بعدما بلغ المرشال فوش غايته من التراجُع أمام الألمان مدة نحو أربعة أشهر، وأوهمهم
نفاد
احتياطيه، فأسرفوا في التهوُّر والاندفاع، وحمَّلهم في أثناء ذلك خسارة مئات الألوف من
نخبة رجالهم، وفرغ من اتِّخاذ الأهبة الكاملة للهجوم؛ أصدر أمرَه به، فكرَّ الفرنسويون
في ١٨
يوليو سنة ١٩١٨ على الألمان بين نهرَيِ الأين والمارن، فكان ذلك فاتحةَ هجوم أخذ يكبر
ويتَّسع
شيئًا فشيئًا حتى عمَّ الميدان الفرنسوي كله، واشترك فيه الجيش البلجيكي بقيادة الملك
ألبير، والجيوش الفرنسوية التي تحت قيادة المرشال بتاين العامة وقوَّادها فايول ومنجان
ودجوت وأمبين ودبنيه وغورو وبرتلو وجيوما، والجيوش البريطانية التي تحت قيادة المرشال
دوجلاس هايج العامة وقوَّادها بنج وروبنصن وبلومر وهورن وكري ويردود وغيرهم، والجيوش
الأميركية بقيادة الجنرال برشنغ.
هذه الجيوش كلها انطبقتْ على العدوِّ المهاجِم من الشمال والغرب والجنوب، وطفقتْ تنقضُّ
عليه
انقضاض الصواعق، وتُباغِته بضربٍ متوالٍ متلاحقٍ، وتضطرُّه إلى النكوص على أعقابه والجلاء
عن
جميع المدن والحصون التي احتلَّها في فرنسا والبلجيك.
وعلى هذا المنوال كان الألمان يرتدُّون متقهقِرين، وجيوش الحلفاء تُطاردهم وتجدُّ
السير
وراءهم، وهي تجتاز الأنهُر والتُّرَع والقِنِيَّ، وتدكُّ المعاقل والحصون، وتدمِّر الخنادق
والمتاريس،
ودبَّاباتهم تكتسح الحزون والسهول، وطياراتهم تكافح الطيَّارات الألمانية وتقتَنِصها
بالآحاد
والعشرات، وتُمطِر الجيوش المنهزمة وابلًا من القنابل والقذائف، فتزيدها ارتباكًا واضطرابًا.
وفي أقلَّ من أربعة أشهر انتزعوا من الألمان كلَّ ما احتلُّوه في فرنسا والبلجيك تقريبًا،
وأسروا منهم نحو نصف مليون، وغنِموا نحو أربعة آلاف مدفع ميدان، وعشرات الألوف من المدافع
السريعة، وما لا يُحصى من الأسلحة والعُدد الأخرى، واضطروهم أن يَحذُوا حَذْوَ البلغار
والأتراك
والنمسويين، ويسلِّموا تسليم المكسور للظافر المنصور.
ليومك نهرَ «المارن» ذكرٌ مخلَّدُ
يظلُّ على طول المدى يتجدَّدُ
تمر الليالي والحوادث تنقضي
وفي كلِّ يومٍ ذكرُ يومك يُولدُ
وكلُّ لسانٍ في البرية ناطقٌ
به وصداهُ كلُّ وادٍ مردِّدُ
وعن راحِهم يُغني الندامى فكلما
أرادوا انتشاءً
٢ كرَّروه فعربدوا
ويُغني عن الأعياد مَن يرقبونها
فأيَّان أجرَوْا ذكرَ يومِك عيَّدوا
وشهرته فينا على قرب عهده
نرى أنها من شهرةِ الشمس أبعدُ
فدُرِّيئها في كلِّ جوٍّ ملألئٌ
وقِمْرِيُّها في كل غصنٍ مغرِّدُ
وموضوعُها محمول أم الجلال والـ
ـجمال وأسمى ما يرادُ ويُقصَدُ
وأعظم ما نفس الفتى باقتنائه
تعزُّ وإن يُفقد فإيَّاهُ تنشدُ
•••
عنيتُ به حُرَّيةَ الأمم التي
لها الحرُّ بعد الله يجثو ويسجدُ
وأنصارها الأحرار هم سادة الورى
ومَن تتخذه عبدها فهو سيِّدُ
فهم رفعوا في الخافقين منارَها
وهم عرشها فوق السِّماكَيْن شيَّدوا
ولكنما الألمان أعداؤها فهم
على رغمها في الأرض عاثوا وأفسدوا
تصدَّوْا لإزهاق الأُلى علموا بها
وإرهاقَ مَن مالوا إليها تعمَّدوا
طغَوْا وبغَوْا واللهَ لم يتَّقوه بل
عليه عصَوْا واستكبروا وتمرَّدوا
وزيَّن الاستبدادَ بالناس كلهم
لهم ملكٌ أتباعُه متعبِّدُ
إلى الفتح لم ينفكَّ منذ جلوسهِ
على العرش يصبو والسلامَ يهدِّدُ
به كان يُغري شعبَه ويحضُّهم
عليه ويُذْكي عزمَهم ويشدِّدُ
•••
أطاعوا له بالحرب أمرًا وإذ دَعا
على الفور لبَّوْه ولم يتردَّدوا
قضَوْا نصف قرنٍ في تأهُّبهم لها
فجدُّوا وشدُّوا واستمدُّوا واعتدوا
وما تقتضيه من سلاحٍ ومِيرةٍ
ومالٍ أعدُّوا والملايين جنَّدوا
وفي نارها زجُّوا جميع بني الورى
فأصبحت الدنيا جحيمًا توَّقدُ
وفي أول الأمر احتفتْ بهمُ الوغى
ولاح لهم من جانب النصر فرقدُ
وجازوا ضفاف المارن في غزواتهم
وباريسَ بالفتح القريب توعَّدوا
ولكن عليهم «جوفر» كر مزمجِرًا
فريعوا وعن باريس صُدُّوا وأُبعِدوا
وخطَّتْ على المارن البسالةُ آيةً
تقول لغازيهِ: «هنا جوفر يرصدُ»
•••
ولما تخلَّى الروس عن حلفائهم
وطاب لهم في مضجع الذُّلِّ مرقدُ
خلا الجوُّ للألمان فاندفعوا على
فرنسا وجدُّوا في الهجوم وشدَّدوا
وكرُّوا على الجيش المدافِع كرَّةً
أقاموا لها الدنيا اضطرابًا وأقعدوا
وأمُّوا ضفاف المارن ثانيَ مرَّةٍ
وسهم فتوحٍ نحو باريسَ سدَّدوا
نسُوا أو تناسَوْا يوم «جوفر» انبرى لهم
يذودُ عن المارن الُغزاةَ ويطردُ
وقد وَرَدُوه يحسبون مياهَهُ
حُجَيلاءَ حَرَّ الهاجمين تُبرِّدُ
ولكنهم خابوا رجاءً ومَوْرِدًا
حَرُورًا من الغِسْلِين والمُهْل أُورِدوا
•••
أجل لم يلاقوا جوفر لكنهم لقُوا
له خلفًا من بطشه الأرض ترعدُ
رأَوْا «فوش» في عرِّيسه متحفِّزًا
يُصوِّب في تزآره ويُصعِّدُ
رأَوْا معشر الأحلاف أَمْضَوْا وفاقهم
على كلِّ شيءٍ والقيادة وحَّدوا
وقد قلَّدوها فوش فهْو عُذيقُها الـ
ـمُرَجَّبُ
٣ والنهدُ
٤ المجلِّي المقلَّدُ
٥
وقفَّى على التقليد «هايج» بأنهُ
«لبرشنج» فيه عاضدٌ ومؤيدُ
وبايَعَه الباقون منهم وأجمعوا
على أنه في أمرهم متفرِّدُ
•••
وحينئذٍ كانوا استعدُّوا وأَعْتَدوا
جميع معدَّات الهجوم وأرصدوا
وكانوا دماءَ «البوش» يستنزفونها
بمبضعِ تغرير يجسُّ فيَفْصِدُ
تخلَّوْا لهم عن كلِّ شرٍّ بملئه
دمًا كان من أكبادهم يتفصَّدُ
كقطٍّ حَلا جهلًا له لحسُ مبردٍ
ولم يدرِ أنَّ النازف الدمَ مبردُ
وقد أوْهموهم أنهم عن لقائهم
بأصْفاد تقصير وعجزٍ تقيَّدوا
وأنَّ الخميس الاحتياطيَّ عندهم
غدا نافدًا أو أنه كاد يَنفَدُ
فرانتْ على الألمان هذي الخديعة الـ
ـتي كان في تدبيرها «فوش» يجهدُ
وقالوا عِدانا نابهم شرُّ كسرةٍ
لئن أنكروها فالتقهقر يشهدُ
وظنُّوا بأنَّ النصر نِيلَ وأنهم
على الحلفا بابَ النِّجاية أوصدوا
وكانوا لخط الزحف في الطول أسرفوا
ولكنهم فيه من العرض أقصدوا
وضرغامة الأرجون
٦ في ريمس رابضٌ
وراهم وصمصامَ الوثوب مُجرِّدُ
•••
فأملى على قوَّاده «فوش» خطة الـ
ـهجوم فألْقَوْا سمعَهم وتزوَّدوا
وصاحَ بهم رُدُّوا الغُزاة وأطبِقوا
عليهم فللإطباق قد حان موعدُ
ومن ضفة المارن ابدءوا الكرَّ واقذفوا
إلى لُجِّهِ مَن جاوَزوه فيوأدوا
٧
فلبَّى الندا أبناء كولمبسَ
٨ الأُلى
أتَوْا ليُعِينوا جيش فوش ويعضِدوا
أولئك بالألمان ثاروا ونكَّلوا
وشملَهم المجموعَ شتُّوا وشرَّدوا
وما أبطأتْ باقي الجيوش أنِ اقتفَتْ
خطاهم وفيهم عمَّ للحرب مشهدُ
ودارتْ رَحاها وهْي كالنار تَلْتَظِي
وساحاتها كالبحر تُرْغِي وتُزْبِدُ
•••
هناك على الألمان صالَ جحافلُ الـ
ـحليفين صولًا فيه غاروا وأنجدوا
وشنُّوا عليهم غارةً دحضوا بها
مزاعمَهم فيما ارتأَوْه وفنَّدوا
وردُّوهمُ يَهوُون في شرِّ ورطةٍ
يساورهم غمٌّ لهم متغمِّدُ
وزجُّوا إليهم ضربةً لو دَوِيُّها
عرا جلمدًا لاندقَّ وانفتَّ جلمدُ
دَحَوْها عليهم من مدافعَ جمرها
إذا مسَّ بحرًا ردَّه يتوقَّدُ
ومن زاحفات في الصعيد كأنها الصـ
ـواعق قبل الفتك تسنو وترعدُ
تُقطِّع أسلاك الحصون وتنسف الـ
ـخنادق والوعثَ الكئود تُمهِّدُ
ومن سابحاتٍ في الهواء تشقُّهُ
وفوق مطار النَّسْر ترقَى وتصعدُ
وتُمْطِرهم منهُ بسيل كراتها
وتُصْلِيهم النارَ التي هُمُ أوقدوا
وكلِّ مجلٍّ طارِ في السبق صيتهُ
وصارتْ إليه سرعة البرق تسندُ
وكلِّ مصلٍّ
٩ لو أصابت مُهنَّدًا
عزيمته في الكرِّ صامَ المهنَّدُ
وكلِّ مُغِيرٍ خلْفَه أسد الشرى
وقُدَّامهُ قِرْمٌ يُجارِيه صِندَدُ
١٠
•••
بهم «فوش» نار «البوش» خاض فأطفئوا
لظاها وأنفاسَ المعادين أخمدوا
ومِن يدهم بزُّوا المدائن والقرى
فشلَّتْ ولم تقدر على ردِّها اليدُ
وقد نثر الإخفاقُ عِقْدَ رجائهم
وبات عليهم عِثْيَرُ اليأس يُعقدُ
وغطَّتْ بطاحَ السوم أشلاءُ جيشهم
ومَن أمِنوا قتلًا وأسرًا تبدَّدوا
وما ردَّ «هندنبرج» عنهم بخطه
وبالًا عليهم ظلَّه هُم مدَّدوا
ففرُّوا على أعقابهم ناكصين عن
بلادٍ لأهليها أذلُّوا وأضهدوا
١١
وخلفَهم الجيش المطاردُ بِيضُه
تُسَلُّ وفي أقْفِي المطاريد تُغمَدُ
وفي ثلْثِ عامٍ ضيَّعوا ما بجيشهم
بأربعة الأعوام ضحَّوْا ليوجدوا
وللحلفا دانوا ولو لم يسلِّموا
لكان بهم حاق البلاء المخلَّدُ
وحُمَّ
١٢ على السفَّاح «غليوم» أنه
عن العرش مرغومًا يُزاح ويُطردُ
وألفَى وليُّ العهدِ أنَّ مصيرَه
مصيرُ أبيه عكسَ ما كان يعهدُ
وإن يكُ لودندرف شَعرك وهو مَن
جرى الخوف مبيضٌّ فحظُّك أسودُ
وما حظُّ «هندنبرج» في السوء دونه
فإنك تدري أنه منك أنكدُ
١٣
كفاه شقاءً أن يراك استطعتَ أن
تُولِّيَ عنه مُدْبِرًا وهو مقعدُ
•••
فَتِهْ أيها النهرُ المعظَّم وافتخِرْ
فحقُّك فيه ظاهرٌ ليس يُجحدُ
ويومَك لا ننساه في الحرب بل له
سيُحفَظ بين الناس ذكرٌ مؤبَّدُ
به الحلفا والشكر لله قوَّضوا
من الأرض رهصَ البطل والحقَّ وطَّدوا
به الحلفا حازوا انتصارًا لأجله
على الحلفا نُثني ولله نحمدُ
فخط «الفرنسيُّون» للمجدِ صفحةً
بها ذكرَ ماضيهم أعادوا وجدَّدوا
ومِن جيشها الغازي وأسطولها لها
«بريطانيا العظمى» اعتزازٌ وسؤدَدُ
وفي فضلها الجمِّ العميم «أميركا»
تُعظَّم من كل الورى وتُمَجَّدُ
وقد نِلْتِ «يا بلجيكُ» ما تبتغينه
وحزتِ انتصارًا فيه جرحكِ يُضمَدُ
فللحلفا الألمانُ كادوا بيومهم
فردَّ لهم أضعافَ كيدِهمُ الغدُ
وبالعدل والإنصاف نالوا جزاءَهم
ومَن يزرعِ العدوانَ فالشرَّ يحصدُ