حرفة القتل
كنتُ أعتبر باول ثرثارًا متردِّدًا لا يعرف كيف يقضي أيامه؛ فهو شخص يتربَّص بي ويُلازمني كَظِلِّي لأسباب لم أستطع يومًا سَبْر كُنهها. منذ فترة طويلة وهو يعمل في الصحيفة، لكنه لم يستقر في المدينة إلا منذ شهور قليلة. فيما بعدُ تَذكَّرْت بالتفصيل كيف ظهرَ في قسم التحرير عصرَ ذات يومٍ، كنتُ أعمل في أثنائه بالصحيفة أيضًا، ليقدم نفسه، ولم يكن أحد يعرف كيف يدير معه حديثًا، ولهذا انصرف مسرعًا. بعد ثلاثة أيام بادرني بالحديث في المقهى الذي أتناول فيه فطوري في «أوتنسن»، ولمدة أسبوع أو أسبوعين كان الفزع يصيبني كلَّما ألقيتُ نظرة عَبْر النافذة واكتشفت وجوده — يبدو أنه زبون دائم — فأواصل السير وأتناول قهوتي في مكان آخَر، أو كنتُ أعود بعد نصف أو ثلاثة أرباع ساعة، آملًا أن يكون صبره قد نفد. ولكن هذا الأمل — كما أدركتُ سريعًا — كان سرابًا. كان يجلس دائمًا في المكان نفسه، مصوبًا بصره على الباب، في المنفضة سيجارة يتركها بعد أن يشعلها تتحول إلى رماد من دون أن يسحب منها نفَسًا واحدًا. وعندما تَخلَّيتُ في النهاية عن لعبة التَّخفِّي التي وَجدْتها طفولية، سلَّم عليَّ كإنسان يعرفه منذ فترة طويلة، ثم أشار إلى كرسي بجانبه.
كان يكتب لقسم السَّفر والرحلات ريبورتاجات ويبيعها لصحف أخرى أيضًا. ولأنني لم أقرأ قط شيئًا من مقالاته، فلم أكن أحتفظ باسمه في ذاكرتي. ربما كان التشبيه أعوجَ، إلا أن هناك نوعًا من التراتبية بين أقسام الصحيفة، كما هو الأمر في السجن، حيث يتم ترتيب السُّجناء تبعًا للجريمة المرتَكَبة. وفق هذا التشبيه كان يحتل مكانة مُغتصبِي الأطفال، أو فوقها قليلًا. ليس معنى ذلك أن وضْعِي كان أفضل كثيرًا، باعتباري من أولئك الذين يعملون بالقطعة بصورة شبه دورية. كنتُ أتنقل في العمل بين قسم وآخر، ولكن هكذا هو الإنسان — وعلى حد تعبيره هو — إذا كان في استطاعته أن ينظر إلى غيره من عَلٍ، فإنه يفعل.
لم يَفُتني الانتباه إلى لهجته النمساوية، ورغم أنني في المعتاد لا أذكر ذلك، فقد حكيتُ له أن والديَّ من فيينا، ثم سألتُه عمَّا أتى به إلى هامبورج. بالتأكيد ليس العمل، إذ لم يكن في الأفق أمل في الحصول على وظيفة. أتذكر كيف هز كتفيه، وكأنني أريد أن أعرف سبب وجوده في هذه الدنيا أصلًا. كل شيء فيه بدَا لي مؤقتًا بطريقة مفزعة، هو نفسه بدَا وكأنه في انتظار أن يبدأ من جديد، أن يعاود الكَرَّة مرة أخرى، وكأنه يتشوق إلى الخلاص؛ لذا بدَت إجابته دراماتيكية لدرجة أن المرء لا يستطيع أن يُدَوِّنَها من غير أن تُساوره الشكوك حول صحتها:
– ملاك موتي.
صحيح أنه انفجر في اللحظة نفسها ضاحكًا ضحكة احتضرت سريعًا، إلا أنني لا أعرف حتى اليوم ما إذا كانت إجابتُه قد تَخللَتْها مسحة من الجد، فطريقة نطقه للكلمة أوحت لي بأنه يستخدمها يوميًّا.
«لا تُجهِد نفسك في تجميل الأمر وتزويقه»، هكذا أكمل كلامه من دون أن تُتاح لي أي فرصة للرَّد عليه. «لقد فَهِمتَني على نحو صحيح».
أعجبني أن ينجح إنسان بكلمة واحدة في إظهار نفسه بصورة المخبول. ولكن سواء أعجبني ذلك أم لم يعجبني، لقد أجبرنا بطريقته في الحديث — وبعد أن قال عدة جُمل أخرى — على أن نُمِثِّل معًا دور «مُقطِّع السمكة وديلها»، وأن نخوض في حديث عن البديهيات والمُطْلَقات، وكأنه لا يعلم أن مثل هذا الحديث لا يمكن أن يُفْضِي إلى أي شيء ذي بال، وأن كُثُرًا يضلون طريقهم — بكلمات كهذه — عَبْر حِكم جوفاء لا تُسمِن ولا تُغنِي من جوع.
لم يكن بحاجة إلى أن يبوح لي بأسراره، ولكن شروده وضياعه جعَلاني أظن أن زوجته هجرته، وأنه يحاول أن يشق طريقه وسط بحر الحياة، كما يقولون، وكأنه يستطيع الاختيار بين المضي قُدمًا والرجوع، وكأن الاتجاه ليس محددًا منذ البداية وبشكل نهائي. شيء ما به كان يذكرني بالأطفال الذين يضعون على أنوفهم نظارة سميكة جدًّا، والذين كنت أشعر حِيالهم بتعاطف غريزي؛ طفل يستطيع بالكاد ربط حذائه، لكنه يقع في حيص بيص إذا طُلب منه شيء آخر. كنتُ أنظر إليه باعتباره واحدًا من أولئك الذين يَشْرَعون في سِن معينَّة في التفكير بالطُّرق المتشعبة الملتوية في الحياة، ويقومون بمحاولات يائسة للمضي في هذا الطريق أو ذاك، ثم يفقدون القدرة على فَهْم العالَم عندما يجدون أنفسهم فجأة، مرة أخرى، أمام أبواب مُغلَقة. الحكاية التي حكاها كانت قديمة لا تثير لديَّ سوى الملل؛ لأنني سَمعتُها في دائرة معارفي بكل تنويعاتها الممكنة، وكانت تنتهي دائمًا بأن يتسلل الشخص في أثناء وجوده لدى أصدقاء، وينزل إلى الشارع ليذهب إلى عاهرة، وكأن هذا هو البديل لكل الثورات التي فاته الاشتراك فيها؛ أو أن تظهر فجأة بجانبه فتاة، ولأسباب مجهولة تعبده عبادة، ويعتقد أنه سيتمكن معها من تمديد المهلة الممنوحة له قبل إعدامه.
الفتاة الجديدة التي قصدها باول بملاحظته التهكمية كانت تدعى هيلينا، وبالطبع لم يكن الأمر بسيطًا مثلما كان في الحقيقة، وطبعًا كانت هناك قصص ونوادر عن ذلك حكاها لي، وكأنه يريد طوال الوقت التأكيد على فرادتها في كل شيء، حتى في أسخف الأشياء الصغيرة التي لا بد أن تترك عندي انطباعًا.
بسرعة، وفور حديثنا الأول، أصبح من عاداتنا أن نلتقي صباحًا في المقهى حتى من دون أن نتواعد، وكنتُ أُهيِّئ نفسي لأن أظل جالسًا معه أحيانًا أطول من المعتاد، إذا لم يكن لديَّ شيء مُلح يجب إنجازه، أو كنت أستجيب لدعوته بأن ننتقل إلى مكان آخر، متأكدًا من أنه سيأتي لا محالة على ذكرها في لحظة ما. ذات مرة سِرْنا إلى ضفة النهر، ومَشينا على مهلنا على شاطئ ميناء الصيادين، ثم مررنا بجسور المعديات، ووجدنا أنفسنا في نهاية المطاف في وسط البلد من غير أن يتوقف تقريبًا عن الكلام عنها. ولربما يكون صحيحًا ما قُلتُه لها فيما بعد: إنني بدأت أَهتم بأمرها وسط مزيج من الشعور بالخفة والثقل من جراء حكاياته.
على ما يبدو كان قد قابلها أول مرة قبل خمسة عشر عامًا، ولم يرها بعد ذلك ولا سمع صوتها، باستثناء بضعة أحاديث تليفونية عندما كانت الأقدار ترمي به بالقرب من المنطقة التي تعيش فيها. البداية كانت في قريته فوق الجبال، وكان مما يمس شغاف القلوب، ومما يثير الضحك في الوقت نفسه، ملاحظة كيف كان يجمع الآن الشذرات التي لديه مكونًا منها ضرورة حتمية؛ إذا لم نَقُل إنهما مخلوقان لبعضهما البعض، فلا بُدَّ، على الأقل، أن القدَر قد وضعهما في طريق واحد، مع أن ما يعرفه عنها كان قليلًا: تمشية وسط الثلوج، من دون أن يستطيع تحديد ما إذا كان تَمَشَّى معها هي بالفعل، أم مع فتاة أخرى من فتيات تلك الفترة اللاتي كان — يدًا في يد — يشق معهن طريقه عَبْر الظلام. في البرد تطير ضحكة، جُمل قليلة، والعبارات كانت عمومًا هي هي لا تتغير. النهود العفيفة لفتاة في السادسة عشرة، تعريها أصابع عصبية في غرفة تحت السقف، حزنها لكبر قدميها، ولخوفها من أن يكون الدافع إلى رغبته الغريبة هذه مُجرَّد المرور بتجربة حب. لا بُدَّ أنها احتفظت في ذاكرتها بأشياء أكثر، أو على الأقل هذا ما تدَّعيه. كان باستطاعته أن يقضي ساعات وهو يجعلها تستعيد كافَّة التفاصيل وتُكررها، وكأنه بذلك يقتنص شيئًا من السعادة الزائلة، ثم يسألها عمَّا إذا كان يثقل عليها بخططه، بكل ما يحلم أن يفعله عندما يهجر أخيرًا قريته البائسة ويسافر حول العالم، أو عندما يصبح كاتبًا، وكأن هذا مثل ذاك، وكان يلح في سؤالها عمَّا إذا كان قد حاول بحكاياته أن يترك لديها انطباعًا ما. وفي النهاية كان يريد دومًا أن يعرف ما إذا كان قد اعترف لها بحبه، وهي تنفي هازَّةً رأسها، ثم تنفجر ضاحكةً وتقول إنه أجبن من أن يفعل.
لا أعرف ما إذا كان اهتداؤه إليَّ مُجرَّد مصادَفة، بدلًا من أن يختار شخصًا آخر يبدي تجاهه مقاومة أقل. هل يتعلق الأمر بأصلي النمساوي الذي كان في عينيه رابطًا بيننا؟ أم أنه كان يشعر حيالي بالثقة لأنه كان يحدس أنني مثله مُصاب بالآفة نفسها، أقصد أنني أحلم بأن أكتب يومًا ما رواية تجعل الحياة محتمَلة، وتعوِّض كاتبها — من دون أن أستطيع القول: تعوِّضه عن ماذا.
إنها بالطبع فكرة نمطية أن نرى في كل صحفي كاتبًا معاقًا، ولكنني كثيرًا ما صادفت أشخاصًا يبوحون لي فجأة، بعد عدة كئوس من النبيذ، بدواخلهم ودوافعهم الأصيلة، وبالكاد أسيطر على نفسي وأعض على شفتي، شاعرًا بالارتياح أنني لم أكن البادئ بالبوح. هكذا وجدتُ نفسي متورطًا في حديث مستفيض مع باول عن كل تلك العبقريات المقبورة في أقسام الصحف.
حدث ذلك في الصباح بعد أن قضيت ساعة كاملة في قاعة «رايخسهوف» منتظرًا إحدى المخرجات لأجري معها حوارًا، لكنها دخلت مسرعة متعجلة، وأزاحتني جانبًا بإشارة من يدها لن أنساها يومًا. حاول باول أن يخفف عني، مُستقبلًا إياي في الدائرة المريبة. «أنت بالتأكيد لا تريد أن تضيع حياتك في مثل هذه التوافه»، بادرني بالقول عندما حكيت له ما حدث. «إذا دَقَّقتَ النظر، فستجد أن المسألة كلها مسألة ثقة بالنفس».
كان يعني ما قاله فيما بعد، إن لم يكن كنوع من التكريم، فعلى الأقل كحكم بالبراءة، ولكن وفق نبرات الصوت كان يمكن أيضًا تأويل ذلك على أنه لعنة.
– «عن نفسي، أعتبرك كاتبًا».
ولم يزد حرفًا. ولأن الوقت كان قد حان للانصراف، لم أجرؤ على القول إنني في معظم الأحيان أجلس بعد لقاءاتنا في المنزل وأدون ما حكاه. كنتُ أنتظر الكثير من وراء محاولاتي الجريئة المتهورة حينًا، والمُتردِّدة الوَجِلة أحيانًا. ولكنني لم أجد شيئًا يمكن الاستفادة منه، وسأكون كاذبًا لو ادعيت أنني تركته يتقرب مني؛ لأنه كان يثير لديَّ انطباعًا باليأس، ولأنني اعتقدت أنه بِغضِّ النظر عمَّا يفعل أو يقول، فسوف أربح في النهاية شيئًا. ورغم أنه كان يظهر لي أحيانًا بمظهر المُقامر الذي لم يأتِ دوره بعد، أو الذي يلاحقه سوء الحظ؛ لذا — وبمجرد أن تواتيه الفرصة — يظل يضاعف من رهانه إلى أن يخسر كل شيء. تكفيني ملاحظاتي عن بداية تعارفنا حتى أُدرك أن النتيجة لن تكون أكثر من ميلودراما.
على كل حال، لقد قابل هيلينا في أثناء رحلة إلى لندن قبل ستة أشهر. الطريقة التي قال بها إن الأمر لم يكن مصادفة على الإطلاق، أوضحت لي مرة أخرى أي نوع من القصص يتمناه. أفزعني احتياجه إلى مثل هذا الهراء. ما قاله عنها كان قصيدة عشق بكل معنى الكلمة، وكأنه لم يسمع في حياته أن الناس في كل مكان في العالم، في الطرق المطروقة أو المهجورة، يقابلون إن عاجلًا أو آجلًا أشخاصًا كان يعرفهم المرء يومًا، من دون أن يفقد الإنسان توازنه بسبب لقاء كهذا. كان عليه أن يُصغي إلى نفسه حتى يفهم هزة رأسي وتعجبي لما قاله. في البداية لم أفهم، لم يصدر عني رد فعل عندما قال: إنها ظلَّت واقفة أمامه في محطة «بادينجتون»، امرأة شابة تُكرر اسمه، ثم أخذ يُحَملِق فيها، ولم يستطع أن يصدق أنها هي عندما جلسَا في مقهى قريب، مادًّا يديه على المائدة وممسكًا براحتيها، وكل منهما ينظر في عيني الآخر. ثم شرعا يستعيدان شيئًا فشيئًا ذكرياتهما المشتركة.
ربما شعرتُ بالحسد، ولذلك لم أتقبل هيامه بها وتحمسه البالغ وهو يصور جمالها. لم أحب النظر إليه وهو يغلق عينيه بمجرد أن يبدأ كلامه عنها؛ لم أرد أن تنزلق قدمي في طريق سعادته، في لعب العيال الذي يَحكِيه، لم أُرِد مشارَكته اللعب، وأن أحملق فيه وأجد نفسي مُجبَرًا على تَخيُّل كلامها المُحتمَل.
– خمسة عشر عامًا يا باول، شيء لا يصدق.
كانت هذه إمكانية، النطق بجمل غير مُلزَمة لعبور فترة الارتباك الأولى، الصمت الأول، بينما قد تكون هي قد بدأت تُمعِن النظر فيه.
– ماذا فعلتَ طيلة هذه المدة؟
لا أعرف إذا كان قد تَردَّد، إذا كان يعرف الفيلم الذي أجاب بطله عن سؤال كهذا بالقول: إنه كان ينام مبكرًا، واستنادًا إلى رَدِّه كان باستطاعة المُشاهِد أن يرسم صورة عن حياته كلها، لكنني أعتقد أن صاحبنا كان أقل شاعرية.
– كنتُ أنتظرك.
وكان لا بُدَّ أن تصدر جملة كهذه:
– ما هذا الذي تقوله؟
ترتيب المدن التي الْتَقيَا فيها خلال عطلات نهاية الأسابيع التالية اتخذ شكل البرامج السياحية التي تُنظَّم للأمريكيين للطواف بمدن أوروبا؛ وكأنه لا يشبع من جَمْع تذكارات الانتصار، وكأنه مُجبَر على قطع الكيلومترات تلو الأخرى كي يصل في النهاية إلى البداية. البداية المُفتقَدة معها، التي لم يكد يَتخلَّى لحظة عن الاعتقاد بأنها تَسلَّلتَ من بين أصابعه وضاعت. كانت لديه الحكاية المناسبة لكل موقف، ولكن المهم بالنسبة له لم تكن الحكايات، بل إحصاء الأماكن التي كان موجودًا بها، وكأن البرهان على عشقهما هو الجهد المبذول فحسب، وكأن وقع أسماء المدن على الأذن وما أحاط بهما من هرج ومرج يكفي كإثبات. ومع ذلك كان يأتي دائمًا بعد الأوان، على الأقل هذا ما يَدَّعيه، فهو لم يَعُد شابًّا. وكنتُ أشعر أنا أيضًا بالألم عندما أسمع كيف عذبته إمكانية أن يكون مكانٌ ما جمَع بينهما في السنوات السابقة من دون أن يعرف، أن يكون قد سار في أحد الشوارع جيئةً وذهابًا، بينما كانت هي تسير في الجانب الآخر مارةً به، أو أن تكون عدة دقائق قد فرَّقت بينهما. كان مهووسًا بتعداد كل تلك الفرص الضائعة، وبالتالي لم تكن ثمة جدوى في مساعدته. تَوَلَّدَ لديَّ انطباع وكأنه في سباق لا بُدَّ أن يخرج منه خاسرًا، ليس فقط خاسرًا، بل كشخص يسير سيرًا متعرجًا، يخط شخبطة تائهة على إحدى الخرائط، خطوطًا ينبغي لها أن تمحو كل شيء كان، وبحضورها الدائم تحل هي محل ما كان. عندما يبدأ بالقول إنه دخل المدرسة في عام مولدها، ثم ينظر إليَّ متعجبًا؛ لأن كلامه لم يترك لديَّ أي انطباع، فقد كنتُ أصمت، إلَّا أن صمتي لم يكن يوقفه قبل أن يصل إلى الفندق الباريسي. لم يكن تقريبًا يتوقف عن الكلام إلَّا إذا روى لي حكاية كهذه، ويستفيض بحماسة مفرطة في وصف عَشائه معها في حي «ماراي»، وكيف أنه لم يُحَوِّلُ نظره عنها طوال الوقت؛ لأنها بدت له غريبة كل الغرابة. ويتناسب مع تلك الحكاية السيجار الذي دخناه معًا، وكيف ضبط نفسه متلبسًا بالاستمتاع بنظرات الخدم في المطعم، من دون أن يشعر بنفحة خجل، أو كيف تشبثت به بعد ذلك في السرير، وأزاحته تقريبًا إلى الطرف، كتفاها القويتان؛ وحتى إذا كانت طريقته في الحكي غارقة في الأكليشيهات والصور النَّمَطية، فقد كنتُ أستطيع تَخيُّل كيف وقَف في نصف الليل عند النافذة ناظرًا إلى الخارج، كنت أسمع صوت المطر المتساقط، وخطوات امرأة متعجلة فوق أحجار الشارع وهي تبتعد إلى أن تتلاشى، كنت أرى الرجل في المنزل المقابل الذي كان يجلس على حافة البانيو مرتديًا الفانلة الداخلية، وكنت أعرف ما الذي يقصده بكل هذه الصور التي يستدعيها. كان لا بُدَّ للزمن من أن يتريث في تلك اللحظة وألَّا يستأنف السير، أنفاسها في عمق الغرفة فحسب، الشهيق والزفير الخافتان، يكاد المرء يسمعهما، وكيف نادت عليه، خيال أبيض وسط الظلام على حد قوله.
المحطة التالية كانت هامبورج؛ لأنها تعيش هناك. ربما يرجع ذلك إلى الولاء الذي يبديه تجاهها بلا أدنى مُقاوَمة، وعجزه عن اتخاذ قرار. إنه يترك التيار يأخذه كل مأخذ، حتى إنني تساءلتُ عمَّا يفعله طوال اليوم بعد أن نفترق. لا يبدو أنه يعمل في شيء، وأنا لم أستفسر قط، إلَّا أنه على كل حال لم ينشر شيئًا في الأسابيع التي كنا نتقابل خلالها، أو على الأقل لم تَلفِت نظري مقالة له. كما أنه لم يسافر مرة واحدة خارج المدينة. ولكن كل هذا لا يعني بالضرورة شيئًا؛ لأنه شرح لي ذات مرة أنه منذ فترة طويلة أصبح يجمع مادَّة تقاريره من دون أن يسافر؛ لأنه سئم من الكلام المُعاد الذي يسمعه: من أن ما يكتبه كئيب ولا يريد أحد أن يقرأه. لذا فإنه يقتصر فيما يكتبه على المعادلة المألوفة: أناس لطفاء، بلاد مشمسة، وبعض الغرائبية، وبعض الفولكلور؛ هذا ما راح يكتبه في كل تقاريره، حتى لو كانت نهاية العالم غدًا.
ومع ذلك لم أُفاجأ عندما غاب بضعة أيام. قلت لنفسي: هذه هي نهاية الحكاية، لقد اختفى فجأة، مثلما ظهر فجأة. من الآن فصاعدًا يمكنني قراءة الصحف في الصباح من دون إزعاج. لكنني ضَبطتُ نفسي وأنا أتطلَّع إلى الساعة متوقعًا أنه ربما يأتي بالرغم من كل شيء. لم أكن أفتقده فعلًا، ولكن عندما اتصل بي، قَبلتُ من دون تردُّد اقتراحه أن نتقابل في الأمسية نفسها، وعندئذٍ رأيت هيلينا لأول مرة.
تواعدنا في مقهى في ساحة اسمها «سوق الخيل». وصلت قبلهما، واخترت مكانًا جوار النافذة، ومن هناك اكتشفتُهما على الجانب المقابل من الشارع. على الفور لفَت انتباهي التشابه بينهما، وكأن شقيقًا يسير مع شقيقته، وهو انطباع لم يتأكد مرة واحدة فقط عندما كنت أسير معهما وسط آخرين، بل مرات ومرات، العينان ذاتهما، هكذا كان الناس يقولون، النظرات ذاتها، الوجه الصريح ذاته، أيًّا كان معنى هذه الجملة. ورغم أن السماء بدأت تمطر رذاذًا، فقد بقيا واقفين، في حين غيرت إشارة مرور المشاة ألوانها مرات عدة، والناس يمرون بهما يمينًا ويسارًا. كان لديَّ الوقت لأتأملهما. لم يكن واضحًا: هل تشاجرَا؟ ولكنهما على ما يبدو لم يتبادلَا الحديث، والانطباع المتولِّد لديَّ أن سلوكهما كان رافضًا، هو ينظر إلى الساعة، وهي تُبدِّل باستمرار القدم التي ترتكز عليها، إلى أن خَطتْ عدة خطوات مبتعدة، ولحق بها وتحدَّث معها. لم تكن أكثر من غضبة سريعة. حدَّقتُ فيهما طويلًا؛ لذا انتابني الخوف من أن أكون قد تباطأت قبل أن أشيح بوجهي عنهما، وأن يكونَا لاحظَا تحديقي عندما اقتربَا.
ربما لهذا تراءت لي عصبيةً طوال الأمسية. لم تفتح فمها إلَّا نادرًا، أما هو فكان يُثرثِر أكثر من المعتاد، متنقلًا على الدوام بين الموضوعات، لا يبدأ موضوعًا إلا وينتقل على الفور إلى آخَر. لم يدع لها فرصة لتتحدث، والأسئلة القليلة التي وجهتُها إليها أجاب هو عنها. وعندما رنَّ هاتفها المحمول وراحت تبحث عنه في حقيبتها، رمقها بنظرة واحدة، فأغلقَتْه. عندما تحدثَتْ معي مرة أو مرتين استخدمتُ كلمة «حضرتك»، ولأن صاحبنا كان منذ البداية أقل تكلفًا بكثير، فقد فاجأتني كلمتها حتى إنني فزعتُ، ونظرت إليها، ناسيًا للحظة وجوده، ومنعتُ نفسي من الاستجابة إلى شعور غريزي يدفعني إلى الإمساك براحتها.
لا أعلم، هل كان صوتها ينم عن استهزاء، أم أنها كانت تشعر بالمَلل؛ على كل حال كانت تَمطُّ الكلمات مطًّا، وكان استمتاعها بذلك واضحًا.
– «حضرتك صديق باول؟»
عندما أجبتُ بنعم، بدتْ إجابتي إجابة تلميذ، ولكن كان من الممكن أن أجيب بلا، فهي لم تنتبه تقريبًا إلى ما قلت.
– «إذن، حضرتك تعرف منه كل شيء عني»، أكملَت حديثها. «آمل ألَّا يكون كل ما قاله عني أشياء تافهة».
لم يقل صاحبنا في يوم من الأيام حرفًا عن أنه كان يُشركها في أحاديثنا؛ لذا فوجئتُ، فضحكتُ مرتبكًا، ورحتُ أتطلع إليه إلى أن كررَت المحاولة.
– «هل أنا كما تخيلتني؟»
لم تُتَح لي فرصة الرد؛ لأن باول قاطعها بخشونة قائلًا: إن عليها ألَّا تزعجني بدلالها المِغْناج، ثم عمل على ألَّا تبادرني بالحديث مرة أخرى. كانت أمسية تعيسة لأنه كان متوترًا، ولأنني كنتُ بالفعل أعرف عنها أكثر من اللازم، كما أزعجني أن تقابلني الآن كبطلة حكاية لا أستطيع السيطرة على سيرها. على الأقل ضايقني اتهامه لها أنها تحاول أن تثير الإعجاب لدى كل من تقابله، وأنها كانت في كل مرة، بمجرَّد أن يخلو بها، تسأله بعد أن يقضيا عدة ساعات في حفلة مثلًا، كيف كان سلوكها، وأنها كانت دائمًا تُقابل اقتراحاته بأن تفعل هذا أو تدع ذلك، بكلمة «طيب»، أو «طيب، خلاص»، تقولها بصوتها البريء، وعندما يتحدث عن امرأة أخرى، فإنها حتمًا تسأله، وبهذا الترتيب: هل هي شابَّة؟ هل هي جميلة؟ هل هي ذكية؟ لم أكن أريد أن أستمع إلى هذا كله، لم أكن أريد أن أسمعه منه هو تحديدًا، ولا كنتُ أريد أن أسمع كيف أنها بعد الدش تَلِفُّ المنشفة حول شعرها المبلول مثل عمامة، وتتمشى عارية في الشقة، ثم تدهن يديها بالكريم، وتسير كالنائمة، أما حركات فمها فتشبه كاتبة مستغرِقة في الكتابة، كيف أنها تنعس وهي راقدة على بطنها، وقد مدت ساقًا وثنت الأخرى بزاوية قائمة، ثم تستيقظ وهي راقدة على ظهرها، مشبكة يديها فوق رأسها، وكأن ثقتها بالعالَم ثابتة لا تتزعزع، لذلك فلا يمكن أن يحدث لها شيء. ربما قالت له ذات يوم: افعل معي ما شئتَ، لم يُخفِ عليَّ ذلك، إلا أنني تَمنَّيتُ عندما رأيتها بفستانها الأبيض أن يكون صاحبنا متباهيًا كذَّابًا، اختلق هذه الجملة كي يترك لديَّ — بطريقة ملتوية — انطباعًا ما عن رجولته، ولم أستطع أن أُخْرِج من أُذني تلك الجملة الطريفة التي سمعتُها ذات مرة، أنَّ على المرء ألَّا يخلط بين الأطفال والملائكة.
تعامله معها كان ساخرًا إلى حد أنني كنت أودُّ لو أمسكت بخناقه، وهززته قائلًا إنه يتعامل مع إنسان لا مع شخصية في إحدى المسرحيات. عندما قرع كأسه بكأسها للمرة العشرين، أو عندما كان يشعل سيجارتها، بدَا لي وكأنه يقلد بطل فيلم أو مسرحية، وكأنه يريد أن يظهر لي أنه يعرف أن تصرفاته لا تختلف عن أي مخبول، وأنه يتصرف كما ينبغي عليه أن يتصرف عندما يساعدها على ارتداء الجاكيت، أو عندما يفتح لها الباب ويرافقها إلى البيت. حيرني أنها تركته يعاملها على هذا النحو، وفي كل مرة كان بصري يتجول بينها وبينه، من دون ردِّ فعل منها، وكنتُ أتساءل: هل يَتسلَّى بي؟
في النهاية، لم يتبقَّ الكثير من تلك الأمسية: عيناها الرَّائقتان، شعرها الأسود الناعم الذي كانت من وقت لآخر تُزيحه عن جبهتها، كركرتها وهي تَضحك، والطريقة التي ودَّعَتنِي بها بصوت عالٍ ينم عن حماس بالِغ:
– آمل أن أرى حضرتك مرة ثانية.
كانا قد نهضَا، وشعرتُ أنا بالضيق عندما رأيتُ باول يومئ برأسه. وضع إحدى يديها على كتفه ولف يده على خصرها، ثم قادها ناحية الباب، وهناك الْتَفتَت مرة أخرى تجاهي، وكأنها لم تحسم أمرها: هل تضيف شيئًا أم لا؟ بالتأكيد تَوهَّمتُ ذلك، ولكن قبل أن يمضي بها، بدت لوهلة قصيرة وكأنها تتوسل إليَّ بنظرتها.
قالت له: خلاص، خلاص، أنا ماشية.
بالكاد صرتُ أسمع صوتها.
– لماذا تُلحُّ هكذا؟
لم يَعُد ثمة شك، إنهما يتشاجران خارج المقهى. تتبعتهما بعيني وهما يبتعدان، وهي تسير إلى جانبه بكتف مُتصلِّب، بينما راح يتحدث معها مستخدمًا إشارات يديه. توقَّف المطر منذ وقت طويل، والإسفلت — على امتداد البصر — كان قد بدأ يجف. بدَا اختفاؤهما في غَسق الغروب مثل صور تتلاشى في شريط سينمائي؛ تتوقف الصور للحظة، ثم تتحرك قليلًا، ويمد هو يده إلى ذراعها ثانية، ثم يتركها مرة أخرى. لم تكن تفصلنا إلا أيام عن الاعتدال الشمسي، عندما يتساوى الليل والنهار، ولم أستطع أن أصد موجة من الكآبة والأسى هاجمَتْني عندما فكَّرتُ في أنهما سيتصالحان قريبًا، وعندئذٍ سيتحدَّثان عني، أو لا يتحدَّثان، وسيعيشان حياتهما، وسأظل بعيدًا عن تلك الحياة. لم يَعُد ثمة زبائن في المقهى، ولم أكن بحاجة إلى النظر ناحية الخادمة لأعرف أنها تقف خلف البار وتراقبني. ولكن إذا مشيتُ فستنتشر الرائحة في الجو، الرائحة التي انبعثَت يوم خُلق العالَم، رائحة الربيع والبحر. كنتُ أود لو أستطيع ملاحقتهما، والسير خلف ظلهما إلى أن أصل إليهما، وبأنفاس مبهورة أقف أمامهما، من دون أن أعلم ما أريده.
فيما بعد لم أتحدَّث معه ولا معها عن شجارهما، وخصوصًا في المرة التالية عندما رأيتُه، بعد ثلاثة أو أربعة أيام، عندما امتلأت كل الصحف بتقارير عن وفاة ألماير. أتى مضطربًا إلى مقهى «أوتنسن»، ثم وضع كومة أمامي على المائدة، وقلَّبَ فيها ثم أشار إلى صورة له. لم أفهم قصده في البداية، إلَّا أنني نظرت إلى الصورة التي كنت أعرفها، يدفعني شعور بأداء الواجب؛ صورة لوجه ضاحك، نصفه في الشمس ونصفه في الظل، لقطة سريعة خاطفة لا تبوح بشيء عن مصير صاحبها، ومع ذلك بدأتُ أتفحَّصُها وأتمَعَّن فيها وكأنها تروي قصةً بأكملها، من دون أن يُحوِّل هو عينيه عني. هَمَّ عدة مرات بقول شيء، لكنه لزم الصمت، وعندما وضع يده على الصحيفة وغطى الرأس بالكامل، أرسل نظراته متجاوزًا إياي، مكررًا الجملة التي لم يغيرها. «انظر إلى الصورة»، هكذا كان يُردِّد، وفي كل مرة كانت نبرات صوته المضطربة تعلو عن المرة السابقة. «انظر إليها، من فضلك، انظر إليها».
على طول الصفحة كانت المفردات تتقافز أمام وجهي، بالمعنى الحرفي للكلمة، قرأتُ تعابير تتناسب مع مَطلع القرن لا مع نهايته، ولم يزد على ترديد جملته في أثناء محاولتي لملمة أشلاء العنوان من تحت أصابعه. «خبير البلقان يلقى مصرعه في كوسوفو.» لم أكن متأكدًا بعدُ ما إذا كنتُ قرأت كلمة «مراسل حربي».
– انظر إليها!
لديه حق، لا بُدَّ أن يشعر الإنسان بالبؤس عندما يحاول التخيل كيف حدث ذلك، طلقات من كمين، لكنني لم أفهم لماذا لا يستطيع أن يُهدئ من روعه، إلى أن باح لي أخيرًا بالسبب.
– «كان صديقي»، قال فجأة بصوت خافت: «تكلمتُ معه بالتليفون قبلها بقليل».
حدث ذلك بعد ثلاثة أيام من بدء دخول القوات الدولية إلى المنطقة الصربية، الناس جميعًا يَتحدَّثون عن الكارثة، أمَّا هو فكان يقف واضعًا يديه على كتفيه، ويسحب نفسًا بصوت مسموع، ثم يزفره مخنوقًا، ويفتخر بأنه كان مُقربًا من ألماير. لم أُرِدْ تصديقه في البداية.
– صديقك؟
لا بُدَّ أن صوتي كان أكثر سخريةً مما أردت.
– «كنا على معرفة جيدة»، استدركَ «هل تقصد أنني أدَّعي ذلك، لمجرد أنه ميت؟»
يبدو أنه كان مهتمًّا بتأكيد الفارق.
– ثم ماذا تعني كلمة صديق؟
حكى لي أنهما معرفة قديمة، وأنه طيلة عام كامل كان يقابله بين الحين والآخر في أثناء فترة الدراسة في إنسبروك، وبعدها — وقبل أن يأتي إلى هامبورج — لم يره إلا مرات معدودة؛ قلت لنفسي ها هو يحكي مرة ثانية حكاية تدور حول لقاء يتم بعد سنوات طويلة. كنت أتحرَّق شوقًا إلى سؤاله عمَّا إذا كان متخصصًا في هذا النوع من الحكايات، إلَّا أنه لم يعطني فرصة للكلام.
«هو من نفس المنطقة التي نشأتُ فيها»، قال لي: «ربما لا يفصل بيننا عبْر الجبال سوى عشرين كيلومترًا».
من دون تمهيد، عاد للحديث في اللحظة التالية عن اتصاله التليفوني الأخير معه، وكنتُ أراقبه في أثناء ذلك وهو يشد بأصابعِ يد أصابعَ اليد الأخرى إلى أن تَصْدُر عن المفاصل طرقعة. يبدو أنه أراد أن يقابله، ثم تَمكَّن من الاتصال به في سكوبيا، وتحدَّثَ معه قبل أن ينضم حشد الصحفيين المتجمع في قاعة أحد الفنادق على الحدود بين مقدونيا وكوسوفو إلى القطار العسكري الذي سيُقلُّهم إلى منطقة الصراع. كنتُ سعيدًا لأنه لم يحاول ادعاء الأهمية، ولم يُضِف إلى كلامه المعلومات التي عرفها لاحقًا بعد وقوع الحادثة. في الحقيقة لم يَعُد يتذكَّر تمامًا عن أي شيء تكلَّما، بالتأكيد عن أشياء تافهة لا تستحق الذِّكر، على حد تعبيره. لاحظتُ أنه كان يتعذَّب لأنه لم يستطع أن يحكي المزيد عنه، سوى أنه اشتكى من المَلل المنتشر بين زملائه الذين كانوا ينتظرون التَّحرُّك، العصبية والتوتر في الغرفة المختنِقَة بدخان السجائر، حيث يلعبون الورق على كل الموائد، والرهانات على بدء التَّحرُّك والخلاص من الانتظار تتزايد بمرور الوقت. أَثَّرَ فيَّ أنه كان قد اقترح عليه أن يسافرَا معًا ليقضيَا يومًا على شاطئ بحر البلطيق، وأنه لم يتكلم عن موضوعات تَشي بالأهمية ناقشها معه، موضوعات تمنح معنًى استثنائيًّا لنهايته الوشيكة، لم يتحدث عن إحساس غامض بالخطر الذي يهدد صاحبه، ناهيك عن الخوف من ألَّا يعود.
الملاحَظة العاطفية الوحيدة التي سمح بها لنفسه أمامي كانت أنه لم يستطع أن يتخلص من الاعتقاد أن ألماير كان ينوي التوقف عن العمل بعد هذه الرحلة، وأنه لم يَعُد راغبًا في أن يُرسلوه حول العالَم إلى مختلف مناطق الحروب، مثلما حدث خلال السنوات الأخيرة، وأنه كان يستعد لاقتناص فرصة عمل في صحيفته تتيح له القيام بشيء أكثر هدوءًا، أو أن ينكبَّ على شيء آخر تمامًا لفترة ما.
– «يبدو أن الكيل طفح به»، نطق هذه الجملة بخشونة لم أعهدها منه. «لو كان الأمر بيده، لتوقَّف منذ مدة طويلة».
وقعت تلك الجملة على أذني موقعًا رخيصًا حتى إنني رفضت أن أقبلها ببساطة: أن يموت تحديدًا في آخر مَهمة له. بدَا لي ذلك كأنه سيناريو لفيلم قائم على حدوث المصائب لكي يغزو قلوب المُشاهدِين. حاولتُ أن أشرح له ذلك.
«ربما يصبح الإنسان مدمنًا، ولا يستطيع بعد مرور كل هذه السنوات التي يرى خلالها أبشعَ الفظائع؛ أن يعود إلى حياته القديمة، وكأن شيئًا لم يكن».
أنا شخصيًّا لم أَعُد أهتم كثيرًا بما يُكتب في الصحف يومًا بعد الآخر، وما يَرِد بها من إحصاء لمواقع الهجمات في صربيا، حيث بدأ القذف بالقنابل قبلها بشهرين ونصف الشهر. وأعترف بأن التقارير المكتوبة عن المذابح في كل أنحاء كوسوفو لم تَعُد تَهزُّني، ولم يَعُد تكرار تلك التقارير يترك لديَّ أي انطباع. ربما يبدو كلامي وحشيًّا، ولكن بِمجرَّد أن تُقصَف بناية عامة في بلجراد أو عندما يُضرب جسر في نوفي ساد، أو مصنع أو معمل تكرير في أي مكان آخر، وعندما يذكرون القرى حول برشتينا أو في غرب المنطقة على حدود الجبل الأسود، وعدد الأشخاص الذين ذبحتهم فِرَق حكومية خاصَّة في منازلهم أو في أثناء الهرب، عندما يحدث ذلك، فإنني كنت أقاوم شعوري بأن كل هذا مُجرَّد لُعبة مرعبة يفوز فيها الحاصل على نقاط أكثر رعبًا.
عندما أُلقي نظرة على خريطتي الألبانية اللغة التي صوَّرْتُها في مكتبة الجامعة، وعندما أقرأ أسماء أماكن؛ مثل: كروشا إه ماده، أو هوتشا إه فوجول، أو ماليشفا، أُفكِّر على الفور أنها من الممكن أن تكون أيضًا أرقامًا مكتوبة بالأحرف، تُشير إلى عدد القتلى، هنا كذا، وهنا كذا، وهنا لا يعلم إلَّا الشيطان عدد المقتولين.
لكن هذا كله كان عديم الأهمية اليوم؛ لأن باول كان يعود دائمًا إلى موضوع ألماير محاولًا ترتيب المعلومات القليلة التي كَتبتْها الصحف، الشذرات المنشورة عن الهجوم عليه وعلى مُرافقه المصوِّر الذي نجا بعد أن أُصيب برصاصة اخترقت أعلى فخذه.
«الموضوع لا يريد أن يدخل رأسي، لماذا وقع ذلك تحديدًا لشخصين متمرسين مثلهما»، كان باستطاعته النُّطق بهذه الجملة في كل لحظة. «لا بد من أنهما كانا في طريقهما من كوسوفو إلى سكوبيا، ثم اصطدما بالحواجز التي تسد الطريق».
على ما يبدو قفز الاثنان من سيارتهما، وفي أثناء محاولتهما اللجوء إلى مكان آمن وقعَا في مرمى النيران المتبادَلة. راح يشرح لي ذلك كأنه خبير، وكأنه يعرف أكثر مما قرأ، أو ربما يرجع سلوكه هذا إليَّ، وإلى صمتي الذي جعله يبدأ في الشرح والتوضيح المرة تلو الأخرى.
– «يُقال إن الرصاص أصابهما من الخلف في أثناء الجري»، ثم أضاف: «ربما ما كان ذلك سيفيدهما في شيء، ولكن مما يثير العجب أن سيارتهما لم تكن مصفحة، وأنهما لم يرتديَا الصدرية الواقية من الرصاص».
على حد علمه، كان السير في ذلك الطريق مسموحًا به، إلا أن الأمر لم يخلُ من تبادُل إطلاق النيران في المنطقة، وكانت الشائعات تنتشر عن فِرق تشن حربًا استنزافية، كما أن الطريق يقع على حافة منطقة انسحاب كانت العناصر الموالية للحكومة ستُخليها بعد عدة أيام. اكتسى وجهه بسمات المُحاضِر وهو يشرح لي هذه المعلومات، إلى أن قاطع نفسه في النهاية.
«كل هذا ليس مهمًا».
نظرت تجاهه وتجاوزته ببصري عندما أمسك بفنجاني وهزَّه — من دون أن يلاحظ — فانسكب قليل من القهوة، وكنت متأكدًا أنه لم يقصد أن يترك لديَّ انطباعًا معينًا عندما راح يكرر أن ألماير لم يعش بعد الحادثة إلا عدة ساعات. الاستماع إليه وهو يتحدث عن صراعه مع الموت، تكفي الكلمة في حد ذاتها، كاد يصيبني بالاختناق؛ لأن الطريقة التي كان يشكو بها عبثية ما حدث وعدم جدواه، خَلتْ من أي افتعالية مسرحية. فريق من الأطباء ظهر في مكان الحادث في الموعد المناسب تمامًا، وكما يقضي منطق أغبى سيناريوهات الأفلام، على حد تعبيره، الإسعاف على حافة الطريق، النقل بهليكوبتر إلى مستشفى عسكري في مقدونيا؛ تحدَّث عن ذلك كله وكأن هذا ما يزيد النهاية عبثيةً، ويفرغها من أي معنى، وكأن الأمر قد قُضي، ولذلك فإن الجهود المبذولة لا تعدو كونها تهكمًا، مثلما يبدو السؤال عن كيفية العثور على ألماير بمثل هذه السرعة كاللكمة في الوجه، أو أن ممرضة بلجيكية، إذا صدَّقنا التقارير الصحفية، لم تفارقه لحظة واحدة.
بدا كل ذلك وكأنه يؤكد الصورة النمطية القديمة عن البلقان، أن على المرء أن يتقبل هذه المنطقة كما هي، وأن ينظر إلى الكوارث هناك باعتبارها شيئًا طبيعيًّا يعجز المرء عن تفسيره تفسيرًا مقنعًا. تَذكَّرتُ فجأة — ولا أعلم لماذا — أنني سافرت بالسيارة في أثناء فترة الدراسة مع صديقة إلى اليونان. لفَت انتباهي اضطرابها وقلقها في الطريق كله على طول الشاطئ، من رييكا وحتى وصلنا إلى مكان ما خلف كوتور، اضطراب مصطنع تَجلَّى في ربط شريط أبيض على الهوائي، وكأننا من العشاق الذين يقضون شهر العسل ويريدون من كل الناس أن يعلموا ذلك، سلوك طفولي، وتذكرتُ الشعور بالانقباض الذي أصابني ولم يفارقني؛ شعور لم أستطيع أن أهتدي إلى سببه. ثمَّة صورة حُفِرت معالمها في ذاكرتي، شُرفة فندق سيئة الإضاءة، هذا هو كل ما أستطيع قوله، موسيقى عاطفية مبتذَلة تندفع مُصَلصِلة من مُكبِّرات الصوت، لا نزلاء غيرنا، وحولنا فرقة من خادمات المطعم ثبَّتْنَ عيونهن علينا. كُنَّ في أحذيتهن الصحية وكأنهن حارسات في إحدى المصحات النفسية المُغلَقة. شعرتُ بأن هذا التخيل في محله، لكنني لم أَدْرِ آنذاك من أين أتيتُ به، وما الذي دفعني إليه.
حكيتُ هذا كله لباول، بينما أخذ هو ينظر إليَّ من دون أن ينطق، وكأنه يتعجب من أنني أَتطرَّق إلى موضوع كهذا؛ لذا حاولت أن أبدو لطيفًا، وبدأتُ أكلمه مرة أخرى عن مكان الحادث.
«لا أعرف أين هو بالضبط»، قلت له، «ولكن إذا لم يختلط عليَّ كل شيء، فقد مررت بالتأكيد قرب هذا المكان».
وكما تَوقَّعتُ ابتَلَع الطُّعم.
– «أنت كنت في كوسوفو؟»
طبعًا، لم أكن بحاجة إلى الإجابة عن سؤاله. من دون أن ينتظر كلمة واحدة مني، رفع يديه وكأنه يحمي وجهه، ثم قهقهه عندما هممتُ بتقديم تفسير. عندئذٍ كان يريد أن يعرف متى كنتُ هناك، ولكن قبل أن أنطق حرفًا، قال وهو يمعن في التفكير: إن ذلك لا يمكن أن يكون إلا قبل الحرب.
«إذن المقارنة مستحيلة».
استراح عندما تَوصَّل إلى هذه النتيجة.
«كوسوفو في السابق لم تكن كوسوفو»، واصل كلامه بعد برهة، «كان من الممكن أن يحدث ذلك في أي بلد آخر تمامًا».
أخذَتْه الحماسة إلى حد البكاء، وراح يتفاخَر ويتباهى بقلب القارة الأسود. وعندما سألني عن صديقتي، حدثته عن تلك الفترة، وأننا سافرنا من دون استراحة بعد أن تركنا الشاطئ، وأنها غَدتْ فجأة هادئة تمامًا، ووضعَت يدها على فخذي، ناظرةً إلى الأمام تجاه الشارع وكأنها تشعر بالخوف. وكلما مضيتُ في الحكي، تذكرتُ أكثر فأكثر ما حدث، وكيف غرقَت هي شيئًا فشيئًا في مُستنقَع الخوف بِمجرَّد وصولي إلى مَشارف الطريق المار بين القرى، وأنني كنتُ أقود السيارة شاعرًا بأن المسألة مسألة حياة أو موت، في حين كانت سحابة من الغبار تَهبِط ببطء شديد خلفنا على التلال. ربما أزعجها الناس الواقفون على حافة الطريق، هكذا فَكَّرت آنذاك، ولهذا طلبَت مني — كلما أردتُ التوقف — أن أواصل السفر. حاولتُ أن أصف له تلك الأشكال التي ظهرت وسط المناطق المهجورة والمقفرة، الذين كانوا يطلعون من خلف الشجيرات من دون أن نرى على مدى البصر أي تَجمُّع سكني؛ أشكال لا يراها المرء إلَّا في الصور التي التقطت في بداية عهد التصوير الفوتوغرافي، الكآبة نفسها، والطريقة نفسها التي توحي بالازدحام وكأنهم مجبرون على شغل حيز ضيق حتى لو كانوا وحدهم، الانطباع ذاته، وكأنهم خلعوا لِتوِّهم قبعاتهم، ووضعوها بخنوع أمامهم، حتى لو كانت أيديهم فارغة.
كان من العسير مقاومة أفكار كهذه، وفي الوقت نفسه كان في هذه النظرة — التي يمكن أن نسميها صوفية — ما يثير خوفي. كنتُ سعيدًا؛ لأنه لم يطلب توضيحات عن هذه النقطة، وأنه عاد إلى التحدث عن ألماير. أوشك النهار أن ينتصف، وكان عليَّ أن أذهب إلى الصحيفة، إلا أنني بقيتُ وأصغيتُ إليه وهو يحكي كل شيء من البداية مرة أخرى. زبائن مشوا وحلَّ مكانهم آخَرون، وأمام المقهى، على الرصيف، كانت كل الأماكن مشغولة. كانت الشمس ساطعة، وعندما تحدثَ تَوَلَّدَ لديَّ الانطباع وكأنه قضى حياته كلها في انتظار اليوم الذي يجلس معي فيه هنا حتى يستطيع أن يترك بكلامه أثرًا في. شعرتُ بالدُّوار من جراء ذلك، وكنت أود لو قاطعته، وكنتُ أتمنى لو أهملتُ مونولوجاته مثلما يهمل المرء غمغمة طفل، وعندما شرع يقول إنه سيكتب شيئًا عن ذلك، وإنه متأكِّد تمام التأكد أنها ستكون روايته الأولى، عندئذٍ شعرت بأن الحقيقة تختلط تمامًا بالخيال.
«هذه قصتي»، قال وكأن عليه أن يدافع عنها حتى لا أستولي عليها، «مَن غيري يستطيع أن يحكيها؟»
وقعَت جملته على أذني وكأنه يريد أن يشجع نفسه، ورغم أن الأمر لم يخلُ من سقامة الذوق، أن ننظر إلى موت ألماير بهذا الشكل، وأن نتأمل حادثته من منظور الاستفادة الأدبية اللاحقة، حتى قبل أن يُدفن، فلم أُعارِضه إلا مُعارضة واهية. تنحنح، كأن الأمر ليس مريحًا بالنسبة له، وانتظرتُ لحظات متابعًا بعيني رجلين خارج المقهى يُفْرِغَان القمامة في عربة زبالة واقفة، وكيف أن الريح حملت معها بقايا ورق ورماد مُلقيةً بها على الدِّكَك الخشبية، وكيف هَبَّ الجالسون وهم ينفضون ملابسهم. عندما لاحظتُ أنه يتتبع نظراتي، حملقتُ فيه، ورغم أنه هزَّ رأسه موافقًا، فقد أدركتُ أنه لن يتعجب إذا كنتُ قد نسيت عن أي شيء تَحدَّثنا.
«أنت بالتأكيد لا تصدق ما يُقال عن الحبكة في الرواية»، قلت في النهاية، «لو كان الموضوع موضوع حبكة فقط، لكان الأمر سهلًا».
الضحكات التي كبَتُّها، أصابتني أكثر مما لو كان قهقه عاليًا. رحت أنتظر تعليقًا منه يُبين لي أنني شطحتُ كثيرًا بما قلته.
– «هل قلتَ فعلًا حبكة؟»
كأنه ضبطني متلبسًا، هكذا شعرتُ، فلذتُ بالصمت.
– «عندما أسمعك تتحدث عن حبكة، يبدو الأمر لي وكأنك تتحدث عن فتات من الخبز بقي محشورًا في حلقك مانعًا عنك الهواء».
لم أكن قد حكيتُ له بعدُ عن الملاحَظات التي أُدوِّنها فور اختلائي بنفسي، وكنتُ أود لو أستطيع لفت انتباهه إلى فقر المادة التي يستند عليها كاتب يدَّعي أنه ألَّفَ عملًا مستندًا إلى حكاية حقيقية، أو — وهذا أسوأ — أن الحياة هي التي سَطَّرَت هذه الحكاية، أيًّا كان معنى هذه العبارة؛ بدلًا من أن أقول له هذه الملاحظات رحت أقول عبارات مبتذَلة، من نوعية تلك العبارات التي يفتخر المرء بها لحظة قولها، لكنها تظل تطارده فيما بعد حتى يتمنى ألَّا يكون قد نطق بها يومًا ما؛ قلت له: «شخص ميت لا يصنع رواية».
لحسن الحظ، لم تبدُر عنه سوى هزَّة رأس متعَبة، ولم يرد عليَّ. وبدا عمومًا أنه فَقَدَ فجأة أي اهتمام بالتحدث في هذا الموضوع، وشرع يتصفح الجرائد ثانية، متعمدًا على ما يبدو أن يقلب الصفحات بصوت عالٍ، ومحاولًا ألَّا ينظر تجاهي، ولم يُنعم عليَّ بين الحين والآخر إلا بنظرة عَبْر الصفحة. لم يُصَدِّرُ تعليقاته المألوفة في أثناء قراءة الصحيفة، ولكن قبل أن ينهض ويودعني، لمحت في وجهه — على ما أعتقد — تلك الابتسامة التي تَنمُّ حتمًا عن تَفوُّق، ذلك الارتفاع الذي لا يكاد يُلاحَظ في زاوية الفم التي تتهدل في المعتاد لديه عندما أُبدي أقل قدْر من الشك تجاه ما ينوي فعله.
كان على كل حال مهووسًا بالرغبة في صُنع شيء من القصة، لدرجة أن عائلة هيلينا أصبحت تلعب الآن دورًا في القصة. ورغم أنني لم أعد أعرف متى قال لي لأول مرة إن والديها من كرواتيا، فإنني أتذكر تمامًا أنه بات يذكر ذلك بمناسبة ومن غير مناسبة، وكأنها — إذا انتفت عنها هذه الصفة — لن تكون موجودة بالنسبة له. كان يستطيع أن يَتكلَّم من دون مقدمات عن الأراضي الدالماتية، عن كارست أو فيليبت، وكأنه يتحدث عن أشياء غاية في البديهية، محاولًا إيجاد سلسلة من الأسباب والنتائج القهرية تبدو لي اليوم غريبة إلى أقصى درجة، أسباب ملفقة اصطفته هو وحده حتى يهتم بمنطقة البلقان. لم يكن ليخطر له على بال قبل ذلك أن يتحدث عن مثل هذه الأمور، أمَّا الآن فإنه يطلق عليها بكل جدية «يوجو»، مُحَوِّلًا الشتيمة إلى اسم دلع لها. كما أنه جعلها تُهديه جواز سفرها القديم الذي فَقَدَ صلاحيته منذ مدة، بطاقة الهوية الاشتراكية، على حد قوله. كان يصفها بأنها ابنة مهاجرين، وكلما أبدت تحمسها لشيء من الحياة اليومية، كان يبدأ — حتى يغيظها — في الكلام عن الجيل الثاني من المهاجرين وعاداتهم الغريبة، أمَّا إذا عارضَتْه مرة بحدة، فإنه يتحول إلى السخرية ويتهكم على عصبِيَّتها قائلًا: أنتم شعب من المحاربين، هكذا سمعتُه يثرثر مرات ومرات. وربما كان هذا كله هذرًا لا طائل منه، إلَّا أنني كنت أتضايق لأنني لم أتدخل بصورة أكثر حسمًا وأدافع عنها، رغم أن الأمر لم يكن يأتي بنتيجة عندما أحاول بفتور أن أوقفه عند حده، إذ إنه كان يواصل كلامه ببساطة تحت عباءة السخرية، أو ملتمسًا العذر بأنها ستفهمه على النحو الصحيح. الغريب أنها كانت طويلة البال معه، وإنْ لم أكن مخطئًا، فقد لاحظتُ مرة يتيمة كيف ضيَّقت عينيها وقطعت ضحكتها، ثم توقفت وسط الحديث موجهةً إليه نظرةً أرعبته. حدث ذلك عندما أمسك عظمة خديها بين إبهامه وسبابته، ثم قال محوِّلًا رأسه تجاهي: «سلافية، سلافية»، وكأن عليَّ أن أصفق له.
كان هذا عبثيًّا، وما زال يحضرني كيف أطلق عليها «همزة الوصل الأولى» التي تربط بين الواقع وروايته. بالطبع كان هذا أيضًا هراء، تكفي التسمية نفسها، ومع ذلك ازداد الأمر وضوحًا أمام عيني: ربما كانت التسمية صائبة جدًّا. لقد استخدمها في البداية، عندما تَحَدَّثَتْ عن منشئها، عن سنواتها الأولى لدى جدتها بالقرب من زادار، الصيف على البحر، أو ما علق في ذاكرتها من حكايات والديها. حيرني المقدار الذي كان يمزج به كِلَا المستويين، كيف كان يخلط بين حياتها وكتابته بمجرد أن يهم بالعمل. وعندما أفكر كيف كانت ثقته بأنه على الطريق الصحيح عندما وجد الرابطة بينها وبين الحادثة في كوسوفو، فإن كل شيء قبلها يتراءى لي محض مناوشات، وكأن أحاديثنا عنها مقدمة طويلة جدًّا للحكاية التي يريد أن يرويها.
التقى ألماير مع هيلينا مرة واحدة قبل وفاته، وما حكاه باول لي عن ذلك كان عاديًّا. على ما يبدو زاره مع هيلينا في صحيفته، ثم ذهبوا إلى الميناء وتناولوا المشروبات في مقهى أكد لي عِدَّة مرات أنه لا يتذكر اسمه، وكأن هذا يلعب الدور الحاسم. لم يقضوا معًا أكثر من ساعة، ومع ذلك كانت هذه الساعة من الطول حتى إنه كان يريد مغادرة المقهى في أثنائها، إلى هذه الدرجة كان التفاهم بين الاثنين قليلًا؛ ولكن عندما سمعته يتكلم بهذه النبرة، فقد بدا لي أنه يريد أن يبرز أهمية دوره فحسب.
ربما كان دافع ألماير عاديًّا عندما سأل باول عن زوجته، وعمَّا إذا كان يراها بعد الطلاق أم أنه قطع اتصاله بها؟ سأله تلك الأسئلة عندما ذهبت هيلينا إلى التواليت، ولم يفعل ذلك إلَّا ليصوره في اللحظة التالية كأنه «زير نساء».
– «لا تستطيع أن تُقلِع عن ذلك!»
بالطبع، كان سؤالًا خبيثًا، إلا أنه — كما يقول — لم يَرُدَّ عليه. كل ما فعله هو النظر إليه، وكأنه يعرف ماذا سيحدث بعد ذلك.
– «يظهر أنك ما زلتَ تلهثُ وراء كل فستان»، كانت هي الجملة التالية التي رماه بها، «لحسن الحظ جررتَ وراءك هذه المرة نعجة جميلة للغاية».
لم أرَ باول في مثل هذا الانفعال، ولكنه بِمجرَّد أن استشهد بتلك الجملة، مضيفًا أنه سواء كان الرجل ميتًا أم حيًّا، فقد كانت الجملة أكثر مما يحتمل، ثم قال مدافعًا: إن هيلينا لا تستحق مثل هذه المعاملة.
«أنت تعرفها»، قال وكأنه فَقَدَ فجأة ثقته بنفسه، «ليست هي بالشخص الذي يُهان هكذا».
وهذا تحديدًا ما فعله ألماير، سألها عمَّا إذا كان والداها يعلقان لوحة الشطرنج فوق السرير، يقصد الشعار الكرواتي ذا المربعات الحمراء والبيضاء، وبمجرد أن ذكر تلك الكلمة، وبمجرَّد أن عرف مِن أي منطقة هي، كان واضحًا أنه عثر على فريسة؛ لأنه بدأ على الفور يمطرها بالفظائع التي ارتُكبت هناك خلال الحرب العالمية الثانية، فَشرعَت تُبرِّر موقفها بعد أن أحسَّت بمسئوليتها الشخصية عمَّا حدث. منذ البداية كان ممتعضًا من سلوكها، ربما بسبب ملابسها. كانت ترتدي جاكيتة سوداء ضيقة للغاية تلمع كأنها مدهونة، كادت لا تستطيع أن تتحرك داخلها عندما تحاول أن تمد يدها إلى كأسها، لا بد أن حركاتها ذَكَّرَتْهُ بالحركات الآلية لدمية. ثم فقدَتْ كل رصيدها لديه عندما سمع أنها تعمل في شركة من شركات الموضة، منذ تلك اللحظة كان هدف كلامه أن يحشرها في زاوية مبرهنًا لها زيف كل شيء في حياتها، مستخدمًا كلمات لا بُدَّ أنها من مُخلَّفات فترة دراسته الجامعية، بل لقد تَفتَّقتْ قريحته عن فروق بين المَظاهر الخارجية والقيم الداخلية، من دون أن يلاحظ أنه بذلك ينسب إليها شخصية مأساوية مؤثرة. العجيب أنها لم تدافع عن نفسها على الإطلاق؛ لأنه — أيًّا كان ما تقول — لم يكن يُعيرها أي اهتمام. وعندما قالت بكل سذاجة إنها تسكن في حي إبندورف، رَدَّ عليها بكل جدية أن هذا حي بورجوازي جدًّا، وأنه يفضل حيًّا أقل رُقيًّا. وعندما دفعته بيدها في كتفه وتوسلت إليه بصوت تهكمي وطفولي ألَّا يتصرف هكذا، سحب ذارعه ولم يعد ينظر في وجهها.
أتذكر تمامًا أن باول قال إن طريقة ألماير كانت تفوح منها رائحة محاكم التفتيش، عندما سألَها أين قضت عيد القيامة هذا العام. ردَّت عليه قائلة: على البحر في دالماتيا، في بيت والديها. لكنه ظل يُلح عليها إلحاحًا شديدًا حتى رضخت في النهاية واعترفت باسم المكان بالضبط.
– «هل تعرف بريموشتن؟»
كان سؤالها كالصفعة، وكأنها تشك في أنه يعرف شيئًا عن وطنها.
الإجابة الوحيدة الممكنة كانت: «طبعًا أعرفها» ثم أضاف، وفق ما وصلني: «ليس هناك دليل سياحي يخلو من ذكر هذه المدينة التي تعتبر من النقاط الثابتة في أي برنامج سياحي ليوغوسلافيا».
بعد ذلك — حسب رواية باول — لزم ألماير الصمت، أما هي فضحكت لشطارته، ثم حملقَتْ فيه، وقالت، من من دون الدخول في تفاصيل، إن بلدتها لا تبعد عن ذلك كثيرًا.
بعد ذلك واصل باول كلامه قائلًا: «كانت متأكدة من أنها كانت تسمع أحيانًا في الليل الطائرات القادمة من إيطاليا في طريقها إلى بلجراد. صحيح أن بلدتها لا تقع على الطريق الجوي تمامًا، ولكن إذا كان اتجاه الريح مناسبًا فإنه تَحَمَّلَ دويها القادم من بعيد عَبْر البحر».
تحدَّث باقتضاب عن ذلك، ولم يسمح لنفسه حتى بهزة رأس عندما قال إنه تعجَّب من أن ألماير حاوَل أن يجرها في حكاياته الحربية.
«إذا كان هدفه أن يضعها في موقف مُحرِج للغاية، فقد كان من الممكن أن يحقق ذلك عبْر شيء آخر تمامًا».
إلا أن ألماير أصرَّ على المُضي في الكلام عن وجوده في ذلك الوقت في مقدونيا على حدود كوسوفو، عندما كانت هي لا تبعد عنه سوى بضع مئات من الكيلومترات، تقضي إجازتها في البلد نفسه الذي كان آنذاك بلدًا واحدًا. منذ البداية كان يتحدث عن ذلك، وكأنَّها المُذنِبة في كل شيء، راسمًا صورة للآلاف من اللاجئين المُشرَّدين الذين وصلوا إلى المخيمات المنصوبة في بالسه، أو أي مكان آخر، ورجال الشرطة يقفون لهم بالمرصاد وبالعصي؛ بالمُقارَنة مع هذا المشهد كانت تبدو أيامها على شاطئ البحر خليعة داعرة. ثم مضى في رسم صورة لأولئك الذين زُوِّدُوا بأقل الضروريات، المَحشورين الخائفين، وبمجرد وصول دفعة من اللاجئين الجدد كانوا يتوجهون إلى القادمين ويسألونهم عن ذويهم، ويمرون على الطوابير جيئةً وذهابًا، وعلى شفاهم الأسماء نفسها لا تتغير. ثم تحدَّث عن الهدوء الذي كان يتمدد وسط الضجيج عندما يتراجع أحدهم بسبب ما سمعه، وتنفتح في الزحام فجوة؛ تكلم عن الصراخ والبكاء الصامت اللذين كانا يعنيان الشيء ذاته، وحكى عن السيارات الجيب التابعة لمنظمات الإغاثة وهي تمرق كالسهم في المنعطفات وبين الأوحال، ولعب الأطفال عديمة الجدوى الملقاة هناك حيث تفوح عفونة البول والبراز؛ الخوف الذي استولى على الناس لرؤية مدينة المخيمات والعواصف تتلاعب بها، ومياه الأمطار توشك أن تجرفها على حد قوله، أن تُمحى من الوجود محوًا عندما تثلج السماء. كان يرسم سيناريو الرعب هذا واضعًا مقابله أوقات العصر الخاملة التي كانت تقضيها على الشاطئ، وأمسياتها في المرقص ورحلاتها إلى براتش أو شولتا أو إلى أي جزيرة أخرى. ولم يتورع عن استخدام الصور النمطية مهما كانت مستهلَكة، فكان يتكلم عن أشكال بائسة يائسة فرَّت من جحيم لتجد نفسها في آخر، بينما تحيا هي في عالَم لا تجد صُحفه شيئًا تكتبه لقرائها أهم من نزول أول السياح، شخص ألماني بالطبع، إلى المياه الباردة جدًّا وسباحته في البحر الأدرياتيكي، في نهاية مارس أو مطلع أبريل، بينما يجلس الناس في المنطقة أمام شاشات التلفزيون، يقرعون الأنخاب ابتهاجًا بأن أولاد العم في بلجراد قد نالوا نصيبهم أخيرًا، وفي الشوارع يتعانق الغرباء أو يرفعون أذرعتهم بعلامة النصر عندما تصل إليهم آخر أخبار الغارات الليلية التي شَنَّتها الطائرات الحربية.
وفق ما سمعته لم يتوقف ألماير عن سَرْد مثل هذه القصص، ويبدو أن باول كان يشعر بالرضا لسماعه تعليقاته الجارحة لها، ولكنه سرعان ما ترَك انطباعًا بأنه كان يود لو جعله يلزم الصمت التام.
«مع أنني أتفهم سلوكه الجنوني، إلا أن تطاوله عليها كان فظيعًا».
وافقتُه على رأيه.
«كان من الواضح أنه يعاملها وكأنها ارتكبت جرمًا في حقه»، أضاف: «مع أنها لم تكن تعرفه على الإطلاق».
أعقب جملته بهزة من الأكتاف، ثم حكى أنهم أوقفوه ذات مرة في مكان ما في البوسنة في أثناء تغطيته الصحفية، وتحديدًا على نقطة تفتيش كرواتية، ثم صوَّب أحدهم رشاشًا ناحيته، وسلبوه ما معه، ثم تركوه مع مُرافِقِه في منطقة حدودية، بلا سيارة وبلا أي شيء. قال ذلك وكأنه يُقدِّم تبريرًا لسلوكه.
– «تخيل أن تسلبك حفنة من السكارى كل شيء، ولا يتركوا لك إلا جلدك، كلهم يصرخون في وجهك من دون أن تفهم كلمة واحدة». ثم أضاف: «لا بُدَّ أن ذلك فظيع. وعندما يدهسك أحدهم، ثم يتحدث معك بلغتك، فإن هذا لا يزيد الطين إلا بلة».
لا أعرف لماذا لم يلفِت نظري آنذاك مدى انجذابه إلى ذلك الموقف الذي راح يرويه بمهارة. في كل مرة كان يضيف ويحذف، ورغم كل الفظائع التي يقشعر لها بدنه، كان واضحًا أن ما يرويه يدغدغ حواسه. الآن فحسب، بعد أن أدركت أن هذا الذي يستعصي على التصديق هو ما كان يدفعه إلى الاسترسال وإضافة مزيد من التفاصيل إلى الصورة التي يرسمها، اتضح لي تدريجيًّا غرضه من سرد هذه الحكايات؛ فبمجرد أن بدأتُ أفهم تناقض ما يقوله، أدركتُ أيضًا المتعة التي يبدو أنه يشعر بها وهو يحكي. لم يكن لذلك أدنى علاقة بالحقيقة كما يعرفها، ولهذا كان يدفع بما يحكيه على الفور إلى آفاق اللاحقيقي، وأعتقد أن تَحمُّسه كان يرجع إلى شعوره بحرية الحكي، إلى جهله الذي كان يترك كل الإمكانيات متاحة، إلى القدرة على التكهن، واختلاق قصص وابتداع أخرى في عملية لا تعرف بداية أو نهاية.
«ثم تجد واحدًا يقف أمامك، نافخًا صدره، عمل سنوات في مكان ما بألمانيا، ويسألك من أين أنت؟ ولا تدري بأي شيء تجيبه»، هكذا عاد يتحدث من جديد. وفجأة بات صوته رتيبًا، لا يرتفع ولا ينخفض. «وفي النهاية يظل يلوح طوال الوقت بسكين أمام وجهك من دون أن يتوقف لحظة تقريبًا عن الابتسام بشماتة».
ولأنني أُخذت على غِرَّة، فقد صنعتُ له المعروف الذي ابتغاه وسايرته، وإنْ لم يصدر عني سوى جملة عرجاء. بغباء قلتُ له إنه ليس هناك فَرْق بين مكان وآخَر و… و… إلى أن قاطعني.
«أخشى أنك مخطئ». قالها وكأنه لا يطيق التناقضات.
«إذا ذكرتَ بالصُّدفة المكان الصحيح، أو إذا كان يحب الاسم لسبب من الأسباب، فإنه يُقدِّم لك سيجارة، ويناديك ﺑ «زميلي».» ثم استطرد قائلًا: «أمَّا إذا كان حظك سيئًا، فإنه يحتضنك ويمسح أنفه في قميصك ويبلله بلعابه مثل كلب ضخم حزين».
ربما أتى ردُّ فعلي على هواه تمامًا؛ إذ إنني صمتُّ صمتًا يمنح الأهمية لما سيأتي، وكأنني أنتظر دوري، ثم قلتُ ما يتوقع سماعه مني بالضبط.
– «وماذا إذا حدث شيء آخر؟»
لم يصدر عنه رَدُّ فعل مباشر، فأضفتُ: «نفرض أنك أخطأت».
«لا أعرف»، أجاب، «فقط أتخيَّل أن عليك الاحتراس، إذا كانت حياتك عزيزة عليك».
كان بإمكاننا أن نواصل التحدث هكذا ساعات وساعات، بلا نتيجة. فيما بعدُ أدركتُ أن الأمر بِرمَّته لم يكن يعنيه إطلاقًا، وأنه كان يُجرِّب معي حوارًا دراميًّا أو مشهدًا من روايته. كان غريبًا أن أراه هكذا، لا سيما أنه لم يكن يعرف عن الحدث أكثر مما حدَث بالفعل، الباقي وليد خياله، اخترعه خِصِّيصَى لي. ربما لهذا تَردَّدتُ في أن أصدقه عندما حكى لي أنه أوصل ألماير آنذاك بعد لقائه بهيلينا إلى المنزل، وبناء على رغبته مَرُّوا بمطعم كرواتي في شارع شانتسن أو شولتربلات، حيث كانت شرذمة من الأشكال الغريبة مُكوَّمة على البار، أشكال لا يمكن أن نطلق عليها صفة غير البؤس. التلفزيون مفتوح أمامهم، وهم يحملقون في السيارة التي توقفت قبل لحظة شاعرين أن هناك مَن يترصدهم.
«وبهذا سَجَّلَ بالطبع انتصارًا لصالحه»، قال باول، «لا بُدَّ أن الموقف كان تأكيدًا لكل تَحفُّظاته عن الكروات».
نظرت إليه متشككًا: «كلام فارغ».
من دون أن أفكر انزلقَت الجملة من شفتي، فحاولتُ في اللحظة التالية أن أخفف من وقعها: «يمكنك أن تختار أي حانة تعجبك، وسترى نفس المنظر، طبعًا إذا كان يَتردَّد عليها سكارى حقيقيون. ولكن، وكما تعلم، فإن هذا لا يشير أقل إشارة إلى مكانتهم خارج الحانة».
خشيتُ أن أكون قد أَهنتُه؛ إذ إنه فجأة نهض بعد هذا الحديث الطويل، وانصرف. ولأن الحكاية لم تفارق ذهني، تَواعدتُ معه في ظهيرة اليوم التالي مباشرة في مطعم «مارينه هوف» في شارع «أدميراليتيت»، حيث كنتُ أنوي الذهاب وحدي لأكتب في هدوء. وهكذا تقابلنا هناك. ورغم حبي للأسماء الرَّنَّانة، لم أستطع أن أستلطف الناس هناك. كل شيء بدَا لي متأنقًا جميلًا أكثر من اللازم. كانت تفوح من الموجودين رائحة الحياة الناجحة، وكأن ذلك في منتهى السهولة، مسألة جمْع بسيطة؛ وأتذكَّر أنني، وأنا أنتظره، رحتُ أتفحصهم من الرأس إلى القدمين، وكأنني أُجَسِّدُ شيئًا مختلفًا عنهم تمامًا، شيئًا يطمح المرء إليه، أو كأنني نموذج الخائب، الصورة النمطية للفاشل الودود اللطيف، ومرة أخرى وقعتُ صريع التَّوهُّم بأنني لا أنتمي إلى أولئك الأشخاص. قبل ذلك دخلتُ محل أنتيكات على ناصية الشارع، وتَفرَّجتُ على محتوياته، لكنني لم أجد شيئًا له علاقة بالموضوع، باستثناء كتاب مُصوَّر نُشر في بلجراد عن السكك الحديدية في يوغوسلافيا، وقد بَهتَ وانمحى اسم وعنوان صاحبه. وجدتُ نفسي أضحك عندما رأيتُ باول يحمل معه كومة هائلة من الكتب ومعها مقالات ألماير، كل شيء كتبه عن البلقان في السنوات الأخيرة، تحقيقاته الصحفية التي قرأتُها منذ ذلك الحين مرات ومرات، محاولًا أن أجد طريقًا واضحًا وسط تلك المتاهة التي كانت تَتِّسع كُلَّما تَجوَّلتُ فيها.
ومع أن باول كان سيرحل صباح اليوم التالي إلى النمسا لحضور الجنازة، فقد أعطى انطباعًا وكأنه عائد لتوه من هناك. كان متعَبًا شاحبًا، عصبيًّا، لم يتوقف تقريبًا عن التدخين، وبمجرد أن يقول شيئًا كان يتطلع إليَّ منتظرًا موافقتي. كان واضحًا أن نفوره من المكان فاق نفوري، وعندما أخرج أشياءه كان حريصًا على ألَّا ينظر إليها أحد، ثم أسهب في شروحات طويلة. إذا صدق كلامه، فقد استمر طيلة الليل يقرأ. كان يتحدث معي بطريقة تشي بأنه يَتوقَّع مني أن أكون قد أَعددتُ نفسي مثله، وكان يعطيني مجلدًا تلو الآخر، من دون أن يُحوِّل عينيه عني، فأخذتُ أقلب الصفحات شاعرًا بالواجب، قبل أن أُنحي الكتاب جانبًا.
ثم الجملة التي تبدو — أمام الأحداث الأخيرة — وحشية في تهكمها:
تعجَّبتُ وتساءلتُ، كيف تمكَّن من إحضار هذه الكتب بمثل هذه السرعة، بل وبالطبعة الإنجليزية؟ وما زلتُ أتذكر كيف تهرَّب من الإجابة عن سؤالي، ثم اختلق شيئًا عن معهد للدراسات السلافية لم يكن متأكدًا حتى من وجوده في هامبورج، وفي النهاية غيَّر كلامه قائلًا: إنه عثر عليها في مكتبة في مكان ما في شارع «أَم جريندل»، وأدهشني أنني لم أكن أعلم بوجودها، ثم بحثتُ عنها بعد أيام من دون طائل، ربما لأنها غير موجودة على الإطلاق. كان يمارس معي لعبة «استغماية» سخيفة، ظَللتُ مدة طويلة لا أعي معناها، ولم أدرك السبب إلا عندما أخبرتني هيلينا أنها صاحبة الكُتب، وتَصوَّرتُ أن ذلك لم يكن يتناسب مع صورتها لديه، ولا سيما الصورة التي يريد أن يرسمها لها في روايته، وكذلك الصورة التي كوَّنها ألماير عنها: صورة إنسان يعيش اليوم بيومه، لا يهتم بأشياء مثل هذه، صورة امرأة من عالَم آخر تمامًا، لا شيء في رأسها غير مستحضرات التجميل وبرامج التخسيس والسياحة في عالَم مجلات الموضة.
العجيب أن باول احتفظ بمقالات ألماير ولم يُرِدْ أن يُطلِعني عليها إلا الآن، وعندما أعطاني إياها أخيرًا تصنَّع تلقائية لم تنطلِ عليَّ. عشرات من الأوراق، رزمة بأكملها من مقالات الصحف ونُسخ منها، مرتبة حسب تاريخ النشر، وبمجرَّد أن تناولتُها وقلَّبتُ فيها، لاحظتُ أنه وضع علامات، وكَتَب ملاحظات على الهامش، وجر تحت بعض الجمل خطًّا، ومرَّ عليها بألوان مختلفة لإبرازها. هذا ما يفسر زلة لسانه عندما تحدَّث عن وثائق، وعندما تناولتها، بدأ يفقد صبره كما توقعت، ولم يستغرق الأمر لحظات حتى قال تعليقًا لم يكن يستطيع على ما يبدو أن يكبته: «الريبورتاجات تبدأ بتبادُل إطلاق النيران على الحدود بين النمسا وسلوفينيا، وتنتهي في كوسوفو»، قالها بنبرات تمزج بين الرأي الشخصي والتصريح الرسمي. «مرَّ على الحادثين نحو ثمانية أعوام، لقي خلالها مئات الآلاف حتفهم».
رد فعلي التلقائي على مثل هذه الأرقام هو الرعب، ولم يكن ثمة داعٍ لأن يعرضها عليَّ بدقة؛ لأنني كنتُ مستعدًّا لسماع أسوأ الأنباء عندما أشار إلى الأوراق التي ما زالت موضوعة على ركبتي، وفجأة واصل كلامه بصوت خفيض: «حصيلة هذه الأوراق هي نهاية يوغوسلافيا».
عدا ذلك كانت تلك الأوراق تعكس كل حياة ألماير الصحفية. وشعرتُ بالدُّوار للحظات عندما حكي لي أنه باستثناء فترة تدريب عملي لدى صحيفة أخرى فإن خبرة ألماير الصحفية كانت تنحصر في تلك المقالات التي أرسلها مما يُطلَق عليه «بؤر التوتر».
«ولن تُصدِّق إذا قلتُ لك ما الذي كان ينوي أن يفعله»، استكمل كلامه، ولم ينتظر سؤالًا مني، «يمكنك أن تعتبرني خياليًّا ومُخرِّفًا، لكنه كان فعلًا يريد أن يكتب».
لم أحاول إخفاء دهشتي.
– «لكنه لم يفعل شيئًا آخر».
ما كدت ألفظ هذه الجملة حتى تطلَّع إليَّ وكأنني تَعمَّدتُ أن أسيء فهمه، ثم ما لبث أن قال محتجًّا: «أنت تعرف ما أعني»، ولم يزد حرفًا.
– «سيان عندي إذا كنت تريد أن تسمع رأيي أم لا، ولكنني أعتبره أديبًا».
بدت الجملة وكأنها مزاح، بغض النظر تمامًا عن أنني لم أكن أحب كلمة «أديب»، وأن ألماير — بعد كل معلوماتي عنه — ربما يكون آخر مَنْ ينطبق عليه هذا الوصف. وعندما أردت أن أعرف كيف وصل به الحال إذن إلى عمله القذر ذلك، تشبث باول بكلمة «أديب» كي يشعرني بخطئي.
هذا بالضبط هو باول. كنتُ أعرف أنه يحسن بي أن أصمت، وأن أتفرج عليه فحسب وهو يُلوِّح بيديه في الهواء، موزعًا طعناته وكأنه في كل مرة يقطع رأس خصم خفي، ليدافع عن شرف صديقه.
«افهم ما تريد أن تفهمه، طالما تتخيل أنك أفضل»، قال في النهاية، «ولكن قل لي من فضلك، مَن غيره كان سيتحمل كل هذا من دون أن يشكو؟»
وعندما قال إن الأمر لم يكن مصادفة أن الضحية هو ابن فلاح من التيرول، كان لا بُدَّ أن أتحكَّم في نفسي حتى لا أنفجر بسبب فجاجة التعبير، وأدركتُ لأول مرة أن تعبيره يُخفي وراءه عقدة النقص التي يشعر بها ابن الريف، وهي العقدة التي حدثتني عنها هيلينا فيما بعد. أدركتُ أنه يَندُب حظه شاعرًا بالظلم لا لسبب إلا لنشأته في الريف، وأدركتُ مدى حقده وتخيلاته المنحرفة عن معنى الرجولة.
«من بين كل أولئك القِرَدة المُتأنِّقِين الذين يزدحم القسم بهم، لا يمكنك أن ترسل قردًا واحدًا إلى الحرب». ثم أضاف: «أغلبهم سيفقد أعصابه لدى أول طلقة رصاص، وسيطير بسروال مبلول إلى بيته».
كان هذا كلامًا فارغًا، لكنني تركتُه يتكلم. إذا كان يريد أن يرى العالَم كما يحب، فليفعل. بل إنه حتى لم يُخيِّب ظني به، كل ما شعرتُ به هو نفاد الصبر؛ لأن آراءه السقيمة لم يكن وراءها طائل، وأخذتُ أنتظر أن يصل إلى نهاية حديثه.
لم أعد أتذكر بالضبط عن أي شيء آخَر تَكلَّمْنا، لكنني أعرف أنه كان يريد أن يلفظ هذه المعلومة: أنه هو الذي لفت انتباه ألماير إلى الدراسة في معهد الصحافة في هامبورج، حيث درس بالفعل. كان يحكي ذلك بمزيج واضح من الفخر والاعتراف بالذنب، وكأنه بذلك مَهَّد له الطريق؛ أي — مثلما أخشى — الطريق إلى الموت أيضًا. هذه هي طريقته في التقرب من ألماير، وكما عايشتها في مرة سابقة. قلتُ لنفسي إنه الشعور المُلحُّ ذاته الذي يدفعه لإيجاد رابطة بينهما سيتخلَّى عنها فورًا إذا ذكرتُ له شكوكي حول ذلك؛ ولكنه سرعان ما يعود إلى المحاولة من جديد، ولا يني يكرر محاولاته حتى أشعر بالإنهاك وأدعه يفعل ما يريد.
كان يعتبر القصة ملكه هو، وهو ما اتضح لي مرة أخرى عندما طلبت منه في أثناء السير أن يترك لي مقالات ألماير إلى اليوم التالي حتى أستطيع أن أصورها. كان يَودُّ لو استطاع أن يرفض، إلى هذا الحد كان مرتابًا، وكان الخوف واضحًا جدًّا في سؤاله: لماذا؛ الخوف من أن يُفرِّط في شيء، وعندما وافق انتزع مني عهدًا أن أرجعها له في الصباح قبل توجهه إلى المحطة. وفي نهاية الأمر رقَّم الأوراق، وبينما راح يعدُّها بصوت عالٍ ويكتب على الحافة السفلية لكل ورقة رقمًا ضخمًا للغاية، تناولت الورقة النقدية التي سقطت من كومة الأوراق، وأدرتُها وقلَّبتُها وحرَّكتُها أمام وجهه.
كانت ورقة بخمسمائة مليون دينار صادرة من جمهورية كرايينا الصربية في كنين؛ ولم يكن المبلغ العبثي هو وحده السبب الذي جعلني أشعر أن شيئًا شبحيًّا ينبعث من هذه الورقة، وإنما أيضًا كيان تلك الدولة المشئومة التي لم يَعُد لها وجود، وكأن الورقة مما يبيعه تُجَّار السلع القديمة والتذكارات، مثل الشعارات والأوسمة والأسلحة التي خلَّفها نظام إرهابي، نفس اللاحقيقة التي شعرتُ بها، ولم أستطع إلا بالكاد أن أتصور بشرًا من دم ولحم كانوا قبل خمسة أعوام يمسكون بهذه الورقة النقدية ويتعاملون بها.
«ما رأيك، هل كانوا يحاربون من أجلها؟»
كان سؤالًا بلا معنى، شعرتُ بذلك حتى قبل أن أُلقيه؛ غير أن باول تناوَل الورقة مني وضحك وهو يطويها بعناية ويضعها في جيبه.
«كل ما يشتهيه القلب»، أجاب مادًّا ذراعيه على اتساعهما، وكأنه مذيع في أحد برامج المسابقات التلفزيونية. «على ما يبدو كان بإمكان الناس في المناطق البعيدة تمامًا عن الساحل، ومع وجود العلاقات المناسِبة، الحصول في أسوأ الأوقات وعَبْر كل الجبهات على سمك طازج من البحر الأدرياتيكي».
لم أُعِرْ هذه الجملة اهتمامًا خاصًّا؛ لأنني لم أعتبرها جدية، ومع ذلك احتفظَتْ ذاكرتي بها، لا سيما أنني بِتُّ أظن أنها صحيحة، ولكن بدلًا من الاستفسار عمَّا يقصده، سألتُه إذا كان قد حصل على هذا التذكار العجيب الغريب من هيلينا. عندئذٍ ابتسم ابتسامة صفراء وأشاح بيديه، فقنعتُ بهذه الحركة إجابةً.
«لن تمسك في حياتها بشيء كهذا».
أتذكر جيدًا أنني ودَّعتُه بعد ذلك بقليل، ومشيتُ على طول «السور القديم»، ثم قطعتُ «سوق دار البلدية»، ونزلتُ شارع «السور الجديد» باحثًا عن محل لتصوير المستندات، وعندما أخذتُ الترام من محطة «يونجفرن شتيج» حتى حي «ألتونا» حيث كنت أسكن آنذاك، بدأتُ على الفور بالقراءة المتعمقة لمقالات ألماير. عندما وصلت إلى البيت اتصلت تليفونيًّا بالجريدة وأبلغتهم أنني مريض، واعتذرتُ عن عدم المجيء في المساء، حيث كان من المفروض أن أنوب مكان محرر في إجازة. أعددتُ قهوة، وملأتُ بها الترموس، واستلقيت بالأوراق فوق الكنبة. غصتُ في عالم محموم، هكذا أصف شعوري، وبالمقارنة مع ما قرأته كانت أبشع كوابيس الطفولة شيئًا بسيطًا هينًا. عندما وصلتُ إلى الصفحة الأخيرة كان الظلام قد بدأ يرخي سدوله، وفوق أسطح البيوت المقابلة كانت السُّحب تترك فراغات زرقاء في السماء، وفجأة انتبهت إلى أنني لم أسمع طوال الوقت ضوضاء القطارات القادمة إلى المحطة القريبة من بيتي، أو التي تغادرها، مع أن إيقاعها الرتيب هو الذي يقسم يومي في المعتاد؛ وفكرت في هيلينا، كان من الممكن أن أفكر في أي امرأة سواها، إلا أنني ركزت فكري فيها، بعد أن غلبتني تصورات عاطفية سخيفة: أن أكون قد نجوت معها من هذه الحرب، وأن أعود إليها بعد أن ينتهي كل شيء، أو — وسيكون هذا أفضل — أن أعود ببساطة، مهما بدا ذلك متناقضًا، لم أكن أريد أن أخوض مغامرة من أجل العودة مثل بطل من الأبطال العظام على شاشة السينما، كنت أريد أن أعود من دون أن أكون قد رحلت أساسًا.
ليست الفظائع والشنائع التي قرأتها هي ما أصابتني بالارتباك والحيرة، وليست الأعمال الوحشية التي كان ألماير شاهدًا على وقوعها طوال تلك السنوات، أو تلك التي سمع عنها، ولا صور القرى البوسنية المهجورة من البشر والتي حامت فيها كلاب راحت تنهش الجثث الملقاة بين المباني المدمَّرة. الأمثلة التي أحصاها كانت من الوفرة بحيث إنه لم يَعُد ما يثير التعجب. كان من الواضح أنه ليس ثمة حدود لما يمكن أن يفعله الإنسان بجسد أخيه الإنسان. كنت أندهش لما أفرزه خيال أناس كانوا عمومًا حتى وقت ارتكاب مثل هذه الجرائم «بِيض الصحائف»، مثلما يقولون؛ أي متعة كانوا يشعرون بها عندما يُجبر سجين على عض خصيتي سجين آخر حتى يفصلها عن جسده ثم يأكلها أمامه، أو أن تُبقر بطون الحوامل، أو أن يُذبح طفل بين ذراعي أمه ثم يضغطون على رأسها تجاه شعاع الدم المندفع، أو أن تُغتصب امرأة على مرأى من أبيها المحتضر. كان يذكر إلى جانب الأماكن المعروفة أماكن أخرى عديدة لم أكن قد سمعتُ بها، ناهيك أن أستطيع أن أتهجاها، أو أن أميز بين القاتل والمقتول هناك. ومع أنه لم يكن ثمة شك في أن الرفاق من كنين وبانيالوكا وباله كانوا متقدمين في الإجرام بقليل على زملائهم، مثلما تفوق أعضاء ميليشيات بلجراد على خصومهم من زغرب وموستار — ولا نريد أن نذكر زملاءهم في سراييفو — فلم أحاول على الإطلاق ترتيب هذه الفوضى. ليس هناك نهر لم يمتلئ بجثث القتلى. كل مكان — هكذا بدا لي — سيدفع المرء في المستقبل إلى أن يتساءل عمَّا يخبئه. ولكن، لم يكن كل هذا هو ما انحفر بكافة تفاصيله في ذاكرتي، على العكس، كلما أسهب ألماير في التفاصيل، تراءى لي أنها تمحو بعضها بعضًا، حتى بدت أبشع الجرائم وأفظعها عاديةً في النهاية ضمن ذلك الإطار.
في النهاية كانت الأعداد التي قابلها عبْر السنين غفيرة: أُناس من معسكرات مختلفة حكوا له ما حدث من وجهة نظرهم، جنرالات جيش استقبلوه بأريحية ولطف في قصورهم الصغيرة، أو بكامل الزي الحربي في ميدان القتال، كانوا يتصرفون وكأن الحرب نوع من أنواع التجارة، ليست أقذر من غيرها، رجال عصابات أو جنود ميليشيات يرتدون أغرب الأزياء ويفتخرون بأفعالهم المخزية، مرتزقة من نصف أوروبا، حارب بعضهم مع كل الأطراف، وأشكال أخرى من البشر، مقامرون، مَنْ يصفهم بالمغامرين يكون منافقًا. تحدَّث معهم جميعًا، زار معسكرات الأسرى الصرب والكروات، وهناك أدرك أنه لم يسأل النزلاء الأسئلة الصحيحة؛ لأن الإجابات كانت أوضح من الشمس، تحدَّث معهم ليصمت في النهاية — وكما كتب ببلاغة مؤثرة — إذ إنه لم يعد قادرًا على التفوه بكلمة واحدة، كل ما فعله هو أنه حوَّل بصره خجلًا، بل إنه شعر حتى بالخجل؛ لأنه حوَّل بصره عن هؤلاء الرجال الذين بدوا من النحافة كالهيكل العظمي. ربما بدت تقاريره مُجَمِّلة للواقع، أو مكتوبة لتُناسب قُرَّاءه مُرهَفِي الحس الجالسين في بيوتهم، إلا أنه حقَّق بها شيئًا ظل حاضرًا في كافة تحقيقاته الصحفية اللاحقة: الحيرة أمام ثرثرة السياح الذين تحدث معهم، والذين بدَءُوا يظهرون على سواحل دالماتيا بعد الكارثة، ويسافرون بسياراتهم بين القرى الجبلية المدمرة، أو يقومون برحلات قصيرة إلى البوسنة؛ ومقاومة أولئك السياح المتفاخرين بأنفسهم الذين كانوا في فترة ما يأتون كل أسبوع تقريبًا من كافة أنحاء العالم، كي يشرحوا لأهالي المنطقة لماذا كانوا يتقاتلون ويذبحون بعضهم بعضًا؛ والتواضع الذي ينتاب مَن يعرف أكثر من اللازم، وفي الوقت نفسه لا يعرف شيئًا على الإطلاق، على الأقل لا يعرف شيئًا عن أسباب كل ما حدث، غير تلك التفسيرات المعتادة الرخيصة. وكان مما يثير العجب على نحو أكبر أن التوفيق كان يجانبه في مواقف عديدة، مثلًا كان يقحم على الفور «الأوستاشا» في الحديث، كما كان يلوك في فمه على الدوام كلمة «التشيتنيك»، ويؤكد أن البندقية ليست بندقية، بل كلاشنيكوف، لا سيما عندما تُمْسِكُ بها امرأة، ويلاحظ المرء بين السطور مدى النفور والاشمئزاز الذي كان يُوَلِّدُهُ ذلك لديه، أو أنه كان يحتسي مع الجميع على الفور كأسًا من السليبوفيتس، أكثر من عشرين مرة أحصيتُ ذلك في ريبورتاجاته. هذه مجرَّد نماذج، على سبيل المثال لا الحصر، ولكن عندما يقع فوق ذلك في شراك ما يُسمى «فتاة سراييفو»، وعندما يقتبس من دفتر مذكراتها — كراسة تحوي كتابات فجة استهلكتها كافة وسائل الإعلام في أرجاء العالم — فقرات تستدر دموع القراء، ويرفض أن يسمع أن جملة كهذه — «عزيزتي ميمي، الوضع السياسي زفت» — لا يمكن أن تصدر عن فتاة في الثالثة عشرة من عمرها، فلم يكن يسع المرء سوى أن يهز رأسه ويُذَكره بقول أحد قادة الحرب — وهي جملة استشهد بها هو نفسه — إنه يرفض كل الكلام الأخلاقي المبتذَل، الأكثر من هذا استهزاؤه بكل الشكوك التي تُثار في زمن الحرب، قوله المأثور بأن تلك الشكوك مدعاة للضحك، تَرفٌ شاذٌّ، ربما لا يقدر عليه أحد إلا الأغبياء والأمريكيون.
لذلك أردت في البداية أن أسأل باول عندما قابلتُه في الصباح التالي إذا كان قد لاحظ أن أجزاء من مقالات ألماير كانت مكتوبة على نحو سيئ، إلا أنه أشار بالنفي.
«هذا يرجع إلى تعليمات الصحيفة». ثم أضاف: «إذا أراد الصحفي أن يُرضِي الجميع، فغالبًا ما تأتي مقالاته في النهاية بعيدة عمَّا حدث بالفعل».
بعد ذلك قال جملة غريبة: «بعض الذنب يرجع أيضًا إلى المُعلِّمِين».
اعتبرت ذلك مزاحًا، فضحكتُ، إلَّا أنه كان أكثر جِدِّيَّة مما اعتقدتُ، أو ربما يكون قد أراد أن يمضي في اللعبة حتى نهايتها.
«في حصص التعبير والإنشاء في المدارس يُلقِّنون أي تلميذ مُشاكس أن عليه أن يتجنب بكل الوسائل المتاحة تكرار الكلمات». ثم أضاف: «والنتيجة أن أساتذة المترادفات يحذفون الكلمة المُكرَّرة ليضعوا بدلًا منها كلمة أكثر سوءًا».
في البداية لم أفهم ما يقصده، إلا أنه لم يستمر في هرائه، بل عاد يتحدث عن ألماير، ويبدو أنه كان يريد التكلم تحديدًا عن الشيء الذي لفتَ انتباهي.
«المرء لا يحتاج سوى إلى أن ينظر كيف ينفعل ويستخدم بسرعة مفردات القتل والاغتيال». وأضاف: «ورغم أنها مبررة في بعض الأحيان، فإن تكرار هذه الكلمات أمر كارثي، سواء حدث ذلك عمدًا أم إهمالًا».
كانت أمامنا نحو ساعة حتى سفره. كان الناس يَتردَّدون على كافيتريا المحطة، حيث التقينا قبل قيام قطاره بوقت كافٍ، بينما راح هو يستعرض الأسابيع الأخيرة في حياة ألماير، متعجبًا من أنه لم يترك مكانًا لم يقصده، حتى القرى المهجورة على طول الحدود مع كوسوفو، بدْءًا من المعسكر المكتظ باللاجئين الذي كان يعذب هيلينا بالحديث عنه، حيث كانت الطائرات الحربية تمرق أحيانًا فوق رءوسهم. لخص ما عايشه، وحاولتُ أنا أن أتخيله وقد بلغ به الإجهاد غايته مع مصوره، وهما في المقاعد الخلفية في السيارة التي كان المترجم يقودها في شارع مليء بالحفر والمطبات. حاولت أن أتخيله وهو يتحدث مع مجموعة من الثوار على بار الفندق الوحيد الفخم في تيرانا، غريبًا بين رجال يحدثونه بسرعة، ويشكون القمع الذي يعانونه منذ عقود، وقبضة أياديهم ترتفع فجأة في الهواء، وعلى أكمامهم نَسر يبدو مُهدِّدًا، نَسر أسود برأسين على خلفية حمراء. حاولتُ أن أرسم له صورة وهو يهيم على وجهه في أحد موانئ جنوب ألبانيا، إلا أنني رحتُ أُحدِّق في الجموع المتزاحمة على أرصفة القطارات التي كانت تندفع من القطارات المُكدَّسة، ثم تتفرق بلا هدف أو اتجاه، على ما يبدو، ولكنهم كانوا يتوزعون وفق قانون هندسي صارم في كل أنحاء المدينة. وكأن ذلك حدث، قلتُ لنفسي، وعرفتُ في الوقت نفسه أن هذا هراء، وكأن تَردُّده كله لم يكن يهدف سوى إلى وضعه في الزمان والمكان غير المناسبين، وهناك — كما سيقولون عندئذٍ — يلقى حتفه. كان صحيحًا ما قاله باول عن «الماقبل» و«المابعد» في مثل هذه الكوارث، كان محقًّا في أن بإمكان المرء أن يقترب كما يحلو له من اللحظة التي يلفظ فيها شخص أنفاسه الأخيرة، ويُقصر من الفترة الزمنية الفاصلة بين اللحظة التي يكون فيها لا يزال حيًّا، وتلك التي يكون قد فارَق فيها الحياة، ويظل يقلل هذه المسافة الزمنية إلى الحد الذي لا يعود المرء عنده يطيق فكرة أن يحدث شيء بينهما على الإطلاق.
ليس ثمة طائل من وراء الحديث عن ذلك، إنه مُجرَّد تبادُل للكلمات من دون هدف أو معنى، وبالتالي لن يؤدِّي إلى شيء؛ لذا طلبتُ منه أن ننهي هذا الموضوع، وأن يشرح لي بدلًا من ذلك المعايير التي اتبعها لوضع علامات على مقاطع معينة في مجموعة المقالات الموضوعة أمامنا على المائدة الصغيرة.
رد قائلًا: «لا أعرف. إنه أيضًا شيء غير مهم لأنني أعرف عن ظهر قلب أهم المقاطع في كومة الأوراق هذه».
حسب رأيه لم يكن فيما كتبه ألماير سوى نقطتين تجعلان للمقالات قيمة، وأدهشني أنه أطلعني عليهما.
«أنت تذكر الحوار الذي أجراه مع المحارب على الجبهة، وحكاية الصبي الألباني الذي لقي مصرعه في إحدى الهجمات برصاصات من الخلف»، قال لي ذلك وكأنه يُقلِّب الأمر من كافة أوجهه منذ مدة طويلة. «ربما تعتبر ذلك أمرًا مبالغًا فيه، ولكن عندما نعرف الطريقة التي لقي بها حتفه، فإن الحادثين كليهما يبدوان كالنبوءة».
حقًّا، يمكن أن ينطبق كِلَا الوصفين على ما حدث له، رغم انفصالهما مكانًا وزمانًا؛ وصفه المكتوب في صيغة اتهامية لجريمة قتل وقعت وسط كوسوفو الذي نُشر مطلع العام، ولعبة السؤال والجواب في تلك المقابلة الصحفية التي اشتهرت وذاعت في كل الأرجاء، المقابَلة التي أجراها مع أحد زعماء المحاربين الكروات، وهو شخص عبوس وطائش، وذلك قبل شهر من سقوط فوكوفار التي تخلَّى عنها رجاله بعد أسابيع من الصراع حولها.
كنت في الأمسية السابقة قرأتُ — وقلبي يزداد انقباضًا — عن الصبي الذي ظل ينزف في حفرة بالشارع حتى الموت. لا بُدَّ أن إصاباته كانت في البطن والصدر، هكذا قلت لنفسي في الصباح عندما رحت أُقَلِّبُ في الصحف، ووجدت مقالة عن ألماير وإصاباته، في شبكة الأعصاب المسماة بالضفيرة الشمسية، حسبما كتبوا، رصاصات من مئات الأمتار أُطلقت من رشاش سريع الطلقات، وأن أحشائه تفتت وتناثرت.
«إذا آمنا بالخرافات فيمكن القول إنه اجتذب الكارثة إليه كمغناطيس»، تفوهْتُ بالجملة مع علمي أنه من البلاهة قول ذلك. «لا يستطيع إنسان استباق موته ووصفه بمثل هذه الدقة مثلما فعل ألماير».
لكن باول أصر على الحديث عن المقابَلة التي أجراها ألماير بالقرب من فينكوفتشي في السنة الأولى من الحرب، وقبل أيام قليلة من عيد الميلاد. تلك المقابَلة كانت تصيبني بالرعشة كلما أعدتُ قراءتها. لكأنه تحدث مع قاتله اللاحق، وسأله عن شعوره عندما يظهر إنسان على حين غِرة في مجال تصويب بندقيته، ماذا يفعل عندما تكون إصبعه على الزناد ثم يرى فجأة رأسًا في شعرة التعامد ببؤرة عدسة سلاحه.
«لا بُدَّ أن الحادث الذي تَعرَّض له في البوسنة وسُرق خلاله قد وقع له بعد ذلك بكثير»، قال باول. «ربما لم يكن قد استعد على الإطلاق لهذه المقابلة».
نظرتُ إليه متشككًا، لكنه واصل كلامه: «لأنه لن يورط نفسه في موقف مريب كاد أن يكلفه حياته في مرة سابقة».
كان التفسير في نظري أبسط من اللازم، فأجبته قائلًا: إنه ربما يخطئ في تقييم ألماير، وإنه لا يعرف إلى أي حد كان ألماير مستعدًّا لأن يقامر بكل شيء لاقتناص سَبْق صحفي.
«من الممكن أن يكون قد تَغلَّب على شكوكه في وقت ما»، قلتُ له. «هذا يكفي لتفسير سلوكه».
المعلومات التي حصل عليها ألماير من زعيم المجموعة لم تكن — حسب وصفه — مفيدة. لم يقل شيئًا جديدًا مفاجئًا عندما اعترف أن الضغط على الزناد كان في البداية صعبًا، وربما كان التشبيه أعوجَ عندما قارن ذلك بفتاة تتمنع في البداية وتشعر بالحرج وهي تخلع ملابسها لأول مرة مقابل المال، غير أنها سرعان ما تعتاد ذلك ولا تعود تشعر بأي حرج، وفي النهاية تغدو عاهرة، وتتصرف على نحو طبيعي تمامًا وكأنها وُلِدَت لتمارس هذه المهنة. وبغض النظر عن اعترافه أنه بعد المرة الأولى فحسب تَمنَّى لو استطاع أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، بينما كانت كل مرة تالية تبدو له وكأنها مُحاوَلة لمحو تلك الذكرى، غير ذلك لم ينتزع منه شيئًا ذا بال. ولم تكن هذه هي الكارثة، الكارثة كانت منحه — وهو القاتِل المحتمل — الفُرصة كي يضع نفسه في دائرة الضوء، وبدلًا من أن يحاسبه، يتيح له الفرصة ليثرثر كما يحلو له من دون أن يتساءل عمَّا إذا كان يسخر منه، من دون أن يستوقفه ويستوضح منه ماذا يقصد بقوله إنه لن يتوقف عن القتل بالجملة إلا عندما يصل رصيده من الرءوس إلى عدد حبات المسبحة.
كان ذلك تشبيهًا لافتًا، لكن باول لم يكد يقف عنده، وكان لا بُدَّ أن يبتذل صورة بلاغية من الكتاب المقدس ويحكي لي أنه نظر مرة واحدة في حياته في منظار بندقية، ومنذ ذلك الحين وهو يتمنى ألا يكون قد فعل ذلك؛ حدث ذلك في منزله، قبل سنوات، وكانت البندقية لصياد وضعها على سقف سيارته، ثم أضاف أنه عندما رأى في المنظار ثلاثة أيائل ترعى في الجانب الآخر من الوادي، ساكنة تمامًا وسط العشب الذي وصل إلى خاصرتها، فقد كان ذلك إباحيًّا وداعرًا كالخطيئة، سواء كان المرء يحب استخدام هذه الكلمة أم لا. ما قصده من وراء ذلك بدَا للوهلة الأولى فقط متناقضًا، ولكنه كان متسقًا ومنطقيًّا كلما تمعنت في الأمر، أعني أنه شعر بالصدمة عندما وقف هناك في نقطة المراقبة حابسًا أنفاسه، وفجأة أدرك أن الجنة ما كان لها يومًا أن تكون جنة، لأن عيون الرب كانت تنتهك حرمتها منذ البدء.
لاحظتُ بالطبع أنه كان معجبًا بذاته، وبأنه يجرب أمامي أشنع المبالَغات. مشبكًا يديه خلف رأسه، وكأنه يصدق تمثيله تصديقًا تامًّا، اتكأ على كرسيه منتظرًا أن تجرفني موجة حماس، أو على الأقل أن أطلب منه أن يكف عن هذا الهذيان. كان يتحدث بصوت خافت متطلعًا إلي، وحتى أتجنب نظراته تناولت كومة مقالات ألماير وشرعت أقلب فيها من جديد، إلى أن وصلت إلى المقابلة الصحفية، فأخذتُ أتأمل الصورة المطبوعة معها. رأيتُ رجلًا يحشر بندقيته تحت إبطه بلا مبالاة، واقفًا مُباعدًا بين قدميه أمام حائط منزل تَركَت فيه القنابل آثارًا لا تُحصى. الشيء المراوغ في هذه الصورة هو أن وجه الرجل كان مختفيًا وراء الدخان المتصاعد من سيجارة، وبالكاد كان المرء يتخيل ملامحه وتعبيراته. وقفته كانت مسترخية، وطاقيته الصوفية منحرفة قليلًا إلى الجانب وطرفها ملفوف لأعلى، ولذلك كان المرء يجد نفسه مرغمًا على تَخيُّل نظرة ساخرة تطل من عينيه. فيما عدا القفاز الذي يغطي نصف أصابعه لم يكن يرتدي شيئًا مما يرتديه زملاؤه، تلك الأشياء التي كادت تكون إجبارية في هذه الحرب، لا حذاءً رياضيًّا، ولا بدلة رياضية، ولا نظارة شمس، لم يكن يرتدي شيئًا لافتًا، على العكس كان بسترته الجلدية المتهدلة وبنطلونه المكرمش المتكور عند الركبتين الذي اختفت أطرافه في رقبة الحذاء يبدو تذكارًا للمرء حتى لا ينسى أن حرفة القتل تجارة منتعشة منذ آلاف السنين.
«كانت تلك المقابلة مؤثرة بالتأكيد»، قال بنبرة بدت فجأة فظة. «لا يحتاج المرء إلَّا إلى أن يفكر فيما مرَّ به من أحداث قبل ذلك».
ومع أنني بالطبع كنت قد قرأت بسرعة في اليوم السابق وصفه لما حدث فإنني لم أدرك إلى الآن ماذا قصد بحديثه عن الأسرى المفترض تَبادُلهم بعد إجراء المقابَلة الصحفية، ولماذا تعجَّب من ذلك.
«حسبما أتذكر لم يتحدث عنهم قبل ذلك، ويبقى السؤال بلا إجابة حاسمة: من أين أتوا هكذا على حين غِرة؟»
كما ورد في التقرير تحتَّم على الرجال الذين اختاروهم لذلك أن يقفوا بأذرع مرفوعة مُتجاورِين في صف واحد، وأن يسيروا في حقول الذُّرة إلى أن يصلوا بأمان إلى مجموعتهم، لكن باول لم يصدق ذلك على ما يبدو.
«إما أنه أساء الوصف، أو أن هناك شيئًا غير صحيح»، قال وكأن ذلك لا يغير من الأمر شيئًا. «النتيجة في النهاية واحدة».
على كل حال لم يكتب ألماير سوى جُمل قليلة عن ذلك في مقالاته، كما أن النهاية أتت من دون تمهيد عندما ادَّعى أنه في خاتمة المطاف لم يَعُد يرى شيئًا ولم يسمع إلا ثلاث طلقات من بعيد بينها فارق زمني واضح، نهاية مفتوحة بشكل مفضوح، ولكنني مع ذلك اعتبرت أنه من التعسف أن يخترع الإنسان شكوكًا وأن يوزع اتهاماته بلا دليل.
– لا أعرف ماذا يعني هذا كله؟
ساد الصمت، ولم يضحك باول عليَّ عندما قلتُ ذلك، إلا أنني لاحظتُ فجأة أنه تَحكَّم في نفسه بصعوبة وهو يُصوِّب إليَّ بصره باهتمام ساخر.
«ربما يمكننا استكمال القصة»، رَدَّ عليَّ من غير اقتناع كبير. «هذه مُجرَّد بداية، لن يجد المرء أفضل منها».
كان من الواضح أنه عاد يتحدث عن روايته، فلم أقاطعه، رغم أنني ما زلتُ أتذكَّر كيف بدَا إصراره آنذاك غير مفهوم، هذا الشعور المُلح الذي كان يجبره على العودة إلى الموضع نفسه دائمًا، وفي أكثر اللحظات غير المناسبة. من الظاهر أن الفظاعات التي قرأها لم تَكْفِهِ، وأنه أراد أن يستفيد منها، وبالطبع لم يصل من خلال ذلك إلا إلى عكس ما أراد، لم يستطع أن يَدعَ كل شيء كما حدث، كان يريد دومًا تجميل القصة لتناسب أغراضه، قلت لنفسي، ربما يضيف امرأة من اختراعه، امرأة ضَلَّت طريقها في متاهة الحرب، والأفضل أن تكون المرأة أمريكية تُحَوِّلُ — لمجرد وجودها — تقريرًا كئيبًا عن البلقان إلى حكاية مثيرة. طبعًا أَظْلمه عندما أقول هذا، ولكن عندما أفكر في الجهد الهائل الذي بذله كي يجد علاقة معقولة بين المقابَلة الصحفية واغتيال ألماير في كوسوفو، والنظريات العبثية التي كان خياله يتفتق عنها، والتي تَجلَّت ذروتها في افتراض أن الهدف من اغتياله هو التَّخلُّص من شاهد إثبات مُحتمَل؛ فإنني لم أَعُد أتساءل إذا كان بالفعل يصدق ما يقوله، أم أنه كان يبالغ في هذيانه البعيد كل البعد عن أي واقع.
ما زلت أتذكَّر ارتياحي عندما أوصلته إلى محطة القطار، وعندما ودَّعته قبل أن يسافر. تمهل في الصعود إلى القطار، وأتذكَّر أن كلًّا منا ظل صامتًا، وأن لحظات عديدة مملة في طولها مرت علينا وكل منا ينظر في اتجاه آخَر حتى لا تتقابل عيوننا. قلتُ لنفسي عندئذٍ: كم هي متناقضة علاقتنا، وكم هي قائمة على الصدفة، وسألتُ نفسي فجأة عمَّا أفعله هنا من الأساس. لم يتجاوز الأمر بُرْهة، ولكن الرعب أصابني في أثناء وقوفه صامتًا بجانبي، الرعب من استسلامي وتورطي في هذه الحكاية. أعتقد أنها النظرة نفسها التي أوجهها إلى ذاتي، النظرة نفسها التي أسددها إليه، والنظرة التي أحملق بها أحيانًا في كتب مصورة تضم صورًا التقطت قبل عشرين أو ثلاثين عامًا، النظرة التي أنظر بها ربما إلى مجموعة من الناس تجلس أمام مقهى في الشارع، أو أناس ينتظرون الباص في غسق الغروب، أما رَدُّ فعلي فهو الإعجاب الخالص، الدهشة التامة من أن كل هذا قد حدث بالفعل ذات يوم، الدهشة أمام أكثر المواقف عاديةً، والرعب عندما أفكر في أنني عاجز تمامًا عن تَصوُّر ما كنتُ أفعله في تلك الأثناء.
كان لا بُدَّ أن أذهب بعد الظهر إلى الصحيفة؛ لذا تَوجَّهتُ من المحطة إلى المنزل مباشرة، تدفعني رغبة قاهرة في أن أُدوِّن على الفور أهم ما قيل في اللقاء معه. الأمر في عينيه كان بالطبع خيانة، إذا عرف ما أفعله. لكن هذا تحديدًا هو ما زادني حماسة، وأدركتُ عندئذٍ أنه يَتوجَّب عليَّ الاحتراس حتى لا أرسم صورة بالغة السلبية له. عندها تَذكَّرتُ كيف قال إنه سيتوقف نهائيًّا عن العمل للصحف، وإنه سيتفرغ تمامًا في العامين المقبلين لهذا الموضوع، وما زلت أشعر بالغيظ بسبب صياغة الجملة، واغتظتُ أكثر عندما سألتُه: من أي شيء سيعيش؟ فقال كلامًا ضبابيًّا عن إرث ما، وفي أثناء ذلك — لا أعرف إذا كان عامدًا أم لا — تَحدَّث للمرة الأولى أمامي بلكنة نمساوية كريهة ومتكلَّفة.
في تلك الأثناء لم يَعد موت ألماير موضوعًا يثير اهتمام الصحف. بعد حالة الهيجان التي تلت نشر الخبر، كَثُرت التكهنات حول المسئول عن مقتله، هل هي المجموعات التابعة للحكومة التي كانت لا تزال موجودة في المنطقة، أم مجموعات المتمردين، أم ربما أولئك الذين أُطلق عليهم قُطاع الطرق — وهو وصف لا يمكن تصديقه — الذين ربما أوقفوا ألماير ومُصوِّره أملًا في اصطياد فريسة سهلة، ثم دعوا الاثنين إلى ركوب سيارتهم متذرعين بأنهم يريدون أن يرشدوهما إلى مقبرة جماعية. تَحدَّثوا عن قناصة، لكنهم في الوقت ذاته كانوا يتكلمون عن وابل من الرصاص، وحتى السؤال عمَّا إذا كان الاثنان هدفًا لهجوم متعمد، كما حدث مع صحفيين أكثر من مرة في بداية الحرب في كرواتيا، بقي بلا إجابة.
أيضًا الممرضة البلجيكية التي بقيت إلى جانب ألماير في ساعاته الأخيرة لم يكن لديها الكثير لتقوله، ولم يخرج كلامها عن المتوقَّع في مثل هذه المواقف. امتدحت شجاعته، ولم تتوقف عن تكرار أنه لم ينطق بكلمة. بقية ما ذكرته كان قلة حيلة وتأكيدات، هي بلا شك كاذبة، بأنه لم يشعر بأي ألم، وأن المصور ما زال في حالة لا تسمح له بالكلام أو أنه يرفض الحديث مع الصحفيين، وأن الجريمة — جريمة القتل العمد — قُيدت ضد مجهول.
بين كافة التقارير التي وقعَت تحت يدي منذ الحادث بدَا لي أحدها غير مناسب على الإطلاق، وهو تقرير كتبه أديب سافر إلى كوسوفو في أول أيام الغزو. ليس لأن أول ما خطر على باله أن الحادث كان يمكن أن يقع له شخصيًّا، وليس لأنه رسم صورة دراماتيكية لما حدث له عندما ضغط حارس صربي على زر أمان بندقيته في وجه الكاتب عند إحدى نقاط التفتيش، كلَّا، ما أزعجني كانت استنتاجاته وثرثرته عن الشعور الذي يصعب تفسيره، الشعور بمعايشة الحدث في أثناء وقوعه، وهو شعور ينبثق عن اختيار الخطر بمحض الإرادة. ضايقتني تلك الجملة المُبتذَلة أن على الكاتب أن يواجه على الدوام تحديات وجودية — على حد تعبيره — ولا سيما أن جملته جاءت مقرونة بالإعجاب بالذات، ما جعله يحوِّل الحرب إلى ساحة تجريب لخبراته؛ ولم أستطع أن أتخلص من الشعور بأن كل ما يهمه هو شخصه، وأن يبرر — تبريرًا يصب في مجده وشهرته — سببَ عدم وجوده في منزله خلف مكتبه، في المكان الذي قد يكون أكثر خطورة بالنسبة له. ضايقني سلوكه الذكوري المتفاخر، وخاصة أنه بدَا محسوبًا إلى أبعد حد، فقد كان يمكنه العودة في أي لحظة، وهو ما ذكَّرني بالتَّباهي الجنسي الذي ينزلق إليه أحيانًا الكُتاب في مثل عمره بعد أن ينطفئ داخلهم سعير الشهوة؛ كما ضايقني زعمه أن الأدب العظيم لا ينشأ إلا في مثل هذه الظروف، شعار سخيف، كما ضايقني افتراضه أن الحياة بكامل بهائها وعنفوانها لا تبعد كثيرًا عن الأماكن التي يزورها الموت. الصورة المُصاحِبة لِلمقالة جاءت متناسبة تمامًا مع ذلك، وفيها ظهر رجل في نهاية العقد الرابع وأوائل الخامس، غير حليق كما يليق بمثله، كنت أود أن أراه عاريًا في نصفه الأعلى، يحمل على صدره حزامين متقاطعين من طلقات الرصاص، إلا أنه كان يرتدي إحدى تلك السترات بلا أكمام — لا بُدَّ أن لها اسمًا مُعيَّنًا ومصممًا معينًا — التي تبدو كأنها صُنِعَت خِصِّيصَى للرجل الأنيق في أوقات الأزمات، والمُزوَّدة بعدد كبير من الجيوب التي توفر مكانًا لأدوات الكتابة، وأيضًا — إذا لزم الأمر — لعدة قنابل يدوية. بدا الكاتب في عيني — رغمًا عني — شخصًا مثيرًا للضحك، وعذره اليتيم هو أنه لم يكن الوحيد بين أبناء حِرْفته الذي فعل ذلك، فما أكثر المُغامِرين الذين ظهروا خلال كل تلك السنوات، بدْءًا من أولئك الذين أعلنوا أنفسهم مدافعين عن «السلافية الحقيقية»، الذين لم يَرُق شيء في أعينهم إلى درجة النقاء، طالما هم بمأمن عن العيش وفق المبادئ التي يتشدقون بها، ووصولًا إلى تلك المتبرجة الشمطاء، تلك النيويوركية المشهورة في كافة أنحاء العالم التي جاءت إلى سراييفو لتعرض أمام كاميرات التليفزيون معطفها الطويل المصنوع من الفرو الذي يصل إلى الكعبين، والذي اخترقته رصاصة، وكأنها تعرض رمزًا من رموز الانتصار.
الأفكار التي لازمتني في ذلك اليوم ولم تتركني ثانية واحدة كانت ملتوية، وما زلت أتذكَّر أنني كنتُ مُشتَّت الذهن في أثناء العمل، ولم أرد على التليفون عندما كان يرن، وأنني رحتُ أتفرج على المارة القلائل الذين كانوا يسيرون في الشارع أمام نافذتي، كيف كانوا يظهرون في مجال البصر، ثم كيف كانوا يُعاوِدون الاختفاء. ربما تكون هذه الفكرة عاطفية للغاية، إلا أن احتمال تعرضهم للإصابة أقلقتني، رجل بَدين يَتهادى في سيره ملقيًا جاكتته على كتفه، شابَّة بحذاء التزحلق، حركاتها حادَّة الزوايا، مجموعة من التلاميذ تناهت إلي صرخاتهم، كلٌّ منهم قد يُصاب في أي لحظة، وما زلتُ أذكر كيف شعرتُ فجأة بجرأتهم لاستغراقهم في أفكارهم هكذا، لحظة واحدة تكفي، ويغيبون عن الوجود. كان عليَّ أن أراجع عدة مقالات وأصححها، ولكن تَشَتُّتَ انتباهي حال من دون ذلك، ووجدتُ عَينيَّ تنظران في الاتجاه نفسه، من دون أن أقدر على تحويلهما عن الفرجة. وهكذا رحتُ أُرسل البصر إلى أوراق الشجر المتشابك في الأمام، إلى قِطَع السماء التي برزَت خلف أوراق الشجر، ثم حَوَّلتُ بصري إلى الخلف في الزاوية، حيث يسير الآن بالتأكيد شخص على طول الرصيف، مستقيم القامة، لا يفقد ثانية واحدة في التفكير بأنه ربما يكون مراقبًا، ودون أن تَرِدَ على ذهنه فكرة أن يُسرع من خطواته، أو أن يمر بأسرع ما يمكن من مدخل أحد البيوت إلى آخر.
عندما أردتُ الذهاب إلى المنزل كانت الساعة تقترب من السابعة. في الممر قابلتُ زميلة من قسم «المحليات»، ومن دون أن أكون قد فكرَّتُ في الأمر سألتُها إذا كانت تود أن تتناول العشاء معي، فوافقَت. لم تكن المرة الأولى التي نخرج فيها معًا، وإن تَباعدَت المسافات الزمنية الفاصلة بين كل مرة، أحدُنا — إما هي أو أنا — كان يَتردَّد ويتملص، أما النتيجة عَبْر الشهور فكانت نوعًا من الحساب المفتوح بيننا، أكثر من أن تكون عهدًا لم يتم الوفاء به. وكأن الواجب يحتم عليَّ أن أعاملها بلطف ورِقة، ثم أشعر بالإهانة لذلك؛ لأنني لا أتخيل شعورًا آخَر، عندئذٍ أبدأ في تجنبها، لكنها كانت أضعف مني، وكانت ترحب بي عندما أقابلها بعد أسابيع، ثم أفاجأ بأنها لا تبحث عن أعذار، بل وتسعد برؤيتي.
لم أَعُد أعلم مَنْ منا بدأ تلك اللعبة البلهاء، أعني التعليق على لقاءاتنا في أثناء حدوثها، وكأننا أشخاص في مسرحية كتبناها بأنفسنا. كانت هي تفعل ذلك ببعض التحفظ، أما أنا فكان عليَّ أن أمثل دور المندفع المتهور الذي لم أكنه. لا أفهم كيف كنا نبتهج عندما نظل لفترة طويلة نكمل كل جملة ﺑ «قال» أو «قالت»، الأمر الذي كان في نهاية الأمر لا يزيدنا إلا إرهاقًا، وكأن المتكلم ليس أحدنا، أو كأننا نتحدث نيابة عن شخص آخر وبذلك نتجنب المَخاطر. وعندما اقترحَت هي أن نتوقف عن ذلك، كان الأوان ربما قد فات. ففي تلك اللحظة كنت قد امتدحتها مديحًا مريبًا، وقلتُ لها إنها في إحدى قصص الحب ربما لا تحمل اسمًا، وأتذكر تمامًا كيف شعرتُ بظرف ما قلت، مع أنها كانت في تلك اللحظة قد سَئِمَت عبثي ومجوني، وأرادت أن تعرف ماذا أعني بذلك، وكيف قهقهَتْ ووصفتْني بالمريض عندما سألتُها — بدلًا من أن أجيبها — عن أي الأسماء تريد أن تختارها إذا تحتم أن تحمل اسمًا آخر.
ربما يجب عليَّ أن أقول بلا لف أو دوران، إن اسم زميلتي مارلينا، وإنني هذه المرة بذلت جهدًا عظيمًا كي لا أرتكب الأخطاء نفسها، ولا سيما أنني ظننتُ أن الأمسية كانت جميلة، إلى أن تحدثتُ عن وفاة ألماير، عندئذٍ جاء رد فعلها غريبًا.
«شيء يجنن»، غمغمت بلا تركيز. «شاب في عمر الزهور مثله، وفجأة لا يعود له وجود».
كلامها أثار استغرابي وعجبي، صوتها الهامس، ووجدتُ نفسي أتطلع إليها من دون أن أحرك ساكنًا وهي تأخذ بيدي وكأنني بحاجة أكيدة إلى تعزية. سواء كان السبب يرجع إلى الطريقة التي تحدثَت بها أم لا، لقد كانت على كل حال مشهورة في الصحيفة كلها بمقالاتها التي تكاد في بعض الأحيان تقطر حنوًّا وعطفًا، وكان عليَّ أن أدرك في أي طريق أسير، إلا أنني ظللتُ أُحملِق فيها صامتًا من دون أن أفعل أي شيء، آملًا ألَّا تدرك مدى ارتياعي. لم يخطر على بالي أي شيء آخَر يمكن أن أقوله، وعندما تَذكَّرتُ أنها شاركَت قبل سنوات في سلسلة مقالات نشرَتها الصحيفة في ملحقها عن اللاجئين في هامبورج، وأنها كَتبت عن فتاة من البوسنة، في الخامسة عشرة من عمرها إذا لم تخني الذاكرة، فتاة من ترافنيك، عندما تَذكَّرت ذلك لم أتردد في سؤالها عنها.
للوهلة الأولى بدَت وكأنها لا تريد أن تتكلم عن ذلك، ثم تحدثَت بانفعال ورسَمَت لي صورة للفتاة، وتَردَّدت في البداية: أترسمها بالأبيض والأسود أم بالألوان؟
«وهي بعدُ طفلة وجدَت نفسها في الشارع».
خَمَّنتُ ما قَصَدَتْهُ عندما واصلَت حديثها قائلة إنها كانت في عيون رجال كثيرين خليطًا مفزعًا، براءتها من ناحية، وفي الوقت ذاته كانت تثير الانطباع بأنها خَرجَت من حرب لتدخل في أخرى، وكانت من السذاجة بحيث إنها كانت تتكهن بعواقب تلك الحرب.
«بالتأكيد كانوا يتنافسون عليها».
رد فعلها على هذه العبارة كان مُسْتَهْجَنًا.
«أخشى أن يكونوا قد فعلوا معها أشياء أخرى تمامًا».
ثم تَردَّدتْ وكأنها ليست علي بيِّنة من أمرها، وكأنها تُفكِّر أنه من المحتمل أن أكون واحدًا من أولئك الرجال، ولبُرهة راحَت تحاول تصيُّد نظرتي من دون أن تحسم رأيها، وفي النهاية أشاحت بنظرها عَنِّي. ثم قالتْ: «ويُقال إن هناك رجالًا شعروا بالشفقة عندما تَذكُر الفتاة أمامهم اسم وطنها، أو أحسوا أنهم ضُبِطُوا متلبسين؛ لذا ألقوا بعشرة ماركات أو عشرين ماركًا، فقط ليريحوا ضميرهم ويختفوا بعدها. إلا أن معظمهم تعلقوا بها وكانوا يعودون إليها بعد كل مرة، من دون أن يشبعوا منها».
أي عاهرة مُحترِفة كان بإمكانها أن تختلق حكاية مثل هذه الحكاية، مؤثرة إلى حد القيء. إلا أن حكاية الفتاة كان بها خطأ واحد: كانت صحيحة. أبوها كان فعلًا ميتًا، أخوها فُقد في الحرب، أما هي وأمها فقد انتهى بهما المطاف في هامبورج، وسَكنَا في البداية في حاوية على إحدى السفن على حافة الميناء، ولاحقًا في شقة من غرفة واحدة بالدور الأرضي في مكان ما على الضفة الأخرى من الإلبة. قطعت دراستها، وبدأت تتعلم مهنة، ثم عملت في أكشاك الوجبات السريعة، ولم تكن تتسلم العمل في كشك حتى تنتقل إلى آخر، وهكذا انتهى بها الطريق — وقبل أن تبدأ حياتها — في ميدان الهانزا كإحدى المُشرَّدات.
بالتأكيد لم تحكِ مارلينا هذه القصة للمرة الأولى، ومن بين كل ما ذكَرَته غاضبة، بقي في ذاكرتي بوضوح تام كيف قالت وهي تصرخ بالشكوى: إن حتى أبسط العمال كانوا يطلبون منها أن تناديهم ﺑ «حضرتك»، وفي الوقت نفسه يطلقون هم عليها «الطفلة» أو «الصغيرة» أو ما شابه.
«لن تصدق ما حَكَتْه لي عن أولئك الرجال»، أضافت. «أم أنك تستطيع أن تتخيل أن بعضهم لم يكن يريد شيئًا سوى رؤيتها تبكي؟»
مِن وَقْع المفاجأة وجدتُ نفسي أردد كلماتها: «لم يكونوا يريدون سوى رؤيتها تبكي.»
لم أكن بحاجة إلى النظر تجاهها عندما أجابت بنعم، كنت أعرف أنها ستصنع بفمها حركات شبيهة بتلك التي صنعتها قبل ذلك في أثناء الأكل، عندما رَكَّزت انتباهها حتى لا يلطخ أحمر شفاهها أسنانها، الفارق الوحيد أن تعبير وجهها كان يَنمُّ هذه المرة عن اشمئزاز. كان صمتها التالي محمَّلًا بالرفض نفسه، وعندما لاحظَت أنني أحملق في الآثار التي تَركتَها شفاهها على الكأس، تَناولَت منديل السُّفرة ومسحت الآثار بكل عناية وهي تلاحقني بنظراتها. ثم صبَّت لنفسها المزيد، وتعجَّبت مرة أخرى للكمية التي شربتها في ذلك المساء، بينما أتَت هي مرة أخرى على ذكر الفتاة، ثم تَحدَّثت في عاطفية ما بعدها عاطفية عن صديقتها الصغيرة وزبائنها القذرين.
«الظاهر أنهم كانوا يُوجِّهون دائمًا نفس الأسئلة، عن الوضع في وطنها قبل الرحيل، وعمَّا ستَئول إليه الأحوال فيما بعد»، استكمَلت حديثها. «لم يكن صعبًا بالنسبة لها أن تكتشف أن أولئك المتظاهرين بالإشفاق عليها، هم تحديدًا الذين يريدون رؤيتها تبكي، عندما يسألونها إذا كانت تريد العودة يومًا إلى وطنها».
بعد مرور ساعة كانت مارلينا هي التي تبكي وتَنتحب مثل مجنونة، ثم دفعتني بكلتا يديها بعد أن تَشبَّثت بي، ثم شبَّكت ذراعيها أمام صدرها، وكأنها تريد أن تتضاءل وتنكمش إلى أقل قدر ممكن، ولم تُجِب عن أسئلتي. رافقتها حتى المنزل، وقبل أن تشعل النور في الشقة قلتُ لها أن تَخلَع ملابسها، وسواء فَكَّرت في أثناء ذلك في مناوشاتنا المعتادة أم لم تفكر، لقد خلعَت قطعة بعد الأخرى وتَركَتها تسقط على الأرض، ثم استَلقَت على منتصف السجادة في حجرة النوم، في المكان الذي اعتادت أن ترقد فيه، ولكن صامتة تمامًا، ودون أن تصدر عنها هذه الأصوات التي وَددْتُ لو أستطيع أن أَسُدَّ آذاني حتى لا أسمعها. كانت الأصوات قد أمست نهنهة مكتومة لا تريد أن تنتهي، وتحت بصيص ضوء الشارع لمحتُ أنها أدارت رأسها، لم أتحرك، ثم غطيتها ولم أنطق بكلمة حتى بدَا لي أنها استغرَقت في النوم بعد أن انتظم تَنفُّسها فجأة.
بخط رديء وفي عتمة شبه تامة كتبتُ بضعة سطور على ورقة، ووضعتُها بحيث تُرى بسهولة. كنتُ على وشك المغادَرة عندما قعدَتْ وتحسسَتْ بأصابعها ناحية الأباجورة بجانب سريرها. سقطَتْ بقعة الضوء مباشرة أمام قدميها، ورغمًا عنِّي خَطوت جانبًا، وكأنني بهذه الخطوة أبتعد عن مجال رؤيتها. كنتُ خائفًا من أن تُوجِّه لي السؤال: ماذا حدث؟ لذا حاولتُ أن أهدئ من روعها قبل أن تنطق حرفًا، لكن الفحيح الذي خرج من شفتي كان من الحدة بحيث إنني ارتَعبْت.
«حاولي أن تنامي»، سمعْتُ نفسي أهمس، وشعرتُ بالبلاهة؛ لأنني تَحدَّثتُ معها كأنها طفلة. «الأفضل أن تنامي».
لم أستطع أن أتجنب النطق باسمها، ورغم أنني لم أعرف ماذا كنتُ أريد بالضبط، فقد تَمنَّيت أن ترجوني أن أبقى. ولكن من الواضح أنها لم تفكر في ذلك على الإطلاق، فانصرفتُ. شقتها تقع في حي «فنترهوده» بالقرب من متنزه المدينة، وعندما خرجتُ من المنزل كان الفجر اللطيف يَعِد بيوم غير واضح المَعالم بعد، وفي السماء قمر كأنه يسير نائمًا. لو لم نكن في الصيف، ولو كنت كاتبًا يجنح إلى الخيال، لكنت بلا شك قد جعلتُ ماء نهر الألستر يَتجمَّد لأسير عليه في طريق عودتي إلى المنزل مثل أعظم الدجالين. على الأقل هذا ما فَكَّرتُ فيه وما كَتبتُه عند وصولي إلى المنزل، وعندما أتمعن فيه أجده بالطبع كلامًا فارغًا، لكنني انْسقتُ وراء أفكاري التي حَسبتُها شاعرية، ولذلك تركتُ ما دوَّنتُه كما هو.
ذَكَّرني ذلك في عبثيته ولامعقوليته بالكلمات التي تبادلْتُها مع باول عن هيلينا عندما كان قِطاره يَهُمُّ بالانطلاق، ووقف هو للحظات عند الباب وسدَّ الطريق أمام الآخَرين. كنتُ قد حدَّثته عنها، وفجأة انتبهْتُ إلى أن نَظْرته لي تَغيَّرَت، إنه يَتربَّص بي وكأنه يتحداني. وقف ضاحكًا، ورفع يديه بطريقة مسرحية وكرر اسمها، ثم باستعراضٍ خَطا إلى رصيف المحطة، ليعود بعدها إلى مكانه، ومن هناك ركَّز نظراته عليَّ، ثم فُوجئتُ عندما سألني عمَّا إذا كانت هيلينا تعجبني؛ لذا أسرعتُ بالإجابة حتى يبدو السؤال بريئًا: «لماذا تريد أن تعرف؟»
ليس هذا فحسب، بل وأجبتُ بالنفي، وعندما ظل منتظرًا مُلقيًا نظرة على ساعته ليعرف الوقت المتبقي على مغادرة القطار، صححتُ إجابتي وقلت: نعم. «أي الإجابتين تفضل؟»
كان قد شبَّك ذراعيه مرة أخرى فوق رأسه، وأمهل نفسه عدة ثوانٍ قبل أن يجيب: «لا فارق عندي. كنقطة ارتكاز يمكن قبول الإجابتين».
كان هذا هذيانًا خالصًا. أحيانًا أعتقد أن المصير الذي رسمه لهيلينا في روايته كان محددًا وواضحًا: حتمًا ستموت. ربما يبدو أنني أبالغ عندما أدَّعي أن بقاءها على قيد الحياة أمرٌ يرجع لي، ولهذا نويتُ أن أكتب رؤية أخرى للقصة مقابل رؤيته. وأيًّا كانت نهاية القصة، فالبداية — أعرف ذلك — هي أن أحكي عن مقابلتي الأولى معها، وأن أتجاهله ولا ألتفت إليه إطلاقًا، حتى أستطيع أن أتخيل بأي عيون رأتني، غير عابئ بما سينتج عن ذلك، حتى وإنْ كتبت حكاية عاطفية مُبتذَلة؛ البداية هي أن أقول إن شيئًا ما في نظرَتها جعلني أتَشبَّث بنفسي، وإن عليَّ أن أجد لغة أخرى تمامًا، كلمات لم يَستخدمها أحد، وأن استعملها بتلقائية الغزاة، بلا خوف من بكارتها وبهائها.