في هذه القصيدة يُبدي الناظم — بالأصالة عن نفسه والنيابة عن كل لبناني متغرب — شوقَه
وحنينه إلى لبنان، ويَصِف ما حلَّ بأهله في هذه الحرب من الرزايا، وما قاسَوْه على أيدي
الأتراك
من الظلم والإعنات والإرهاق والتعذيب والتجويع، وغير ذلك من الفظائع التي ابتلَوْهم بها،
وتخرَّموا حياة عشرات الألوف منهم. على أنَّ هذه الجرائم التي تقشعر لشدة هولها الأبدان
لم
ينحصر ارتكاب الأتراك لها في لبنان، بل تعدَّاه إلى كثيرٍ من مدن سورية كبيروت وطرابلس
وغيرهما من البلاد التي لم تكن حالتها أكثر احتمالًا من حالة لبنان.
لبَّيكَ يا وطني دعوتَ سميعَا
ولئن أمرتَ فقد أمرتَ مُطِيعَا
هذا شعارُ بنيك فيكَ وكلهم
فحواه ينشرُ حيث حلَّ مُذيعَا
كلٌّ على حِدةٍ يكرِّر قولهم
هذا وفيه يعملون جميعَا
حاشى لهم وهمُ أبرُّ بني الورى
أنْ يطمئنوا أنْ أبوهم ريعَا
وأُعيذهم أن يذكروك ولا أرى
فلذات أكبدهم تذوب نزوعَا
١
ذكراكَ ملءُ شفاههم وقلوبهم
لا يفرغون لغيرها موضوعَا
تبتزُّ من جنب المناعم راحةً
وتسلُّ من جفون النئوم هجوعَا
ذاكراك تُقْصِينا عن الدنيا ولا
نبغي إليها في سواك رجوعَا
ذكراك تُذْكي في الجوانح لوعةً
وتشُبُّ ما بين الضلوع وُلوعَا
شوقًا وتحنانًا إليك كلاهما
يهتاج فينا بالأسى متبوعَا
شوقًا وتحنانًا إلى شيخٍ به
نعنيك يا جبلًا أشمَّ منيعَا
•••
لبنان طودك صرح عزٍّ رَوْقُه
يزداد رغمَ مُقاوميك متوعَا
وبنوك أقمار الهدى أنَّى انتحتْ
يترقَّب الساري لهنَّ طلوعَا
وعلى الإقامة في أعزِّ مراتع الد
نيا نفضِّلُ في حماك رتوعَا
لبنان مَن لي أن أراك فيشتفي
قلبٌ غَدَا بِلَظَى النَّوَى مَلْذُوْعَا
لبنان تيَّمَني هواك وسامني
في بعدك التبريحَ والتلويعا
أُرْضِعتُه طفلًا وإني لم أزَلْ
فيه على رغم المشيب رضيعَا
وأظلُّ منك مدى حياتي عاشقًا
حُسْنًا تباركَ مَن براه بديعَا
حُسنًا أراه فيك مطبوعًا وفي
ما دون وجهك زخرفًا مصنوعَا
وعلى الشعور به طُبِعتُ فقل لِمَن
لم يَدْرِه سَلْ شاعرًا مطبوعَا
في غير لبنان الحياة ربيعُها
يمضي بفصل خريفها مشفوعَا
لكنها فيه شبابٌ دائمٌ
وفصولها أبدًا تظلُّ ربيعَا
•••
يا أيها الجبل الذي يُرضِي الردى
عزًّا ويأبى في الحياة خنوعًا
٢
أني أُطِلُّ عليكَ يا لبنان من
جوِّ التصوُّر ناظرًا وسميعَا
فأرى وأسمع فيك ما أهواله
تلقي على الصخر الأصمِّ صدوعَا
أجد الشقاءَ على الديار مخيِّمًا
واليأس في عرصاتها مزروعَا
والضنك يُوهِي الأقوياء فتفتك الـ
أمراض فتكًا بالضِّعاف ذريعَا
والجوعُ خلف الداء مَكْمَنُه فمَن
لم تُرْدِهِ الأدواء يقضي جوعَا
وكلاهما قتلاهُ — يا أسفي على
قتلاهُ! — يُعْيِي عدهم مجموعَا
ذا بعضُ ما عيني تراهُ وكلُّه
تلقاهُ أفظع ما تراهُ فظيعَا
وأشدُّ منهُ عليَّ صوتٌ وَقْعُه
كالسهم بل منه أحدُّ وقوعَا
متصاعدٌ من كل فجٍّ حاملٌ
شكوى يُرجِّعها الصدى ترجيعَا
شكوى ألوفٍ فيك موردها الردى
إن لم يُغِثْها المنقذون سريعَا
شكوى تعي الأنَّات والزفرات والـ
ـحسرات والتعذيب والترويعا
أنَّات مرضى ينزعون ضنًى ولا
يجدون طبًّا يُبرئُ الموجوعا
أنَّات مَن يتضورُّون ولا يَرَوْ
نَ لحرِّ ما يشكون منه نُقُوعَا
٣
وتنهُّدات الأمهات يزيدها الـ
أيتام والمترمِّلات شيوعَا
يبكين أبناءً وآباءً وأزْ
واجًا ويَذْرِفْنَ الدموعَ نجيعَا
•••
أمَّا الزفير ففي حشاك يئزُّ يا
شيخ الرُّبى ويحزُّ منك ضلوعَا
حنقًا على مَن ضايقوك فأحرجوا
بالظلم صدرًا منك كان وَسِيعَا
نكثوا العهود وقيَّدوك وما رعَوْا
بوثيقة استقلالك التوقيعا
وضعوك وهي خليقة الظُّلَّام أن
يضعوا الرفيع ويرفعوا الموضوعا
وعلى الخضوع لهم قُسِرتَ وكنتَ لا
تختارُ إلا للإله خضوعَا
وعلى ربوعك والحقائق سلَّطوا الـ
إزهاق والتدمير والتقليعا
والدُّور أخلَوْها وكنَّ أواهلًا
والرَّوْض أذْوَوْه وكان مَرِيعَا
٤
وأتَوْا فظائع تقشعرُّ لهولها الد
نيا ويضطرب الجمادُ هلوعَا
أفبَعْدَ هذا كلِّه يصفو لنا
عيشٌ وقلبك مُفْعَمٌ تفجيعَا
أم هل تَلِين لنا بمصر مضاجعٌ
ونراكَ للنُّوَب الشِّداد ضجيعَا
كلَّا! وليس لنا الشراب بسائغٍ
أبدًا ونأبَى للطعام نُجوعَا
٥
إلَّا إذا الظلمات عنك تقشَّعتْ
ووَرَدْتَ مِن بعد الأُوام نَقِيعَا
٦
فيَنال حينئذٍ بنوكَ مرادَهم
ويُكَفْكِفون من العيون دموعَا
ويَرَوْن فيك لواءَ عزِّك مثلما
عَهِدوه قبلًا خافِقًا مرفوعَا
واللهَ ندعو أن يكون لسؤلنا
هذا مجيبًا للدعاء سميعَا