الفصل الثاني
(١) في قصر «جُنْريلَ»
هَدأَتْ ثائرةُ الْمَلِكِ «لِير»، بَعْدَ أَنْ أَقْصَى (أَبْعَدَ) بِنتَه الْمخلِصَة الوفيَّةَ «كُرْدِلْيا» عَنْ مَملكَتهِ، وَهُوَ يَحْسَبُها مِثالَ الْعُقُوقِ (عَدَمِ الْقِيامِ بالْواجِبِ نَحْوَ أبِيها) والْغَدْرِ والكبرياءِ.
وذَهبَ الْمَلِكُ عَلَى الْفَوْرِ إلى قَصرِ بنتهِ «جُنْرِيلَ». ولٰكِنَّه ما عَتَّمَ (ما لبثَ) أنْ أَدْرَكَ حَقائِقَ الأشْياءِ الَّتي كانَ الرِّياءُ والنِّفاقُ يَسْتُرانِها عَنْ ناظِرَيْهِ، ويَحْجُبانِها عَنْ عَيْنَيْهِ. وَعرَف أنَّ الألْفاظَ المَعْسُولَة، والمَدائحَ المُنَمَّقَةَ (الْمُزَخْرَفَةَ) الزَّائِفَةَ، لا تُغْنِي عَنِ الْحقِّ شَيئًا.
لَقَدْ تَمَلَّكتِ الْبلادَ — بَعْدَ أبيها — وَظَفِرَتْ (فازَتْ) بِكلِّ ما مَنَحها إيَّاهُ منْ سُلطانٍ وقُوَّةٍ، واستَتَبَّ (اسْتَقَرَّ) لها الْمُلكُ؛ فكانَ أوَّلَ همِّها أنْ تَتَنكَّرَ (تتغيّر) لِمَنْ أَحْسنَ إليها، وتَجْزِيَه على صَنيعهِ الْمَشْكورِ أقبَحَ جَزاءٍ، وتكافِئَهُ إساءَةً بإِحسانٍ، وعُقُوقًا ببِرٍّ، وغَدْرًا بوفاءٍ.
(٢) خُبْثُ «جُنريلَ»
ورأَتْ «جُنْرِيلُ» أنَّ أباها قد أصْبحَ — بَعْدَ أيَّامٍ قَليلةٍ — مُمِلًّا ثقيلًا لا يُطاقُ، وٱسْتكْثرَتْ عَليهِ مائةَ الفارسِ الَّذِين ٱسْتَبقاهُم لِنفْسهِ، ليُرافِقوهُ في حَلِّهِ وتَرْحالهِ (في إقامَتِه وسَفَرهِ).
وأصْبحَتْ «جُنرِيلُ» تَلْقَى أباها — كُلَّما وقَعَ نظرُها عليه — بوجْهٍ عَبُوسٍ، وتَقِطبُ حاجبيْها (تَعْبِس) كُلَّما ناداها، ولا تُلَبِّي (لا تُجِيبُ) له رَجاءً، ولا تُنَفِّذُ له مَشِيئةً.
واقتدَى بِها خَدَمُها في مُعاملةِ هٰذا الشَّيخِ؛ فأصبحوا لا يُلَبُّونَ له أمرًا، ولا يُعامِلونهُ بغَيْرِ الإِهمالِ والِاحْتقارِ وقِلَّةِ الاكتراث.
(٣) وفاء الوَزير
أمَّا الوزيرُ الوفِيُّ «كَنْت»، الَّذي طَرَدهُ الشَّيخُ «لير» مُكافأَةً له على صِدْقِ وَفائه، وأَمَرَ بنَفْيهِ من مَدينَتهِ، فقد أبَى عَليهِ إِخلاصُهُ لمَلِيكه أن يتْرُكَهُ نهْبَ الْمَصائبِ والأحْداثِ (تَنْهَبُهُ وتَفْتَرِسُهُ)، ونُهْزَةَ الْخُطُوبِ والكوارِثِ (فُرْصَةً للبَلايا والنّكَباتِ). فلم يَخْرُجْ من الْمَدينةِ؛ ولٰكنَّهُ غَيّرَ مِن هَيْئته، وبدَّلَ من شكْلهِ، وتَزَيَّا بِزِيِّ الْخَدَم، ثم عادَ إلى مَليكهِ خادِمًا أَمينًا، يَرْعاهُ ويَحْرُسُه، ويَرْقُبُهُ عن كَثَبٍ (عَنْ قُرْبٍ).
ورَضِيَ الملكُ «لِير» بهٰذا ٱلخادم الْجديدِ، وهو لا يعرِفُهُ. ولم ينقَضِ عَلَى عوْدتِه إلى مليكِه يومٌ كاملٌ، حتّى رَأى خادمًا مِن خَدَمِ «جُنريلَ» يُجادِلُ المَلِكَ «لير»، ويَستهينُ به، لِيُرْضِيَ بذٰلك سَيِّدَتَه «جُنْريل».
فغَضِبَ الوزيرُ، ولم يَحتَمِلْ وقاحةَ ذٰلك الخادمِ الجرِيءِ، وثارَتْ ثائِرتُه (غَضِبَ) عَليهِ: فَصَفَعه (ضرَبَهُ) صَفْعَةً كادَتْ تُذْهِلُه (تُذْهِبُ عَقْلَهُ) وتُرْدِيه (تُهْلكُه)، جزاءً لهُ على سَفاهَتِه وتَطاوُلِهِ على سَيِّدِهِ. فابتَهج المَلكُ «لير» بِوفاءِ هٰذا الخادمِ الْجَدِيدِ وَإخْلاصِه، وهُوَ لا يَعْرفُ أنَّهُ وزِيرهُ النَّاصِحُ «كَنْت»، الَّذِي لم يأْلُ (لَمْ يُبْقِ) جُهْدًا في تَحْذيره عَواقبَ التَّسَرُّعِ والبَغْيِ.
(٤) «البُهْلُولُ»
ولَقدْ تَفرَّقَ أصْحابُ «لِير»، بَعْدَ أن زالَ عَنْهُ سُلْطانُهُ، ودالَتْ دَوْلتُه (انْقَلَبتْ رأْسًا عَلَى عَقِبٍ). ولَمْ يَبْقَ إلى جانِبهِ — بَعْدَ وزيرِهِ الأَمينِ — غيْرُ نَدِيمهِ الَّذِي كانَ يُلَقِّبُه مَرَّةً بالْبُهْلول؛ لِخِفّتهِ ودُعابَتهِ (ظَرفهِ وفُكاهته)، كما يُلَقِّبُه — مَرَّةً أُخْرَى — بالْمَجْنُونِ؛ لِما ٱعْتادَهُ مِن خَلْطِ الْجِدِّ بالْهَزْلِ والْمُجُونِ (عَدَمِ المُبالاةِ)، وإلْباسِ الْحقيقَةِ ثَوْبَ الْباطلِ.
وكانَ «الْبُهْلُولُ» يُحاوِلُ جاهدًا أنْ يُدْخِلَ السُّرُورَ والْبَهْجَةَ على نَفْسِ مَليكِه، وَيَتَفَنّنُ في تَسْلِيَتهِ بكُلِّ وسِيلةٍ.
(٥) ذَكاءُ «الْبُهْلولِ»
وكانَ «الْبُهْلُولُ» يُحاوِلُ أنْ يُبَصِّرَ «لِيرَ» بعاقِبَةِ ما فَعل. وقدْ أدْرَكَ — بِثاقِبِ بَصَرِهِ (بِنَظَرِه النّافِذِ) — ما تُدبِّرُه «جُنرِيلُ» لِأَبيها مِن الْمَكايدِ، وعَرَف أنَّها توَدُّ جاهِدَةً أَنْ تَتَخَلَّص منهُ.
وقدْ عَلِمَ «البُهلُولُ» أَنَّ «جُنْريلَ» لَنْ تَغْفِرَ لِأَبيها وخادِمهِ ما لَقِيَهُ منْهما خادِمُها، وهي الَّتي أَوْعَزَتْ (أشارَتْ) إليهِ — كما أسْلَفْنا — بِأَنْ يَعْصِيَ أَمْرَ أبيها، ولا يُلَبِّيَ له طَلبًا.
(٦) قِصَّةُ العُصْفورِ والغُراب
فدَخَلَ «البُهْلولُ» يُغَنِّي مُداعِبًا (مُمازحًا) سَيِّدَهُ، مُتَوَخِّيًا (قاصِدًا) أنْ يُنْذِرَهُ بالْكارِثةِ قُبَيْلَ وُقُوعِها؛ حتَّى لا يُفاجَأَ بها، وكان يُلَمِّحُ له بِما يُرِيدُ، ويقُول: «أخْبَرَتْنا القِصَصُ الَّتي نقلَتْها إليْنا العُصُورُ الْماضِيَةُ: أَنَّ عُصْفورًا أَبْصَرَ غُرابًا وَليدًا في عُشِّهِ، يَكادُ يَهْلِكُ؛ فقَرَّبَ منهُ ما يَبْعَثُ في جِسْمهِ الدِّفْءَ، وَسَقاهُ ما يَشْفيهِ. فلَمَّا نَشِطَ الغُرابُ الصَّغيرُ، وتقَدَّمَتْ به الأَيَّامُ، وَبَلَغ مَبْلَغ الشَّبابِ، دَفَعَتْهُ نَفْسُهُ الشِّرِّيرَةُ إِلى أنْ يَقْتُلَ العُصْفورَ الَّذِي قَدَّمَ لهُ فَضْلًا، وأسْدَى إليْهِ جَمِيلًا؛ وذٰلكَ سُوءُ الْجَزاء.»
ثُمَّ يُنْشِدُ:
فَصَيّحَ «لِيرُ» مُتعَجِّبًا: «وماذا تَعْنِي بهٰذهِ القِصّةِ، يا بُهْلُول؟»
فَأَجابهُ ضاحِكًا:
فصَرَخَ «لِيرُ» يتوَعَّدُهُ بالْوَيْلِ (الْعذابِ والْهلاكِ)، إذا تَمادَى في دُعابَتهِ (مُزاحهِ). فقال «البُهْلولُ» ضاحِكًا: «أُعْطيكَ — إن كَذَّبْتنِي — طُرْطُورِي!»
(٧) حاشيَة الْمَلِك
وما أسْرَعَ ما تَحَقّقتْ فِراسةُ «الْبُهلول»؛ فإنَّ «جُنْرِيلَ»: تلكَ الْبِنْتَ الْخَبيثةَ الْعاقَّةَ (الّتي لَمْ تُراعِ حَقَّ الأُبُوَّةِ)، لَم تَشَأْ أن تَتْرُكَ أباها يَقْضِي بَقِيّةَ حَياتهِ وادِعًا هانئًا مُسْتَريحَ الْقَلْبِ، وأَبَى عليْها خُبْثُها ولُؤْمُ طَبْعها إلّا أن تُنَغِّصَ عليْهِ عَيْشَهُ، وتُكَدِّرَ عليهِ صَفْوَ حَياتهِ. وَقدِ اسْتَدْعَتْهُ إِليْها بعْدَ أيَّامٍ قليلةٍ، ثُم قالتْ له: «لَقد مَلَأَتْ حاشِيتُكَ — لِكَثْرَةِ عَدَدها — قَصْرِي، وأَصْبَحْتُ لا أُطيقُ جَلبَتَهُمْ وضَوْضاءَهُم (أصْواتَهُمُ الْعاليةَ) بعدَ هٰذا الْيَوْمِ. وأَراكَ جَديرًا أَنْ تَتخيّرَ نُخْبَةً (خُلاصةً) قليلةً — على نَصِّ سِنِّكَ (في مِثْلِ عُمْرِكَ) — لِمُرافقَتِكَ، إنْ شِئْتَ.»
(٨) دَعْوَةُ «ليرَ»
فغَضِبَ المَلِكُ «لِير» مِمَّا قالَتْهُ بِنْتُه، وقالَ لَها: «إنَّ حاشِيَتِي جَميعًا مِن خِيرَةِ النّاسِ أدَبًا ومَعرِفةً، وليْسَ في ٱسْتطاعةِ أحدٍ أن يَتَّهِمَهُمْ بِمثْلِ هٰذهِ التُّهمَةِ الكاذِبةِ.»
ثمَّ أمرَ الملكُ باسْتِدْعاءِ جِيادِه (خَيْلِه) وإسْراجِها، مُعْتَزِمًا أنْ يُغادِرَ بِنْتَهُ على الفَوْرِ، والْتَفَتَ إليها عابِسًا، وقال: «لَمْ يَبْقَ في مَقْدُوري أن أصْبِرَ على هٰذا التَّجَنِّي (ادِّعاءِ التُّهَم)، يا «جُنْرِيلُ». وإنِّي لأَحْمَدُ اللهَ على أنْ رَزَقَنِي بِنْتًا أُخْرَى غَيْرَكِ، تُكْرِمُ وِفادتي (قُدُومي عليْها)، وتَقْدُرُ أُبُوَّتِي لَها، وتعْرِفُ من حقِّي عليْها ما أنكَرْتِهِ أنْتِ، أَيَّتُها الْعاقَّةُ الْجاحِدةُ.»
ثُمَّ دعَا عَلَى بِنْتِه «جُنْرِيلَ» أن يُصِيبَها اللهُ بِالْعُقْمِ؛ فلا تَلِدَ مَدَى حَياتِها، أوْ يرزُقَها بشَرِّ الأبناءِ؛ لِيَجْزِيَها مِثْلَ هٰذا الْجَزاءِ الْغادِرِ، وأن تمُوتَ شَرّ مِيتَةٍ.
(٩) دُعابة «البُهْلولِ»
وخَشِيَ «الْبُهْلولُ» أن يَطْغَى الْحُزْنُ عَلَى قَلْبِ «لِيرَ» فَيُهلكَه؛ فَجَرَى — عَلَى عادتِه — في مُداعَبتهِ (مُمازَحَتِه)، وَراح يُغَنِّيهِ مُنْشِدًا:
فقالَ: «وماذا أصْنَعُ بِطُرْطُورِكَ، يا «بُهْلولُ»؟ ضَعْهُما مَعًا نُصْبَ عيْنِكَ (أمامَها)!»
فَأَجابهُ ضاحكًا: «إنَّ بنتَيْكَ لا تُعْطِيانِكَ شيئًا لَوْ طَلَبْتَهُ. وما أحَقَّكَ بأن تُرَوِّيَ خَدَّيْكَ (تَبُلَّهُما) بدَمْعَتيْن، جَزاءَ خَطَئِكَ في نُزُولِكَ لهُما عَن الْمُلْكِ.» ثُمَّ أنْشدَهُ:
فقالَ لهُ «لِيرُ»: «ما أصْدَقَ ما تَقولُ، أيُّها الْمَجْنونُ العاقِلُ! ولٰكنْ فاتَ وقْتُ النَّدَمِ، وَليْسَ لنا منْ حيلَةٍ في رَدِّ ما فاتَ. عَلَى أنَّ بِنْتِيَ الثَّانِيةَ طيِّبةُ الْقَلْبِ، ولَنْ تَدّخِرَ (لَنْ تُبْقِيَ) وُسْعًا في إِسْعادي، وتوْفيرِ جالِباتِ الْبَهْجَةِ (أسبابِ السُّرُورِ) لي. وسَتُرِيكَ الأيَّامُ صِدْقَ ما أقولُ.»
(١٠) عندَ «ريجان»
واعْتَزَمَ الْمَلكُ «لِير» أن يَقْضِيَ بقيَّةَ عُمُرِه في قَصْرِ بِنْتِه الثانِيَة «رِيجان»؛ فَبَعَثَ إليها رَسولَه الوَزِير «كَنْت»، بِكتابٍ يُنْبِئُها (يُخْبرُها) فيه بما اعْتزمَهُ وقَرَّرَهُ، وَيعِدُها بالذَّهابِ إليها بعد وقتٍ قليلٍ.
وَلم يَكَدِ الوزيرُ «كَنْت» يَبْلُغُ قصرَ «رِيجانَ»، ويُفْضِي إليها (يُخْبِرُها) بما لَقيَهُ أبوها الشَّيْخُ «لِير» مِن عُقوقٍ (إنْكارٍ لِحَقِّهِ)، حتَّى جاءَ رَسولٌ من أُخْتها «جُنْرِيلَ»، وَأَسْلَمَها كِتابَها الَّذي بَعثتْ بِهِ إليها، تُوصِيها بأَبيها شرًّا، وتُوغِرُ صَدرَها (تُثِيرُ غَضَبها) عليه، وتُدبِّرُ لها خُطَّةً خَبيثةً لِلخلاص منهُ ومن أتْباعِه وحاشِيَته.
(١١) حَبْسُ الوَزِيرِ
وما أَتَمَّتْ «رِيجانُ» كِتابَ أُخْتِها قِراءَةً حتَّى أَغْلَظَتِ القَوْلَ لِرَسُولِ أبيها. فلَمَّا حاوَلَ أن يُذَكِّرَها بما لِأَبيها عليها مِن فُروضٍ وحُقوقٍ، ثارَتْ في وَجْهِه مُغْضَبَةً، وَأَمرَتْ بحَبْسِهِ في سِجْنٍ مُظلِمٍ، جزاءً له عَلَى جُرْأَتِه.
(١٢) مَقْدَمُ «لير»
وَبَعْدَ قلِيلٍ من الزَّمَنِ قَدِمَ عَليها الشَّيْخُ «لِير». وما عَلِمَ أنَّ رَسولَهُ قد سُجِن، وَأَنَّ بِنتَهُ «رِيجانَ» هِيَ الَّتِي أمَرَتْ بِحَبْسِهِ، حَتَّى زادَ هِياجُهُ، واشْتَدَّ غَضَبُهُ عَليْها.
فقالَتْ لَهُ «ريجانُ»: «خفِّفْ مِنْ سُخْطِكَ — أيُّها الْوالِدُ الشَّيْخُ — فَما أظُنُّ أنَّ أُخْتي قد أخرَجَتْكَ مِن قَصْرِها إلّا بَعدَ أنْ نَفِدَ صَبْرُها مِنْ لَجاجَةِ أتْباعِكَ (تَخاصُمِهِمْ) وصَخَبِهمْ (صَيْحاتِهم)، وضاقَ ذَرْعُها (ضَجِرَتْ) بِما اقْتَرَفُوهُ (ارتكبُوهُ) مِنْ شُرُورٍ وآثامٍ. وهِيَ— بِلا شَكٍّ — في سَعَةٍ مِن العُذْرِ، لِأَنَّ قُصُورَ الْملُوك جَديرَةٌ أنْ تُنَزَّهَ (تُبَرَّأَ وتُخلَّصَ) من عَبَثِ الْعابِثين، وَلَهْوِ الْهاذِرِين (السَّاخِرين في القَوْلِ).»
(١٣) حُقُوقُ الوالِدَيْن
لَمْ يَسْتَطِعْ «لير» أنْ يُصَدِّقَ ما سَمِعتْهُ أُذُناهُ مِنْ بِنتِهِ الثَّانيَةِ، بَعْدَ ما رَآهُ مِنْ عُقوقِ بِنتِهِ الْأُولَى؛ فَخُيِّلَ إِليْهِ أنَّه حالِمٌ، وكادَ يُغْمَى عليْهِ من فَرْطِ الأسَى والْحُزْنِ. ولٰكِنَّهُ لَمْ يَرَ في الجَزَعِ (شِدَّةِ الْحُزْنِ) فائدةً؛ فاعْتَصَمَ بالصَّبر (لَجَأَ إِلَيْهِ) — ما وَسِعَه حِلْمُهُ — وقال لِبِنْتِهِ، وهُوَ يُغالِبُ الدَّمْعَ جاهِدًا: «ما أَظُنُّ أنَّكِ — مَهْما عَقَقْتِ أَباكِ — بالغَةٌ بعضَ ما بَلَغَتْهُ أُختُكِ من جُحودٍ وَعقُوقٍ!
وَإِنِّي لإِخالُ أَنكِ أَقْرَبُ إِلى البِرِّ بِأَبيكِ، وَأَدْنَى إِلى الوَفاءِ والْحُنُوِّ عليه، والإشْفاقِ عَلَى شَيْخُوختِه. فحاذِرِي أَن تَنْهَجِي نهْجَ «جُنْرِيلَ» (تَتَّبِعي طَرِيقَها)، فَتُخيِّبِي تَأْميلَ أَبيكِ، وَتَمْلَئِي قَلبَهُ يَأْسًا؛ بَعْدَ أَنْ وَهَبَ إِلَيْكِ أثْمَنَ ما يَمْلِكُ، وَلَمْ يَضَنَّ (لَمْ يَبْخَلْ) عليكِ بأَعَزِّ ما لَديْهِ من مُلْكٍ وَجاهٍ وَمالٍ.»
(١٤) مَقْدَمُ «جُنرِيلَ»
وَما أَتَمَّ قَوْلَه، حَتَّى قَدِمَتْ بِنتُه «جُنرِيلُ»؛ فانْضَمَّتْ إِلَى أُخْتِها «رِيجانَ»، وَظَلَّتْ تُوغِرُ صدرَها عَلَى أَبيها الشَّيخِ؛ حتَّى قَسا عَليه قَلبُها مرَّةً أُخرَى، وسارَتْ مَعَها في الْعقوقِ إِلى أَبْعَدِ مَدًى.
فقالتْ «رِيجانُ»: «لقَدِ اسْتَكثرَتْ عَليْكَ أُختِي أَنْ تكونَ حاشِيَتُكَ مُؤلَّفَةً من خمسينَ فارِسًا. أمَّا أنا، فأَسْتكثِرُ عليكَ نِصْفَ هٰذا الْعَدَدِ، وأَرَى أن خمسةً وعِشْرِينَ فارِسًا كَثِيرٌ عَليْكَ. وَما أَدْرِي: ما حاجَةُ مِثْلِكَ — أَيُّها الشَّيْخُ — إلى مِثلِ هٰذا الْعَدَدِ منَ الْحُرَّاسِ وَالْجُنْدِ؟ بَلْ ما حاجَتُكَ إِلى عَشَرَةِ فُرْسانٍ؟ بَلْ إِنِّي لَأَسْتَكْثِرُ علَيْكَ خَمْسَةً! صَدِّقْنِي إِنَّكَ لَنْ تَحْتاجَ إلى فارِسٍ واحِدٍ، فَكَيْفَ بِجَمْعٍ مِنَ الْفُرْسانِ؟ إنَّ خَدَمِي لَيُؤَدُّونَ لكَ — أَيُّها الشَّيْخُ — كلَّ ما تُرِيدُ؛ فَما انتِفاعُ مِثلِك بالحاشِيَةِ؟»
(١٥) غَضْبَةُ الشَّيْخِ
وَثَمَّ (هُنا) أَدْرَكَ الشَّيْخُ «لِير» أَنَّ ابنَتَهُ الثانِيَةَ لَيْسَتْ أَبَرَّ بِهِ مِنَ الأُولَى؛ فاشْتَدَّ عَلى بِنْتَيْهِ سُخْطُهُ، ودعا عَلَيْهِما جميعًا أنْ تَلْقيا الْجَزاءَ الْعادِلَ، وَأَنْذَرَهُما بِسُوءِ الْمَصِيرِ.
وَلا تَسَلْ عَمَّا اسْتَوْلَى عَلى قَلْبِهِ مِنَ الْيَأْسِ، بَعْدَ ما تَبَيَّنَ منْ غَدْرِ بِنْتَيْهِ ما لَمْ يَكُنْ لِيَخْطُرَ لهُ عَلى بالٍ؛ فَصاحَ مُتأَلِّمًا مَحْزُونًا: «أَخْرِجا مَعي رَسُولي وَبُهْلُولي، وَلَنْ تَرَيانِي بَعْدَ الْيَوْمِ!»