الفصل الرابع
(١) الْأَمِيرُ «جُلُسْتَر»
أَيُّها القارِئُ ٱلْعزيزُ: لا شَكَّ في أنَّكَ تُحِبُّ أنْ تَعرِفَ مَنْ هو الأميرُ «جُلسْتَر» الَّذي عُنِيَ (اهْتَمَّ) بالمَلِكِ «لِير»، وبذَل له كلَّ ما في قُدرتِه مِن رِعايَةٍ وإكرام. وإنِّي لَمُحَدِّثُكَ ببعضِ حديثهِ ٱلْمُحزنِ؛ لتتَعرَّفَ مكانَهُ من شُخُوصِ هٰذه القِصَّةِ الْخالدةِ.
كان الأميرُ «جُلسْتَر» شديدَ الوَفاءِ لمَليكهِ «لير». وقد حَزِن لِما أصابه من نكَباتٍ وأحْداثٍ، وبكَى لِعَثْرَتِهِ (لِسَقْطَتِهِ). ولم يكنْ يَعدِلُهُ (يُساوِيهِ) — في إِخلاصهِ وَوَفائهِ له — غيرُ «كنت»: الوزيرِ، و«كُرْدِلْيا»: صُغْرَى بناتِ المَلكِ «لير».
(٢) وَلدا الْأَميرِ
وكان لِهٰذا الأميرِ الْمُخلِص الوَفِيِّ ولَدانِ، اسْمُ أحَدهما: «إِدْجار» واسْمُ الثاني: «إِدْمُنْد». فأمَّا الأوَّلُ فكانَ مثالَ الوَفاءِ، وأمَّا أخوهُ فكان مثالَ العُقُوقِ. ولم يَكنِ الثَّاني — عَلَى الحقيقةِ — وَلَدَ الأَمير «جلُسْتَر»؛ ولٰكِنَّهُ كانَ مُنْتَسِبًا إليه؛ لِأَنهُ تَبَنَّاهُ (اتَّخَذَهُ ابْنًا) — مُنْذُ نَشاءَتِه — وجَعلهُ صِنْوًا (أخًا) لِابنهِ «إدْجار»، وبذَلَ له كلَّ ما يَمْلِكُ من رِعايةٍ وتهذيبٍ.
فلما كبِرَ «إِدْمُندُ» نَسِيَ كلَّ ما حَباهُ به الأميرُ «جلُسْتَر» (ما أعطاهُ إيَّاهُ)، ولم يكنْ له غَرَضٌ يَسعَى إلى تَحْقيقهِ، غيرُ الوِشايةِ (السَّعيِ بالسُّوء) بأخيهِ، وإيغارِ صَدْرِ أبيهِ (إِشْعالِهِ غَيْظًا) عَلَيْهِ؛ لِيسْتَأْثِرَ وحْدَهُ بِكلِّ شيْءٍ.
(٣) فِرارُ «إدْجارَ»
ودَبَّرَ ذٰلك الولدُ الغادرُ: «إدْمُنْد» مُؤَامَرَةً خَسِيسةً لإِقصاءِ صاحبهِ (إبعادِهِ) عن أبيهِ؛ فأَوْهَمَ الْأَميرَ أنَّ ولَدَهُ «إدجار» يَأْتَمِرُ بهِ (يُشاوِرُ نَفْسَهُ فِيهِ)، ليقْتُلَهُ طَمعًا فِي ثَرْوتِهِ العظيمةِ، ومَنصِبهِ الْخَطير. وما زالَ يُغْرِيهِ (يُطْمِعُهُ) ويُؤَلِّبُهُ (يُثيرُهُ)، حَتّى أَقنعهُ بِصِدقِ ما افتراهُ (ما اخْتَلَقَهُ)، بَعْدَ أَن قَرأَ عليه كِتابًا زوَّرَهُ وعزاهُ (نَسَبهُ) إلَى أَخيه. وقد أفلحَتْ مُؤَامرتُهُ — بَعْدَ قليلٍ — فَهرَبَ أخُوه «إدجار»، فِرارًا من سُخْطِ أبيه الّذي توعّده بالقتل، دونَ أن يعرفَ لِغضبهِ سببًا.
ومُنذُ ذٰلِكَ اليومِ، تَزَيَّا «إدجارُ» بِزِيِّ الفقراءِ، وتظاهَر بالْبَلَهِ والْجُنُون، وغيَّرَ من هَيْئَته، وأطلقَ على نَفْسِهِ اسمَ: «توم الْمِسكين»، ٱلَّذي قال عَنْهُ «ٱلْبُهلُولُ»: «إِنّه شَيْطانُ الغابةِ.» كما ذَكَرتُهُ لك، فيما قَصَصْتُهُ عليك من أنباءِ الفصلِ السّابِقِ.
(٤) مُستَشارُ المَمْلكَة
كان «إدْمُنْد» شَدِيدَ الطُّمُوحِ (عَظِيمَ الرّغْبَةِ في الْعُلُوِّ)، وكان يجْمَعُ — إلى دهائِه (مَكْرِه) وذَكائه — من خُبْثِ الطّبعِ ولؤْمِ النفسِ: ما لا يَخْطُرُ لِإِنْسانٍ عَلَى بالٍ. وقد ابتَهَجَ لنَجاحِه في مؤامرتِه الْخَسيسةِ الّتي دبّرها لِإِقصاءِ أخيه، وأَغراهُ (زَيَّنَ لَهُ) ذٰلك الفوزُ بِمُضاعفةِ هِمّتهِ، لتحقيقِ غايتهِ البعيدةِ؛ وهي ارتقاءُ العرشِ والظّفَرُ (الْفَوْزُ) بالْمُلكِ. وقد استولتْ هٰذه الغايةُ عليه وتَمَلّكتْ تَفكيرَه، وامتزَجتْ بِدَمِهِ، وهَيمنتْ (تَغَلّبَتْ) على نَفْسِه؛ فأصبح لا يُبالي ٱقترافَ الشُّنَعِ والآثام (ارْتِكابَ الْقبائحِ والْجَرَائمِ)، في سَبِيلِ بُلُوغِ أُمْنِيّتِهِ.
ولم يَلْبَثْ أن أَصْبَحَ مُسْتَشارَ الْمَملكةِ كلِّها، ومَوْضِعَ ثِقَةِ الأُختيْنِ جميعًا. وَثَمّ بدأ يُوغِرُ صدرَ «جُنْريل» و«ريجان» على أبيهما. وما زالَ يَرْسُمُ لهما الْخُطّةَ لِلخَلاصِ منهُ، ويُزيِّنُ لهما ذٰلك، حتّى أقْصَتاه عنهما، وَخَلا الْجَوُّ لذٰلك المُسْتَشارِ الْماكِر الخبيثِ.
(٥) الجاسُوسُ
وَلَمْ يَقِفْ لُؤْمُ طَوِيّتهِ (خُبْثُ نِيّته) عنْدَ هٰذا الحدِّ؛ فراحَ ينقُلُ إلى بِنْتَيْ «لِيرَ» أخْبارَ الأميرِ «جُلُسْتَر»، الّذي تَبَنّاهُ وتَعَهَّدَهُ منذُ نَشاءَتِهِ، وربّاهُ في حداثتِهِ. ولم يَخْطُرْ ببالِ الأميرِ أنَّ «إدْمُنْدَ» — أقرَبَ النَّاسِ إليهِ، وألْصَقَهم بهِ — يَتَجَسسُ أخبارَه، ويُحْصِي (يَعُدُّ) عليه أعمالَهُ، ليبلِّغَها أعداءَهُ.
وَقَدْ عَرَفَ «إدْمُنْدُ» — من مُحادثةِ الأميرِ — أنه يَعْتزِمُ العَوْدةَ إلَى الْمَلِكِ «لير»؛ ليُبَصِّرَ رفيقَه «كَنت» بما يتهَدَّدُ مَلِيكَهُ من أخْطارٍ، ويُوصِيَهُ بالذَّهابِ إلى «دُوفَرَ»، حيثُ تُقِيمُ «كُرْدِلْيا»: صُغرَى بناتِ «لير»؛ ليُفْضِيَ إلَيْها (لِيُخْبِرَها) بِما لَقِيَهُ أَبُوها، وبِما لا يزالُ يَلْقاهُ، مِنْ أحداثٍ وخُطُوبٍ.
(٦) نصيحةُ الأمير
ولَمّا خَرَجَ الأميرُ «جُلُسْتَر» من قَصرِهِ، عائدًا إلى «الدَّسْكَرَةِ» (القرْيَةِ) التي أوْدَعَ فيها «ليرَ» وَأصْحابَهُ، أفْضَى إليهمْ بما يُساورُهُ مِن قَلَقٍ عَلَى حَياةِ الملكِ. وألحَّ عَلَى الشّيخِ «لير» في أنْ يُسافرَ إِلى «دُوفر»؛ حيثُ يَلْقَى — من رِعايةِ بِنْتِه الْبارَّةِ «كُردِلْيا» وعنايتها — ما هو خَليقٌ (جَدِيرٌ) بهِ، وزَوَّدَهُ بما يَحْتاجُ إِليه منَ الْمالِ. وَقَدْ أدْرَكَ الْوَزِيرُ «كَنْتُ» ما يتهَدَّدُ «لِيرَ» مِنَ الأخْطارِ؛ فأسرَعَ إِلى تنفيذِ ما أوْصاهُ بهِ الأميرُ «جلُستر» قبلَ فَواتِ الفُرصةِ.
(٧) نَكْبَةُ الأَمير
وما عادَ الأميرُ «جُلُسْتَر» إلى قَصْرِهِ، حتَّى قَبَضَتْ عليه «رِيجانُ» وزوجُها و«جُنريلُ» أُخْتُها، بعد أن عَرَفوا من «إِدْمُنْدَ» الْخَبيثِ، كلَّ ما أَسْداهُ (قدَّمَه) الأميرُ إلى الْمَلِكِ «لير» مِنْ صَنِيعٍ مَشْكُورٍ.
واشْتَدَّ غَضبُهمْ عَلَى الأمير الْكرِيمِ؛ فأوْثَقُوا كِتافَه، وصَفَّدُوه (وضَعُوهُ في القُيُودِ والأَغْلالِ). وتَمادَوْا في الإساءَةِ والتنكيلِ بهِ (تعْذيبِه) وَشَتْمِه، ثمَّ نَتَفُوا شَعَراتٍ من لِحْيَتِهِ. فَلمَّا غضِب وثار لكرامتِه، وذكّرَهُمْ بما هوَ أهْلٌ لَهُ منَ الرِّعايَةِ، زادَتْ نِقْمَتُهم عليه. فتقَدَّمَ إليهِ زَوْجُ «رِيجانَ»، وأخرَجَ عينيه: واحِدَةً بَعْدَ أُخرَى؛ فَصرَخَ الْأَميرُ مُغَوِّثًا (مُسْتَغِيثًا)، بَعْد أن عَمِيَتْ عَيناهُ. فَتحمَّس لنُصْرَته أحدُ خَدمِه، وطَعَنَ الجانِيَ الأثِيمَ طَعْنةً قاتِلَةً، انتصارًا لِمَوْلاهُ، وانتِقامًا لهُ مِمَّنْ أعماهُ. وقدْ لَقِيَ حَتْفَه (ماتَ) ذٰلك الخادِمُ الشَّهْمُ في سبيلِ الواجبِ النّبِيل.
أمّا الأميرُ «جُلُسْتَر»، فقد ألْقَوْا بهِ خارجَ الْقَصْرِ، دُون أنْ تُدْرِكَهم شَفقةٌ بهِ، ولا رحمةٌ عليهِ.
(٨) الزَّارعُ والأمير
ويَمْشِي الأميرُ خُطواتٍ قليلةً على غَير هُدًى، فيَلْقاهُ شيخٌ في الثَّمانينَ منْ عُمُرهِ؛ فيسأَلُهُ الشَّيخُ مَحْزونًا عمَّا حلَّ به منَ الأَحْداثِ. فيرْجُوهُ الأميرُ أن يبتَعِدَ عنهُ حَتَّى لا يُصيبَهُ منْ أجْلهِ سُوءٌ، فيقولُ له الشَّيخُ: «أحْبِبْ بكلِّ ما ألْقاهُ مِنْ أذًى وضُرٍّ في سبيلِك؛ فقدْ نَشَأْتُ في نِعْمَتِكَ، وعِشْتُ من غَلَّةِ الأرضِ الَّتي اسْتَأْجَرْتُها منك ومنْ أبيكَ. ولنْ أترُكَكَ وَحيدًا، بعدَ أن فقدْت نُورَ عَينيكَ، وعَجَزْتَ عن تَعَرُّفِ الطَّرِيقِ.»
فقالَ لهُ «جلُسْتَر»: «لقدْ تعثَّرْتُ في طريقي حينَ كنْتُ أُبصِرُ، وأخْطَأْتُ في الْحُكم عَلَى ما رَأَيتُ، ولَمْ تَعْصِمْنِي (لَمْ تَحْفَظْنِي) عيْنايَ مِنَ الْخَطَإِ. فلعلِّي أعُودُ إلى الصَّوابِ وأنا أعْمَى، فلا أتسرَّعَ في الْحُكم عَلَى ما يُحِيطُ بي من الأشْياءِ.»
(٩) الأميرُ والْمَجْنونُ
ولَقِيَهُما في طريقهما «تُوم الْمِسْكينُ»، وهُو يتظاهَرُ بالْجُنونِ كعادتِهِ. ولعلّكَ الآنَ قد عَرَفْتَهُ، بعدَ أنْ أَسْلَفْتُ لكَ القوْلَ: إنَّه «إدجارُ» ولَدُ الأمير، الَّذِي وَشَى به أَخُوهُ «إدْمُنْد».
ورَأَى الوَلَدُ البَرُّ الْوَفِيُّ ما أصابَ والدَهُ منَ النَّكَباتِ؛ ففاضَ قلبُهُ لَوْعَةً (حُرْقَةً) وحُزنًا. ولٰكِنَّهُ آثَرَ (فَضَّل) التجَلُّدَ والصَّبْرَ؛ حتَّى لا يَفْطُنَ أبوهُ إلى حقيقةِ أَمْرِه فتنكَشِفَ حيلتُه.
وقدْ ألحَّ الأميرُ عَلَى الشَّيخِ الزَّارعِ أن يُسْلمَهُ إلى ذٰلكَ الْمِسكينِ. فقال له الشَّيْخُ: «وكيف أُسْلِمُكَ إلى مَجْنونٍ؟»
فأَجابهُ الأميرُ: «لقدْ أَصْبَحَ مَنْ كُنَّا نَحْسَبُهُم عُقَلاءَ، خادِعينَ مُضَلِّلينَ في هٰذهِ الأَيَّامِ السُّودِ. ولعلّي أَجِدُ في هَدْيِ (فِي رَأْيِ) من نَحْسَبُهُمْ مَجانِينَ: خَيْرًا مِما وَجَدْتُهُ في هَدْيِ أُولٰئِكَ الْمُتَظاهِرين بالتَّعَقُّلِ والْحِكْمَةِ. فإِذا شِئْتَ أن تُسْدِيَ إِلَيَّ جَميلًا (تَصْنَعَ مَعِي مَعروفًا)، فأَحْضِرْ ثِيابًا لِتكْسُوَ بها ذٰلِكَ الْعارِيَ الْمِسكينَ.»
فقالَ له الزَّارِعُ: «سأُحْضِرُ لهُ خَيرَ ما عِندي منَ الثِّيابِ.»
(١٠) حِوارُ الأَميرِ ووَلَدِه
وسارَ الأَميرُ معَ ولَدِه «إدْجارَ»، الَّذي كانَ لا يَزالُ يَتظاهَرُ أَمامَ أبيهِ بأَنَّهُ مَجْنونٌ، حتَّى لا يَفْطُنَ إلى حَقيقَتِه.
وسأَلهُ الأَميرُ: «أتَعْرِفُ الطريقَ — يا فَتَى — إلى «دُوفر»؟»
فقالَ لهُ: «أعْرِفُ كلَّ خافِيَةٍ منْ خَوافِيها، ولا أَجْهلُ شَيئًا مِن مَعالِمها ومَجاهِلها.»
فقالَ لهُ: «بِرَبِّكَ: سِرْ مَعي حتَّى تَبْلُغَ بيَ الصَّخْرَةَ الْعاليةَ الَّتي تُشرِفُ (تُطِلُّ) عَلَى البَحْرِ من قِمَّةِ الْجَبلِ؛ لِأُلْقِيَ بنفسِي مِنْ ذٰلكَ العُلُوِّ الشَّاهِقِ؛ فَأَخْلُصَ ممَّا أُكابِدُهُ منَ الآلامِ الْمُبَرِّحةِ (الْمُوجِعَةِ). وخُذْ هٰذا الكيسَ بما فيه منْ مالٍ، مُكافأَةً لكَ على ذٰلكَ.»
فتظاهرَ ولدُهُ بِطاعتِه، وما زالَ يَمشِي معهُ حتَّى بَلَغَ بهِ صَخْرَةً قليلةَ الارْتفاعِ في سفحِ الجَبل. فقالَ لهُ: «ما أبْعدَ هٰذهِ القِمَّةَ الشَّاهِقَةَ عنْ سَطحِ الْبَحْرِ! إنِّي لَأَرَى أحدَ الصَّيَّادينَ وهوَ واقفٌ على الشَّاطِئِ؛ فَيُخَيَّلُ إلَيَّ — منْ فَرْطِ العُلُوِّ — أنَّهُ فَأْرَةٌ صَغيرةٌ، وأرَى الْمَراكِبَ الكَبيرَةَ؛ فلا أكادُ أتبيّنُ رَسْمَها، لفَرْطِ ضَآلَتها (شِدَّةِ صِغَرِها)، وحَقارةِ أحْجامِها، هَلُمّ — يا سَيِّدي — فاقْفِزْ كما تُرِيدُ!»
ولَقدْ خُيِّلَ إلى الأَميرِ أنَّ مُحَدِّثَه صادِقٌ فيما يقُولُ؛ فقفَز مِنَ الصَّخْرةِ إلى سَفحِ الجبلِ، دونَ أنْ يُصيبَهُ سُوءٌ.
وأقْبَلَ ولدُه «إدْجارُ»، وقدْ غيَّرَ مِنْ صَوْتِه، مُتظاهِرًا بِأَنَّهُ شَخْصٌ آخَرُ؛ فقال لهُ: «كَيف هوَيْتَ — يا عَمِّ — من ذٰلكَ الارْتفاعِ الشَّاهقِ، دونَ أنْ يُدَقَّ عُنُقُكَ (تَنكَسِرَ رَقَبَتُكَ)، وتُسْحَقَ عِظامُكَ؟»
فَعَجِبَ الْأَميرُ ممّا سَمِعَ، وقالَ له: «مِنْ أيِّ ٱرْتفاعٍ هوَيْتُ (سَقَطتُ)؟» فأَجابهُ «إدْجارُ» مُتَظاهِرًا بالدَّهْشةِ والْعَجَبِ: «أَلَا تعرِفُ مَدَى الْهُوَّةِ السَّحيقَةِ (مقْدارَ الْحُفرةِ العميقَةِ) الَّتي تَرَدَّيْتَ (سَقَطت) فيها؟ لَقدْ رَأيْتُك — مُنذُ لحْظةٍ يَسِيرةٍ — وأنتَ في عالِيَةِ هٰذا الْجَبلِ الشَّاهِق، ومَعك مَخلوقٌ عَجيبٌ، تَبدُو عيناهُ كأَنَّهُما — لشدَّةِ اتّساعِهِما — قَمَرانِ مُسْتَديرانِ، وقدْ خُيِّلَ إلَيَّ أنَّ لهُ ألْفَ وَجْهٍ. وما أَشُكُّ في أنَّهُ شَيْطانٌ مَرِيدٌ (خَبيثٌ). فلْتَهْنَأْ بِنَجاتِك منهُ، ولْتَفْرَحْ بما ظَفِرْتَ به مِن السَّلامة؛ فما أشُكُّ في أنَّ العنايةَ الإِلٰهيَّةِ تَصْحَبُك وتَحْرُسُكَ.»
(١١) في الْحُقُولِ
وإنَّهما لَيسيرانِ في الْحُقُولِ، إذْ لَقِيَهُما الْملكُ «ليرُ»، وقدْ عَقَدَ علَى رَأْسهِ تاجًا مِن الأَزْهارِ الْبَرِّيَّةِ. فلمَّا حَيَّاهُ «إدْجارُ»، أَنشأَ «لِير» يَهْذِي ويُجَمْجِمُ أَلْفاظًا لا مَعْنَى لَها. فَعَرَفَه الأَمِيرُ «جُلسْتر» — حينَ سَمِع صَوْتَه — وسَأَلهُ قائلًا: «تُرَى مَنْ أَرَى؟ أَلَسْتَ الْمَلكَ «لِير»؟»
فأَجابه: «إنَّ كلَّ جارِحَةٍ مِنْ جَوارِحي (كلَّ عُضْوٍ مِن أعْضائي)، وكُلَّ شَعَرَةٍ مِنْ شَعَراتِ جِسْمي، لَتَنْطِقُ صارِخةً مُحَدِّثةً: أنَّنِي الْملِكُ «لِير». أمّا أنتَ، فما أَظُنُّكَ إِلّا بِنْتِي «جُنْرِيلَ»، برغْمِ هٰذِهِ اللِّحْيَةِ الْبَيْضَاءِ.»
ثُمَّ ٱسْتَوْلَى الْخَبالُ والْهَذَيانُ عليهِ مرَّةً أُخْرَى، فَحَزِنَ الأَميرُ لِما حَدَثَ، وهانَ عَليهِ ما حَلَّ بهِ مِن أحْداثٍ وخُطوبٍ، بعْدَ أن رأَى ما بلَغهُ الْملكُ «لير» من سُوءِ الْمَآلِ (الْعاقِبَةِ).
(١٢) عَوْدَةُ الْمُخْلِصَة
هَدأَتِ الْعَواصفُ الثّائِرَةُ، وسكَنَتِ الرُّعودُ الْمُدَوِّيةُ، وتقَشَّعَت (زالَت) السُّحُبُ الْمُتلبِّدةُ، وَظهَرتِ السَّماءُ صافيةً بعْدَ أنْ حَجبتْها الْغُيومُ. وعادَتِ الْبِنْتُ الوفِيَّةُ «كُرْدِلْيا» في جيشِها الْعظِيمِ، لتُنقِذَ أباها ممّا يُعانيهِ مِن الأهْوالِ والكوارثِ. وكانتْ قدْ علِمَتْ مِن الْوَزيرِ الْمُخْلِصِ: «كَنْت»، ما عاناهُ الشَّيخُ «لِير» من الْخُطوبِ والْمِحَنِ. فأَخبَرَتْ زَوْجَها: مَلِكَ «فرنسا» بتلكَ الْقِصّةِ الْمُفَزِّعَةِ؛ فلمْ يَتَرَدّدْ في إعْدادِ جيْشٍ كبيرٍ، لتأْدِيبِ أُخْتَيْها الْغادِرَتيْنِ، والتَّنكيلِ بِهما (جَعْلهِما نَكالًا وعِبْرَةً)؛ جَزاءَ ما أسْلَفتاهُ إلى أبيهما «لِير»، مِن إساءَةٍ وجُحودٍ.
وما كان أسرعَ «كُرْدِلْيا»: صُغْرَى الْبناتِ، وأوْفاهُنَّ عَهْدًا، وأكرمَهُنَّ نفسًا، إِلى نَجْدةِ أبيها. فقدْ غادرَتْ «دوفَر» — مِن فَوْرِها — وما زالَتْ تَجِدُّ في سَيْرِها، حَتَّى وصلَتْ إِلى أبيها، وهي أشوَقُ ما تكونُ إِلى لقائهِ، ولَثْمِ يَدَيْهِ (تَقْبِيلِهِما)، وٱلِاعتذارِ له مِمَّا كابَدَه (قاساهُ) مِن عُقوقِ بنتَيْهِ، وما لَقِيَهُ عَلى أيْدِيهِما من إِذلالٍ وهَوانٍ.
(١٣) نَصِيحة الطَّبيب
وما وَصَلَتْ إليه، حتَّى وَجَدَتْهُ مُستغرقًا في سُباتٍ (نَوْمٍ) عميقٍ. فقالَ لها الطَّبيبُ: «أَتأْمُرِينَ — يا مَوْلاتِي — أن أُنبِّهَهُ؟»
فقالت له: «ليس لِي أَنْ آمُرَ بما ليسَ لِي بهِ عِلمٌ. فافعلْ ما يُوحِيه إِليك طِبُّكَ، ونفِّذْ ما تُشيرُ به عليْكَ خِبرَتُكَ وتَجارِبُك.»
فقالَ الطَّبيبُ: «أَرَى أن نُوقِظَهُ على عَزْفِ الْمُوسيقَى، بعد أن نَكسُوَهُ حُلَّةً جديدةً (ثوْبًا لم يُلْبَسْ). ومتَى استيقَظَ على الْأَلْحانِ المُشْجِيَةِ (المُطْرِبَةِ)، كُنْتِ أوَّلَ مَنْ يراه؛ فلا يَلبثُ أن يعودَ إِليه رُشْدُهُ الَّذي أوْشكَ أن يُفارِقَه. وإنَّ في مُحادثَةِ جلالتِكِ إِيَّاه، لَدَواءً أَنجَعَ (أشْفَى) له من كلِّ دَواءٍ.»
(١٤) مُناجاةُ «كُرْدِلْيا»
فَقالتْ «كُرْدِلْيا»: «اصْنَعْ — لِشِفائِه — ما تَشاءُ، وابْذُلْ فِي سَبِيلِ ذٰلِكَ ما تَسْتَطِيعُ، بِلا إِبْطاءٍ.»
ولمَّا عَزَفَتِ الْمُوسيقَى، دَبَّتِ الْيَقَظَةُ فِي نَفْسِ الْمَلِكِ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى أفاقَ مِمَّا غَشِيَه (مِمَّا أصابهُ)، واسْتَيْقَظَ مِنْ سُباتِه العميق.
وكانَتْ «كرْدِلْيا» شدِيدَةَ اللّوْعَةِ لِما أصابَ والدَها الْكَريمَ مِنْ هَوْلِ تِلْكَ العاصِفَةِ الْهَوْجاءِ الَّتي أضْعفَتْ جسمَهُ، وأرْهَقَتْ (أتْعَبَتْ) أعْصابَهُ؛ فَوَقَفَتْ تَتأَمَّلُ وَجْهَهُ الْحَزينَ، وتُناجِيهِ مُلْتاعةً (مُتأَلِّمَةً)، وهِيَ تَقُولُ: «أهٰكذا تَجْزِيكَ بالْعُقُوقِ والْغَدْرِ بِنْتاكَ، جَزاءَ ما أسْلَفَتْ إلَيْهما بِالْخَيْرِ يَداك؟ أهٰكَذا تَبْلُغُ قَسْوَةُ الْقَلْبِ مِنْهُما أن تُسْلِماكَ إلَى الرِّيحِ الْعاتِيَةِ، والرُّعُودِ المُدَوِّيَةِ؟»
ثُمَّ أَنْعَمَتِ النَّظَرَ فِي وجْهِ الشَّيْخِ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ لَوْعَتُها وحُزْنُها، فَقالَتْ: «كيْفَ رَضِيَتا لِهٰذا الْوَجْهِ أنْ يَتَعرَّضَ لأهْوالِ الْعَواصِفِ الْهُوجِ، ولَيْس علَيهِ منْ غِطاءٍ يَقِيهِ غائِلَةَ الْبَرْدِ (شِدَّتَهُ) غَيْرُ تلْكَ الشَّعَراتِ المُبْيَضَّةِ الرَّقيقَةِ؟ شَدَّ ما كابَدْتَ — يا أَبَتِ — مِنَ الْهَوْلِ والضَّنَى (الْمَرضِ). وشَدَّ ما أسَأْتُما، أيَّتُها الشَّقِيقَتانِ!
أَمَا لوْ أنّ لِي عَدُوًّا لَدُودًا أغْرَى بإِيذائي كلبًا ضارِيًا حقُودًا، فَعَضَّني دُونَ أَنْ أُسْلِفَ إِليْهِ إساءَةً، ثُمَّ لَقِيتُ الْكلْبَ الشَّرِسَ فِي تلْكَ اللَّيْلَةِ اللَّيْلاءِ (الشَّديدةِ الظُّلْمَةِ)، وقَدْ نُبِذَ بالْعَراءِ (الأرْضِ الْخاليَةِ)؛ لآوَيْتُهُ فِي بَيْتِي وَأَدْفَأْتُهُ، مُتناسِيَةً كلَّ ما أسْلَفَ إليَّ مِنْ أذِيَّةٍ وَإِيلامٍ.
فَكَيْفَ بِمَنْ وَهَبَ لَكُما مُلْكَهُ الْعَظِيمَ، وتَفَنَّنَ في بِرِّكُما وَلَمْ يَدَّخِرْ أيَّ وسِيلَةٍ في سَبِيلِ إسْعادِكُما! أهٰكذا تَجْزِيانِه؟
أيْنَ أَلفاظُكُما الْعَذْبةُ الْخادِعَةُ، التي كُنْتُما تُمَلِّقانهِ بها يَوْمَ دَعاكُما لِاقْتِسامِ مُلْكِهِ؟
لَقَدْ تَمَثّلْتُ (تَخَيَّلْتُ) مِنْ فُنُونِ غَدْرِكُما صُورًا وألْوانًا لا تُحْصَى، وَلٰكِنَّ ما تكَشّفَ لي مِنْ ضُرُوبِ الْقَسْوَةِ وفُنُونِ الطّمَع — مِنْكُما — قَدْ فاقَ جَميعَ ما تَمثَّلْتُهُ، وَأرْبَى (زادَ) على كلِّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ خَيالِي، منْ أَفانينِ العُقوقِ والإِساءَةِ (أصنافهِما).»
(١٥) يَقَظَةُ الشّيْخِ
وأفاقَ الشّيْخُ «لِير» مِنْ سُباتهِ العميقِ، فَأَقبلَتْ عليهِ بِنتهُ الْوَفيّةُ «كُرْدليا» تُحَيِّيهِ قائلَةً: «كيفَ أصْبَحْتَ، يا صاحبَ الْجلالةِ؟»
فَبَدَتِ الدَّهْشةُ على وَجْههِ، وَلَمْ يَعْرِفْ: أفي حُلْمٍ هُوَ أمْ في يَقَظةٍ، ثمَّ قال متحيِّرًا: «لِماذا بعثتُمونِي مِنَ المَوْتِ؟ ولماذا أخرَجْتُمونِي من ظُلْمَةِ القَبْرِ، بعد أنْ أراحَني الموْتُ من كوارِثِ الزَّمَنِ ومصائبِ الْحياةِ؟»
ثم نظرَ إِلى «كُرْدِلْيا» مَذهولًا، وقالَ: «وَأنتَ أَيُّها الرُّوحُ المَلائِكِيُّ الْحَنُونُ، خَبِّرْنِي: مِنْ أيِّ مكانٍ مِنْ عُلْيا السّماواتِ نزَلْتَ؟ وكيفَ حَلَلْتَ هٰذا الواديَ؟ ولِأَيِّ غايةٍ جِئْتَ؟»
فقالتْ «كُرْدِلْيا»: «هَلْ عَرَفْتَني، يا مَوْلايَ؟»
فَأَجابها: «أنْتَ — بِلا شَكٍّ — أَكرَمُ رُوحٍ مَلائِكِيٍّ رَأيْتهُ فِي حَياتي. فَخَبِّرْني بِرَبِّكَ — أيُّها الرُّوحُ الطَّاهِرُ — في أيِّ وَقْتٍ حلّتْ بكَ الوفاةُ؟»
(١٦) حِوارُهُ مَعَ «كُرْدِلْيا»
فَلَمْ تَيْئَسْ «كُرْدِلْيا» مِنْ شِفائهِ، وَأَقْبَلَتْ عليهِ تُؤَسِّيهِ، وتُلاطفُهُ، وتَطْلُبُ إِليهِ أنْ يُهَدِّئَ مِنْ سَوْرَةِ نفسِه المَحْزُونةِ فقالَ مدهوشًا: «حَسْبُكَ أَيُّها الرُّوحُ الْملائِكيُّ، حَسْبُكَ (كَفاكَ)! فَما أَدري — مِمَّا يُحِيطُ بِي مِنْ هٰذِهِ الأشْياء — شيئًا، وما أَعْرِفُ أيَّ ثوْب هٰذا الّذِي أرْتديهِ؟ ولا أدرِي مَن الّذي أَلْبَسَنِيهِ؟ وَلوْ سأَلْتُمُوني — في هٰذه اللَّحْظَةِ — في أيِّ مكانٍ أنا؟ لَما عَرَفْتُ لِسؤَالِكُمْ جوابًا. صَدِّقْ — أيُّها الرُّوحُ الْكريمُ — أنّني لا أعرِفُ كيفَ قضَيْتُ يومَ أمسِ؟ ولا أَدري أَنائمٌ أنا، أَم يَقْظانُ؟ ثم لا أَدري أَحَيٌّ أَنا، أمْ مَيِّتٌ؟ وَلوْ طاوَعْتُ نفسي، وَأفْضيتُ بما أُضْمِرُهُ، لَحسِبتُموني مَخْبُولًا أو مَعْتُوهًا! إنني لأتَمثَّلُ في هٰذا الرُّوحِ الْملائِكِيِّ صورَةَ بِنْتِي الوفيَّةِ «كُرْدلْيا». فلا يَسْخَرَنَّ مِن هٰذا الوَهْمِ أحدٌ؛ فَإِنَّني أعتقِدُ أنَّني لا أَزالُ عَلَى قَيْدِ الحياةِ، كما أَعتقِد أَنَّ هٰذا الرُّوحَ الْماثِلَ أَمامِي هوَ «كرْدِلْيا» بِنْتي.»
فقالت «كُرْدِليا» باكيةً: «ما أَصدَقَ فِراسَتَكَ (إصابةَ ظَنِّكَ)، وَأَصَحَّ رَأْيَكَ، أَيُّها الوالدُ الكريم!»
فقال لها مُتَأَلِّمًا: «لِماذا تَبكِينَ، أَيَّتُها البارَّةُ الْمُحْسِنة؟ أَأَنتِ تَحْزَنينَ لِما أَصابني، بعدَ أَن أَسْلَفْتُ إِليكِ من الإساءَةِ ما أَسلفْتُ؟ أَكذٰلكِ تَجْزِينني إحسانًا بإساءَةٍ، عَلَى حِينِ قَدْ جَزَتْني أُخْتاكِ إِساءَةً بإِحسانٍ؟ أَمَا لَوْ أَنَّكِ أَنكرْتِنِي — كما أَنكَرَتْني أُختاكِ — لَكُنتِ في سَعَةٍ منَ العُذْرِ»
فقالتْ له: «بِرَبِّكَ لا تَسْتسلِمْ لِأَحْزانِكَ — يا أَبَتِ — فإِنَّ ذٰلك يَملأُ نفسِي هَمًّا ولَوْعَةً. هَلمَّ يا أَبَتِ، فلن تَرَى إِلَّا ما يَسُرُّكَ.»
(١٧) اعتِذارُ النَّادم
فقالَ لَها: «لقد أَسأْتُ إليكِ أَبْلَغَ إساءَةٍ، وما أَجْدَرَني أَن أَطلُبَ إلَيْكِ الصَّفْحَ والغُفرانَ (الْمُسامَحةَ والْمَغْفِرَةَ). فتجاوَزِي (اصْفَحِي) — أَيَّتُها الْكريمةُ — عمَّا قَدَّمَتْ يَدايَ.»
فقالت له: «إنَّني بِنْتُكَ المُؤْتَمِرَةُ بأمْرِكَ، الْمُلَبِّيَةُ لإشارَتِكَ، فلا يَحْزُنْكَ شيءٌ بعد الْيَوْمِ. أَمَّا أنا فلستُ إلَّا خادِمَةً وَفِيَّةً لكَ مَدَى الحياةِ.»
وَثَمَّ أدْرَكَ الملِكُ «لِير» — نَئِيشًا (بَعْدَ فَواتِ الوقْتِ) — مِقدارَ وَفاءِ بِنْتِهِ «كرْدِلْيا»، وَعَرَف مَدَى خَطَئِهِ حين صَدَّقَ ما كانتْ تُزَوِّرُه بنْتاهُ، مِنْ كاذِبِ اللَّفظِ، وخاتِل الثَّناءِ (خادِعِ الْمَدْحِ).