه عمَّا قليل عِدا
هُ ضربةً قاضيةً يضربُ
وبينما الأقدار تجري ولا
يدرون ما في لَوْحِها يُكتبُ
فاجأهم مودُ بجيش له
أيَّان سار النصرُ يستصحبُ
وصاح فيهم صيحةً أشبهتْ
زمجرة الضرغام إذْ يغضب
وهبَّ يغزوهم ومِن بطْشِه
يشبُّ نارًا حولهم تلهبُ
جنوب كوتٍ فلَّهم زاحفًا
وجدَّ في استرجاعها يدأبُ
واحتلَّها حُماتها غالبًا
بقوةٍ كالسيل لا تُغلَبُ
ومَن نجا منهم شمالًا جرى
ومودُ جارٍ خلفه يعقبُ
ويحسب الأسرى أُلوفًا وفي الـ
ـمجموع منهم فوق ما يحسب
أمَّا الأُلى قتلى وجرحى هوَوْا
فالحقُّ أنَّ عدَّهم يصعب
وبعد كوتٍ خفَّ مودٌ ورا
أعدائه إرهاقَهم يطلب
يقود جيشًا ينهب الأرض إذْ
يمشي ويغزو الجوَّ إذْ يركب
وعزمه يُعزَى لصلْد الصَّفا
لكنه مِن قلْبِها أصلب
وكرُّه إن صال في ساحة الـ
ـوغى إلى أُسْدِ الشرى يُنسَبُ
به اقتفى مودُ خطى ساقةِ الـ
أتراك وهو سُوقَهم يقضبُ
وجدَّ في فتح الحصون على
أبراجِها أعلامَه ينصبُ
حتى أتى بغدادَ فاحتلَّها
وأكرهَ الأتراكَ أن يهربوا
فأطلقوا للريح سِيقانهم
وخلفهم ذيل الوجى يُسحب
وغادروا بغداد وهي من الـ
ـعُلى الغوالي نهبةً تُنهب
وليس في أجفانهم دمعةٌ
حزنًا على فقدانها تُسكب
وإن يقولوا غير ما قلتُه
للغض من قيمتها يكذبوا
ففقدها جرَّعهم شربةً
أمرَّ منها قطُّ لم يشربوا
وعدَّه أقطابهم نكبةً
بمثلها من قبلُ لم يُنكبوا
١
تُوفِّيَ هذا القائد العظيم في بغداد مساء يوم ١٩ نوفمبر سنة ١٩١٧، وخلفه الجنرال
مارشال.