الفصل الخامس
(١) هزيمَة «كُردليا»
ما كان لِيدورُ بِخَلَدِ الْمَلك «لِير» — حين أصغى إلى تَمْليق بِنْتَيهِ الْخادِعتيْنِ، وعَقَّ نصيحةَ وزيرهِ المخلصِ «كَنْت» — أنَّ أحْداثَ الدَّهرِ ومصائبَهُ ستجتمعُ متواليةً، متأَلِّبةً عليه، للتنكيلِ به، مسرِفةً في معاقَبَتِه على خَطَئهِ؛ فلا تَلُوحُ بارِقةٌ (نُورٌ) من الأمَلِ، حتَّى يعقبَها ليلٌ داجٍ (شَديدُ السَّوادِ)، منَ الْيَأْس المُمِيتِ!
لَقَدِ الْتقَى الْجَيشانِ، وكان الأملُ معقودًا عَلَى نُصْرَةِ «كُرْدِلْيا»، وَهزيمَةِ جيشِ أُخْتَيْها الْغادِرَتَيْنِ، وانْدِحارِهِ (انكِسارِهِ) ولٰكنَّ سُوءَ حَظِّ الشَّيخِ «لِير» قَدْ خَيَّبَ هٰذا الأملَ الْباسِمَ الْمُشْرِقَ؛ فانهزَمَ جيشُ «كرْدليا» أشنعَ هزيمَةٍ، وانتصَر عليه جيشُ «جُنْرِيلَ» وَ«رِيجان»، وانتَهَتِ المَعْرَكةُ بِأسْرِ «كرْدِلْيا» وأبيها، وإيداعهِما السِّجنَ بعد أن غُلِبَ جيشُهما عَلى أمْرِهِ.
(٢) الْخُبثاءُ الثَّلاثة
تَمّ الْفَوْزُ لِلخبثاءِ الثَّلاثة، أَعْنِي: «جُنريل» وَ«ريجان» وَمستشارَهما «إِدْمُنْد»، الَّذِي قادَ الْجَيْشَ، وَأحْرزَ النصرَ؛ فكان ذٰلك الفوْزُ شرًّا — على أولٰئك الغادرينَ — من كلِّ هزيمةٍ. وستَرَى — أيُّها القارئُ العزيزُ — فيما بَقِيَ من حَوادثِ القصَّةِ المُحْزِنةِ وأنبائها الرَّاعِبَةِ (الْمُخِيفَةِ)، مِصْداقَ ما حدَّثتُك به (بُرْهانَ صِدْقِهِ)!
(٣) بين «ألبَاني» و«إدْمند»
لقد حَسِبَ «إدْمُنْدُ» — حِينَ تَمَّ له الفوْزُ في تِلكَ الْمعركةِ الحاسِمَةِ (القاطِعَةِ) — أنَّهُ قد أدرَكَ أَرَبَهُ (مَطْمَعهُ)، وَظَفِرَ بأُمْنِيَّتِهِ في ارتقاءِ عرْشِ المملكةِ، بعد أن خَلا الْجَوُّ من كلِّ مُنافِسٍ له في المُلكِ، ولم يبقَ أمامَهُ أحَدٌ يَخْشَى بأْسَه غيرُ الأميرِ «أَلْبانِي» زَوْجُ «جُنْرِيلَ».
وكان ذٰلِكَ الأميرُ طيِّبَ الْقلبِ؛ فلم يَرْضَ عن شَيْءٍ مِمَّا اقترَفهُ (ٱرْتَكَبهُ) الْخُبَثاءُ الثَّلاثَةُ من الأوْزارِ والآثامِ (الذُّنُوبِ والْجَرائِمِ).
وأَصرَّ الأميرُ «أَلْبانِي» عَلَى إطلاقِ سَراح «كُرْدِلْيا» وأبيها من إسارِهما، كما أصرَّ «إدْمُنْدُ» على حَبْسِهِما. ودارتْ مُناقشةٌ عنيفةٌ بينهما، وانتصرتِ الأُختانِ لِمُستشارِهما الْخَبِيثِ. وغَضِبَ الأميرُ «أَلْبانِي»؛ فَدَعاهُ لِلْمُبارَزةِ (الْمُضارَبةِ بالسَّيْفِ).
(٤) بَيْنَ «إِدْمُنْدَ» و«إدْجارَ»
وجاءَ — في هٰذهِ اللَّحظَةِ — «إدْجارُ»: ابنُ الأمِيرِ «جلُسْتَر»؛ فدَعا أخاهُ «إِدْمُنْد» إِلى نِزالِه (مُبارزتِه) قائِلًا: «هَلُمَّ أَيُّها القائدُ العَظِيمُ، فامْتَشِقْ حُسامَكَ (اشْهَرْ سَيْفَك)، واكتُبْ آخرَ صَفْحَةٍ في تاريخِ حَياتِكَ الممْلُوءَةِ بالشُّرورِ والأَرْجاسِ (الْخَطايا) والدَّنايا. هَلُمَّ فانتَقِمْ لِشَرَفِكَ مِمَّنْ يَرْمِيكَ بِكُلِّ مُخْزِيَةٍ، وَيَتَّهِمُكَ بكلِّ نَقِيصَةٍ. هَلُمَّ إِلَيَّ: فَرَوِّ (اسْقِ) رُمْحَكَ منْ دَمِي إِنِ اسْتَطعْتَ، لَعَلَّكَ تَغْسِلُ ما لَحِقَكَ منَ الإِهانَةِ الَّتي لَوَّثْتُ بها شَرَفَكَ الرَّفيعَ. فإنْ عَجَزْتَ عن ذٰلِكَ، فَلَنْ يُعْجِزَني قَتْلُكَ!»
فصاحَ فيهِ «إدمُنْدُ»: «إِنَّما جاءَ بكَ إِلَيَّ حَيْنُكَ (انْقِضاءُ أجَلِكَ). ولئن جَهِلْتُ مَن أنتَ، لقَدْ عَلِمْتُ أنَّكَ رجُلٌ ساقَتْهُ حَماقَتُهُ إلى الرَّدَى، وأسْلمَهُ أجَلُهُ إلى الْهَلاكِ. وإنَّ سَيْفِي هٰذا لَكَفيلٌ بتَأْديبِ أَمْثالِكَ، والتَّنْكيلِ بك، وجَعْلِكَ عِبْرَةً لِكُلِّ مَن يَعْتبِرُ.»
وَما أَتَمَّ وعِيدَهُ حتَّى بَدَأَ هُجُومَهُ عَلَى مُنازِلهِ (خَصْمهِ)، ودارَتْ رَحَى الْقِتالِ بيْنَهُما، وٱشْتدَّ صِراعُهُما، وسُرْعانَ ما عاجلَه «إدْجارُ» بطعْنَةٍ قاتلَةٍ؛ فَهوَى «إدْمُندُ» إلى الأَرْضِ مُجَدَّلًا (صَريعًا)، يَتَعَثَّرُ (يَتَخَبَّطُ) في دَمِهِ. وٱسْتَوْلَى الدَّهَشُ عَلَى الْحاضِرِينَ، وعَقَدَ الذُّهولُ أَلْسِنَتَهُم؛ فلَمْ يَدْرُوا ما يَفْعَلونَ.
(٥) مَصارِعُ الْخُبَثاءِ الثَّلاثَة
ولمَّا سَقَطَ «إدْمُنْدُ»، صاحَتْ «رِيجانُ» مُفَزَّعةً، تَتلوَّى مِن فَرْطِ الأَلَمِ، ثمَّ أُغْمِيَ عَليْها؛ فَوَقعَتْ — مِن فَوْرِها — جُثَّةً هامِدةً.
أَتَدْرِي — أيُّها القارِئُ العَزيزُ — بأَيِّ شَيْءٍ قُتِلَتْ «رِيجانُ»؟ بالسَّمِّ قَتلَتْها «جُنْرِيلُ»؛ لِتَسْتَأْثِرَ بالْمُلْكِ وَحْدَها! ولٰكِنَّ أمَلَها قدْ خابَ، حِينَ رَأتْ قُوَّةَ «إدْجارَ»، وانْتِصارَهُ عَلَى مُستَشارِها «إدمُنْد»، الَّذي ناطَتْ (عَلَّقَتْ) بهِ كلَّ آمالِها في التَّفَرُّدِ بِالْمُلكِ، والِاسْتِئْثارِ بِالسُّلْطانِ؛ فَعاجَلَتْ نَفْسَها بِطَعْنَةٍ قاتِلَةٍ، أَوْدَتْ بها (أهْلَكَتها)، وَمَضَتْ بِرُوحِها إِلى الْجَحِيم.
ورَأَى «إِدمُنْدُ» أن كلَّ ما بَناهُ — بالغدْرِ والعُقُوقِ والإساءَةِ إِلى أَقْرَبِ النَّاسِ وأَبَرِّهِم بهِ — قَدِ انهارَ (سَقَط) أمامَهُ في لَحْظَةٍ واحِدَةٍ؛ فَصاح مُسْتَعْطِفا قاتِلَهُ: «خَبِّرْني برَبِّكَ: مَنْ أَنْتَ؛ لِأَعْرِفَ اسْمَ مَنْ كُتِبَ عَلَى يدَيْهِ مَصْرَعي؟»
فَأجابَهُ «إِدْجارُ»: «أَنا ابنُ مَنْ كافأْتَ إِحْسانَهُ إلَيْكَ، وبِرَّه بكَ، وتَرْبيتَهُ إيَّاكَ، أقْبحَ مُكافأَةٍ. أَنا ابْنُ الْأَمِيرِ «جلُسْتر»، الَّذي تَبَنَّاكَ؛ فأَغْرَيْتَ بهِ أعْداءَهُ، وَمَكَّنْتَ لَهُمْ مِن التَّنْكيلِ بهِ؛ حَتَّى حَرَمُوهُ نُورَ عَيْنَيْهِ. وَقَدْ ماتَ — مُنْذُ دَقائِقَ — مِنْ هَوْلِ ما رَأَى مِن الْمَصائِبِ والْأَحْداثِ.»
(٦) تَوْبةُ الْهالِكِ
فصاحَ «إدْمُنْدُ» مُتفجِّعًا: «ما أصدقَ ما فاهَتْ بِه شَفَتَاكَ! لَقَدْ حَقَّ عَلَيَّ الشَّقاءُ، ولَقِيتُ ما أنا أهْلٌ لَهُ مِنَ التَّنكيلِ والْجَزاءِ، وَحاقَتْ عَلَيَّ اللَّعْنةُ إِلى الأَبَدِ. وَلٰكِنَّني أَتوَسَّلُ إِلَيْكَ ضارعًا أَنْ تُسْرِعَ بنجْدَةِ «لير» وَبِنتهِ «كُرْدِلْيا»؛ فقدْ أصْدَرْتُ أمْرِي بقتلهِما فِي سِجْنهِما خُلْسَةً (خُفْيةً)، قَبْل أَنْ أشْتَبِكَ معك في هٰذه الْمَعْركةِ الْقاضيةِ: لَعَلِّي أُكَفِّرُ — بِإنْقاذهما — عنْ شيْءٍ يسيرٍ مِمَّا اقْترَفْتُ من الْخَطايا والآثامِ الْمُوبِقة (الْمُهْلكة)! هلُمَّ فَأَنْقِذْهُما قبْلَ أَنْ يَحُلَّ بِهما الْهلاكُ.»
ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَأَسْلَمتْهُ جِراحُهُ إِلَى الرَّدَى (الْموت)؛ فَقَضَى مُشَيَّعًا (مُوَدَّعًا) باللَّعَناتِ، كَما شُيِّعَتْ «جُنْرِيلُ» و«رِيجان».
(٧) مَصْرَعُ «كُرْدِلْيا»
وَلَقَدْ بذَلَ ٱلْحاضِرونَ كُلَّ ما فِي مَقْدُورِهِمْ، فَأَسْرَعُوا لإِنقاذِ الْأَسِيرَيْنِ. وَلٰكِنَّ سُرْعَتَهُمْ لَمْ تُغْنِ شَيْئًا في إنْقاذِ «كُرْدِلْيا» الطَّاهِرَةِ الْقَلْبِ، الزَّكِيَّةِ النَّفْسِ؛ فَقَدْ نَفَذَ سَهْمُ الْقَضاءِ — وَلا مَرَدَّ لَهُ — ولَقِيَتْ حَتْفَها (هَلاكَها) مَصْلُوبَةً فِي السِّجْنِ، قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَها أَيْدِي الرُّحَماءِ المُنْقِذِين.
•••
وَاسْتَوْلَى الذُّعْرُ وَالْخَبالُ عَلَى الشَّيْخ «لِير»، حِينَ رَأى ما حَلَّ بِابْنَتِهِ الْوَفِيَّةِ، الَّتِي لَقِيَتْ حَتْفَها فِي سَبِيلِ نُصْرتِه؛ فحمَلَ جُثَّتَها بَيْنَ ذِراعَيْهِ، وَهُوَ يُصَيِّحُ مُغَوِّثًا، نادِبًا: «إلَيَّ، أَيُّها الْباكُونَ! إلَيَّ، أَيُّها الْمُعْوِلُونَ (الصَّائِحُون بِالْبُكاءِ)! إلَيَّ، أَيَّتُها الْحِجارَةُ والصُّخُورُ الَّتي سُمِّيَتْ أَناسِيَّ (بَنِي آدمَ)! إِليَّ، فامْزُجُوا بِدُمُوعِي دُمُوعَكم، وَصَيِّحُوا مَعِي كَما أُصَيِّحُ، وَأَعْوِلُوا نادِبينَ حَتَّى تَنْفَطِرَ (تَنْشَقَّ) السَّماءُ عَليْنا حُزْنًا وأَلَمًا! لَقَدْ ماتَتْ! أَلا تُصَدِّقُونَ؟ وَيْ! هَلَكتْ! أَمُكَذِّبِيَّ أَنتُمْ؟ أَنا لا أَجْهَلُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْميِّتِ وَالْحَيِّ! إنَّها لا تَنْبِسُ ببِنْتِ شَفَةٍ (لا تَلْفِظُ بِحَرْفٍ)! لَقَدْ هَمَدَتْ، فمَا تُحِسُّ شَيْئًا! هاتُوا مِرْآةً فَأَدْنُوها مِنْ فَمِها؛ فإنْ طَبَعَتْ عَلَيْها نَفَسًا مِنْ أَنْفاسِها، فَلا تَثِقُوا بي! آهِ لَوْ بَقيَتْ سَالِمَةً إلَى جَانِبي! إذَنْ غَفَرْتُ كلَّ ما حَلَّ بِي مِنْ أَحْداثٍ وَخُطُوبٍ! إِذَنْ أَنْسَتْنِيَ السَّعادَةُ — بِحَياتِها — كُلَّ ما غَمَرَنِي (ما شَمِلَنِي) مِنْ أَسْواءٍ (مصائِبَ) وأَحْزانٍ!»
(٨) لَوْعةُ الثَّاكِل
وَحاوَلَ خُلَصاؤُهُ وَأَصْفِياؤُهُ (أَصدقاؤُه المُخْلِصُونَ): «كَنْت» و«إدجار» و«أَلْبانِي» جَميعًا أَنْ يُهَوِّنُوا علَيهِ مِن مُصابِهِ وفَجِيعَتِهِ؛ فَصَيَّحَ فِيهِمْ مُعْوِلًا، وَقَدْ تَمَلَّكَهُ الذُّهُولُ: «لَقَدْ ماتَتْ، وَعَجَزْتُمْ عَنْ إِنْقاذِها جميعًا! فَما فائِدَةُ الْحَياةِ بَعْدَها؟ واحَسْرَتا عَلَى شَبابِها النَّاضِر! ما كانَ أَعْذَبَ صَوْتَها الرَّقِيقَ! وَما كانَ أَطيبَ قَلْبَها الشَّفيقَ! أَرَأَيتُمْ أَزْكى (أَطْهَرَ) مِنْها نَفْسًا، وأكْرَمَ خُلُقًا؟ فكَيْفَ امْتَدَّتْ إلَى عُنُقِكِ يَدُ الْجاني الْأَثِيمِ؛ فَأَقْدَمَ عَلَى صَلْبِكِ، دُونَ أَنْ تَأْخُذَهُ — في شَبابِكِ — رَحْمَةٌ؟ لَقَدْ صَرَعْتُ قاتِلَكِ بالسَّيْفِ، وما تَشَفَّيْتُ مِنْ غَيْظِي، وَلا بَرَدْتُ بِذٰلِكِ غَلِيلِي (لمْ أَشْفِ حَرارَةَ حُزْنِي وحِقْدِي)! يا لَهُمْ مِنْ أَثَمَةٍ طُغاةٍ (مُجْرِمينَ مُعْتَدِينَ)! لقَدْ خَنقُوا «البُهْلُولَ» في السِّجْنِ، وَأَهْلَكُوهُ جَزاءَ وفائِه لِي! الوَيلُ لِلْجانِينَ! والوَيلُ للسَّفَّاحينَ (الَّذِين أَسالُوا الدِّماءَ)! لقد تركوا الْجرْذانَ (الفِيران) وغيرَها من دَوابِّ الأرْضِ، دُونَ أَنْ يَنتَزِعُوا أَرْواحَها مِنْها، ولٰكِنَّهُمْ ضَنُّوا (بَخِلُوا) عَلَى «كُرْدِلْيا» الوفيَّةِ الْمُخْلِصَةِ بالْحَياةِ الَّتي تَنعَمُ بها الْخَيْلُ والكِلابُ!»
(٩) خاتِمَةُ «ليرَ»
وهٰكذا اسْتَسلَم الْمَلكُ «لير» الْحَزينُ الثَّاكِلُ (الَّذِي فَقَدَ ولَدَهُ) لآلامهِ. وما زالَ يَهْذِي حتَّى أَسْلَمَهُ هَذَيانُهُ إلَى الْجُنُونِ، واسْوَدَّتِ الدُّنيا في عَيْنَيْهِ، وغمرَتِ الأحزانُ قلبَهُ؛ فَأظْلَمَ ثمَّ أُغْمِيَ عليهِ.
وأَفاقَ لحظَةً قصيرةً، فالْتَفَتَ إلى وزيرهِ الْمُخْلصِ قائلًا: «كَنْت: لَقَدْ عرَفْتُكَ! «كُرْدِلْيا»: لَقَدْ فَقَدْتُكِ إلَى الأَبد!»
ثُمَّ أُغْمِيَ عليه ثانِيَةً، وأَسْلَمَتْهُ أَحْزانُهُ إلَى الرَّدَى … فمَاتَ!