حدثتْ هذه الثورة في ٩ مارس سنة ١٩١٧، وانتهتْ بخلع القيصر وتأليف وزارة وطنية رئيسها
البرنس لفوف، ومن وزرائها المعروفين جوتشكوف للحربية، ومليوكوف للخارجية، وكرنسكي للحقانية،
وترستشنكو للمالية، وألكسيف لقيادة الجيش العامة.
على أنها كانتْ لسوء الحظ من الوزارات القصيرة الأعمار؛ لأن الحزب المعروف بحزب المجنَّدين
والعُمَّال كان قد اشتدَّ ساعدُه وامتدَّ نطاق نفوذِه بسعي كرنسكي أحد كبار زعمائه؛ فهبَّ
لمناوأَتِها وجَدَّ في مقاومتها، وفي ١٤ مايو ثار عليها هذا الحزب، فأسقط مليوكوف وزير
الخارجية، فخلفه ترستشنكو وزير المالية، واستعفى جوتشكوف وزير الحربية وخلفه كرنسكي وزير
الحقانية. وفي ٢٠ يوليو استقال البرنس لفوف رئيس الوزراء وخلفه كرنسكي، وفي ٧ أغسطس أُعيد
تأليف الوزارة، فتعيَّن كرنسكي رئيسًا لها ووزيرًا للحربية والبحرية، وأصبح حاكم روسيا
المطلَق.
فلم يَمْضِ بضعة أشهر على خلع القيصر حتى شهدتْ بتروغراد فتنتين كبيرتين على رجلين
من أعظم
رجال حكومتها، أولاهما في شهر مايو حين قام الجمهور على مليوكوف وأسقطوه من وزارة الخارجية
كما تقدَّم الكلام، والثانية في أواسط شهر يوليو حين ثار فريق كبير من الاشتراكيين
المتطرفين والمكسيماليين وأنصار لنين (الذين عُرِفوا فيما بعدُ بالبلشفيك) على كرنسكي
لكنهم
فشلوا، على أنهم بقيامهم هذا، وما أحدثوه في العاصمة يومي ١٦ و١٧ يوليو من الهياج والشغب
والسلب والنهب؛ أثَّروا أسوأ تأثير في الهجوم الذي شرع فيه الجنرال كرنيلوف في أول يوليو
وأسفر في نحو أسبوعين على أسر ٣٦ ألفًا من الجرمان وامتلاك عدة مدن وقرًى؛ فإنَّ هذا
الهجوم
توقَّف بغتة، وسرى رُوح التمرُّد والعصيان والخيانة بين الجنود، فاستحال الهجوم إلى تقهقر
شائن
أشبه بالانكسار، وجلَوْا عن جميع الأماكن التي كانوا قد احتلُّوها في هذا الصيف وفي الصيف
الماضي في غليسيا وغيرها، وارتدُّوا إلى بسارابيا، وتلا ذلك وقوع الشقاق بين كرنسكي
وكرنيلوف، واستعفاء ألكسيف من القيادة العامة.
وفي أوائل شهر نوفمبر شبَّتْ ثورة أخرى تمكَّن بها المكسيماليون أو البلشفيك من قلب
حكومة
كرنسكي، واستأثَر لنين وتروتسكي بالسلطة، وما أبطأ هذان أنْ هادنا ألمانيا وحلفاءها وعقدا
معهم ذلك الصلح المذل المُهين المعروف بصلح برست لتوفسك، وأُمضيت معاهدته يوم أول مارس
سنة
١٩١٨. أمَّا الفظائع التي ارتكبها البلشفيك في روسيا، فتضيق عن وصفها أكبر المجلَّدات؛
فإنهم قتلوا القيصر والقيصرة وأولادَهما أفظع قِتْلة، واغتالوا كثيرين غيرهم من الأسرة
المالِكة، وأطلقوا السيف والنار في بتروغراد وموسكو وغيرهما من أمِّهات مدن روسيا، وطوَّحوا
بالبلاد كلِّها في مهاوي الخراب والدمار.
يا لها من حربٍ عوانٍ زَبونِ!
في البرايا تدورُ كالْمَنْجَنونِ!
١
إنها كالرحى وهم كالطحينِ
كل يوم حديثها ذو شجونِ
مُضرِمٌ في الورى سعيرَ الشجونِ
لا يني
٢ بحرها الخضمُّ يعجُّ
بهديرٍ للأرض رجًّا يرجُّ
ولظاها في الخافقين يَئِجُّ
وألوفُ الألوفِ فيه تُزَجُّ
كهشيمٍ يُزَجُّ في أتُّونِ
وإليها الأحلاف سيقوا اضطرارَا
ليس فيهم مَن رامَها مختارا
أكرهتْهم ألمانيا والنارا
أضرمتْ والشرارُ منها استطارا
من أوروبا إلى بلاد الصينِ
غشِيَ الأرضَ مارجُ الهيجاء
وتلظَّى ضرامُها في الهواء
وعلى الماء ثمَّ تحت الماء
عمَّ قتلُ الورى وسفكُ الدماء
وعلى الكون مُدَّ زيجُ
٣ الْمَنونِ
خاضَها الرُّوس عن بني الأعمام
يتوخَّوْن صدَّ سيلٍ طامِ
ولهم منذ سالف الأيامِ
شهرةٌ في الإنقاذ للمُسْتضام
حين يدعو يا روسيا أنقذيني
عبَّئوا للوغى جيوشًا تترَى
وانبرَوْا يزحفون برًّا وبحرا
وأداروا في الترك طعنًا نترَا
٤
وأذاقوا النمسا عصيرًا أمرَّا
من مزيج الزَّقُّوم والغِسْلِينِ
وعليهم معوَّل الحلفاءِ
كان في نيل الانتصار النهائي
أمَّلوا أنهم بلا إبطاء
يضربون العدوَّ في الهيجاء
ضربةً تَفْرِي منه عرقَ الوَتِينِ
هكذا أمَّلوا ولكنْ دهاهم
ما رأَوْه مخيِّبًا لمناهم
وجدوا الروس قصَّروا واعتراهم
طارئٌ باغتٌ فخارتْ قواهم
رغم سبق التشديد والتمكين
عصفتْ بينهم رياح الشقاقِ
فاصماتٍ منهم عُرى الاتفاق
فنظرنا وإذْ بنا لا نلاقي
بعد ماضي الوئام غير انشقاق
عابثٍ بالنظام والقانونِ
بدءوا بالكفاح بدءًا مجيدَا
وأغاروا على الأعادي أسودَا
كلهم كرَّ باسلًا صنديدَا
رَبَّ عزمٍ ماضٍ يفلُّ الحديدا
واقتحامٍ يروع ليث العرينِ
وإذِ استسلموا إلى الانقسامِ
صار إقدامهم إلى إحجامِ
ثمَّ قفَّوْا إحجامهم بانهزامِ
وانتهى بدؤهم بشرِّ ختامِ
وغدَوْا بعدَ عزِّهم في هونِ
بينما كان الجيش في الميدان
يتفانَى ذَوْدًا عن الأوطانِ
كان بعضٌ من زمرة الأعيان
في ائتمارٍ على اطِّراح الطِّعانِ
والتآخي مع العدو الخئونِ
كان هذا الأمر الفظيع المنكرْ
غاشيًا في الخفاء قصرَ القيصرْ
دبَّرته أمُّ الدهاء الأكبرْ
فهْي كانتْ للشرِّ أكبر مصدرْ
وهي أصل الداء العياء الدفينِ
لم تَزَلْ منذ شبَّتِ الحربُ تسعى
بانكسارٍ لروسيا سعْيَ أفعى
مع بني جنسها أمالتْ ضلعَا
وأصاختْ لِمَا دعَوْها سمعَا
ونقولا المسكين ظنَّ عروسهْ
مَلَكًا في الإخلاص أو قِدِّيسةْ
وهي كانتْ من أصلِها إبليسةْ
ثمَّ صارت في قصره جاسوسةْ
من جنود الطاغوت
٦ «رَسْبوتينِ»
فتمادتْ في النزغ عرضًا وطولَا
وبني الرُّوس أشبعتْ تضليلَا
ثمَّ لما زادتْ بهم تنكيلَا
عُدَّ عنها قرينها مسئولَا
فاتَّقَوْا شرَّها بخلع القرينِ
بعدما أسقطوه شادوا وزارةْ
أسمعونا عنها أسرَّ بشارةْ
أمَّلوا أنها تكون منارةْ
وبها روسيا تُعاضُ خسارةْ
كابدَتْها من «رسبتينَ» اللعينِ
وإذا قوة الوزارة خارتْ
وإلى الضعف والتراخي صارتْ
ثمَّ مادت أركانها وانهارتْ
وعلى إثر ذاك فوضى ثارتْ
ثوران الخِضَمِّ
٧ في كانونِ
كان عنها «كرنسكي» المسئولَا
وإليه تُعزَى الرَّزايا الأولى
فهو قد كان للوزارة غولَا
وبه بات عقدها محلولَا
وبه انهدَّ صرحها عن يقينِ
وإليه الجنودَ والعُمَّالا
كان بالمكر والدهاء استمالا
ولهم زَيَّن الخبيثُ المحالا
وعليهم كما أراد احتالا
وسباهم بسحر لطف ولينِ
وبهم في جهاده شدَّ أزرهْ
فاتمُّوا على أعاديه نصرهْ
وله في الورى استطارتْ شهرةْ
وغدا الأمر في بني الروس أمرهْ
يقتضيه بلفظِ كافٍ ونونِ
فتَنَ الجيشَ واشترى الفلَّاحَا
إذْ له نهبَ الأغْنياءِ أباحَا
وعلى الفورِ ذاك ألْقَى السلاحا
وتلاه هذا فعاث وجاحا
وابتلى الناس بالمُعنِّي المُهينِ
كل هذا والمستبدُّ الغاصبْ
رائغ بينهم رواغَ الثعالبْ
ولذيل الرخاء والرغد ساحبْ
آخذًا بالشمال أهل المناصبْ
وعلى الجيش قابضًا باليمين
حاد عن منهج الصواب الصريحِ
عامدًا مطلقًا عنان الجموحِ
وازدرى رأي «كرنلوفَ» النصوحِ
وتمادى مسترسلًا في الطموحِ
مُعرِضًا عن ذاك الحكيم الأمينِ
لم يُعِرْ نصح «كرنلوفَ» اهتمامَا
وعلى غيِّه أصرَّ وداما
وعن الفوضى في البلاد تعامى
وأخيرًا لَمَّا التلافيَ راما
لم يَسَعْه ولا رأي من مُعينِ
وعليه «لنين» ثار وكرَّا
وله «البلشفيك» شدُّوا أزرا
وأذاقوه في الهجوم الأمرَّا
فتخلَّى عن الدفاع وفرَّا
وخلا الجوُّ ثَمَّ للأوغادِ
يستبدُّون أيَّما استبدادِ
فتمادَوْا في العيث والإفسادِ
واستلاب الوَرَى وقتل العبادِ
واقتفَوْا خُطة الرَّجِيم «لنينِ»
جاهروا بالإخاء للأعداءِ
وقضَوْا بالعداءِ للحلفاء
وعلى نكْثِهم عهود الولاء
أجمعوا راغبين عن إيفاء
ما على روسيا لهم من ديونِ
وبهم روسيا العزيزة ذلَّتْ
وبها أكبر المصائب حلَّتْ
فتلاشتْ قوَّاتها واضمحلَّتْ
ثمَّ خارتْ أعضاؤها وانحلَّتْ
وحكتْ في الخريف أوراقَ تِينِ
عقدوا صلحَهم مع الألمانِ
بهوانٍ ما بعده من هوانِ
فيه خرُّوا لهم إلى الأذقانِ
واستطابوا الخنوعَ كالعُبدانِ
٩
طمعًا في الرِّضوانِ من نِيرونِ
١٠
هكذا «البلشفيك» كادوا الروسا
وعليهم جرُّوا الشقا والبوسا
ومن الذلِّ جرَّعوهم كئوسَا
وإذا ما الأذناب صارتْ رءوسَا
فاجلسي يا أقدامُ فوق العيونِ