الفصل الثالث
(١) هُبوبُ العاصفَة
كانَتِ اللَّيْلَةُ عاصِفَةً، قارِسَةً (شَدِيدَةَ الْبَرْدِ). وَقَدْ أدْرَكَ الشَّيْخُ «لِير» أنَّ بِنْتَيْهِ الْغادِرَتيْنِ قَدْ أسْلَمَتاهُ إلى تِلْك الزَّوابِعِ الثَّائِرَةِ، وَالأعاصِيرِ الْهائِجَةِ، دُونَ أنْ تَأْخُذَهُما فيهِ رَحْمَةٌ؛ فَأَسْلَمَ لِجَوادِهِ الْعِنانَ، وقَدْ كادَ الْيَأْسُ يُذْهِلُهُ، وَبَدا عَليْهِ الْخَبالُ (اخْتِلاطُ الْعَقْلِ)؛ فَلَمْ يُبالِ الزَّمْهَرِيرَ (بُلُوغَ الْبَرْدِ أقْصاهُ)، وَلَمْ يُشْفِقْ عَلى شَيْخُوخَتِه الْمُهَدَّمَةِ، مُؤْثِرًا (مُخْتارًا) أنْ يُهْلِكَهُ الْبَرْدُ، على أنْ تُذِلَّهُ بِنْتاهُ.
وَظَلَّ يُلَوِّحُ بِذِراعَيْه في الْفَضاءِ كَأَنَّما يَتَوَعَّدُهُما، وَيُمِيلُ رأْسَهُ إلى الْخَلْفِ، وَيَصِيحُ مُغْضَبًا حانِقًا، حَتَّى لَيَحْسَبُ مَنْ يراهُ أَنَّ بهِ مَسًّا منَ الْجُنُونِ. وَلَمْ يَبْقَ مَعَ الشَّيْخ «لير» — في مِحْنَتِهِ — غيْرُ صاحِبَيْهِ الْمُخْلِصَيْنِ: «كَنْت» و«الْبُهْلُول».
(٢) الأعاصيرُ والرُّعودُ
وَٱشْتَدَّتِ الزَّوْبَعَةُ عُنْفًا، وَتَحَدَّرَ الْمطَرُ (سَقَطَ)، ثُمّ هَمَى (نَزَلَ بِكَثْرَةٍ) كأَنَّهُ السَّيْلُ الْجارِفُ، وَجَلْجَلَتِ الرُّعُودُ الْقاصِفَةُ، وَدَوَّتِ الرِّياحُ الْعاتِيَةُ (الْعَنِيفَةُ)، وَخُيِّلَ إلى النَّاسِ أنَّ الْبَراكينَ انْفَجَرَتْ، وَأنَّ الْكَواكِبَ انتَثَرَتْ (تساقَطَتْ)، وأنّ الْجَحِيمَ سُعِّرَتْ (الْتهَبَتْ) وَبدا ذٰلكَ الشّيْخُ الْهِمُّ (الْهَرِمُ)، وَقَدْ قَفَّ شَعَرُهُ (وَقَفَ)، وَتَقَوّسَ ظَهْرُهُ، وَانْحَنَتْ قامَتُهُ ٱلْمَدِيدَةُ، بَعْدَ أنْ أَلحَّتْ عليْهِ جالِباتُ الدَّمارِ (مُسَبِّباتُ الْهَلاكِ)، وَعَصَفَتْ بهِ عاصِفاتُ الأقْدارِ.
(٣) نَشِيدُ العاصِفَةِ
وَكانَ الشَّيْخُ «لِير» يَصْرُخُ مُتَحدِّيًا هٰذِهِ الْقُوَى الْعاتِيَةَ الْمُتَأَلِّبَةَ (الْمُتَجَمِّعَةَ) عليهِ، مُصَيِّحًا صَيْحاتٍ مُفَزِّعَةً هائلَةً، وَهُوَ يقُولُ: «هُبِّي أيَّتُها الرِّياحُ الْقاسِيَةُ الْعَنِيفَةُ، الَّتِي تُهْلِكُ الْمَدائِنَ، وَتُفْسِدُ الأرَضِينَ: الْمُنْبَسِطةَ مِنْها، والْمَمْلُوءَةَ أحْجارًا ورِمالًا، والَّتِي لا زَرْعَ فيها ولا نباتَ. ثم أَنْزِلي مَطَرَكِ، يُغَطِّي الْأَبْنِيَةَ الْعاليَةَ، وَيُغْرِقُ الْأَراضِيَ الْمَزْرُوعَةَ.» ثم يُنْشِدُ مُتَوَعِّدًا:
وتَشْتدُّ الْعاصِفةُ هُبوبًا، وَيَزْأَرُ الرَّعْدُ مُجَلجِلًا قاصِفًا، ويَبْرُقُ الْبَرْقُ، يكادُ سَناهُ (ضَوْءُهُ) يَخْطَفُ الأبصارَ، ويُوهِمُ من يَراهُ أنَّ الكُرَةَ الأرْضيّةَ تَهْتَزُّ مِنْ أقْطارِها (جَوانِبِها)، وأنَّ الدُّنيا قد زُلزِلَتْ زِلْزالَها. فَيَشْتدُّ صِياحُ الشَّيخ، وَهُوَ يقول: «دَوِّي — أيَّتُها الرِّيحُ — وَعَوِّي، وَدَمِّرِي بَيْتَيَّ وَبِنْتَيَّ، عَنَيْتُ (قَصَدْتُ) الذَّئْبَتَيْنِ. ثُمّ ٱنْثَنِي (عُودِي) إليّ، فأمْطِرِيني جاحِمَكِ الْعَتِيَّ (نارَكِ الْمُوقَدَةَ)، كِفاءَ خَيْبَتَيَّ (عَلَى قَدْرِهِما)، في ظَنِّيَ الْحَسَنِ بِهِما.» ثمَّ أنشد:
•••
ثُمَّ تُعاوِدُه الذِّكْرَياتُ الْمُؤْلِمَة، وتتَردَّدُ في سَمْعهِ كلماتُ بِنْتَيْهِ الَّتي كانَتا تُملِّقانِهِ بها — لِتَسْتَوْليا عَلَى مُلْكهِ — ويُقابِلُ بيْنَها وبينَ ما رآهُ منْ غَدْرهما بِهِ، واسْتِهانتهِما بِخَطَرِهِ (قَدْرِهِ وقِيمَتِهِ)؛ فيسْتَأْنِفُ صِياحَه مُفزَّعًا، وَيقول مُوَلْوِلًا مُرَوَّعًا: «لَقَدْ خَدَعَنِي ما نَمَّقَتْ (ما زَيَّنَتْ) بِنْتايَ مِنَ ٱلْكلامِ، وَقَدْ دَهانِي ما دَهاني (أصابَنِي ما أصابَنِي)، جزاءَ ما صَنَعْتُ في الانْخداع بِهما. فٰيأَيَّتُها الرِّياحُ: اشْتَدِّي حتَّى تَنْسِفِي (تُدَمِّرِي) الشَّامِخاتِ (الْجِبالَ الْعالِيَةَ).» ثُمَّ أَنْشَدَ:
(٤) آلامُ الشَّيْخ
وَهٰكذا قَضَى الشَّيْخُ لَيْلَةً مُروَّعةً، وهُو هائمٌ على وَجْههِ، كأَنَّهُ نِصْفُ مَجْنُونٍ، مِمَّا لحِقهُ مِنَ الآلامِ الْمُبَرِّحَةِ (الْمُضْنِيَةِ)، والْأَحْداثِ الهائلَةِ.
وَلقدْ بَذَلَ وَزِيرُهُ الْمُخْلِصُ «كَنْت» كُلَّ ما فِي وُسْعهِ، لِلتَرْفيه (للتَّخفيف) عنْ مليكهِ، وتَهْوِينِ مُصابهِ عَلَيْه، ما وَسِعَتْهُ حِيلَتُهُ. وافْتَنَّ «البُهلولُ» في ضربِ الأَمْثالِ؛ لِيُذْهِلَهُ عن نَكْبَتِه، وَيُنقذَهُ مِن هَوْلِ الْجُنونِ الَّذِي أوْشَك أن يَحُلَّ بِهِ، كما توسَّلَ إليهِ أنْ يَقْبَلَ رَجاءهُ، فَيأْوِيَ معهُ إلى خُصٍّ (بَيْتٍ مِنَ الشَّجَرِ) قَرِيبٍ، حتَّى تنتهِيَ تِلْكَ الْعَواصِفُ الهُوجُ (الثَّائِرةُ).
وما زالَ بهِ حتى أطاعَهُ، وسارَ معَهُ مُيَمِّمًا (قاصدًا) ذٰلِكَ الْكُوخَ، وَهُوَ يُناجِي نَفْسَه مَحْزونًا: «أفِي هٰذِهِ اللَّيْلَةِ تطرُدُني بنتايَ؟ أفِي هٰذِهِ اللَّيْلَةِ تُغَلَّقُ دُوني أَبوابُهُما؟ واهٍ مِنْكِ يا «رِيجانُ»، وتَبًّا (هَلاكا) لَكِ يا «جُنْريلُ»! أَهٰكذا تجْزِيانِ بالْجُحودِ أباكما الشَّفيقَ، الَّذي وهَبَكما كلَّ ما ملَك؟ إنَّ عاصِفَةَ الْجَوِّ — على قَسْوتِها — لَأَهْوَنُ مِن هٰذهِ العاصِفَةِ الَّتي أَثَرْتُماها في نَفْسِ أبيكُما، بِما أسْلَفْتُما (قَدَّمْتُما) إليه من جُحودٍ وعُقُوقٍ!»
ولمَّا دَنَوْا مِنَ الْخُصِّ، قالَ المَلكُ «لِير»: «إنَّ أحْقَرَ الأشْياءِ ليُصْبحُ عَظِيمَ القَدْرِ، جَلِيلَ الْخَطَرِ، مَتَى اشْتَدَّتْ إليْهِ الْحاجَةُ. فلا عَجَبَ إذا عَدَدْنا (قَدَّرْنا) الظَّفَر بهٰذا الْخُصِّ غُنْمًا كبيرًا، فِي هٰذه اللَّيْلَةِ الهائلَةِ!»
(٥) أُنشُودَةُ «البُهْلول»
واسْتَمعَ الْمَلِكُ «لِير» إلى صَوْتِ مُغَنٍّ يَقْتَرِبُ منهُ؛ فالْتفَتَ، فَإِذا بهِ «البُهلولُ»، يتظاهَرُ بالسُّرُورِ، وَيَتكلّفُ المَرَحَ (شِدَّةَ الفرح)، وَيلْتفِتُ إلى مَوْلاهُ مُنشِدًا:
فقالَ الشَّيْخُ مدْهوشًا: «نَعَمْ: لَقَدْ أَقْصَيْتُ (أَبْعَدْتُ) الْعَلِيمَ، وأَدْنَيْتُ (قَرَّبْتُ) اللَّئِيمَ. لَقَدْ أحْسَنْتَ التَّعبيرَ عمَّا كنْتُ أُفكِّرُ فيهِ الآن، وصدَقْتَ في إظْهارِ ما ناجَيْتُ بهِ نفسي (ما حَدَّثْتُها سِرًّا) في هٰذِهِ اللَّحْظَةِ. فما أبْرَعَكَ باكِيًا ومُغنِّيًا، وما أظْرفَكَ جادًّا وهازِلًا!»
فَقالَ «البُهْلُولُ»: «إِنَّنِي أَكثَرُ الناسِ حِفْظًا لِعَهْدِكَ، وَأَخْلَصُ الْأَصْدِقاءِ لَكَ. وَإِنِّي ذُو عَزْمٍ قَوِيٍّ، وَهِمَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَرَأْيٍ صائِبٍ. وَلَوْ تَرَكْتَنِي أَحْكُمُ وَأُبْرِمُ (أَجْعَلُ حُكْمِي نافِذًا)، لَقَسَمْتُ مُلْكَكَ قِسْمَةً عادِلَةً حَكِيمَةً.»
ثُمَّ اسْتَأْنَف «الْبُهْلُولُ» غِناءَهُ مُنْشِدًا:
(٦) شيْطان الغابة
وَلمَّا بلغَ الملِكُ وَرَفيقاهُ ذٰلِكَ الْخُصَّ، أَسْرَعَ «البُهلُولُ» إلى دُخولهِ لِيرْتادَهُ (ليَتَعَرَّفَهُ ويَخْتَبِرَهُ) لصاحِبَيْهِ. وما كادَ يَفْعَلُ حَتّى عادَ إليْهما مُسرعًا، وهوَ يقولُ: «حَذارِ أيُّها الرَّفيقانِ، فَقَدْ رأيتُ في ذٰلِكُما الْخُصِّ شَيطانًا مَرِيدًا (عَنِيدًا قاسيًا). وهوَ يَزْعُمُ أَنَّ اسْمَهُ «تُوم»، ويُلَقِّبُ نَفْسَهُ بالْمِسْكينِ. ولَقَدْ رَأَيْتُ عليهِ سِمَةَ الْخَبالِ (عَلامةَ الْجُنُونِ)؛ فهُوَ مَخْبولٌ إِنْ كانَ إنْسِيًّا (مِن النّاس)، وإذا صَدق حَدْسِي (تَخْميني)، وصَحَّ ظنِّي، فما هُوَ إلَّا شَيطانُ هٰذِهِ الغابة.»
فلما خَرجَ منَ الْخُصِّ ذٰلكَ الشَّيْطانُ المِسْكينُ، وَجَدُوهُ أشْعَثَ أغْبَر (مُتلَبِّدَ الشَّعَرِ، لَوْنُه كَلَوْنِ الغُبار)، عارِيَ الْجِسْمِ إلّا من أسْمالٍ باليَةٍ (أثْوابٍ مُهَلْهَلَةٍ قَدِيمَةٍ)، تَلُوحُ عَليْهِ أماراتُ الْبُؤْسِ. فصاحَ بهِ الْمَلِكُ «لِير»: «ماذا بِكَ، أيُّها الشَّقِيُّ المِسكينُ؟ هلْ طَرَدَتْكَ ابْنتاكَ من بيتِكَ، بَعْدَ أنْ أوْرَثْتَهما إيَّاه؟»
فأجابَ الرَّجُلُ مُتَبالِهًا، مُتَغابِيًا: «أنا: تُوم الْمِسْكينُ. فَهَلُمُّوا إلى بَيْتي، أيُّها الرِّفاقُ.»
(٧) الأمِيرُ الوَفِيُّ
وما اسْتَقَرَّ بهمُ الْمُقامُ، حتّى رَأوْا شَيْخًا يَجُوسُ خِلالَ الْغابةِ (يَمُرُّ فِي طُرُقاتِها)، وَفي يَدِهِ مِشْعَلٌ يُنيرُ له طَريقَهُ في الظَّلامِ الْحالِك.
وما تَبَيَّنَ الْوَزِيرُ «كَنْت» ذٰلكَ الشيْخَ الْقادِمَ، حتَّى عَرَفَ أنَّهُ الأميرُ «جُلُسْتَر». فَسَأله عنْ سبَبِ مَقْدَمِهِ في تِلْكَ اللَّيلَةِ الْهائِلَةِ.
فقالَ لهُ: «لَقَدْ طالَ بحْثِي عنِ الْمَلِكِ «لِير»؛ لآوِيَهُ (أُضِيفَهُ) في بيْتٍ قَرِيبٍ منْ قَصْرِي؛ حتَّى لا يهْتَدِيَ إليهِ أعْداؤُهُ الَّذِينَ يتربَّصُونَ بهِ (يَنْتَظِرُونَ لَهُ الشَّرَّ). وَإنِّي ليَحْزُنُنِي ما أَراهُ عليهِ من أماراتِ الْخَبالِ (عَلاماتِ ضعْفِ ٱلْعَقْلِ).»
فقالَ له «كنْت»: «لَقد أصْبَحَ الشَّيخُ أقرَبَ إنْسانٍ إلى الْجُنونِ.»
فقالَ الأمِيرُ: «إنّ نِصْفَ ما حَلَّ بهِ مِنَ الأحْداثِ (الْمَصائبِ) لَيُسْلِمُ الْعاقِلَ إِلى ٱلْجُنُون.»
(٨) فِي بَيْتِ الأمِيرِ
وَبَعْدَ حِوارٍ (حَديثٍ) طَويلٍ، ذهَبَ الْجَميعُ إلى ٱلْبَيْتِ الرِّيفيِّ ٱلَّذي أعدَّهُ الأميرُ لِسُكْناهُمْ قَريبًا مِنْ قَصرِه. ثمّ ترَكهمْ مُستأذِنًا عَلَى أَنْ يعودَ إليهمْ بعدَ قَليلٍ. وجَلس «لِير» مَعَ أصحابهِ، وقدْ عاد إليهِ خَبالُهُ وَهَذَيانُهُ؛ فتمثَّلَ نفسَه قاضِيًا يُحاكِمُ بِنتَيْهِ، وَيَجْزِيهما بِما أسْلَفَتاهُ (قَدَّمَتاهُ) إليهِ مِنْ إساءَةٍ وَعُقوقٍ.
وما زالَ يَهْذِي حتَّى خارَتْ قُواهُ، وَزايَلَهُ رُشْدُهُ (فارَقَهُ هُداهُ)، وأسْلَمَهُ الضَّنَى (سُوءُ ٱلْحالِ) والضَّعْفُ إلى نَوْمٍ عَمِيقٍ.