الفصل الرابع
(١) عَطْفُ «مِيرَنْدا» عَلَى «فِرْدِنَنْدَ»
وَبَيْنَما كانَ «فِرْدِنَنْدُ» سائِرًا فِي طَرِيقِهِ، عائِدًا إِلَى غارِ «بُرُسْبِيرُو» (راجِعًا إِلَى الْمَغارَةِ الَّتِي اتَّخَذَها بَيْتًا لَهُ فِي الْجَبَلِ)، إِذْ لَقِيَتْهُ «مِيرَنْدا» — وَكانَ مَشْغُولًا بِالتَّفْكِيرِ فِيها حِينَئِذٍ — فَلَمْ تَرَهُ حَتَّى أَشْفَقَتْ عَلَيْهِ، وَأَرادَتْ أَنْ تُساعِدَهُ فِي حَمْلِ الْخَشَبِ الَّذِي كَلَّفَهُ أَبُوها إِحْضارَهُ إِلَى كَهْفِهِ.
فَدَهِشَ «فِرْدِنَنْدُ» مِنْ كَرَمِ نَفْسِها، وَأَكْبَرَ (عَظَّمَ) مِنْها ذَلِكَ الشُّعُورَ النَّبِيلَ، وَقالَ لَها: «إِنِّي لَأُوثِرُ أَنْ تَشَلَّ يَدِي (أَخْتارُ أَنْ تَقِفَ يَدِي عَنِ الْحَرَكَةِ)، أَوْ تُبْتَرَ ساعِدِي (تُقْطَعَ ذِراعِي) عَلَى أَنْ أُكَلِّفَكِ شَيْئًا مِنَ الْعَناءِ!»
فَقالَتْ لَهُ «مِيرَنْدا»: «أَراكَ عَيَّانَ (عاجِزًا عَنِ الْعَمَلِ)، وَأَلْمَحُ عَلَى وَجْهِكَ أَماراتِ الْجَهْدِ وَالْإِعْياءِ (عَلاماتِ الْمَشَقَّةِ وَالْعَجْزِ). فَماذا عَلَيَّ إِذا خَفَّفْتُ شَيْئًا مِنْ عَنائِكَ؟»
فَقالَ لَها: «حَسْبِي أَنْ أَعْرِفَ مِنْكِ هذا الْعَطْفَ النَّادِرَ، وَأَنْ أَتَمَثَّلَ أَمامِي هذا الرُّوحَ النَّبِيلَ، فَتَمْتَلِئَ نَفْسِي قُوَّةً أَتَغَلَّبُ بِها عَلَى كُلِّ ما أَلْقاهُ مِنْ عَناءٍ وَتَعَبٍ!»
(٢) مُفاجَأَةُ «بُرُسْبِيرُو»
وَوَقَفا يَتَحَدَّثانِ قَلِيلًا، وَكانَ «بُرُسْبِيرُو» عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهُما يَسْتَمِعُ إِلَى أَحادِيثِهِما بِحَيْثُ لا يَرَيانِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخْفَى نَفْسَهُ عَنْ عُيُونِهِما بِما أُوتِيهِ مِنْ فُنُونِ السِّحْرِ وَسُلْطانِهِ.
ثُمَّ ظَهَرَ أَمامَهُما فَجْأَةً؛ فَعَجِبا مِنْ رُؤْيَتِهِ، وَلَمْ يَعْرِفا كَيْفَ جاءَ، وَمِنْ أَيِّ مَكانٍ ظَهَرَ، وَخَشِيا أَنْ يَدْفَعَهُ الْغَضَبُ إِلَى إِيذائِهِما وَالتَّنْكِيلِ بِهِما.
وَلَكِنَّ «بُرُسْبِيرُو» أَخْلَفَ ظَنَّهُما، وَقالَ لَهُما مُبْتَسِمًا مَسْرُورًا: «لَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَمْتَحِنَ صَبْرَكُما، وَأَرَى كَيْفَ تَلْقَيانِ الشَّدائِدَ. وَقَدْ رَأَيْتُ — مِنْ وَفائِكُما وَإِخْلاصِكُما وَمُرُوءَتِكُما — ما مَلَأَ قَلْبِي بَهْجَةً وَانْشِراحًا. وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى أَنْ تَكُونِي — يا «مِيرَنْدا» — زَوْجَتَهُ وَشَرِيكَتَهُ فِي الْحَياةِ؛ فَأَنْتُما مُتَكافِئانِ (مُتَساوِيانِ) فِي النُّبْلِ وَالشَّرَفِ وَالْمُرُوءَةِ وَالْوَفاءِ!»
(٣) شُكْرُ «فِرْدِنَنْدَ»
وَما سَمِعا هذا الْكَلامَ، حَتَّى خُيِّلَ إِلَيْهِما أَنَّهُما فِي حُلْمٍ، وَامْتَلَأَ قَلْباهُما سُرُورًا وَغِبْطَةً. وَتَوَجَّهَ «فِرْدِنَنْدُ» إِلَى «بُرُسْبِيرُو» وَشَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ أَحْسَنَ الشُّكْرِ، وَلَثَمَ يَدَهُ (قَبَّلَها) عِرْفانًا لِمُرُوءَتِهِ وَكَرَمِهِ، وَقالَ لَهُ: «سَأَكُونُ ابْنَكَ الْبارَّ — مُنْذُ الْيَوْمِ — وَسَأَبْقَى لِبِنْتِكَ «مِيرَنْدا» نِعْمَ الصَّدِيقُ الْوَفِيُّ الْأَمِينُ، وَأَبْذُلُ نَفْسِي فِداءً لَها مِنْ كُلِّ سُوءٍ طُولَ حَياتِي».
فَشَكَرَ لَهُ «بُرُسْبِيرُو» مُرُوءَتَهُ، وَرَبَّتَهُ (ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى كَتِفِهِ مُتَلَطِّفًا)، ثُمَّ تَرَكَهُ مَعَ «مِيرَنْدا» وَعادَ مِنْ حَيْثُ أَتَى لِيُتِمَّ إِنْجازَ خُطَّتِهِ.
(٤) انْتِقامُ «آرْيِل»
وَلَمْ يَشَأْ «بُرُسْبِيرُو» أَنْ يُضِيعَ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ عَبَثًا، فَنادَى خادِمَهُ الْجِنِّيَّ الْأَمِينَ وَقالَ لَهُ: «إِلَيَّ يا رَفِيقِي «آرِيلُ»! إِلَيَّ أَيُّها الْخادِمُ الْوَفِيُّ الْمُخْلِصُ!» فَحَضَرَ إِلَيْهِ «آرِيلُ» وَلَبَّاهُ مِنْ فَوْرِهِ قائِلًا: «هأَنَذا — يا سَيِّدِي — فَمُرْنِي بِما تَشاءُ؛ فَإِنِّي سامِعٌ مُطِيعٌ».
فَقالَ لَهُ «بُرُسْبِيرُو»: «ماذا صَنَعْتَ بِشَقِيقِي الْغادِرِ «أَنْطُنْيُو»؟ وَماذا صَنَعْتَ بِمَلِكِ «ناپُولي»؟ وَماذا صَنَعْتَ بِرُفُقائِهِما جَمِيعًا؟ ما أَحْسَبُكَ قَصَّرْتَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَمَرْتُكَ بِهِ».
فَقالَ لَهُ «آرْيِلُ»: «لَقَدْ أَنْجَزْتُ ما طَلَبْتَ — وَفْقَ ما تَشْتَهِي وَتُرِيدُ — فانْتَقَمْتُ مِنْهُمْ شَرَّ انْتِقامٍ، وَسَخِرْتُ مِنْهُمْ جَمِيعًا حَتَّى كادُوا يَتَمَيَّزُونَ مِنَ الْغَضَبِ (يَتَقَطَّعُونَ مِنَ الْغَيْظِ). وَقَدْ أَعْدَدْتُ لَهُمْ مائِدَةً فاخِرَةً عَلَيْها أَشْهَى أَلْوانِ الطَّعامِ، وَما رَأَوْها حَتَّى أَسْرَعُوا إِلَيْها مُتَهافِتِينَ (مُتَساقِطِينَ) فِي شَرَهٍ عَجِيبٍ (شَغَفٍ شَدِيدٍ بِالْأَكْلِ). وَكانَ الْجُوعُ قَدْ بَرَّحَ بِهِمْ أَذاهُ وَاشْتَدَّ، فَصَبَرْتُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى إِذا دَنَوْا مِنْها ظَهَرْتُ أَمامَهُمْ — فِي شَكْلِ حِرْباءَ مُفَزِّعَةٍ (الْحِرْباءُ: حَيَوانٌ زاحِفٌ يَتَلَوَّنُ أَلْوانًا مُخْتَلِفَةً) — فَخَطِفْتُ الْمائِدَةَ وَأَخْفَيْتُها عَنْ أَعْيُنِهِمْ. فَتَبَدَّلَ سُرُورُهُمْ جَزَعًا وَرَجاؤُهُمْ يَأْسًا. وَامْتَلَأَتْ قُلُوبُهُمْ غَيْظًا مِنِّي، وَحَنَقًا عَلَيَّ؛ فَسَلُّوا سُيُوفَهُمْ مِنْ أَغْمادِها (أَخْرَجُوها مِنْ جِراباتِها) مُحاوِلِينَ أَنْ يَفْتِكُوا بِي، فَسَخِرْتُ مِنْهُمْ قائِلًا: «اخْسَئُوا — أَيُّها الْأَثَمَةُ — وَتَوارَوْا خِزْيًا، أَيُّها الْغادِرُونَ! أَلا تَذْكُرُونَ تِلْكُمُ الْمُؤامَرَةُ الَّتِي دَبَّرْتُمُوها ضِدَّ سَيِّدِكُمْ «بُرُسْبِيرُو» النَّبِيلِ: أَمِيرِ «مِيلانَ»؟ أَنَسِيتُمْ أَنَّكُمْ أَسْلَمْتُمُوهُ — مَعَ طِفْلَتِهِ الْبَرِيئَةِ — إِلَى الْبَحْرِ لِيَمُوتا غَرِيقَيْنِ، وَهُما لَمْ يَقْتَرِفا إِثْمًا، وَلَمْ يَرْتَكِبا ذَنْبًا؟ اذْكُرُوا أَنَّ لِكُلِّ جُرْمٍ عِقابًا، وَأَنَّ ساعَةَ الْقِصاصِ (أَخْذِ الْحَقِّ) قَدْ دَنَتْ (قَرُبَتْ). فَإِذا شِئْتُمُ النَّجاةَ مِنَ الْهَلاكِ الَّذِي يَتَهَدَّدُكُمْ، فاسْتَغْفِرُوا لِذُنُوبِكُمْ وَتُوبُوا مِنْ خَطِيئاتِكُمْ، وَعاهِدُوا اللهَ علَى أَلَّا تَعُودُوا — بَعْدَ الْيَوْمِ — إِلَى الْغَدْرِ وَالْخِيانَةِ وَمُقابَلَةِ الْإِحْسانِ بِالْإِساءَةِ».
فَسَأَلَهُ «بُرُسْبِيرُو»: «هَلْ نَدِمُوا عَلَى ما فَعَلُوا، أَيُّها الرَّفِيقُ الْأَمِينُ؟»
فَقالَ لَهُ «آرْيِلُ»: «نَدِمُوا كُلَّ النَّدَمِ. فَقَدْ بَلَغَ بِهِمُ الْيَأْسُ وَتَأْنِيبُ الضَّمِيرِ (تَوْبِيخُهُ) كُلَّ مَبْلَغٍ، وَبَرَّحَ بِهِمُ الْأَلَمُ كُلَّ مُبَرَّحٍ، حَتَّى تَمَلَّكَهُمُ الذُّهُولُ وَالْحَيْرَةُ، لِشِدَّةِ ما اعْتَراهُمْ مِنَ الْفَزَعِ، وَالْحُزْنِ وَالْجَزَعِ».
فَقالَ لَهُ «بُرُسْبِيرُو»: «إِنَّ النَّدَمَ دَلِيلُ الْإِخْلاصِ. وَقَدْ صَفَحْتُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، بَعْدَ أَنْ صَفَتْ نُفُوسُهُمْ. فَأَحْضِرْهُمْ إِلَيَّ — يا عَزِيزِي «آرْيِلُ» — فَقَدِ اشْتَدَّ شَوْقِي إِلَى رُؤْيَةِ شَقِيقِي «أَنْطُنْيُو» وَأَصْدِقائِي الَّذِينَ مَعَهُ. أَسْرِعْ — يا «آرْيِلُ» — فَحَسْبُهُمْ ما لَقُوا مِنْ عَنَتٍ وَشِدَّةٍ (مَشَقَّةٍ وَتَضْيِيقٍ) وَإِرْهاقٍ، وَتَكْلِيفٍ بِما لا يُطاقُ».