هجوم الحلفاء الأخير في البلقان
في أوائل شهر أكتوبر سنة ١٩١٥ نزل جيش فرنسوي وبريطاني في سلانيك، وزحف شمالًا للاتِّصال بالجيش السربي ومساعدته على ردِّ غارة الجيوش البلغارية والنمسوية والألمانية والتركية التي تألَّبتْ عليه، ولكنَّه إذْ لم يتمكَّن من ذلك عاد أدراجَه إلى سلانيك، حيث انضمَّتْ إليه نجدات إيطالية وروسية، وأخذ يُعنَى بنقْل فلول الجيش السربي من كورفو إلى سلانيك، ويجدُّ في إعادة تنظيمه وتسليحه وإعداده إلى حين الحاجة، وما لبث أن تقدَّم شمالًا واستَوْلى على موناستير وما حولها.
وكانتْ حكومة اليونان قد وعدتِ الحلفاء بلسان كبير وزرائها فنزيلوس أن تشدَّ أزرهم في الغارة على غاليبولي، فعارَضَ ملكُها قسطنطين في ذلك واضطرَّ وزيره إلى الاستعفاء، ثمَّ مثَّل هذه الرواية عينها يوم دخول بلغاريا في الحرب مع ألمانيا، فخذل حليفتَه السرب ونكث بعهد حكومته لها، واضطر فنزيلوس إلى استقالة منصبه مرة ثانية. وفي ٢٦ سبتمبر سنة ١٩١٦ غادر فنزيلوس أثينا ومعه بعض كبار القوَّاد والضُّبَّاط والأعوان إلى كريت وغيرها من الجزر اليونانية. ومن ذلك الحين تألَّفتْ لجنة الدفاع الوطني، وجاهرتْ بانفصالها عن حكومة الملك في أثينا، وأخذتْ هذه النهضة تمتدُّ في الجزر وسلانيك، حيث ألقى فنزيلوس وأعوانه عصا ترحالهم، ثمَّ امتدَّتْ إلى الأسطول، وانحازتْ بعض بوارجه إلى أسطول الحلفاء، وأخذ جيش الدفاع الوطني في سلانيك ينمو ويزيد.
وكانتْ حكومة أثينا في هذا الوقت لاهية بتغيير الوزارات، وهي بين يدي الملك كريشة في مهبِّ الريح طائرة.
وفي ١٢ أكتوبر سلَّمتْ إلى الحلفاء — بناءً على بلاغ أمير البحر درتيج فورنيه — معظم بوارج أسطولها، وأجابتْ بعض المطاليب الأخرى، واعترفتْ دول الحلفاء بالحكومة اليونانية المؤقَّتة التي أنشأها فنزيلوس في سلانيك، وعزَّز الحلفاء الحاميات البحرية التي أنزلوها في بيريه وأثينا، وتدرَّجوا في التشديد على الملك قسطنطين، ثمَّ طلبوا في ٢٢ نوفمبر إخراج معتمدي ألمانيا وحليفاتها وتسليم عدد كبير من المدافع والبندقيات والقنابل وغيرها من المعدَّات الحربية.
وفي أول ديسمبر نزلتْ فصائل من جنود الحلفاء إلى أثينا فانقضَّ عليها الجنود، وجرَتْ معركةٌ بين الفريقين، قُتِل وجُرِح فيها من جنود الحلفاء نحوم مائتين، واسترجع الأميرال فورنيه الفصائل التي نزلتْ، واشتدَّ اضطهاد حزب الملك في أثينا لأنصار فنزيلوس. وفي ١٢ منه أعلن الحلفاء حصر بلاد اليونان، وأرسلوا بلاغًا نهائيًّا إلى حكومتها طالبين إخراج جيشها من تساليا، ونقل جانب منه إلى المورة، وتسليمهم إدارة سكة الحديد والتلغراف والبريد؛ فأجابتْ طلبهم.
وفي ١١ يونيو سنة ١٩١٧ تعيَّن المسيو جونار مندوبًا ساميًا لدول الحلفاء في بلاد اليونان، فأبلغ حكومتها وجوب تنازل الملك قسطنطين لِمَن شاء مِن بَنِيه ما عدا وليَّ العهد، فتنازَلَ لابنه الثاني الأمير إسكندر، وبرح أثينا في ١٥ منه إلى سويسرة؛ فرُفِع الحصار البحري، واستؤنفتِ الملاحةُ، وعادتِ الأمور إلى مجاريها. وفي ٢٨ منه ألَّف فنزيلوس الوزارة وتقلَّد رآستها ووزارة الحربية، وفي ٢٩ منه قطعتِ اليونان علاقاتها مع ألمانيا وحلفائها، واستدعتْ مندوبيها من عواصم بلدانهم، وفي ١٠ يوليو رجع المسيو جونار إلى فرنسا.
كان جيش الحلفاء في البلقان قد استَوْفَى حاجتَه من العَدد والعُدد، وانضمَّ إليه جانبٌ من الجيش اليوناني، وأُسنِدت قيادته العليا إلى الجنرال فرنشه دسبري خلف الجنرال سرايل، فشرع في هجومه الأخير يوم ١٨ سبتمبر — أي يوم شروع الجنرال أللنبي في تحرير سورية — وأخذ يدفع أمامَه صفوف البلغاريين والنمسويين والألمانيين شمالًا وشرقًا وغربًا، واستردَّ مكدونية الشرقية ومعظم بلاد السرب، واجتازتْ طلائع الحلفاء حدود بلغاريا، وحينئذٍ لم ترَ حكومتها بُدًّا من التسليم، فألْقَتْ سلاحَها وسلَّمتْ بلا شرط ولا قيد، وأُمضيتِ الهدنة معها في ٣٠ سبتمبر، وحَذَتْ تركيا حذْوَها فسلَّمتْ تسليمها، وأُمْضيتْ معها الهدنة في ٣١ أكتوبر.
ثمَّ واصل الجيش الفاتح تقدُّمَه شمالًا وغربًا، وهو يطارد فِرَق النمسويين والألمانيين ويمزِّق شملها، وقد قطعت طلائعُ السربيين مائة وستين كيلومترًا في ٨ أيام، وفي ٣ نوفمبر دخل الجيش السربي بلغراد.
وفي ١٤ أكتوبر استأنف الإيطاليون هجومهم بمؤازرة الفرنسويين والبريطانيين، وأخذوا يكرُّون على النمسويين ويُجلُونهم عن الحصون والمواقع، فأخرجوهم من إيطاليا واقتفَوْا آثارهم في أرض النمسا، واحتلُّوا تريستا وترنت وأوديني وغيرها، وأسروا منهم نحو أربعمائة ألف أسير، وغنِموا نحو ستة آلاف مدفع ميدان.
وحينئذٍ رأتْ حكومة النمسا أنَّ بناء إمبراطوريتها الضخم يتداعَى وينهار، وعِقْد اتِّحاد ولاياتها آخِذٌ في الانفراط والانتثار، ولم يَبْقَ لها أقلُّ أمل بما علَّلتْ به نفسها من الفوز والانتصار؛ فسلَّمتْ تسليم بلغاريا وتركيا بلا شرط ولا قيد، وأُمضِيتْ معها الهدنة يوم ٣ نوفمبر.
ومِن غريب الاتفاق أنَّ هذه الحرب انتهتْ من حيث ابتدأتْ، فمِن البلقان امتدَّتْ وانتشرتْ، ومن البلقان أخذتْ رِيحُها في الركود، ونارُها في الخمود.
•••
•••
•••
•••
•••