طُرُق ساحرة في يوغوسلافيا
كان الصيف على وشك الانتهاء قبل أن أسمع عن حادثة باول. كنتُ أعرف أنه يعتزم قضاء أسبوعين في كرواتيا، وعندما لم يَتَّصل بي آنذاك اعتبرتُ ذلك شيئًا عاديًّا، وحتى عندما اتَّصلتُ به مرات عدة بدون جدوى لم يخطر لي على بالٍ أن يكون حدث له شيء. لعله لم يرجع بعد، أو ربما يكون — بصورة استثنائية — مشغولًا جدًّا وليس لديه وقت لي، هكذا كنتُ أقول لنفسي. ثم سافرت أنا لعدة أيام إلى هارفيتش بالعبَّارة الإنجليزية، وهو ما كنت أنتويه منذ مدة طويلة، ومن هناك سافرت إلى لندن ثم ويلز، ولم أعد أفكر فيه إلى أن عُدْتُ إلى الوطن.
حدث ذلك بالتأكيد في عصر أحد أيام الجمعة، في متنزه المدينة، في يوم من تلك الأيام التي أهيم فيها على وجهي بلا هدف، شاعرًا بالرعب من اقتراب عطلة نهاية الأسبوع. في نهاية تجوالي وقفتُ عند أحد المروج أتفرج على مباراة كرة قدم. عارِضتا المرمى كانتَا عبارة عن فانلتين على النجيلة، ولكني في الحقيقة لم أهتم بمتابعة الكرة، بل رحتُ أراقب امرأتين كان الرجال المحيطون بهما، والذين كانوا يُخرِجون بالفعل ألسنتهم، يشوطون الكرة في اتجاههما كلما أُتِيحَت الفرصة، وبمجرَّد أن تصل الكرة إلى إحداهما كانت صيحات التهليل ترتفع، وأيضًا عندما تلمس إحدى المرأتين الكُرة. أعرف، كان عليَّ مواصلة المشي، حتى لا أُصاب بتلك الحالة البائسة التي يختلط فيها الخجل بالشوق، ثم لا أجد مفرًّا من طرح هذا السؤال على نفسي: أي خطأ ارتكبته؟ إلا أن الحالة كانت قد تَمكَّنَت مني ولم أستطع مُغالَبة شعوري؛ لذا وضعتُ ابتسامة على وجهي وكأنني أريد أن أُبرهن لنفسي العكس تمامًا، ابتسامة لا يمكن أن تثير أي انطباع إلا بالبلاهة.
في تلك اللحظة تحديدًا تدحرجت الكرة في اتجاه قدمي، وقبل أن أمررها، أتت إحدى اللاعبتين تركض، ورغم زيها الغريب — سروال التدريب والكاسكيت الذي كانت تهم بنزعه — تعرَّفت عليها في النهاية: هيلينا. وقفت أمامي مثبتةً يدها في خصرها، وأحسستُ بأنني ضُبطت متلبسًا عندما عبَّرَت عن شعورها بالمفاجأة، فقلتُ ما جاء على لساني، إنها صُدفة، ورحت أرمقها من فوق لتحت، ثم أنقل بصري بينها وبين الآخَرِين في الملعب الذين راحوا بدورهم يسددون إلينا النظرات منتظرين أن تنتزع نفسها مني. سقط شعرها على وجهها، فكانت تعيده بحركات بطيئة، ثم تجفف عرقها على جبهتها، بينما رحت أنا أحملق في القطرات الدقيقة على كتفها العاري متعجبًا من أنها كلمتني ثانية ﺑ «حضرتك»، مثلما حدث في أول لقاء لنا، ثم صححت نفسها ورفعت التكليف.
لم تستمر المباراة بعد ذلك سوى دقائق قليلة، وعندما جلست معها على النجيلة، بعيدًا قليلًا عن الآخَرِين وسألتُها عن باول، لم تستطع أن تصدق أنني لم أسمع ما حدث له.
«كادت الحادثة تُودِي بحياته»، قالت وكأنها لا تريد أن تتأثر بما تقول. «فليحمد ربه لأنه لا يزال على قيد الحياة.»
لم تزل تلهث من اللعب، وعندما قالت إنه منذ ثلاثة أسابيع يرقد في غرفة العناية المركزة، لم ترَ عيناي سوى طريقة خلعها للحذاء ونزع الجوربين، ثم تمددها على النجيلة حافية مستندة على مرفقيها. راحت تحصي كل شيء بدقة متناهية، وربما لم أكن لأتذكر بعدها مباشرة ما حدث له بالضبط، ولكن كلامها كان على كل حال مروِّعًا يقشعر له البدن: سلسلة من الكسور في الضلوع أوجبت أن التنفس الاصطناعي، اضطراب في خفقان القلب، تَهشَّمَت ساقاه وحدثت كسور في فكه السفلي، هذه أمثلة على ما بدأَتْ به كلامها، ثم استفاضت في شرح كل نقطة، مستعينة بأصابع يديها في بعض الأحيان. كان الأمر عبثيًّا، هي تحكي لي عن إصاباته المختلفة هنا وهناك، بينما رحت أنا أتجول بعيني على وجهها والجزء الضئيل من البشرة البيضاء اللامعة بين سروالها والكلوت الذي انزلق لأسفل؛ كانت هي تعبر عن خوفها من احتياجه إلى شهور حتى يرقعوا جسده ويستطيع الحركة، بينما تركتُ أنا نظراتي تنساب على ذارعيها، على طول كتفها حتى عظمتي الترقوة البارزتين بوضوح، ثم إلى عنقها، ولم ألحظ أنها تنظر إليَّ إلا عندما صَمتَت فجأة.
«كنا على موعد في زغرب»، قالت وكأنها حتى الآن لا تستطيع التصديق أنه لم يأتِ إلى هناك. «لم أسافر معه بالسيارة حتى أوفر على نفسي مشقة الطريق، ولكنه كان يريد أن يحضرني من المطار.»
انتظرَتْه على ما يبدو أكثر من ساعتين، ثم ركبَتْ سيارة أجرة إلى المدينة، وذهبَت إلى مقهي في ساحة يلاتشيتش كانَا قد حدَّداه بمعونة كتاب سياحي كمكان بديل للقاء، ولم تشعر بالقلق فعلًا إلا مع هبوط الظلام. لم يكن لديها حتى رقم تليفونه، وقُرب منتصف الليل انتهى بها الأمر إلى المبيت في أحد الفنادق، ولم تعرف ما حدث إلا في صباح اليوم التالي عندما اتَّصلَت بأمه بعد أن حصلت أخيرًا على رقم تليفونها. على الفور استقَلَّت قطارًا إلى سالزبورغ حتى تزوره في عصر اليوم نفسه في المستشفى، لكنهم لم يسمحوا لها سوى بالاقتراب من باب غرفته. لم ترَ إلا شاشة فوق سريره، وعلى الفور أخفضت بصرها، وكأنها كانت تخشى أن تهبط منحنيات نبضات قلبه على الفور.
هذه هي الحقائق التي أَحصَتْها، وكأن المهم هو كتابة محضر دقيق للغاية لكل تحركاتها. لم أقاطعها إلا عندما انهمكَتْ في تحديد الأوقات، ثم استغرقَتْ في التفكير كي تُقرِّر متى حدَثَت أتفه التوافه، وهل كانت قبل هذا الشيء أو ذاك أم بعده.
«لا تلومي نفسك»، قلتُ لها مهدئًا بتلقائية. «مهما قلَّبت في الأمر، الذنب ليس ذنبك.»
بدَا أنها لا تستطيع أن تحسم أمرها، هل تومئ أم تهز رأسها نفيًا، والنتيجة كانت رعشة خفيفة لا تكاد تُلاحَظ.
«ما كان لي أن أتركه وحده.»
كان وقع كلامها على أذني كمَن يعتذر لأنه خرج من الأمر سليمًا، ومهما كان الأمر عبثيًّا، لم تُجدِ معارضتي شيئًا. لم تسمح لي بمناقشتها، وراحت تكرر هذه الجملة فحسب: «ربما ما كانت الحادثة وقعت.»
لم أَرُد عليها، لكنني رحتُ أنصت إليها وهي تشهق بصوت مسموع وتبتلع مقاطع من الكلمات، وتذكَّرت أن باول كان يتكلم بحماسة كبيرة عن ذلك. حسب ما روى لي، كان يعتقد في تلك اللحظات أن صوتها هذا له وحده، طبقة الصوت ذاتها — قلتُ لنفسي — التي قالت له بها لأول مرة «أحبك»، قريبًا جدًّا من أذنه حتى إنه شعر بطراوة أنفاسها فأصابته قشعريرة. أحببتُ بَحَّة صوتها، ذلك الصوت المتقطع النَّدِي، ووجدت أن الموقف مثير وفظيع في الوقت نفسه: إنها تتحدث معي عنه، وتبوح لي بأدق تفاصيل علاقتهما، وأنها كانت ستفعل الشيء نفسه، بالدفء ذاته، وبالإصرار عينه، وبنبرة الصوت المهزوزة نفسها، لو كان قد فارق الحياة.
لا أعرف لماذا حولتُ مجرى الحديث إلى ذلك الاتجاه، ولماذا قلتُ لها إنهما تعارفَا منذ سنوات طويلة، ولماذا سألتُها مرة أخرى أين ومتى تعارفَا، وكأنني أشك في صحة المعلومات التي قالها لي. لم يكن الدافع هو شعوري بالذنب تجاهه، وإنما — أعتقد — لأنني لم أجد موضوعًا آخر أتحدث عنه، كما أنني حاولت إقناع نفسي أنها بذلك لن تلاحظ نظراتي المثبتة عليها إذا تحدثنا طيلة الوقت عنه وحده. وبعد أن استمعت إلى كل ما حكاه لي بحماس بالغ، أتيحت لي الآن الفرصة للاستماع إلى الحكاية من وجهة نظرها هي، في جمل معدودة، وبرؤية مختلفة تمامًا؛ إذ إنها اقتصرت تقريبًا على لقائهما الأول قبل سنوات، لتقول في النهاية جملةً لم أنسها منذ ذلك اليوم: «كل ما كان يهمه هو الزمن الضائع.»
بدت الجملة غاية في التصنع، ولكن عندما حَكتْ لي بعد ذلك عن الشعور بالثقل الذي كان أول ما لفت انتباهها عند رؤيته بعد انقطاع طويل، عندما حكَت لي عن خجله، وتَهذُّبه الذي لم يعد مناسبًا للعصر، التهذب الذي كان يختفي في بعض الأحيان تحت سلوكه الفظ، اعتقدتُ أنني فهمتُ ما قصدت.
«لم يتوقف عن رسم صورة لما كان سيحدث لو لم يَسِر كل منا في طريق آخَر»، قالت مُستطْرِدة. «مع أنني أحسستُ أنه شعر بالارتياح لأن هذا هو ما حدث.»
لم أَعُد أتذكر هل قالت لي آنذاك، أم في أحد لقاءاتنا اللاحقة: إن شعوره بضياع شبابه سُدًى قد أتى على هواه، وإن لقاءها صدفةً راقه؛ لأنه أكَّد شعوره السابق. لعل ما أقوله يبدو غريبًا، لكنها أَسَرَّتْ لي بأنه منذ البداية كان يتذرع بالحجج ويقول إنه ليس الرجل المناسب لها، وإن أكبر دليل على حبه لها هو أن يتركها في سلام. كان ذلك من الشذوذ بحيث إنها بالتأكيد لم تخترعه. غير أنني لا أستطيع القول إن ذلك أثار اهتمامًا خاصًّا لديَّ، فكل هذا الكلام — بعد كافة معلوماتي عنه — كان مُجرَّد تُرَّهات وتخاريف، تنبع من جُبنه وعجزه عن الإمساك بزمام حياته بدون أية ضمانات. إنه جُنون العظمة الذي لم تظهر علاماته بعدُ على شخص ظَلَّ منتظرًا وراء السِّتار إلى أن تنتهي المسرحية، وعندما يكون الجميع غارقِين في دمائهم، يزحف متسللًا ليعلن كاذبًا أن الأمر لم يكن سينتهي على نحو أسوأ لو كان هو قام بدور البطولة.
على كل حال، في ذلك الأصيل سألتُها عمَّا إذا كانت تعرف ماذا كان يطلق عليها.
«ربما من الأفضل ألَّا تعرفي إطلاقًا»، واصلتُ حديثي عندما لم تُجب، ثم عَقَّدتُ الأمور بكلامي الذي كان خاليًا من أي لباقة. «الأفضل أن تنسي الأمر كله.»
لم تفوتني ملاحظة الرجفة التي ندت عنها رغم أنها حاولَت أن تخفيها. سدَّدَت النظر أمامها عبْر المروج في اتجاه خزان المياه ومرصد النجوم، وعندما التفتَتْ إليَّ، لاحظتُ أن نظرتها رقَّت ولانت، قبل أن تقسو مرة أخرى. رفَعَت زاوية فمها، ولكن ذلك لم يَترُك انطباعًا بالسخرية، بل ترك تعبيرًا مترددًا بين الخوف والتَّحدِّي جعلني أتعاطف معها تمامًا؛ إذ بدت لي فجأة رقيقة الشعور للغاية، وفظة وخشنة في آنٍ واحد.
ثم زدتُ الطين بلة ونطقتُ بالكلمة، وكان ذلك بلا شك خطأ، وهو ما أدركته في اللحظة نفسها لأن ردة فعلها كانت سريعة.
«مَلاك الموت.» كررَتْ من بعدي. «ملاك الموت».
شحب لونها، وبرقَت عيناها بألق نَدِي عندما راحت تُحرك يدها ببطء معذب وكأنها تمحو الكلمة.
«وقد يكون هناك ما هو أسوأ.»
وضحكتُ، ثم شَرِقتُ، وشرعتُ على الفور في سعال مصطنع لم يُرِدْ أن يتوقف، وكنتُ سعيدًا أن الآخَرِين نادَوا عليها في تلك اللحظة، وأنها نهضَت وسألتني ما إذا كنتُ أرغب في الانضمام إليهم. ورأيتُ أحد الشباب — كان قد لفتَ نظري قبل ذلك بشعره المتطاير في الريح — يرمي إليها علبة بيرة، وعندما سمعتُ نفسي أقول «لا»، وتَحجَّجتُ كاذبًا أن لديَّ ما يجب أن أفعله، كانت هي قد اختفَت وسط الشلة. أدركتُ أن المطاف سينتهي بي في عرض من العروض المتأخِّرة بإحدى دور السينما، وأنني سأبحث بعد ذلك عن خمارة لا يشعر المرء فيها بأن وحدته داعرة، وأنني لن أنام إلا عندما تطلع بشائر النهار وفي يدي قصة بوليسية. لم تكن مثل هذه الأمسية ما اصطلح الناس على تسميته أمسية جميلة، ولكنني أتقبلها كأمسية عادية، حتى وإن كنت أشعر الآن بالارتباك بعد أن تناهى صوتها إلي سمعي، وشعرتُ بأنها تَتحدَّث عني لأن الرءوس كلها التفتَتْ ناحيتي، بل لقد اعتقدتُ أنني أسمع شذرات من كلمات، ثم أرسلتُ بصري إلى ملابسي ولاحظتُ أنني أرتدي ملابس ثقيلة لا تتناسب مع الطقس الذي أضحى جميلًا وأنني أمسك بالشمسية كأنها أداة أحتاجها لعملية ما.
ربما أكون مخطئًا، إلا أنني أتخيل أن طريقة التعامل بيننا قد تَحدَّدتْ بصورة نهائية منذ ذلك اليوم. اللقاءات التالية تشابهت مع اللقاء الأول، وفيها احتل باول دائمًا صدارة الاهتمام، حتى لو لم نذكر اسمه إطلاقًا، لقد ظل هو محور أحاديثنا، سواء كانت ذاهبة لزيارته في مصحة إعادة التأهيل التي حُوِّلَ إليها في مكان ما بإقليم التيرول، أو عائدة من هناك بأحدث الأخبار. والآن يبدو لي أنني لم أقترب منها في الفترة التالية، مثلما فعلتُ في ذلك اليوم، وربما كانت المشكلة كامنة هنا تحديدًا، صراحتها المهينة تقريبًا في البداية، التي لم تجعلها فيما بعد مضطرة لأن تُذكِّرني به مرة بعد أخرى، وتحكي لي عن التقدم الذي كان يحرزه. لو لم يكن باول بيننا، لكانت طريقتنا في تَبادُل الحديث متناسبة أكثر مع بار سَيِّئ الإضاءة، في وقت ما بعد منتصف الليل، لا مع فترة العصر المشمسة التي كنا نتقابل خلالها. وسألتُ نفسي: هل هي الصدفة؟ أم أنها تَعمَّدَت ذلك منعًا لسوء الفهم واللبس؟
عندما اتصلتُ بها في الصباح التالي، وتواعدنا في مقهى «تحت أشجار الزيزفون»، كانت الجملة الأولى التي نطقَت بها بمجرد أن وقفَتْ أمامي أنها كلَّمته بالتليفون، وأنه على ما يبدو في حالة طيبة. لم تذكر شيئًا عمَّا إذا كانت قد أوصلت إليه تحياتي، ولا ما إذا كنا نتقابل. وقبل أن نجلس كانت قد شَرعتْ تحكي أنه خلال أيام سيغادر أخيرًا الكرسي المتحرك، وسيسير مستندًا على عكازين، وعمومًا فإنه يستجيب للعلاج — حسب ما قالت — استجابة ممتازة. كانت التعبيرات الطبية التي تستخدمها تَنُمُّ عن تَشبُّث، وكأن استخدامها يُبْعِدُ عنها الرعب والفزع. حاولتُ أن أتخيله وهو يقطع ممرات المصحة ذهابًا وإيابًا، مُتحسِّسًا طريقه إلى الحديقة الموجودة هناك بالتأكيد، ثم يجلس تحت شمس الظهيرة، ويطالع الصحيفة للمرة الأولى بعد أسابيع، ثم يُقَلِّبُ فيها ذاهلًا عمَّا حوله، لا يتوقف إلا عند الصور كعادته. أصغيتُ إليها من دون أن أنطق بكلمة، وعندما فَرَغَت، راحت تتلفَّتْ حواليها صامتة لبرهة قبل أن تتكلم ثانية، وتُقدِّم نوعًا من التلخيص لما حدث:
«أهم شيء أنه يستطيع الآن أن يتكلم. كان الأمر بالتأكيد فظيعًا عندما كان فمه كله مخيطًا بالأسلاك، فلم يكن يستطيع أن يأكل شيئًا تقريبًا، ناهيك عن أن ينطق بكلمة واحدة.»
تَحكَّمتُ في نفسي حتى لا أذكر الصور التي رأيتها قبل فترة قليلة في كتاب مصوَّر عن الحرب العالمية الأولى، صور إصابات جسيمة في الرأس للذين ضاعت وجوههم، ولم يبقَ منها سوى فجوة حلقومية سوداء تؤدي إلى العدم. بدلًا من ذلك سألتها عمَّا إذا كان قد عاد ليرهق أعصاب الجميع بحديثه الدائم عن روايته.
في البداية تَردَّدتْ، وكأنها أرادت أن تحتج، إلا أن السؤال الذي طرحته كان ملتبسًا كل الالتباس: «هل تقصد أن ذلك سيكون إشارة إلى أنه استعاد عافيته؟»
فجاوبتُها بضحكة، ثم حكَتْ لي أنه سأل عن الملف الذي كان موضوعًا في السيارة وقت الحادثة، كما سأل عن المظروف المُتورِّم الذي ضم ملاحظاته ومقالات ألماير المنسوخة.
«على الغلاف كانت كلمة «يوغوسلافيا» مكتوبة بخط ضخم، وعليها صليبان سميكان»، قالت بلهجة مَن لا يستطيع أن يصدق. «ليس من الممكن تَخيُّل رمز أكثر فجاجة وبلاهة.»
من لحظة لأخرى تلبَّسها عنف مفاجئ حتى إن الشَّابَّتين اللتين كانتا تجلسان معنا على الطاولة في الحديقة قطعتا حديثهما وتَطلَّعَتا إليها. لم يرتفع صوتها، ومع ذلك كان الجميع يسمع كيف تتحدث الآن عنه، ليس بتفاخر الأم التي تتكلم عن طفلها الذي يمشي أولى خطواته، وإنما باحتقار كاد يكون واضحًا. ويبدو أن باول لم يكن السبب في وصولها لتلك الحالة، بل بالأحرى ذكرى ألماير التي كانت كافية لتُلقي عليه ضوءًا مختلفًا.
«لقد تَغيَّر منذ الحادثة في كوسوفو حتى إنه من الصعب التعرُّف عليه»، هكذا ادَّعَت. «قبلها لم يكن يهتم أبدًا بما يحدث هناك، وفجأة لم يَعُد في الدنيا شيء يشغله غير ذلك.»
ورغم أنني ما زلتُ أتذكَّر تمامًا كيف كان باول حذرًا في استخدام كلمة «صديق»، قلتُ لها: إنه فَقَدَ بموت ألماير صديقًا على كل حال، ولم أكن بحاجة إلى النظر إليها لأعرف أنها تتطلع في وجهي وكأنها لم تفهم ما قلت.
«أستطيع أن أحكي لك أشياء أخرى تمامًا عنه»، قالت بعد برهة. «هل تَعْرِف أنه اتصل بي مباشرة بعد لقائنا؟»
لذتُ بالصمت، فواصَلَت: «كان على ما يبدو يود لو استطاع أن يَجرَّني إلى سريره جرًّا، حتى لو كان في نفس الأمسية يعاملني وكأنني حثالة الحثالة.»
ولم يكن ذلك هو ما يشغلها فعلًا. ما كان يشغلها هو أن باول بدأ بين عشية وضحاها يُوجِّه إليها الأسئلة مثله، وأنه كان ينبش في ماضيها كي تجيب عن الأسئلة السخيفة ذاتها؛ أين كانت عندما وقعَت أفظع المعارك في كرواتيا؟ وماذا فعلت آنذاك؟ ثم يحاصرها باتهاماته قائلًا: إنها كانت تحيا حياة جميلة بينما أهلها يموتون كالكلاب، على حد قوله.
«لقد أخذ عنه تلك السخافات المجنونة.»
تَعجَّبْت؛ لأن باول أظهر غير مرة اشمئزازًا كبيرًا تجاه ألماير الذي كان يعاملها كالخائنة بدون أي سبب ولا داعٍ.
«لا يمكن أن يكون اتهمك بأنَّك لم تُخاطري بحياتك»، قلت لها. «بنفس الحق والمنطق يمكنه إذن أن يجعلك مسئولة عن العالَم كله.»
لا أعرف إذا كان ردها يَنُمُّ عن ازدراء، ولكن نفاد صبرها لم يكن له في الحقيقة علاقة بي، بل بها هي.
«ربما كان هذا هو هدفه بالفعل.»
يبدو أن الفكرة لم تخطر على بالها إلا الآن.
«على كل حال جاءت اللحظة التي لم أَعُد أستطيع بعدها أن أسمع هذا الكلام السخيف الذي كان يختلقه مُستندًا على كل ما حكيتُه له عن نفسي»، قالت محاوِلة أن تشرح لي سبب ضيقها. «ورغم كل ذلك كان من الممكن ألا أهتم بما يقول، لكنه وصل إلى درجة أنه صدَّق بكل جدية أنه يعرف شيئًا عن حياتي.»
قالتْ لي ذلك خارج المقهى، في مكان ما بالمدينة، بعد أن نهضنا ومشينا، ولكنني لم أفهم ما تعنيه إلا تدريجيًّا، وبعد مرور فترة من الوقت. ازدحم المقهى بالزبائن، وعندما وقف على مدخل الحديقة الملحَقة بالمقهى مُغَنٍّ جوَّال يبيع أغانيه المستهلَكة عن الحب واللوعة مقابل عدة قروش، وجَدْنا أنفسنا مدفوعين إلى مغادرة المقهى، وطوال الوقت الذي تجوَّلنا خلاله في المدينة لازمني الشعور بأن ثمة خطأ ما في قُربها مني، رغم أنها تَحدَّثَت معي هذه المرة كما تَتحدَّث ربما امرأة مع امرأة لا مع رجل، إلا لو كانت نامت معه وباحت له بذلك همسًا في أذنه على الفراش، قبل أن تغدو الأسرار المكنونة في غبش الفجر أكثر النوادر ابتذالًا. ربما يرجع ذلك إليَّ، فقد أكون أيقظتُ داخلها شعورًا بالضعف جعلها تبحث عن الحماية وترى فيَّ نديمًا وحافظًا لأسرارها. ما لفَت انتباهي هو أنها بدَت بعد ذلك مختلفة، أقل تصميمًا وحسمًا، وليس كما رأيتها وسط الناس حيث تترك انطباعًا بأنها تعرف تمامًا ما تريد.
بلا شك كانت البداية عندما حَدَّثتْني عن زوجها الذي لم يذكره باول أبدًا من قبل. ربما يكون الأمر مثيرًا للسخرية، وما زِلتُ أتذكر تمامًا مدى فشلي في إخفاء وقع المفاجأة عليَّ.
«أنتِ كنتِ متزوجة؟»
كان من الواضح للغاية أنني سألقي هذا السؤال، وهكذا كان رَد فِعْلها أيضًا، رغم أنها مَنحَته نبرات مُنفعلة وكأنها فَهمَت بغتة لماذا أستغرب.
«الحقيقة، أنا نفسي لم أَعُد أصدق.»
وضحكَت وكأنها تدافع عن نفسها.
«كنتُ بنتًا صغيرة.»
أثَّرت فيَّ جُملتها، وكان عليَّ أن أنتبه حتى لا أُجيب بحزنِ رجلٍ رومانسي غارقٍ في النوستالجيا؛ وبدلًا من ذلك سألتُها كم كان عمرها آنذاك، لكنها أشاحت بيدها، وقاطعتني: «لا أعرف إلى أي شيء تريد أن تصل؟ ليس معنى ذلك أنني ارتكبتُ جريمة في حق نفسي.»
ثم قالتْ إنني أتصَرَّف كما تَصرَّف باول عندما سمع عن زوجها الأول، وأن النَّوبة نفسها من الغيرة تَلبَّسَته، الفارق الوحيد أنه كان يبالغ ويَتوهَّم أغرب الأشياء. كان يكفي — على حد قولها — أن تحكي له أنها قَضَت في بداية الحرب عدة أسابيع تتجول في أمريكا مع زوجها، حتى يخرج عن طوره تمامًا.
ثم قالت: «لم يكن يملُّ سؤالي أين كنتِ في تلك الفترة؟ وأنا كنتُ أكرر دائمًا نفس العبارة.» كان من الممكن مُلاحَظة مدى ضيقها الشديد؛ لأنها لم تدافع عن نفسها على نحو أقوى. «وسرعان ما يرضى عندما أُجيب بأدب أنني كنتُ في الدنيا الكبيرة الواسعة.»
حَملقتُ فيها غير مصدِّق.
– «أهذا هو ما كان يريد سماعه منك؟»
تَمنَّيتُ أن تقول لا، لكنها تَوقَّفَت فجأة، وأمالَت رأسها لدرجة أنني خشيتُ أن تفقد توازنها، ثم أرسلتَ إليَّ نظرة تهكمية.
«وبالحرف الواحد»، كانت إجابتها. «بل ولم يكن يخجل من أن يصحح لي أي تغيير ولو طفيف.»
وَدِدتُ لو أمسكتُ يدها، لكنني لم أجرؤ، وواصلتُ سيري بجانبها صامتًا بينما أسرعَت هي في الخطو. وعندما كانت تبطئ سَيْرها؛ لأنها لم تَجِد ما تريد أن تقوله، أو لأنها كانت تريد أن تَتأكَّد أنها تَستحْوِذ على انتباهي، كانت تَشدُّ كُمِّي برفق أو تلمس برقة كوعي، إلا أنها كانت تجفل في كل مرة عندما ألتفِتُ إليها. كنتُ مستغرقًا في الإنصات إليها لدرجة أنني لم ألحظ أي الطُّرق سَلَكنا؛ لذا تَعجَّبتُ أننا وصلنا إلى نهر الألستر، وما كدنا نعبُر «جسر كندي» حتى توجَّب علينا أن نبحث عن ملجأ من زخة المطر المفاجئة، وتحت إحدى البواكي التقينا ثانية وقد استولى علينا الارتباك وكأنَّنا مُراهِقَين في الثانية عشرة يختليان لأول مرة بين أربعة جدران. على الأقل هذا ما شعرتُ به؛ لأنها كانت تتحاشى نظراتي، مرسِلةً بصرها إلى سطح المياه المتكسر، وهي تُبدِّل باستمرار القدم التي ترتكز عليها، تمامًا كما رأيتُها واقفة مع باول عند التقاطع في ساحة «سوق الخيل».
ثم حَكتْ لي أنها استيقظَت ذات يوم في غرفة أحد الفنادق، وتحديدًا في لوس أنجلوس، نصف دائخة بعد ليلة لم تَتوقَّف فيها عن الرقص، ثم شاهدَت على شاشة التليفزيون، بدون صوت، بيوتًا تحترق، ودبابة تحرك ماسورتها يمينًا ويسارًا. أُصيبتْ برِعْدة، ورأتْ سحابة من الدخان ترتفع من بعيد، ثم — سيان إذا كنتُ أصدق أو لا أصدق — تعرَّفت فجأة على الحقول، الهضبة العالية ومن خلفها الضباب الذي يكاد يخفي وراءه السلسلة الجبلية في السهول المنخفضة، هناك حيث كانت تمشى حافية وهي طفلة أثناء العطلة الصيفية، لا بُدَّ أنها كانت صغيرة وفتية، ولا بُدَّ أن وقتًا طويلًا سوف يمر حتى تشهد هذه المنطقة بنتًا صغيرة وفتية مثلها.
«اتَّصلتُ على الفور بوالدي»، وقبل أن تكمل جملتها، تردَّدتْ وكأنها تَتمعَّن في كلماتها. «كان أبي على خط التليفون، وبمجرد أن بدأ ينطق اسمي، انسابت دموعي.»
لم يكن بحاجة إلى القول إنَّ الجدة التي تعيش في قريتها بالقرب من زادار تواجه خطر الوقوع في أيدي العصابات الصربية الزاحفة ناحية المدينة، وعندما سَمعت دَوِي طلقات المدافع، كانت قد عزَمَت على العودة بأسرع ما يمكن إلى ألمانيا.
«لِحُسن الحظ تَمكَّنت من اقتناص رحلة طيران في نفس اليوم. لا أعرف ماذا كنتُ سأفعل غير ذلك.»
كأن الضفة الأخرى قد اختفَت لدقائق معدودة خلف زجاج مغبَّش، وعندما هدأ المطر وأصبح رذاذًا خفيفًا، تَحرَّكنا إلى المرسى حيث كنا نريد أن نأخذ مركبًا، إلا أنها كانت لا تزال تتحدث عن إحساسها الفجائي بأن الغشاوة قد زالت عن عينيها، وكان تَعجُّبها من نفسها لا ينتهي.
«لا أُصدِّق كيف كنتُ عمياء طوال تلك المدة.»
خلا المرسى من أي رُكَّاب غيرنا. وعندما انطلقَت المركب قالت: إنه بغض النظر عن رأيها في الحرب عند نشوبها، فإنها لم تكن تستطيع أن تخدع نفسها بعد عودتها إلا بصعوبة بالغة. ركاب المراكب الشراعية الصغيرة الذين كانوا بالتأكيد يقطعون النهر بأعداد كبيرة من ضفة إلى أخرى، وكما يفعلون دائمًا في عطلة نهاية الأسبوع، كانوا قد اختفوا من دون أي أثر، وكأن يدًا محتها محوًا من صفحة المياه. عَبْر الألواح الزجاجية التي غَطَّتها قطرات المياه رُحت أرسل النظر إلى خارج الكابينة، حيث ساد الرمادي بكافة أطيافه، وشيئًا فشيئًا كانت الألوان تَعُود، بينما أخذَت هي تحكي لي أنها كانت تزور والديها يوميًّا تقريبًا، بعد أن كانت لا تراهما لمدة أسابيع. حاولتُ أن أتخيَّل كيف كان أعمامها وعَمَّاتها يجلسون حول مائدة المطبخ يستمعون إلى الإذاعة الألمانية الموجَّهة إلى يوغوسلافيا، أو — على حد تعبيرها — إلى «البرنامج اليوغسلافي من كولونيا»، مع الأقارب الذين كانوا يأتون أفواجًا بدون موعد، ومعهم قصص جديدة مفزعة، وعندما يرن جرس التليفون، يَتبادَلون النظر في حذر. لعل السبب في ذلك يعود إلى مَشْينا المتهادي، إلى الأمواج المتأرجحة التي كادت تصل إلى مستوى النظر، إلى هذا الحد كانت المقاعد منخفضة، أو إلى إيقاع المُحرِّك الرتيب، ربما لهذا شعرت أنها تنقلني إلى زمن مضى، ليس إلى السنوات العشر الفائتة فحسب، كلَّا، إلى زمن أقدم؛ وعندما قالت إنها أحسَّت بالألم لرؤيتها كيف أصبحوا جميعهم معرَّضين للخطر مرة أخرى، وكأنهم لم يقضوا أكثر من نصف حياتهم في ألمانيا، وكأنهم لم يستوطنوها إلا منذ فترة قريبة، كأنهم ما زالوا عاجزين عن التَّحدُّث بلغة أهلها، وما زال على كل ثلاثة أو أربعة أن يتقاسموا غُرفة ضَيِّقة بدون دش في أحد بيوت العمال وقد سيطر عليهم الخوف من أن يطالبهم أحد بين عشية وضحاها أن يرحلوا، وألَّا يرى أحد وجوههم بعد اليوم، أو أن تصلهم رسالة حكومية تنبئهم بأن لم يَعُد لهم مكان هنا إذا لم يتوقف أصدقاؤهم في البلقان عن ذبح بعضهم بعضًا.
«كان الأمر فظيعًا. لأول مرة أرى والديَّ باعتبارهم أجانب»، قالت من دون أن تنظر ناحيتي. «ليس هناك شيء ينقبض له قلبي أكثر من أن أشعر بالشَّفَقة تجاههما، ومع ذلك لم أنجح في التخلص من هذا الشعور.»
ها هما يجلسان هناك، من ناحية كانَا يعلمان أن باستطاعتهما أن يستديرا ويعودا، ما زالا على العتبة، من ناحية أخرى، ثمَّة شعور برابطة الانتماء التي لا يمكن فَصْمُها، ذلك الشعور الذي كان يجثم على صدرها في بعض الأحيان ويُعيقها عن التنفس، العبء نفسه الذي تشعر به ويحملها على ألَّا ترتكب خطأ، وأن تكون ابنة بارَّة وألا تُخَيِّب أملهما فيها؛ لأنهما هجرَا وطنهما وتركَا كل شيء — مهما كان قليلًا — حتى يبدآ مرة أخرى من الصفر في بلد غريب، من الصفر بكل معنى الكلمة.
«فجأة، وبدون مُقدِّمات، حطَّت المصائب كلها فوق رءوسنا مرة أخرى.»
الطريقة التي لفظَتْ بها الكلمات لم تجعل وقعها مريرًا، وإنما بالأحرى مستسلمًا. ثم رأيتُ تعبيرًا بائسًا في عينيها عندما حكَت لي ما تَذكَّرته عندما كانت تعود — في سن الرابعة أو الخامسة — من حضانة الأطفال، لم تكن تريد أن تتحدث معهم تحت أي ظرف من الظروف باللغة الكرواتية، وفي الوقت نفسه بدأت تشعر بالخجل من اللغة الألمانية المكسرة التي كان أهلها يُدبِّرون بها أمورهم.
«لا بُدَّ أن ذلك كان كارثة بالنسبة لهم»، واصلَت كلامها بعد برهة صمت. «وإلا ما كانوا كرَّروا المُحاولة دائمًا، حتى بعد مرور فترة طويلة.»
ورغم أنها تَنحنحَت عدة مرات، فقد لاحظتُ أن صوتها يَتهدَّج، فحاولتُ قدر الإمكان أن أهدئ من روعها قائلًا: «وماذا تنتظرين من طفلة؟»
بدا عليها أنها لا تنصت إليَّ على الإطلاق.
«لا شيء»، قالت باضطراب، «لا شيء». ورفعت يديها وكأنها تصد شيئًا.
«ما يهمني هو لماذا شعرتُ فجأة بالحنين إلى أشياء سَبَّبتْ لي، هي بعينها، الرعب طوال السنوات السابقة.»
لم يكن ذلك يتناسب مع الصورة التي كوَّنها ألماير عنها، ناهيك عن باول ونوباته العصبية، ولكنها ضحكَتْ فحسب عندما سألتُها عمَّا تقصده بالضبط.
– «من الممكن أن تكون أكثر الأشياء تفاهةً.»
ثم تَحدَّثَت عن رائحة معينة، عن الاجتماعات التي كانت تُقام في شقق صغيرة تكتظ بأعداد هائلة من الناس، يجتمعون للاحتفال بعيد من الأعياد، وأنها فجأة بدأَت تفتقد بحرقة فترات بعد الظهر في المدرسة اليوغسلافية في ألمانيا، تلك الفترات تحديدًا التي كانت تتعذب خلالها والتي لم تكره شيئًا مثلها، هاتين الحصتين في شارع فيرشو حيث كانت أمها تصحبها دومًا إلى هناك.
«كلما رحتُ أعد هذه الأشياء، تناقَصت»، قالت، وكان من الواضح أنها نفسها قد فُوجِئَت بتشتُّت ذكرياتها وضبابيتها. «الأفضل ألَّا أفعل ذلك على الإطلاق.»
كانت تلك محاوَلة للتهرب من سؤالي، إلا أنني لم أُلِح عليها، ورحتُ أتفرَّج على المركب وهو يرسو ليركب شخصان يرتدي كل منهما معطفًا شفافًا واقيًا من المطر، ثم واصل المركب رحلته في اتجاه الشاطئ الآخر قبل أن يجلسا أخيرًا. اعتقدتُ أنها لن تذكر ذلك مرة أخرى، لكنها قالت عندئذٍ: إن الحرب بالنسبة لها هي اللوعة والحسرة على شيء تراه يختفي ولا يمكن استعادته، حتى لو لم يكن لهذا الشيء وجود في حياتها، ثم لوَّحت فجأة بيدها في حيرة ونظرتها مثبتة على منطقة المياه الآخذة في الاتساع والتي كانت تفصلنا عن المرسى. راحت تحملق في الأمواج المتلاطمة خلف السفينة، ثم تحدثت وكأنها تناجي نفسها، وكأنها تنتبه لأول مرة إلى هذا التناقض، ولم تكن تنتظر على الإطلاق أن أهتم بما تقول، ولا حتى أن أفهمه.
«لم يكن البلد هو ما يعنيني»، كانت جملتها ذات نهاية مفتوحة على أقصى اتساع. «كان شيئًا آخر.»
ما زالت تنظر في اتجاه آخر. لست متأكدًا تمامًا، لكنني أعتقد أنها ذكرت بعد برهة حكاية المُعلَّبات التي تبدو مُضحِكة، مُعلَّبات السمك التي كانت الجدة — حسب روايتها — قد اختزَنت منها كمية كبيرة. صندوق خشبي ممتلئ بقي سنوات، إن لم نَقُل عشرات السنين، من دون أن تمسه يد وسط الكراكيب العديدة في مخزنها. لم يكن ذلك يَنُمُّ عن شيء يلفت الانتباه سوى الحرص والتقتير المُبالَغ فيهما من شخص عايَش حربًا، ولم يكن يستطيع أن يتخيل إلا أن الحياة البشرية ستنتهي حتمًا بكارثة، إن آجلًا أو عاجلًا. وما زلت أتذكر أنني سألتُ نفسي: ماذا تقصد بكلامها؟ كانت الورقة المُلصقة على العلب هي ما تقصد. وعندما أخبرتني بذلك، كانت تستطعم كل مقطع تنطق به، ما زال صوتها في أذني، النبرة المنتصرة، وما زلت أراها أمامي وقد سدَّدت نظراتها ناحيتي فجأة.
«على العلب كانت عبارة «صُنع في يوغوسلافيا»، ولكن ما يُضْحِك هو أنهم بدلًا من أن يكتبوا تاريخ انتهاء الصلاحية، كتبوا جملة تمنح المحتويات صلاحية غير محدودة.»
كان من الممكن أن تكون تلك حكاية طريفة، ولكن حتى لو تولَّد لديها آنذاك الانطباع بأن كل ما تسمعه ليس إلا نوادر وحكايات، سواء كانت صحيحة أو مكررة إلى حدٍّ تفقد فيه أي معنى وتكتسب حقها الخاص في الوجود؛ مع ذلك كانت ثمَّة حقائق مُعيَّنة ظلت لا تستطيع تجاهلها. أبوها، مثلًا، الذي كان يغرق كل يوم في صمت أعمق من اليوم السابق، إلى أن استقل باصًا إلى دالماتيا كي يرى ما إذا كان عدد من اللاجئين قد استولوا على منزله، إصراره على إتمام الرحلة رغم استمرار الاضطرابات، ورغم أن الطُّرق البرية كانت مقطوعة والطريق الوحيد كان يمر بجزيرة باغ؛ أو أمها التي شرعت ثانية تهيم على وجهها كالشريدة في سوق حي ألتونا، لا لشيء إلا لأنها كانت تأمل في أن ترى هناك وجوهًا مألوفة؛ ومرة أخرى يتضح لها أنها لن تستطيع أن تتخلص من أَسْرِ تلك الحقائق، حتى لو سافرت بعيدًا، إلى نهاية العالم. وفجأة شعرتْ بأنها أمست ابنتهما كما لم تكن منذ فترة طويلة، وعندما طُلب منها أن تستضيف لفترة ما ابني عمها من ليكا — شابان «عظمهما طري» على حد قولها، في السابعة عشرة والتاسعة عشرة، لا يعرفان كلمة ألمانية واحدة، هربَا من وطنهما حتى لا يتم استدعاؤهما للتجنيد — فإنها كانت تقضي أمسيات بأكملها معهما، وتظل مدة طويلة معهما على مائدة الإفطار، وكانت بالتأكيد تصل كل يوم متأخرة إلى المكتب، لكنها لم تكن تشبع من صحبتهما، تنصت إلى ما يحكيانه، وتحكي هي أكثر من عادتها، كانت تتحدث وتتحدث، شاعرةً بالمفاجأة لسهولة انسياب الكلمات على لسانها، وللهدوء والثقة اللتين تمنحهما اللغة الأم.
ولعل هذا هو ما وسَّع شُقة الخلاف بينها وبين زوجها، رغم أنه بذل جهدًا فائقًا في الاهتمام بضيفيها: تَعامُله اليومي معهما، كيف كان يكرر عليهما أن يَشعرَا أنهما في بيتهما، كيف فتح الأبواب كلها على مصراعيها في الشقة هائلة الاتساع، وكيف أحضر في الأمسية الأولى أفضل زجاجة نبيذ لديه من القبو، ثم صبَّ لهما رشفة وانتظر ليسمع حكمهما على جودة النبيذ، وكأن حياتهما تخلو من أي هموم أخرى. لم تكن على يقين: هل كانت متضايقة لأنه يسلك بالفعل سلوكًا متعطفًا، أم أن هذه الاحتمالية وحدها كانت تكفيها؟ في كل تصرفاته كان واضحًا وضوح الشمس أنه نشأ في بيئة أفضل منها، وبدْءًا من نقطة معينة لم تَعُد ترى فيه إلا أنه من طبقة أخرى. من ناحية شعرت أن هذا أمر بديهي، ومن ناحية أخرى أنه يُبالِغ عندما يؤكد بإشارات من يده لا تُخطِئها العين أن بإمكانهما أن يَستخدِما أشياءه. بدا لها أنه يتعامل معهما كما يتعامل المرء مع المُعْوِزين المحتاجين، ولم يُخفِّف من شعورها أنهما كانَا يتوجهان إليه بالشكر، ويتطلعان إليه بإعجاب واحترام بالِغَين، لا لشيء سوى لأنه يرتدي أغلى البدل والكرافتات، ولأنه يمتلك سيارة لم يَرَوْها ولا في الأحلام. لم يَكُن ثمة مَفَر من أن ترى نفسها فيهما، سواء أعجبها ذلك أم لم يعجبها.
من دون أن تُمعِن في التفكير حول هذه الأمور كلها، كانَت ترفض في تلك الفترة كافة اقتراحاته وتجدها سخيفة، مثلًا عندما يقترح عليها أن تسافر معه عدة أيام إلى جزيرة سولت في بحر الشمال، رغم أنهما بعد حفل الزفاف كانَا يسافران كل أسبوع تقريبًا إلى هناك. لم يصل الأمر إلى شجار، إنها أشياء صغيرة، اختلافات طفيفة في وجهات النظر لم تكتسب في السابق أي أهمية، أخذت تراها الآن على ضوء منشئها وأصلها، بدْءًا من الهدايا التي كان يتودد بها إليها، زجاجات البرفان، الألبسة الداخلية المصنوعة من الحرير، والمفاجآت التي كان يصنعها لها عندما كانَا يقضيان ليالِيَ في أفخم الفنادق، أشياء تتناسب مع سيدة من المجتمع الراقي، وهي لم تكن ولا تريد أن تكون مثل هذه السيدة. كل ما كان في السابق يؤثر فيها تأثيرًا محرجًا أمسى باعثًا على نفورها. كانت تقول لنفسها، ليست هذه حياتها، أن تشيخ بجانب شاب مُتْرَف، عجوز وهو بعدُ في مرحلة الشباب. وعندما عادت ذات فجر مع ابني عمها من حفل موسيقي أُقيم في شارع دانتسيج، أوجعها للغاية أن تشعر به غريبًا في شقته. كان يجلس وحيدًا إلى مائدة المطبخ وأمامه زجاجتا نبيذ فارغتان، صورة مُجسِّدة للشعور بالضياع.
كان ذلك حسب روايتها يوم سقوط فوكوفار، كانت أمسية محمومة كادت تصير في كل لحظة كارثة، الموسيقيون جاءوا من جزيرة براتش التي استطاعوا أن يغادروها رغم الحصار، ولم يكن هناك ما هو أكثر عَبثِيَّة في عَينَيْها من وجوده الصامت.
«عندما رأيته جالسًا، نصفه في الظلام ونصفه في الضوء، شعرت أنه ينتمي إلى كوكب آخر»، نطقَتْ بهذه الجملة من دون أن تحاول إخفاء تأثرها بما تذكرته. «بالتأكيد كان ذلك يرجع أيضًا إلى التناقض بين صخب الحفلة وصَمْته؛ لذا بدا لي كالمنتمي إلى جنس منقرض.»
ثم استطردَت قائلة: إن الكلام ربما يبدو مستهلكًا، ولكن لم يكن هو السبب، إنها الحرب التي دمرت زيجتها.
لم أعرف بأي شيء أجيب، فالتجأتُ إلى أكثر الأسئلة بؤسًا: «ولكن، ماذا أدَّى إلى القطيعة؟»
رد فعلها كان حيرة خالصة.
«أحيانًا أسألُ نفسي هذا السؤال أيضًا»، قالت بصوت بدا متعبًا. «ما زلتُ لا أستطيع تصديق أنه لم يَحدُث بيننا أي خلاف كبير.»
فجأة تراءت لي غائبة في أفكارها، ثم نطقت متعجبةً بكلمات لم تكن تريد تصديق أن لها معنى: «قلتُ له ببساطة: إنني لا أنتمي إلى هذا المكان.»
حدث ذلك في عطلة نهاية الأسبوع، جلسَتْ معه طويلًا إلى مائدة الإفطار، ابنا عمها كانَا قد غادَرا المنزل منذ فترة، وعندئذٍ سألها عمَّا بها؛ إذ إنها لم تلمس شيئًا من الطعام.
«في الحقيقة، كنت أريد في البداية أن أتهرب من الإجابة على سؤاله، ولكن عندما أصرَّ على معرفة السبب بحثتُ عن تفسير، ولم أجد. مع أنني كنت لحظة السؤال أشعر بالرضى، ولم يخطر على بالي أن أشكو حالي.»
لو لم تلفت نظري، لَما لاحظت أن علينا النزول، ولكنتُ وَددتُ أن أظل طيلة العصر جالسًا على ظَهر المركب. لم أَنتبِه إلى أننا رَسَوْنا مرتين قبل ذلك من غير أن ينضم إلينا ركاب جدد، إلى هذا الحد كنتُ مستغرقًا في الإنصات إلى حكايتها. لا بُدَّ أن الكائِنَين اللذين يرتديان معطفين واقيين من المطر قد اختفيَا في مكان ما، تحت البلاستيك الشفاف لم يكونا ينتميان إلى الواقع، بلا جنس، غير مَرئِيَّين. مرة أخرى أصبحنا بمفردنا، وعندما وقفنا في الخارج على المعبر الخشبي وضعَتْ لبرهة يدًا على كتفي، ولم أجرؤ على فعل أي شيء حتى لا أُدمِّر تلقائية الحركة وبداهتها، ولو أن جمودي أدَّى بالطبع إلى ذلك تحديدًا. انتظرنا حتى بدأ القارب يَتحرَّك ثانية، ثم تَمشَّيتُ معها في منطقة «هارفسته هوده» الناعسة أبدًا، حيث الشوارع ما زالت مُبلَّلة بالمطر وعامرة بالأوراق المتساقطة من الشجر، حيث تُصفر الرياح بالفعل بين الأشجار مثلما هو الحال منذ مئات السنين. تَمشَّيْنا في الطُّرق التي تحفها الأشجار من الجانبين، وبدَت المنازل المبنية في الخلف أكثر تغلغلًا في العمق مما تبدو عليه في الأيام الأخرى، ولهذا السبب وحده بدَا المنظر أسطوريًّا، جميلًا وشنيعًا في آنٍ واحد.
من دون أن أعرف السبب وجدتُ نفسي أتوقف عن طرح الأسئلة، هي أيضًا صَمتَت فجأة، وكأنها شَعرت بالحرج؛ لأنها أفضت إليَّ بكل هذا. كانت هي التي اقترحَت أن نمر بمتنزه «إنوسنتيال» لتريني أين كانت تسكن آنذاك، ومع أن المتنزه كان في طريقنا، فإنها اقترحَت تأجيل ذلك إلى مرة قادمة. ربما يكون فُضولي قد أثار فزعها، إلا أنني رافقتُها رغم ذلك حتى باب منزلها، واتَّصلتُ بها تلفونيًّا بعد ساعة، وفور وصولي إلى البيت. سمعتها تقول «آلو»، ثم أنفاسها، وحاولتُ أن أتخيل كيف أنها تقف بالتليفون أمام النافذة، وقد لَفَّتْ ذراعًا حول بطنها، متطلعةً إلى السماء التي بدأت تصفو وتشف شيئًا فشيئًا حتى كادت تُمسِي بلا لون تقريبًا. بدَا الصمت وكأنه يتسع في كل مرة تأخذ فيها نفسًا بلا صوت تقريبًا، يتسع ويتسع، قبل أن أضع السماعة، وعندما حاولتُ مرة أخرى سمعتُ الصوت الصادر من جهاز الرَّد الآلي، كان صوتها أكثر رسميةً مما أعرفه، صوتًا مهنيًّا، كررتُ رقم تليفونها فحسب، ولم تزد شيئًا، لا اسمًا ولا أي شيء آخر.
بالطبع لم أَنْسَ باول، إلا أنني شعرتُ بالإحباط عندما حدثتني على الفور عنه بعد أن تمكنتُ من الاتصال بها أخيرًا بعد مرور يومين أو ثلاثة. كنتُ قد حاولتُ عدة مرات أن أتصل بها في المنزل من دون جدوى، إلى أن عثرتُ على رقم تليفونها المحمول. كانت الشركة قد أرسلتها في مهمة عمل، ولم يكن لديها إلا دقائق معدودة، ومع ذلك لم تجد شيئًا تفعله سوى سرد كافة الأخبار الجديدة عنه، وبالتفصيل المُمِل. كنتُ أريد أن أستمع إلى أي شيء آخر غير أنها تَحدَّثَت معه قبل قليل، أو تلك الجمل المكررة، أنه يستبشر خيرًا، وكله أمل في ألَّا يقضي نهاية الأسابيع القادمة في المستشفى، وأن الأمور إذا سارت سيرًا حسنًا فقد يخرج من المستشفى. لم تأتِ على ذِكْر لقائنا بكلمة، أو على موعد لقائنا القادم، وبدَا لي من اللامعقول أن أسمع منها بدلًا من ذلك أنه بدأ يعمل من جديد، وأنه يشخبط في دفتر كلما سَمحَت آلام رأسه التي لم تَخِف بعد، وأنه ينسج أكثر الخطط شططًا بشأن روايته.
لم أعاود الاتصال بها بعد ذلك، وعندما اتَّصلتْ هي بي تلفونيًّا وسألتْنِي عمَّا إذا كنت أودُّ أن أَمُرَّ عليها خلال ساعة لنتناول الطعام معًا، كانت ثلاثة أسابيع قد مَرَّت. اتضح أنها لم تهيئ الطعام بعد، غير أنني شعرتُ بسعادة أكبر وأنا أجلس في مطبخها متفرجًا عليها وهي تطهو. بتلقائية وعدم تَكلُّف كانت تُقلِّب في وعاء تلو الآخر، ثم تجلس إليَّ وترشف من كأس نبيذها، وهو ما حررني من الخوف أن يكون قد تَغيَّر شيء في علاقتنا منذ المرة الأخيرة، وأنها تريد أن تَصدَّني وتبعدني عنها. كان يكفي أن أُلاحِظ أنها راحَت تتحدَّث طيلة الوقت، وتحكي لي عن رحلات العمل التي تقوم بها، وتسخر منها، كل ذلك جعلني أنسى شكوكي بأكملها على الفور، وأُتابع مسحورًا كل حرف يخرج من شفتيها، حريصًا على ألَّا تلاحظ كيف أمسيتُ بين لحظة وأخرى أسير هواها.
«لو كنتَ تعلم مع أي نوع من البشر أجتمع»، قالت متحمسة. «عندهم وصفة جاهزة لكل شيء، ليسوا مثلك بشكوكك الأبدية.»
لأول مرة أسمع آراءها عَنِّي. لم يكن واضحًا ما إذا كانت تعتبر حكمها في صالحي أم ضدي، وعندما استفسرتُ أشاحَت بيديها. بعد ذلك قالتْ إنها تريد أن تصل إلى شيء آخَر، فاعتقدتُ أنني أتْلفْتُ كل شيء، رغم أنها أزالت كل لبس أو سوء تَفاهُم:
«عندما كانت الحرب دائرة، كانت هناك زبونة تسألني دائمًا عن رأيي: ماذا يجب على المرء أن يفعل مع الأطراف المتصارعة؟ وبالطبع كانت على الفور تقدم هي الإجابة.»
تردَّدتْ هُنْيهَة قبل أن تبوح لي بما تقصد، وكأنها لم تفهم حتى الآن كيف تخطر مثل هذه الفكرة على بال إنسان:
«دعيهم ينزفون حتى الموت يا عزيزتي، حتى الموت.»
تطلعتُ إليها، فأكدت هي ما قالت.
«بلد بهذا الجمال، وأناس بلا عقل، كانت تكرر ذلك عليَّ المرة بعد الأخرى، ثم تتنهد وتنظر ناحية السماء نظرةً متضرعةً.»
ما زلتُ أذكر أنها كانت قد رفعت شعرها وثبتته، وهو ما جعل عينيها تبدوان أكثر ألقًا ممَّا هما في ذاكرتي. قَفاها العاري أشعرني بضعفها ورهافة مشاعرها، لا سيما بشرتها البيضاء التي تكاد تكون شفافة وأكثر عريًا، وما زلتُ لا أجد لذلك تفسيرًا، غير أنني كلما أطَلتُ النظر إلى قفاها كنتُ أشعر شعورًا مؤثرًا لكنه غير مريح، ومع ذلك لم أكن أستطيع إلا بصعوبة انتزاع نظراتي بعيدًا عنها؛ وكأنني كنتُ في تلك اللحظات اكتشفُ أنها ستموت يومًا، فكنتُ أبحث عن تأكيد أنني مخطئ عندما أنظر مضطربًا إلى يديها محاولًا أن أُثبت نظرتي ببراءة على الخاتم بحجره الأسود اللامع في إصبعها الأوسط، والإسورة المنزلقة إلى حافة اليد والتي انْحشرَت في زاوية غريبة تحت مِعْصَم يدها.
كان أول ما فعَلَتْه عند دخولي هو أنها قادتْنِي عَبْر الشقة كلها، فاتحةً كافة الأبواب، ثم مَدَّت ذراعيها وهي تقف قائلة: «تفرج كما يحلو لك.»
كانت تلعب معي لعبة لم أفهمها إلا بالتدريج.
«افتح الخزانات إذا أردتَ»، قالت لي. لكن صوتها بدَا أقل جرأة مما حاولَت أن توحي، وهي تُكرِّر ما قالته مرة بعد مرة.
«ألقِ نظرة تحت السرير، فَتِّش في الحقيبة حتى لا يفوتك شيء، ولا تنسَ البلكونة.»
كانت تنتظر على الأقل أن أتصرَّف وكأنني أستجيب إلى إلحاحها، عندئذٍ قدَّمَت لي أول تفسير، وبكل احتقار قالت: «ربما تَجِد عَلمًا مُخطَّطًا مثل رقعة الشطرنج.»
لم أفهم تمامًا ما تريد أن تقوله، فرحتُ أتَلفَّت حولي إلى أن ذكرَت اسم ألماير، عندئذٍ عرفتُ ما كانت تقصده. حاولتُ أن أُهدِّئها، لكن ذلك لم يكن بالأمر الهين.
– «ماذا فعلتُ له حتى يسمح لنفسه بأن يُصوِّرَني كمجرمة، فقط بسبب والِدَيَّ؟»
أنا أيضًا لم يكن لديَّ تفسير.
«إنه لا يستحق أن تنفعلي هكذا من أجله»، كان ذلك كل ما استطعتُ قوله. «كان يريد أن يتفاخر أمامك، ما صدر عنه ليس إلا حماقات، هذا هو كل شيء.»
تغاضَت عمَّا قلتُ، ولكن فيما بعد، بعد أن أكلنا وجلسنا معًا على الكنبة في غرفة المعيشة، لم تستطع تجاهُل الموضوع، فكانت تعلق عليه المرة بعد الأخرى، ولا تني تعود إليه، بينما رحتُ أُقلِّب في الكتاب المصوَّر الذي دفعَت به إليَّ. كان كتابًا ضخمًا، عنوانه: «طُرق ساحرة». ها هو مرة أخرى، هذا البلد الذي يمكن اكتشافه عَبْر طرق مختلفة وعديدة، بدْءًا بالجبال المغطاة بالثلوج في الشمال وحتى أسواق الجنوب التي يظهر فيها رجال مُطَرْبَشون يحتسون القهوة، صور تُبيِّن مناظر فلكلورية تمامًا، من أعشاش اللقالق في بقعة ما من سلوفينيا حتى أجواء الغروب الكئيبة على ضفاف بحيرة على الحدود الألبانية، ومع أنني أحببتُ أن أراها وهي تتعرف على مكان ما أو أن تقول إنها كانت هنا يومًا، أو تريد الذهاب إلى هناك، فإن الشيء الوحيد الذي لفت نظري في الكتاب حقًّا هو تاريخ صدوره. لم أستطع في البداية تصديقها على الإطلاق عندما ذكرَت التاريخ، ولذلك رحتُ أبحث في الكتاب عن بيانات الطبع. كان ما قالته صحيحًا، لقد صدر الكتاب في العام السابق على اندلاع الحرب في كرواتيا. وعندما ادَّعَت أنه حتى في ذلك الوقت كانت هناك مناطق تُعتَبر غير آمنة، فإنني شعرتُ أن الأمر أكثر عبثيةً.
«في ذلك الصيف تحديدًا، وأمام قرية بائسة في كرايينا، وجد أحد معارف والديَّ نفسه في طريق محظور السير فيه، واثنين من الفتية يهددانه بأسلحة نصف آلية»، قالتْ لي. «عليه أن يعترف أنه كان محظوظًا. آنذاك كانوا في تلك المنطقة قد اعتادوا إطلاق الرصاص على السيارات المارَّة.»
بالطبع لم تكن هذه هي الحقيقة بأكملها، تمامًا مثل ظاهر الصور التي كنتُ أتفرَّج عليها. وما زلتُ أتذكَّر أنني لأول مرة اعتقدتُ أنني بدأتُ أفهم شيئًا عن ذلك البلد عندما أرتني بضعة صور لعائلتها. لم تَكُن صور لافتة، بغض النظر عن أنها لم تكن قديمة جدًّا كما اعتقدتُ للوهلة الأولى، وما زلتُ حتى الآن أتعجب من تاريخ التقاطها. ليس السبب — كما ظننت في البداية — هو أن صورًا كثيرة كانت بالأبيض والأسود، ولم يرجع أيضًا إلى الإطار الأبيض الذي يحيط بالصور، أو حوافها المشرشرة، كلَّا، بل إلى الطريقة التي كان ينظر بها جميع الأشخاص إلى الكاميرا، طريقة تبيِّن استقامة وصلاحًا كبيرين يظن المرء أنهما انقرضَا، كانت الصور توحي بتصورات جامدة عن الكبرياء والشرف والعزاء الرخيص الذي يشعر به الفقراء، وهو ما تحدثت عنه ذات مرة، الانتصار التافه الذي حققوه بعدم الاستدانة من أحد، خليط من الصور التي تثير في معظم الأحيان — وعلى الرغم من تلقائيتها الشديدة — انطباعًا وكأنها التقطت في استوديو تصوير.
أما الصورة التحفة فكانت لأبيها وإخوتها الثلاثة، غير بعيد عن منزل والديها، صورة التقطت في فترة ما، كانوا جميعًا يعملون أثناءها في ألمانيا، ثم حضروا معًا لأول مرة لزيارة الأهل في الوطن. رغم ذلك فإن الشعور الذي تولَّد لديَّ خلال رؤية الصور هو الشعور بالفقد، كانوا يشبهون تمامًا مُهاجري مطلع القرن الذين رحلوا إلى أمريكا بحثًا عن الذهب، والخبر الوحيد الذي كانوا يرسلونه إلى أقاربهم عبارة عن صورة لهم تُظهرهم في وضع الرجل الناجح، ثم لا يعودون بعد ذلك أبدًا. كانوا يَرتَدون البِدل والكرافتات، والمَعاطف الخفيفة تستريح على الذراع — رغم أن الشمس في كبد السماء تقريبًا ولا بُدَّ أن القيظ لافح — يقفون في زهوٍ كالديوك الرومية، ينظرون بالفعل إلى لا شيء، أشخاص غير حقيقيين بالمرة في وقفتهم أمام الطبيعة الرافضة، بشعرهم المنفوش وأحذيتهم الغريبة مدببة الحافة، مشيرين بفخر إلى السيارة خلفهم، سيارة ضخمة، بيضاء ذات سقف أسود ومُؤخِّرة تشبه الزعانف، كان من الممكن أن تكون راقدة في قاع بحيرة مجففة، سيارة لا تتناسب مع المكان إطلاقًا، بجانب عدة شجيرات عجفاء، وبرميل تتجمع فيه مياه المطر الذي لم يسقط ربما منذ أسابيع طويلة، ولفَّتان من الأسلاك المتشابكة تشابكًا لا يمكن فَكِّه.
كان الانطباع المُتولِّد هو الضياع التام، لا سيما وأن قناصًا أردى جنديًّا ألمانيًّا قتيلًا هناك خلال الحرب العالمية الثانية، كما روت لي هيلينا وهي تضع سَبَّابتها على الصورة.
«يقولون إن ذلك حدث في نفس المكان بالضبط.»
يبدو أنني نظرتُ إليها نظرة مستغرِبة متسائلًا عن سبب ذِكْرها ذلك الآن؛ إذ إنها كَرَّرت ما قالَتْه، ثم أضافت أن أباها — الذي كان آنذاك في الخامسة أو السادسة من عمره — رأى ما حدث.
«كان واقفًا أمامه مباشرة»، أكملَتْ كلامها من دون أن يبدو أن ذلك أثَّر فيها على نحو ما. «إذا صح ما كان يدعيه على الدوام، فقد كان الجندي قد دسَّ في يده للتو بعض البسكويت، ولكنه تأخَّر في التعبير عن شكره، إلى الأبد.»
منذ تلك اللحظة لم تُفارِق الصورة رأسي: الصبي بالشورت الذي لم يسبق له أن رأى غريبًا من قبل، وأمامه الجندي في زيه العسكري، في مكان ما في هذا القفر، ابتسامة داعية وَدُودة، وفجأة عيناه المحملقتان في جمود، نقطة حمراء على الجبين، الدم المنبثق ببطء، ثم عندئذٍ الفرقعة، وتدحرج مُدَوٍّ عَبْر التلال، حتى البوسنة على حد تعبيرها، ثم هدوء مرعب، من المنزل تَتردَّد صرخات، وقع خطوات، وكلب يشرع في النباح ثم ينتهي إلى عويل. وما زلتُ أذكر أنني انتظرتُ أن تكمل كلامها، ولكن بالنسبة لها كانت هذه هي الحكاية كلها.
«لم يكن هو القتيل الوحيد»، قلتُ من دون أن أتمعن في الأمر. «ولكن ربما يكون ما حدث بعد ذلك هو ما يمنحه الإطار الصحيح.»
كنت قد قرأت في إحدى مقالات ألماير عن الإجراءات الانتقامية التي كانت شائعة آنذاك، وعنها رحت أتحدث.
«كان حدثًا يوميًّا، ومقابل كل ألماني ميت كانوا يطلقون الرصاص على عدد سبق تحديده من الرهائن.»
تركتُ لها مهلة حتى تقول شيئًا، غير أنها لزمت الصمت.
«يُقال: إن النسبة كانت واحدًا إلى مائة»، أضفتُ عندئذٍ. «في بعض الأحيان كانت قرى بكاملها تُمحى محوًا تامًّا من الوجود.»
لم يكن واضحًا لي كيف استقبلَت كلامي. من دون أن تُحرِّك ساكنًا ظلَّت جالسة في مكانها ضامَّةً ساقيها، فأخذتُ أتجوَّل ببصري فيما حولي، على رفوف الكُتب، والصناديق الخشبية الموضوعة بجانبها. عدَا ذلك لم يكن ثَمَّة أثاث سوى الكنبة التي جلسنا عليها. على الجدار المقابل عُلِّقت لوحة تُظهِر من على بُعد كبير بيتًا أحمر على تل أصفر، وكلما أمعنتُ النظر فيها انتابتني رعدة، إلا أن اللوحة جذبتني في الوقت نفسه، ثم سدَّدتُ البصر إليها إلى أن لاحظَت والتفتَت برأسها أخيرًا ناحيتي قائلةً: إن عائلتها كانت لديها دومًا علاقة خاصة مع الألمان.
في سياق ما قالته سلفًا كان من الممكن فَهْم كلامها على وجهين، وعندما سألتُها عمَّا تقصد، تجاهلَت سؤالي وأكملتْ قائلة: إنها تعني بذلك النمساويين أيضًا.
«لقد بدأ كل ذلك قبل الحرب»، قالت في النهاية. «يرجع ذلك بالضبط إلى نهاية القرن الأخير.»
وفْقَ تصويرها للأمور لم تنقطع العلاقة يومًا، بدْءًا بِجدِّها الكبير الذي سافر عدة صيفيات على باخرة سريعة تابعة لشركة «لويد» النمساوية، بين تريستا وكوتور، ومرورًا بَجدِّها الذي كان يعمل خلال الحرب في أحد مصانع الذخيرة في جيستهاخت بالقرب من هامبورج، وانتهاء بوالديها اللذين هاجرَا نهائيًّا إلى ألمانيا.
«ولكنهم يقصرون ذلك دائمًا على أسوأ الأوقات»، أضافت بعد أن أسهبَتْ وفصَّلتْ كما يحلو لها. «أمَّا نتيجة ذلك فواضحة.»
لم أفهم تمامًا سبب تركيزها على هذه النقطة، وعندما أردتُ أن أقول لها ذلك، سبقتني بسؤال لم تنتظر عليه ردًّا.
«من أين يأتي هذا الصراخ الأبدي إذن؟»
«آنذاك لم أكن قد وجدتُ بالطبع كلمة تصف ما يحدث، لكنني لم أعد أستطيع أبدًا تَخيُّل تلك الفرحة بالمقاومة»، قالت لي. «بعد عشرين عامًا من انتهاء الحرب كان البلد كله يعيش بالتأكيد في نشوة الانتصار التي أعمته عن أي شيء آخر.»
لا بُدَّ أنها هي نفسها شعرَتْ بأن كلامها تبسيطي ومُخِل، فَصحَّحتْ نفسها وكأن انسياقها وراء تلك التأكيدات قد سبَّب لها الإحراج.
«على الأقل كانت تلك هي النظرة الرسمية للأمور.»
سدَّدَت إليَّ نظرة، غير أنني أومأتُ فحسب. بدَا عليها التردُّد في البداية، غير أنها كانت في الحقيقة تعني موقفها هي، ثم أضافت: «لقد أفاق كثيرون من سَكرتهم عندما وصلوا مرحلة البلوغ. وبينما مَضتْ حياتهم في كدٍّ وتعب لا ينتهيان، بدأ السُّيَّاح الألمان يَتقاطرون على شواطئ دالماتيا، ولم يكن مظهرهم يوحي بأنهم الخاسرون.»
لم أنتبِه إلى أن نبرتها كانت تَزداد مرارة، وعندما واصلَت كلامها بعد وقفة قصيرة كان صوتها باترًا على نحو لم أعهده من قبل.
«على كل حال لقد سمحوا لأهل البلاد بأن يعملوا على الفور سُعاةً وخدمًا، كما كانوا دائمًا بالنسبة لهم.»
وكما انفعلَت بشدة، هَمدتْ فجأة وصَمتتْ. ثم حاولتْ أن تخفي انفعالها من دون أن تنجح فعلًا. لم يعد شهيقها وزفيرها يُسمَعان إلا بالكاد، ولكن سرعان ما اتضح أنها تَكبِت أنفاسها المبهورة. بدَا عليها الحرج لأنها انساقت وراء عواطفها إلى هذا الحد، ولهذا اعتذرتْ في النهاية بطريقة مُعقَّدة مُلتفَّة.
«لكن كل هذه الحكايات لا يمكن أن تثير اهتمامك»، قالت. «إنها تبدو لك بالتأكيد وكأنها من عالَم آخَر لا علاقة لك به.»
اعتراضي لم يفد بشيء؛ إذ إنها لاذتْ منذ تلك اللحظة بالصمت. لم تحتفظ ذاكرتي إلا بشذرات مما حدث بقية الأمسية، ولم أعلم هل يرجع السبب إلى صمتها، أم إلى النبيذ الذي احتسيناه. غير أنني ما زلتُ أتذكر أنني وقفتُ بعد مرور فترة ما عند النافذة، ورحتُ أتطلع إلى الخارج، إلى الطريق العلوي المخصص لمترو الأنفاق الذي كان يمكن رؤيته بصعوبة عَبْر الأشجار، وفوقه كانت عربات المترو ساطعة الإضاءة تنزلق قبل أن يبتلعها الظلام الزاحف، بينما كانت هي تقف عند المسجل الموسيقي. اقتربَت مني وظلَّت واقفة خلفي تمامًا حتى إنني شعرت بأنفاسها خلف عنقي. لم يكن عليَّ إلا أن أستدير وآخُذها في أحضاني وأطبع قبلة على شفتيها، إلا أنني لم أفعل، وعندما بحثتُ فيما بعدُ عن السبب، لم أجد تفسيرًا سوى أنني كنتُ أحبها، وإنْ كان هذا التفسير يبدو معوجًّا، بل لعله لم يكن صحيحًا على الإطلاق.
فيما بعد انتبهتُ إلى أننا لم نذكر باول بكلمة طوال الوقت، وربما لذلك لم أكن أريد أن أتوقف بُرْهة عن الحديث عنه أثناء لقائي بها في المرة التالية. غير أنها لم تتِح لي فرصة الكلام؛ إذ راحَت تحكي لي أنها لم تتحمله إلا بصعوبة بَالِغة عندما زارَته مؤخرًا، وأنه كلما شعر بتحسُّن حالته الجسدية، ساء سلوكه على نحو لا يُطاق. ثم كرَّرتْ قولها إنها في بعض الأحيان لا تعلم كيف تُرضِيه. وعندما تساعده على ارتداء ملابسه أو عندما تنحني من دون أن يطلب منها كي تربط حذاءه، تجد نفسها مُجبَرة على سماع استنكاره وهو يتساءل: هل تعتقد أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك وحده؟ أما عندما يشتبه أدنى اشتباه في أنها تشك في قدرته على التَّذكُّر، فإن رد فعله يكون عنيفًا يصل إلى نوبات غضب جنونية، وعندما تُوَجِّهُ إليه أكثر الأسئلة براءةً، فإنه يتهمها بأنها تريد أن تختبره، مثلًا عندما تسأله عن عام تَعَرُّفِهِ إلى ألماير، وهو شيء نشرته الصحف قبلها بيوم، أو أشياء تافهة من هذا القبيل.
حدث ذلك بعد أيام قليلة من تناول العشاء لديها، خلال ساعة استراحة الظهيرة بالقرب من الشركة التي تعمل بها. لم تكف عن الاعتذار لأنها ثرثرت أكثر من اللازم، رغم أنني كنت أعارضها على الفور. وإذا لم يخدعني شعوري، فقد كان واضحًا منذ الوهلة الأولى أن شيئًا ما كان مختلفًا عن المرات السابقة، بدت في عيني أكثر تحفظًا، ولكن عندما سألتها عمَّا بها، لم تَقُل سوى: لا شيء، رغم أن الابتسامة التي وضعَتْها عندئذٍ لم تكن مُقْنِعَة. صحيح أنها لم تكن ابتسامة هازئة، كما اعتقدتُ في البداية، إلا أنها كانت ابتسامة مُتكلَّفة ومُغتصَبة، وكأنها توقَّعَت رد فعلي هذا تحديدًا. في النهاية كانت سعيدة عندما انصرفَت. بقيتُ جالسًا أتفرج عليها وهي تنتظر سيارة أجرة في الخارج كانت طلبتها تلفونيًّا، وهي تروح وتجيء على الرصيف، ثم في النهاية ظلَّتْ واقفة بذراعين متشابكين، امرأة غريبة — هكذا رأيتها من المنظور الجانبي — لا أكاد أتخيل أنني كنت لِتَوِّي أتحدث معها.
ولم يتغير شيء في ذلك، ومهما حاولت أن أُجَمِّلُ الأمر فيما بعد، فإن كل لقاءاتي التالية بها أثارت لديَّ انطباعًا بأنها تتحمل عبء تلك اللقاءات حتى تجعل علاقتنا غير مُلْزِمَة كما كانت قبل حادثة باول. كانت تنطق عدة جُمل عن حالته، عدا ذلك ظَلَّ همها الأساسي هو ألَّا تسمح بحديث حقيقي بيننا، حتى تستطيع عند عودته أن تجلس أمامي بنفس النظرة اللامبالية والرافضة التي لم أكن أخشى شيئًا مثلها. كانت موجودة عنده عندما رأيته مرة أخرى. تَظاهرَت بأنها لا تُلاحِظ وجودي، ثم لاذَت بصمت لا يمكن أن يُوصَف إلا بأنه فظ وثقيل، وكأنها تريد أن تُؤكِّد تأكيدًا مضاعفًا أن العلاقة الآن قد عادت لتكون بيني وبينه فقط. كان اللقاء في المقهى في أوتنسن، ولم أعرف هل كان الأمر مصادَفة أم مؤشرًا على اتفاقهما عندما سألني مباشرة بعد تبادُل التحية عن عدد مرات لقائي بها في فترة غيابه.
«أرجو أن تكون فَرِحًا لعودتي»، قال. «لن أختفي عن الساحة بهذه السرعة التي ربما تتخيلها.»
منذ اللحظة الأولى كان يستظرف معي بخشونة، وكأنه فقد الشعور بالمسافة الصحيحة التي تفصله عن الناس. كان طفيليًّا في لقاءاتنا الأولى، وكان يؤكد هذا الشعور عندما يضحك ضحكة فجائية. ظَللتُ أنتظر أن يتوقَّف سَيل كلامه، لا سيما أنني في بعض الأحيان لم أكد أفهم من غمغماته شيئًا، فقد كان يبتلع مقاطع وينثر الرذاذ أثناء الحديث. كان يلمسني بطريقة بديهية تمامًا، وكلما قبض على ذراعي وكأنَّه يريد أن يمتلكني، كانت هيلينا تضع يدها على كتفه وتتركها هناك إلى أن يُفهمها بحركة متراخية أنه لا يريد ذلك، أو أن ينظر إليها من دون كلمة، فتنكمش على ذاتها.
ورغم أننا في مَطلع الشتاء، كان وجهه مُتورِّدًا وكأنه عائد لتوِّه من العطلة، وقبل أن أسأله عن السبب، قال لي إنه في حالة طيبة، رغم أنه — بسبب قصر إحدى ساقيه — كان يتأرجح في كل خطوة يخطوها أثناء ذهابه إلى دورة المياه. لم أكن أحب أن أتخيل أنه يَتدلَّل، غير أنه كان رغمًا عنه يُقَلِّدُ شخصية العائد إلى الوطن بعد انتهاء الحرب، بعاهاته التي حاول أن يُخفيها عَبْر سلوكه المُتظاهِر. كان الانطباع الذي يولِّده لديَّ انطباعًا مُتكَلفًا عندما كان يُخرِج من جَيْب سُتْرته زجاجة الكونياك الصغيرة ثم يصب جرعة في قهوته، أو عندما يطلب سيجارة من الجالسين في المائدة المجاورة لنا ثم يشعلها، ليدهسها بعد ذلك في المنفضة بطريقة مُرتَبِكة، بدلًا من أن يتركها تحترق عن آخرها كما تَعوَّد، ثم يقول إن الأطباء منعوه من التدخين وكأن تقيده بتلك التعليمات مُجرَّد مزاح.
لا أستطيع التذكر ما إذا كان قد أَكْثَرَ الحديث في تلك المناسبة عن ألماير أو عن روايته، وعندما سألته عن ذلك قبل انصرافي بقليل، قال حرفيًّا إنه أنجز أعمالًا تمهيدية منذ أن غادر المستشفى، ثم رسم على شفتيه ابتسامته الراضية عن الذات، لكنه ما لبث أن تراجع عن نصف ما قاله عندما أضاف أنه يُمرِّن أصابعه فحسب. وفي اليوم بعد التالي وجدتُ في بريدي مقالة نُشرت في صحيفة نمساوية، وإذا به يتصل بي تلفونيًّا ولم أكد أفرغ من قراءتها، ثم يسألني عن رأيي. أدركتُ أنه لن يتوقف عن الإلحاح؛ لذا حاولت أن أُرضيه ببضع كلمات، لكن النتيجة كانت رغبته في سماع المزيد والمزيد.
كان تقريرًا عن صور أليس شاليك التي رآها في معرض بالمتحف اليهودي في فيينا، وقد ضمنَ التقرير أفكاره غير المثيرة، وشبه المسروقة من مجلة «الشعلة»، عن الفارق بين المراسل الحربي والصحفي الذي يكتب لقسم الرحلات في جريدة. أما دافعه إلى كتابة ذلك فهو أن المرأة حاولتْ أن تمارس كلتا المُهمَّتَين معًا، فهي قد تَنقَّلَت من معركة إلى أخرى أثناء الحرب العالمية الأولى، كما اكتشفتْ قبل الحرب وبعدها آخِر البقاع الإكزوتيكية في القارَّات المختلفة. من دون معرفة الصور لم يكن في استطاعتي القول إذا كان محقًّا في نظريته، وهي أن الحرب لديها تبدو كالسلام، والسلام كالحرب: مجموعة مُسافرِين على البحر الميت، النساء، وهي من بينهن، مختبئات خلف نظارات الشمس، ورجال يقفون حولهن في حيرة، ومما يُؤكِّد أنهم في المكان الخاطئ أنهم يضعون فوق رءوسهم ما يشبه كاب القبطان الأبيض. هذه الصورة لم تكن تختلف كثيرًا عن فرقة موسيقى عسكرية تقف أمام المُصوِّرِين في مكان ما في منطقة غاليتسيا البولندية؛ شخص يرتدي رداءً فضفاضًا يقف وحيدًا في الصحراء الليبية، لا يختلف كثيرًا عن جندي الحراسة مشدود القامة الذي يؤدي التحية العسكرية على ضفاف بحيرة غاردا الإيطالية. لم يطبعوا في الصحيفة سوى صورة واحدة، تُظهر خمس نساء يَسِرن نحو الرائي، يرتدين ملابس بيضاء وعلى وجوههن أحجبة سوداء، وعندما قرأتُ تحت الصورة: «موكب التركيات في موستار، يوغوسلافيا ١٩٢٩م»، فقد كان تعليقه حول ذلك عبثيًّا؛ إذ إنه قال إن هذه الصورة واحدة من أكثر الصور التي التقطتها حيويةً، وإنها تخلو من الجمود الذي يسيطر على المحاولات الأخرى التي قامت بها، وفيها يبدو معظم الأشخاص الذين تصورهم كالموتى، وكأنهم تماثيل شمعية تقف في طبيعة مجمدة، حتى أثناء الحر.
لم أقل له رأيي، وأعتقد أنني حاولت بعبارات مستهلَكة أن أنسحب من الأمر برمته، ويسعدني أنني لم أعد أتذكر الآن شيئًا. يكفيني أن أتذكر أنه لم ينزعج، بل ولم يعترض عندما سألتُه بدون مقدمات عن هيلينا، وبسرعة بادرني بالإجابة: «يبدو أنها في حالة جيدة.»
قالها بنبرة مَن يريد أن يجعلني أفكر في الأمر، هل أصدقه أم لا. ثم واصل قائلًا: «إنني أحسدك على ما تحكيه لك. فهي معي تبدو منغلقة تمامًا، لذلك فأنا أبذل جهدًا في السيطرة على نفسي حتى لا أندفع وأسألك عنها.»
لم يكن واضحًا بالنسبة لي ما إذا كان جادًّا فيما قاله، إلا أنني أسرعتُ وهدَّأتُه، بينما تَمهَّل هو في الرد.
– «لقد تَحدَّثت عن نظراتك.»
بذلت أقصى جهدي حتى لا أكرر ببلاهة ما يقول.
– «وماذا عنها؟»
– «تقول إنك تنظر إليها بطريقة مختلفة تمامًا عني. إنها تشعر بأنَّك تمنحها إطارًا، بينما تشعر معي بأنها تنساب إلى كل الجوانب.»
رغم أن كلامه بدَا غامضًا للغاية، فقد امتنع عن إيضاح ما يقصد، وعندما اجتمعتُ به المرة التالية، لم يُظهِر أدني اهتمام بالتحدث عنها، كما بدَا أقل مرحًا عن لقائنا الأول، ثم اعتراه فجأة مرة أخرى عدم الثقة بالنفس وكأنه في المكان الخطأ، وبالتأكيد شعر هو أيضًا بذلك. استخدم ما قالته هيلينا ذريعةً كي يعرف أين موقعه، ولم يعد يذكرها بكلمة، سوى في البداية عندما أبلغني تحيتها، وأثناء ذلك — سواء عمدًا أم لا — بدا متصلبًا مثل زوج مغفل يتحدث عن امرأته الخائنة. مر بعض الوقت إلى أن بدأ يلمح ويمزح قائلًا: إنني «وضعتُ عيني عليها». لكنني لم أُلاحِظ أن الموضوع يشغله إلى هذا الحد إلا عندما جاءني يومًا نصف سكران وانفجر قائلًا إنه كان سيقبل لو نمتُ معها، شريطة أن أترك له حكاياتها من دون أن أفسدها عليه، وألا أحرض هيلينا عليه حتى تتوقف عن تزويده بتلك الحكايات.
في تلك الفترة كان يحاول جاهدًا أن يتصل بأكبر عدد ممكن من الناس الذين تعرفوا إلى ألماير كي يعرف المزيد عنه. قام بعدة محاولات فاشلة في هذا الصدد، بدْءًا بزوجته التي فقدَت السيطرة على نفسها عندما طلَب منها أن تحكي له كل ما تعرفه عنه وكل ما تتذكره، فلم تتوقف هي عن سؤاله: متى سيبلغ أخيرًا مرحلة النضج ويقلع عن الجري وراء أوهام في رأسه لن تفيده بشيء مطلقًا، مطلقًا بكل معنى الكلمة. وسواء كان الأمر يدور حول الأرملة في زغرب، أو مؤجِّرة الغرفة بالقرب من المحطة، والتي كانت قد تُوفِّيَت قبل سنوات، أو شرايفوجل — ذلك الصحفي النكرة الذي يَتحدَّر من أصول ألمانية يوغسلافية والذي كان قد كتب عنوانه، غير أنه كان في ذلك الوقت يكتب التقارير عن القضايا التي تنظر فيها محكمة الجزاء الدولية، وحسب أقواله لم يكن لديه وقت — فقد بدَا أن النتيجة التي كان يتوصل إليها دائمًا واحدة لا تتغير. وعندما تمكَّن من التحدث مع المصوِّر الذي أُصيب بالرصاص في كوسوفو، فإنه لم يتمكن من أن يوجِّه له أسئلة، بل تحتَّم عليه أن يسمع منه طوفانًا من الكلام حول تلك المذابح المثيرة للغثيان، حول فظاعة وعُهر تلك الصور التي كانت قد نُشرت في صحيفة ما والتي تُظهِر شخصًا يحتضر على حافة الطريق أمام أعين العالم كله.
وحْدَها الممرضة البلجيكية التي كانت في الموقع أفادَتْه بأقوالها، رغم أنها في البداية صَدَّتْه قائلة إنه ليس بحاجة إلى المجيء خِصِّيصَى إلى بروكسل، وإن بإمكانه أن يكتفي بالتليفون. وما زِلتُ أتذكر أنه حكي لي أن كل ما سمعه يمكن تلخيصه في عبارة واحدة لا تزيد عن كلمتين، كانت تنطق بهما بصعوبة وتكررهما المرة تلو الأخرى.
«هل سأموت؟»
هذا هو السؤال الذي كان ألماير يوجهه إليها، بينما أخذ الأطباء بعد وصولهم إلى مكان الحادث يحاولون إسعافه، فربطوا رباطًا ضاغطًا على بطنه، ثم راحوا يحومون حوله بعصبية وهم يوصلون أنابيب المحاليل والأكسجين. كانت هي الوحيدة التي بقيت هادئة. أمسكت بيده منحنية عليه وهي ترى في حدقته تلك النظرة المُنطفِئة التي رأتها كثيرًا، النظرة الزجاجية التي تبدو منكفئة على ذاتها.
– «لن تموت.»
كان باول يحكي لي ذلك بتردد، وكأنه يريد أن يوقف كل شيء حدث في الماضي، وأن يهمس في أذن الممرضة بالتعويذة السحرية التي تنقذه، وبينما رحت أتخيلها وهي تهمس بتلك الكلمات الخانقة، تَنحنَح هو حتى لا يبين تأثره.
– «لن تموت، صدقني، لن تموت.»
رفع كلتا يديه وتخشَّب لحظات، قبل أن يواصل كلامه بصوت بدا فجأة أعمق بكثير مما سبق: «وماذا كان بوسعها أن تقول غير ذلك؟»
لم أكد أسمع ما يقوله، إلى هذا الحد كان صوته خافتًا.
«لا بُدَّ أنها أثَّرت عليه بكلامها، وكأن عليه اجتياز موقف بسيط محرج، وإذا اجتازه فسيكون مُحَصَّنًا ضد كل شيء، وليس عليه عندئذٍ أن يخشى شيئًا»، هكذا واصل كلامه. «رغم أنه مع كل كلمة كان يبتعد عنها شيئًا فشيئًا.»
أتخيَّل السماء فوقه زرقاء في ذلك اليوم التعيس من شهر يونيو الذي ربما كان حارًّا، ثم أصبح في فترة العصر معتدلًا جدًّا، تتخلله النسائم اللطيفة المخملية التي داعبته برقة، وهو ما جعل الفظائع تبدو أكثر بشاعة.
– «هل قال شيئًا آخر؟»
فوجئ باول بالسؤال على ما يبدو.
– «لا أعرف.»
انتابته رعشة قبل أن يقول إن الممرضة لم تَحكِ له شيئًا غير ما روته للصحف: أن المسكين ظل يسأل عن زوجته، من دون أن يتوقف عن الكلام عن مدى حبه لها. ثم استطرد قائلًا: «يُقال إنه في الحقيقة لم ينطق بكلمة واحدة عن هذا الموضوع. رغم ذلك فإن هذا الكلام هو بالضبط ما يريد الجميع سماعه.»
هذا ما فكرت فيه بعد فترة ليست بالطويلة، يوم الثلاثاء أو الأربعاء التالي لعيد الميلاد، عندما تعرَّفت أخيرًا إلى إيزابيلا. لم أكن متأكدًا بشأن طريقة تعاملها مع الأمور، هل كانت الجَلَبَة الدراماتيكية المُثارة حولها باعتبارها أرملة ألماير تعزيها بالفعل، أم إنها اعتبرتها إهانةً لا يمكن الرد عليها.
على كل حال كان ردها: «لحسن الحظ فإن كل هذه المبالغات لا تعنيني على الإطلاق. أستطيع بدونها أن أتخيَّل على نحو أفضل كيف حدث كل شيء بالفعل.»
تردَّد باول في البداية لكنه اتفق معها رغم ذلك على لقاء، ثم طلب مني أن أرافقه لأنه لم يكن يعلم كيف يواجهها وحده. جلستُ هناك ولم أتدخل، تاركًا إياه يوجه الأسئلة، ومصغيًا في معظم الأحيان إلى ما حَكَتْه. كان اللقاء في شقتها بالقرب من متنزه «شترن شانتسن»، وهي الشقة التي احتفظت بها بعد الحادثة، رغم أنها كانت واسعة جدًّا على شخص واحد، وبينما راح هو ينزلق على الأريكة — حيث أشارت له بالجلوس — ثم يرجع إلى الوراء وقد رَكِبَهُ القلق، غُصْتُ أنا في مقعدي مستمتعًا بأنها كانت على ما يبدو توجه الحديث بالأحرى لي، وليس له. على كل حال كانت تنظر إليَّ كلما أَلَحَّ عليها ولو عن طريق الإشارة، وكأنها ليست بحاجة إلى من يُذَكِّرُهَا بالنقاط الواجب التحدث عنها، وأنها تودُّ أن تحتفظ بحكايتها لمستمع يبتعد تدريجيًّا مع كل كلمة تنطق بها، إلى أن يختفي تمامًا.
كانت قد تزينت استعدادًا لمجيئنا، فارتدت «تاييرًا» غامقًا بدت فيه كالمتنكرة، إلى أن خلعت الجاكت، ثم جلست هناك ببلوزتها البيضاء، شاردة اللُّب، وقد أبعدت ما بين الساقين. على شفتيها وضعت درجة من الأحمر الفاتح، ونثرت — كما يبدو — المساحيق على وجنتيها. بدت شاحبة إلى درجة غير طبيعية أثناء ضوء النهار الذي كان ينساب عليها من النافذة العالية، ولعلها لم تكن بحاجة على الإطلاق إلى النظارة التي كانت تضعها على أنفها، وهي نظارة بدون إطار، ربما كانت مجرد جزء مما أرادت أن تمثله، وسيلة أخرى حتى لا تجعل أحدًا يقترب منها أكثر من اللازم. وعندما كانت تنهض من وقت إلى آخر لتختفي بضع لحظات في المطبخ، أو عندما كانت تخطو خطوات قليلة في اتجاه الحائط لترتكن إلى أحد رفوف المكتبة، كانت عندئذٍ تنظر إلينا وكأنها تتساءل من أين أتينا؟
لسبب من الأسباب ظللتُ أسأل نفسي منذ البداية كيف تتحرك في الشقة عندما تكون وحدها؟ كيف تسير إلى النافذة وتلقي نظرة إلى الشارع الذي يكاد يخلو من الحياة؟ كيف تتمدد على الأريكة وتقرأ الصحيفة، أو تستلقي هناك لا تفعل شيئًا سوى الحملقة في السقف؟ ليس معنى ذلك أنها المرة الأولى التي تهاجمني فيها مثل هذه الخاطرة — مثل هذا التعجب الذي لا يرتكز على شيء، التعجب من حياة أخرى لا أدري عنها شيئًا — ولكن شيئًا ما في سلوكها جعلني أفكر أكثر من المعتاد في أنها، إذا نظرنا إلى طريقة سيرها، لا يمكن أن تسير أو تقف لنفسها فحسب، ضحكتها ما زالت لها وحدها، عندما كانت تميل برأسها بعض الشيء، وتلمع عيناها وكأن الدمع سينهمر منهما في أي لحظة. في تلك اللحظة أثَّرت فيَّ وَقْفَتها، وعدم جدوى تلك الوقفة. تطلعتُ إليها بين الحين والآخر وكأنني لا أستطيع التصديق، وكأنني أنتظر أن أراها تنهار فجأة.
ما زلت أتذكر أن إيزابيلا قالت عندما فتحت باب الغرفة وتركتنا نلقي نظرة داخلها، إن علينا ألَّا نتعجل في استنتاجاتنا، وألَّا نجد في هذا كله دليلًا على أي شيء كان. ثم أضافت: «لم يكن هو بالإنسان المعتزل الذي يشق طريقه وحده، كما قد يبدو.» وبذلك أتت هي لأول مرة على ذكر هذه النقطة. «لقد كان يُعاني بالأحرى في بعض الأحيان من جوع وحشي إلى الحياة.»
لم أكن متأكدًا إذا كنتُ قد أخطأتُ السمع، فنظرتُ إلى باول، ولكنه كان يحملق فيها بفم مفتوح، ولذلك لم يعد ثمة شك في أنها قالت ذلك بالفعل. لم أسألها إذا كان ما قالته مُجرَّد تعبير لا تقصده على النحو الحرفي، أم أنها تقصد شيئًا آخر. هو أيضًا لزم الصمت، وبعد المفاجأة الأولى تماسك، ولم يجعل شيئًا مما يعتمل في باطنه يظهر على ملامحه. كان يُجيد ذلك، رغم حيرته في البداية، عندما توجَّب عليه أن يشرح لها ما كان يريده منها، وكنت أدرك أنه لا ينتظر مني سوى الموافقة، كان يكفيه أن أتصيد نظرته من حين لآخر، ثم أومئ موافقًا على ما يقول، من دون أن يلفت نظرها ذلك.
رغم ذلك كان الحديث متعثرًا، إلا إذا أتى هو أو هي مباشرة على ذكر المُتوفَّى. ولكن أيضًا عندما بدأ يتحدث عنه، فقد ظل وقتًا طويلًا يقتصر على العبارات المهذبة والمجاملات، ذكريات لطيفة عادية، مثلًا ما عايشاه معًا، وهو ما جعل حيرتها تزداد، إذ إنها لاحظت عبر ذلك كيف كان يحاول بلا لباقة أن يكسبها في صفه، وأن يبيعها تذكاراته معه. كان يَتجنَّب ذِكْر اسمه مضطرًّا، أما إذا سَهَت هي وقالتْ «كرستيان»، فإنها كانت تتلعثم على الفور، وكأن ذلك غير لائق، ثم تبذل جهدًا واضحًا في التحدث حديثًا رسميًّا عن زوجها، ولكن ذلك لم يكن يثير سوى انطباع بالمبالغة، كانت تعطي الانطباع بأنها غادرت المدرسة منذ فترة قصيرة؛ لذا فقد أرادت تمويه ذلك بالتصرف مثل سيدة رزينة، سواء نجحت في ذلك أم لم تنجح.
ورغم أنهما كانا يتحادثان حول صغائر الأمور، فإن الموقف كاد ينقلب إلى سوء تفاهم حقيقي عندما حكى أن لقاء كان مُرتبًا بين الثلاثة، ولكنها في البداية لم تتذكر شيئًا عن ذلك إطلاقًا، ثم بين لحظة وأخرى غيَّرت رأيها قائلة:
قالت: «أتذكر هذا اللقاء». لم يكن من الواضح في البداية إذا كانت تعمدت أن تفعل ذلك، أم أنها تَذكَّرت الأمر لتوها. «ولكن للأسف لم أستطع الذهاب إلى هناك.»
وافقها بهزة رأس، ولكن عندما ادَّعَت أن ألماير ظل طيلة الليلة يتنقل معه، لم يعد يعرف عن أي شيء تتحدث، فما كان منه إلا أن نظر في حيرة ناحيتي، ثم ناحيتها، إلى أن شرحت له في النهاية ما تقصد: «لم يظهر في البيت إلا في ضحى اليوم التالي، وعلى الفور سقط على السرير، ثم استغرق في نوم لم يستطع أحد إيقاظه منه حتى الصبح.»
الضحكة التي شرعت في إطلاقها كانت متكلفة، فوافقها، وكأنه لا يريد أن يبين لها أنه يسمع عن ذلك للمرة الأولى.
«إذا لم تخني الذاكرة، كان ذلك حتمًا في بداية مارس. كان عائدًا لِتوِّه من بلغراد ليكتب عن حالة الناس هناك»، قال بعد برهة من دون أن يتجاوب مع نبرة صوتها التي تراوحت بين الجدية والمزح. «كان ذلك قبل سقوط القنابل الأولى على المدينة، ولم أره بعد ذلك إلا مرة أو مرتين.»
وسواء أراد ذلك أم لم لا، لقد أصبح الآن في قلب الموضوع، ولاحظتُ كيف تَغيَّرتْ ملامح وجهه بين لحظة وأخرى. في البداية قلت لنفسي: ربما يكون بذلك قد اقترب منها أكثر من اللازم، ثم اتضح لي أن عبارته أراحتها بعض الشيء؛ لأنه توقَّف عن اللف والدوران ودخل أخيرًا في صلب الموضوع. أثناء كلامه صبت الشاي الذي كانت قد أعدَّتْه وتركَت الكيس بداخله طويلًا، ثم رُحتُ أراقبها وهي ترفع فنجانها مع صحنه بطريقة تكاد تكون احتفالية، ثم وهي ترتشف قليلًا منه، وتضع الفنجان مرة أخرى، وفجأة تخشبت في جلستها وضمَّت ساقيها.
«لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يسهر فيها طوال الليل بعد رجوعه من الحرب»، قالت أخيرًا. «لا بُدَّ أن ذلك كان أكثر الأشياء عاديةً في العالَم.»
ثم حَكَت كيف تعرَّفت إليه، وفي لمح البصر تَبخَّر كل التهكم من كلامها، وراحت تتكلم بتؤدة وحذر وكأنها تتعامل مع طفل.
«بعد أكثر من أسبوع ستكون أربع سنوات بالضبط قد مرت»، بدأت كلامها بعد بُرهة. «أحيانًا يبدو لي الأمر وكأن عمره بدأ منذ اللحظة التي مات فيها.»
حدث ذلك قبل رأس السنة بقليل، عندما ظهر في المقهى في ساحة «شولتربلات» حيث كانت تساعد بين الحين والآخر في إعداد المشروبات. كان يقف أمام الباب في الصباح عندما فتحَت المقهى في الساعة العاشرة صباحًا، ثم جاء مرة أخرى في الرابعة بعد الظهر، وكأنه كان ينتظر بكل جدية أن تطلب منه الدخول. هذا ما لفَت انتباهها، وأيضًا كيف ظل جالسًا في مكانه وكتاب في يده. لفترة طويلة كان هو الزبون الوحيد، وعندما رجع في اليوم التالي كانت تعلم أنه سيطلب الطلب نفسه، قهوة بحليب كثير، وأنه سيجلس في المكان نفسه ويتطلع إلى الشارع، أو يقرأ في الكتاب ويتفرج عليها عندما تنظر في اتجاه آخر. لم تستطع أن تقول لماذا، لكنها لم تستطع أن تطرده من رأسها منذ ذلك اليوم، وهكذا أخذت تنتظر مجيئه، وبقلق لا تسمح لأحد بالجلوس إلى مائدته، وإذا مرَّ وقت مجيئه، كانت تذهب إلى المدخل من حين لآخر لتُلقي نظرة على الشارع، ثم جاء اليوم الذي وجدت فيه نفسها تلتقي معه.
ما زِلتُ أتذكر أنها تَردَّدتْ قبل أن تفشي لنا أنها وجدت نفسها مضطرة في نهاية سهرة إلى أن تسأله أمام باب المنزل عمَّا إذا كان يريد أن يقبلها لأنه ظل واقفًا في مكانه بلا حراك. وأضافت: «لم أجد حرجًا في تكرار ما قلته، إلا أنه أومأ برأسه فحسب. عندئذٍ أمسكت بيده، وأخذْتُه ببساطة معي.»
لاحظتُ أن باول أخفق في كتم ضحكته، وخشيتُ أنه سيقول شيئًا على شاكلة أن ألماير كان في السابق يسلك سلوكًا مخالفًا، غير أنه لزم الصمت إلى أن واصلتْ كلامها قائلة إنه لم يكد يحكي شيئًا في البداية عن نفسه.
«لا أقصد أن ذلك كان سيغير من الأمر شيئًا، ولكنني ظللت فترة طويلة لا أعرف أي شيء عمَّا يفعله.»
لم تعرف ذلك إلا عندما نظرت خلسة في دفتر ملاحظاته، تلك الكراسة الضئيلة ذات الورق المرسوم بالمربعات والتي لم يكتب إلا على صفحاتها الأولى. بدأ الدفتر بالتاريخ: «زوبانيا في ٣١ ديسمبر ١٩٩٥م»، وهو تاريخ لم يكن قد مضى عليه أكثر من شهر، وتحته كتب: «الأمريكان، أخيرًا الأمريكان، وإنْ كانوا تأخروا ثلاثة أعوام.» وشيئًا فشيئًا فَهمَتْ أنه يقصد دخول القوات المسلحة إلى البوسنة، ثم بعد ذلك بفترة وَجدَت في الأطلس تلك البلدة الحدودية على نهر السافه في أقصى شرق كرواتيا. وعندما قرأت أنه سمع ضجيج مئات الدبابات ثم رأى عن قُرْب المركبات المُتراصَّة المنتظرة، انفتحَتْ عيناها، فحاولتْ أن تتخيل السيناريو، المَعْبَر الضخم المُتحرِّك المُشَيَّد لتوه في حراسة القوارب السريعة، وهو ما كتب عنه، على بُعد أقل من مئة متر من الجسر الذي فُجر في الحرب والذي بدا ساكنًا وسط المطر المتواصل، والهليكوبتر يحوم فوقه، مستنقع موحل، حيث فاضت المياه فوق الشطآن مكوِّنة بحيرات فعلية في بعض الأماكن.
كان ذلك هو كل ما وجدته في دفتر الملاحظات، وصف ميدان الزحف البائس، إضافة إلى رقم تليفون في زغرب، وعدة ملاحظات مختزلة لم تفهمها، ثم عبارة على الغلاف الأمامي، قول مأثور على ما يبدو، يبدأ بجملة: «كنت أتمنى أن أحيا حياة أخرى».
«لا أعرف ما هي الجملة كاملة»، أضافت، «ولكن الكلام دار حول أشياء عاطفية، وانتهى تحديدًا بأمنية أن يُرزق المرء بطفل.»
بعد أن تمعنت في الأمر برهة، واصلت كلامها قائلة إن الفوضى عمَّت السطور التي قرأتها: نقل أشياء عبْر البحار إلى البرازيل، أن تكون حكيمًا في الهمالايا، أو في قارب بأحد الموانئ حيث يستيقظ المرء في الصباح على نفير السفن التي تشق طريقها وسط الضباب، وحيث تعكس المياه أشعة الشمس.
«كان الوصف مبتَذَلًا إلى حد كبير.»
ثم طرحت سؤالًا جاء مفاجئًا: «هل يعرف أحدكما من هو جفريلو برينسيب؟»
لم أكد أومئ برأسي حتى كان باول يتحدث مثل المُعلمين الذين يلقون الدروس المحفوظة. استخدم العبارة الشائعة: «مُنفِّذ عملية الاغتيال في سراييفو»، وإنه هو الذي اغتال ولي العهد وزوجته.
– «وما علاقة ذلك به؟»
لم يكن السؤال فظًّا على النحو الذي ربما وصلها، ولَعلِّي أكون مخطئًا، ولكن عندما أمعنتُ النظر فيها، بدَا لي أن عينيها تترقرقان بالدموع. ثم قالت: «العبارات تُنسب إليه. يُقال إنه كتبها وهو سجين على حائط زنزانته في «تريزين شتات»، قبل أن يلقى حتفه هناك.»
وبدون أي شرح إضافي نهضتْ وفتحت الباب المؤدِّي إلى إحدى الغرف المجاورة باحثة عن منديل، ولمحتُ في غرفة نومها شجرة عيد الميلاد المثقلة بالكريات الحمراء البراقة. رحتُ أحاول ألَّا أنظر في اتجاهها، ولكنني حاولتُ أيضًا ألا أُحَوِّلَ بصري عنها، في تلك الأثناء كانت قد جلسَتْ مرة أخرى ونثرَت رذاذًا على وجهها، وظلَّتْ تمر بيدها على سروالها في حيرة فاردةً إياه. بدت في جلستها المستقيمة، واليدان على الفخذين، وكأنها تنتظر، ولكن لا باول ولا أنا قلنا شيئًا، فأخذَتْ تتحدَّث عن الوضع الراهن على الحدود مع كوسوفو وأنه، وبعد مرور ثلاث سنوات ونصف، لا يختلف كثيرًا عن الوضع آنذاك على الحدود مع البوسنة: حشود ضخمة من الجنود تنتشر في بلد لم يَسُدْ فيه السلام الحقيقي بعد.
ولكن الفارق في عينيها كان هو أنها عايشت الوضع هذه المرة من البداية؛ إذ إن ألماير كان يتصل بها تلفونيًّا كل بضع ساعات، مرتين أو ثلاث مرات من الفندق في سكوبيا حيث كان ينتظر مع الصحفيين الآخَرِين أن تبدأ المعركة أخيرًا، هكذا قالت، وعندما تَوقَّفتْ عن الكلام، انتهز باول الفرصة وذكر أنه تحدث معه من هناك أيضًا.
«أعرِف»، أجابته بنبرة توحي أن لا شيء يثير سأمها مثل الحديث عن ذلك. «لقد ذكر لي هذا.»
ثم حَكَتْ أن ذلك كان في يوم جمعة، وأنها لم تذهب إلى العمل، فهي لم تكن في وضع يسمح لها بفعل أي شيء، إلى هذه الدرجة كانت منفعلة.
«لسبب أو لآخر لم أنجح في تشتيت ذهني والتفكير في شيء آخر، كما تعودت أن أفعل، ولذلك كدت أفقد عقلي من التوتر.»
كانت أفظع التقارير قد نُشرت حول ما وجدوه في البلاد، شائعات عن عشرات بل مئات الآلاف من القتلى، لقوا مصرعهم على نحو وحشي في منازلهم أو أثناء هروبهم، فيما بعد عرفنا أن هذه الأرقام مُبالَغ فيها، وبالطبع كانت تشعر بالخوف على حياته. كان الأمر مختلفًا عن المرات الكثيرة السابقة، حيث كان يبتعد عنها إلى منطقة ما من مناطق القتال؛ لأنهما تَشاجرَا معًا حول أمر من التوافه في صباح اليوم نفسه الذي استقل فيه الطائرة، ولذلك لم تكن تستطيع أن تطرد السؤال من رأسها: ماذا سيحدث لو لم تره حيًّا مرة أخرى؟ أي وداع هذا، انصرافه واختفاؤه خلف الحواجز، من دون كلمة، من دون عناق، ودون أن يلتفت مرة أخرى ناحيتها. عندئذٍ اتضح لها أنها كانت تخدع نفسها طوال سنوات معرفتها به؛ لأنها كانت تعتقد بالفعل أنها اعتادت غيابه. كانت تلك أوهامًا حتى لا تجد نفسها مجبرة على التفكير في الأمر. كان الفزع الذي انتابها بسبب الزمن الضائع، الأيام المحذوفة ما بين سفره ووصوله، الظُّلمة، إن لم نَقُل الفراغ، بين قُبلتين يطبعهما على شفتيها.
لأن صوتها رَقَّ، ثم كاد يتلاشى عندما حَكَت عن شعورها العميق بالراحة لأنه على الأقل اتصل بها تلفونيًّا قبل يوم من بداية الهجوم البري.
«في المكالمة الأخيرة معه، قبل أن أذهب للفراش، كانت ربما العاشرة مساءً»، أضافت بعد بُرهة. «تحدث بسرعة في السماعة، ولم يقل سوى إن اللحظة قد حانت.»
عندئذٍ انضم بالتأكيد مع المصوِّر إلى القطار العسكري الذي انطلق تجاه الحدود، مارًّا برتل لا ينتهي من المركبات المصفحة التي لم تكن تتقدم في بعض الأحيان إلا بسرعة السلحفاة، ومارًّا بالجمع الغفير الواقف على حافة الطريق، مهللًا وناثرًا قصاصات ورقية.
«على ما يبدو كان ذلك احتفالًا شعبيًّا بكل معنى الكلمة.»
كان مدهشًا كيف تَحدَّثتْ بهدوء وبلا انفعال عن ذلك، وكذلك عن اللاجئين في المخيمات في الشمال، ومنهم كثيرون ظلوا لمدة طويلة يركضون بجانب القطار محاولين الانضمام إلى القافلة، بلهفة ظاهرة على العودة بأسرع ما يمكن إلى قراهم التي أُجْبِروا على هجرها في الأسابيع الماضية.
«أحيانًا لم يكن ممكنًا إيقاف البعض»، هكذا قالت. «كان واضحًا أنهم يتصرفون وكأنهم عادوا إلى الوطن بعد سنوات من المنفى.»
ورغم أن المسافة إلى سكوبيا لا تزيد عن ثلاثين كيلومترًا، فإن ألماير — حسب وصفها — لم يصل مع موكب الإمدادات قبل منتصف الليل إلى «بلاسه»، وهو آخر الأماكن المقدونية قبل كوسوفو. كانوا قد أخلوا المعسكر الذي زاره في أيام الفصح، مدينة الخيام هذه التي نُصبت على عَجَلٍ في حقل مفتوح، حيث أوقفوا أفواجًا من اللاجئين عبْر أيام العيد، كثيرون منهم قضوا تلك الأيام في العراء، في البرد والمطر، ودون طعام يُذكر؛ وكانت محقة في قولها إن رجوعه إلى تلك البلدة تحديدًا بدَا عبثيًّا تمامًا. لعله قضى بقية الليل منتظرًا في السيارة، وتَخيَّلت كيف انقشعَت الظلمة في غبش الفجر عن أطلال البيوت التي رأتها لاحقًا على إحدى الصور، تلك المباني غير المسقوفة والمحترقة عن آخرها في بقعة لا اسم لها على الخريطة، بيوت ذات فوهات سوداء كانت فيما قبل نوافذ، أطلال غير واضحة المعالم، رمادية اللون، وخلفها مداخن مصانع الأسمنت المدمرة على الجانب الآخر من الحدود.
عندما عاود الاتصال بها قبل الخامسة فجرًا بقليل، لم يَقُل سوى إن النهار قد طلع، تمامًا كما كان يحدث عندما يرقد بجانبها على الفراش ويستيقظ قبلها. كان صوته ضعيفًا، لم تكد تفهم منه شيئًا، ولم تعرف: هل كان الخط سيئًا، أم إنه كان يهمس؟ على كل حال كان يشبه طفلًا لا يستطيع التوقف عن التعجب عندما توشك الشمس على الشروق. وعندما قال لها إن الليلة كانت باردة صافية السماء، بدَا الأمر لها وكأنه لا يريد أن يُدخل الرعب على قلبها مرة واحدة، ثم أسهب وأطال في التحدث عن المرج الذي قضى فيه ليلته، وعن صف الأشجار في الخلفية الذي كاد يكون حدود المرج، وقضبان السكك الحديدية الموازية للنهر على الجانب الآخر، إلى أن سألته عن هدف اتصاله أساسًا، فبالطبع كان رتل الدبابات ينتظر في الطريق. عندئذٍ شرع يتحدث عن الجنود الذين توزعوا فوق الأسفلت المُندى حيث قضوا ليلتهم، والذين كانوا يهمُّون بطي أكياس النوم وإعداد الشاي على مواقد غاز صغيرة بجانب مركباتهم، ويفحصون أسلحتهم للمرة الأخيرة. قال إن الوضع هادئ. خافتةً كانت أصوات الجنود، حتى إن الضباط كانوا يتصرفون بهدوء وهم يقفون أمام السيارات الجيب، لا يفعلون شيئًا سوى التنقل ببصرهم بين الساعة والحدود. هناك كانوا يرون بعض الأشكال الضائعة بالزي العسكري، وبلا شك كانت عشرات المناظير المكبِّرة مصوَّبة ناحيتهم، ثم راح يسخر من تلك الأشكال مطلقًا عليها «لجنة الاستقبال السافلة»، ثم كرر ضاحكًا عدة مرات متتالية اسم المكان على الجانب الآخر، دنرال يانكوفيتش، وهو اسم كان يبدو مزحةً ونذيرَ سوء في آنٍ معًا.
قالت إيزابيلا هذه العبارات بنبرة توحي بأنها حَكَت ذلك كثيرًا، وأنها كانت تُنمق الموقف مرة بعد الأخرى بتفاصيل أكثر. ربما لذلك تولَّد لديَّ الانطباع بأنها تمرنت على الأمر عندما تريثت قليلًا، ولم يكن ينقص سوى أن تغلق عينيها وأن ترجع برأسها إلى الوراء بطريقة رثائية. أرسلَت النظر إلى النافذة، على جدار المنزل المقابل المغمور بأشعة الشمس، وإنْ بدَا أنها لا ترى في الحقيقة شيئًا، إلى أن قالت أخيرًا إن ألماير كان بإمكانه أن يصمت، فالضوضاء التي انبعثت فجأة طغت على كل شيء، وفي اللحظة ذاتها أدركَت جدية الأمر.
لا بُدَّ أن ما سمعته إيزابيلا كان يشبه الانفجار المؤجل، صوتًا يهدد نصف القارة بأكملها، وعندما بدأ القطار يتحرك، وشرعت المحركات تهدر فجأة وسط نسيم الصباح البارد، كان كل ما قاله: ينبغي أن أُنهي المكالمة الآن، ثم استجاب إلى طلبها وظل على الخط بُرهة.
«لا أعرف السبب، ولكنني أردت أن أُصغي بأي ثمن لما يحدث.»
بدا صوتها ساذجًا وهي تقول ذلك. ثم واصلت كلامها قائلة: «للحظات طويلة لم أسمع سوى هدير رتيب منتظم، لم يتزايد ولم يتناقص، وكاد وقعه يكون مهدئًا بعد الصدمة الأولى.»
على حين غِرَّة بدا أن القلق اعتراها وهي تقول إن ألماير تحدَّث بعد ذلك، وبصوت منفعل انفعالًا غريبًا راح يتكلم عن المروحيات، سِرْبٌ بأكمله، عشر أو اثنتا عشرة مروحيةً أو أكثر، ظهرت فجأة خلف التلال الجنوبية مقتربةً بسرعة في اتجاه منعطفات النهر. حاولت أن أتخيلها وهي تجلس دفعة واحدة على سريرها بعد أن حشرت السماعة بين الأذن والكتف، لتنصت إلى الدوي المتزايد. ثم واصلت حديثها أخيرًا قائلة: «كان هذا آخر ما تناهى إلى سمعي، ثم انقطع الخط، ولم أستطع الاتصال به ثانية.»
عندما تَركتْ نفسها تنهار على الكنبة وكأنها منهَكة، تذكرت الصور الفوتوغرافية التي ظهرت بعد ذلك بيومين في الصحف. كنت أودُّ أن أقول لها إن الصور كانت في رأيي تُعَبِّرُ عن الانتصار أكثر من اللازم، تلك اللقطات للوحوش الجبارة التي تطير في الجو ومُقدِّمَتُها إلى أسفل، الحمولة الثقيلة من الصلب في جوفها، الذبذبات التي صدرت عن المدافع والدبابات المربوطة بأسلاك معدنية وكأنَّها تَحرَّرتْ من الجاذبية الأرضية، غير أنني عندما تَصيَّدتُ نظرتها ولاحظتُ لأول مرة الارتعاشة العصبية الصادرة عن جفنيها، أدركتُ أن اللحظة غير مناسبة لذلك، فلم أقل شيئًا. تطلعتُ إليها فحسب، وأحسستُ بدُوار عندما رحتُ أتصوَّر ما كانت تفعله عندما كان ألماير يتوغل أعمق فأعمق في البلد الخراب، كيف كانت تبدأ يومها، وتفطر وحدها على المائدة حيث كان بالتأكيد يجلس قبالتها عندما يعود من رحلاته إلى البيت، قبل أن يتوجه إلى وسط المدينة كي يزجي وقته في أحد المقاهي أو بتمشية على امتداد نهر الألستر.
صعُب عليها أن تُواصِل الحكي بعد ذلك، وأن تُرينا على الخريطة الطريق الذي سار عليه في كوسوفو، قالت إنها عندئذٍ لم تعد تهتم بأن تعرف بدقة أين كان ومتى، واكتفَتْ بالقول إنه وصل عصر اليوم التالي إلى بريشتينا. على ما يبدو كانت الفوضى سيد الموقف هناك. وكلما زاد عدد الصور التي رأتها، لم تستطع إلا بالكاد أن تتخيله هناك، كل تلك اللقطات المقرِّبة أو الصور الملتقطة من الجو للقرى المدمَّرة على طول الطريق، والتي ظل التلفزيون يعرضها حتى السأم، تقارير عن مصادمات كادت أن تحدث بين المجموعات التابعة للحكومة، والتي كانت في معظم الأحيان لا تتقهقر إلا ببطء، والمتمردين السكارى بنشوة النصر التي دفعتهم إلى إطلاق النار فيما حولهم؛ تقارير عن المواجهات المتفرقة الخطيرة التي كانت تنشب هنا وهناك، المحطات التي كانت القوافل تجد نفسها مجبرة على التوقف عندها بين الحين والآخر لارتيابهم في وجود متفجرات، ثم قطارات الذين أُجْبِروا على الهرب، والعربات المكتظة بالمتاع المنزلي التي تجرها الجرارات الزراعية في الاتجاه المعاكس، إلى الشمال، في اتجاه نيش وبلغراد، ثم مجموعات من البشر، مئات مرة أخرى، آلاف من المُشرَّدين، بينما الذين شُرِّدوا من قبل يتقدمون ويحتلون بيوتهم.
طوال اليوم ظل ألماير يتصل بها من حين لآخر، أضافَتْ، غير أنه لم يكن يقول شيئًا في الحقيقة، كان دومًا على عجلة من أمره، ولا يني يكرر — وكأنه يتلو تعويذة — أن كل شيء على ما يرام. ثم واصلت قائلة: «على كل حال عرفتُ منه أن الطقس أصبح جميلًا، فقد كان هذا هو الموضوع الذي يتحدث عنه معي.»
أعقب تلك الملاحظة التهكمية أنها لذلك تستطيع على الأقل أن تقول إن الحرارة التي سادت في النهار انقلبَت في المساء وابلًا قصيرًا من البَرْد، إلا أن ضحكتها ماتت على الفور عندما تحدَّثَت عن الأمطار الغزيرة التي هطلت أثناء رحلة ألماير وسط الظلام إلى سكوبيا ليعود إلى فندقه.
صمتت، ومرَّت لحظات ثقيلة حاول خلالها شخص من دون جدوى أن يدير سيارته، ثم في النهاية دار المُحرِّك بعد نحنحات صدئة، ولاحظت أن باول قد استيقظ من حالة السبات التي استولَت عليه تدريجيًّا. رحتُ أراقبه وهو يجلس مستقيمًا في الفوتيه ومثبتًا نظراته عليها. بدَا أنه يريد أن يرد عليها بشيء، لكن عندما تَطلَّعَت إلينا متسائلةً، في اتجاهي أولًا ثم في اتجاهه، ابتلع ما يريد قوله، وهكذا استكملَت هي ما تحكيه قائلة إنها لم تستطع فيما بعد أن تتأقلم مع فكرة أن ألماير ظل حيًّا حتى المساء وأن كل شيء كان من الممكن أن ينتهي على نحو مختلف تمامًا.
«عندما أيقظني رنين التليفون في صباح اليوم التالي كان رئيسه هو المتحدث»، قالت في النهاية وكأنها تتحدث فقط حتى لا تقع في تكهنات عاطفية. «بمجرد أن نطق اسمه، عرفت كل شيء.»
منذ ذلك اليوم لم تسمع أية تفاصيل أخرى عن مجريات الحادثة. ثم اتصل بها أحد العاملين بالصحيفة مرة أو مرتين، لا لشيء إلا ليخبرها بأنهم لم يجمعوا بعد معلومات أكثر، ولكن هذه المكالمة كانت في الصيف الماضي. وحسب قولها فإنها لم تَعُد تنتظر أن يفي المصوِّر، الذي كان يرافق ألماير، بوعده ويتصل بها بعد شفائه من جراحه. تعليقها الوحيد على ذلك كانت الجملة التي نطقتها همسًا: «ولمَ يتصل؟»
لم أنظر تجاهها، واستغرقت في الإنصات إلى الخطوات التي سمعتها على الدرج خارج الشقة، إلا أن الهدوء ساد في المنزل الذي غرق فجأة في السكون المقبض لفترة العصر، لا خرير في مواسير المياه، لا صراخ أطفال، لا شيء، حتى الشمس اختفت، أو على الأقل لم تعد تسطع على المبنى المقابل. لا بُدَّ أن مثل هذه اللحظات — حيث ينقضُّ عليها فجأةً وغدرًا إحساسها بغيابه — هي التي جعلتها تقول إنها ما زالت تتخيله يظهر على حين غرة عند الباب، غير أن نظرة واحدة إليها أكَّدَت لي أن الحقيقة هي العكس تمامًا. شيء ما في السكون كان نهائيًّا، لذلك وددت لو استطعت أن أنهض وأفتح إحدى النوافذ حتى أسمع ضوضاء المدينة، غير أنها عادت لتتحدث ثانية عن أمسيتها الأولى معه، وظللتُ أنا جالسًا. لبُرهة لم يصدر عنها سوى نظرات تبحث عن العون، كانت توجهها إلي ثم إلى باول، أما يداها اللتان استراحتا على الكنبة فكأنهما قد انفصلا عنها: علامة على الحيرة الكاملة.
بدَا ما تقوله في البداية عاديًّا، مشاهد نوستالجية من الذَّاكرة، تمامًا كما تخيلتها عنه، غير أنها بجملة واحدة أوضحَت أنها تقصد شيئًا آخر: «كان عليَّ آنذاك أن أُلاحِظ أن نهايته اقتربت.»
عندئذٍ ردَّ باول أنه لا يستطيع أن يَتخيَّل ذلك. قال ذلك بطريقة فظَّة، وكأنه يريد بذلك أن ينازعها على ملكية شيء. ثم قال: «في لقائي الأخير به لم يُثِر لديَّ أي انطباع مختلف عن المرات السابقة. وما زِلتُ أتذكر أن رأسه كان مليئًا بالخطط.»
يبدو أنها لم تجد في ذلك ما يستحق الذكر. «هكذا كان دائمًا.»
لم أفهم ما قصدَتْه، وعندما استفسرتُ ضحكَتْ في البداية، ثم قالت إنها لم تشك في ذلك أبدًا.
«على كل حال لقد تَوسَّل إلي توسلًا حارًّا بعد عدة أيام كي أتزوجه. ولما سألتُه لماذا؟ لم يجد سببًا أفضل من أن يقول إن خلاصَه في يدي.»
لم أكن بحاجة إلى أن أسألها كثيرًا حتى توضح ما تعنيه؛ إذ إنها حَكَت لنا أنهما تَزوَّجَا بعد ثلاثة أشهر من ذلك الحديث من دون أن يُخبرَا أي شخص بالأمر، مراسم احتفال بسيطة خلال إجازة في أمريكا، وإذا كانت هي قد وافقَت استجابة لنزوة، فإن الأمر بالنسبة له كان اليأس بعينه. كانت الصورة التي حصلت عليها الآن جديدة تمامًا، وكأن الرجل الجريء الذي عايش الشهور الأولى للحرب قد أمسى بعد خمس سنوات نُسخة باهتة من ذاته، ولم يعد شيئًا باقيًا من سلوك الصحفي المحترِف الذي يكتب تقاريره من مناطق الكوارث، السلوك الذي يتناسب بالأحرى مع الممثلين؛ على العكس، لقد وصفته بالرجل الكسير، هكذا بالحرف الواحد، ومنذ ذلك الحين لم أستطع أن أطرد هذا الوصف من رأسي. وتَذكَّرتُ أنني تخيلته في بعض الأحيان — وِفْقَ وصف باول الذي كان ألماير يزوره في جراتس — بوجه بارز العظام وأنف ملاكم، وكأنه خرج لتَوِّه من فيلم فرنسي بالأبيض والأسود؛ والآن توجب عليَّ أن أسمع أنه ترك لديها الانطباع بأنه أكبر بكثير من عمره الحقيقي، لا سيما عندما يشعر بأن أحدًا لا ينظر إليه، ورغم جسده المُوحِي بالصلابة كان يبدو هشًّا على نحو غريب، وهو تناقُض يرجع إلى عينيه، وإلى نظرته التي تبدو — كلما حاول أن يثبتها على شيء — وكأنها تنظر في كِلا الاتجاهين في وقت واحد.
الصورة التي رسَمَتْها لألماير كانت تتطابق على نحو ما مع الصورة النمطية الشائعة عن شخص تركت الحرب فيه جروحًا أبدية. من السهل أن يتفهم المرء أنه في بعض الأحيان لم يكن يستطيع بعد عودته من البوسنة أن يطرد من رأسه السؤال عن مصير الناس الذين تَحدَّث معهم قبلها بساعات، ربما يحدث لهم الآن شيء، هل يُساقون الآن بعيدًا ليُواجهوا مصيرًا مجهولًا، أم إنهم يُلاقون الموت في قُراهم بينما يجلس هو يحتسي البيرة في مكان ما، أو يتقابل مع أحد أصحابه على العشاء منتظرًا أن يختار نوع النبيذ، غير أن كلامها كان من الممكن أيضًا أن يوحي بالجدة والطَّرافة، وبإمكانية نسج حكاية لطيفة من هذه الأحداث. ومما أكد هذا الانطباع طريقة كلامها عن الخوف الذي كان — حسب كلامها — يَنقضُّ عليه غالبًا فيما بعد، بعد عدة أيام، وأنه في بعض المواقف البريئة تمامًا كان الارتجاف يصيبه، ولا يهدأ إلا بعد أن يعود ويقترب من مناطق القتال، شاعرًا أن الصمت يبتلعه، الفراغ الهائل الذي ينفتح أمامه قبل أن يسمع أول طلقة أو قبل أن يصطدم كالمعتاد بالصبية الأجلاف عند أول الحواجز. ثم واصلَت كلامها قائلة: «عندما كانوا يسألونه عمَّا إذا كان مسلحًا، كانت إجابته دائمًا أنه لا يستطيع أن يمسك سلاحًا، فما بالك بأن يُصوِّبه. كانت الإجابة تثير السرور لدى معظمهم؛ لذا كانوا يلوحون له ضاحكين وكأنه لم يَعُد يثير لديهم أي خوف، فهو ليس رجلًا.»
لا أعرف بالطبع ماذا حكى لها ألماير، لا سيما في الليالي التي قضاها معذَّبًا بالأرق، لكن طريقتها في تصوير الأشياء أزعجتني. شعرت بتناقضات عديدة في كلامها، كانت تهدف من خلالها ألَّا يَنفُذ أحد إلى مشاعرها الحقيقية. نوادر عديدة لا يمكن أن تكون في الحقيقة رمادية إلى هذا الحد، من غير المعقول ألَّا تحتوي على شعاع واحد لامع، وما زلتُ أتذكر كيف حاولتُ، من دون جدوى، أن أتخيلها راقدةً بجواره وهو لا يتوقف عن قص حكاية مرعبة بعد الأخرى. ربما يرجع ذلك إلى الحكم المسبق لديَّ، والذي لم أستطع التخلص منه، الفكرة التي رسخت في أعماقي بأنه كان حتمًا سيصمت لو كان قد مرَّ بكل ما تدعيه، وأنه كان سيرتمي في أحضانها من دون أن يتفوه بشيء، أو ينطق بعبارات لا رابط بينها، فإذا حاولتُ إيجاد علاقة ما، وجدَت نفسها في فراغ.
لم أُنصِت إليها إلا عندما قالت إن العنصر الإنساني هو الذي جعل كل شيء يبدو شنيعًا على نحو خاص، ثم قالت إن ألماير لم يَتحمَّل في النهاية أن يواصل الحياة في عالمين متوازيين. ثم أضافَت شارحةً: «قال لي: إما أن يكون الإنسان بكامله في الحرب، أو لا يكون. لقد أربكه وشَوَّشَ فكره أن يرى كِلَا العالَمَين مُتعايشَين على أضيق رقعة ممكنة.» ثم أكدت على كلامها بمثال، وحكت — وهي تتنقل ببصرها بيننا — أنه كان ينفعل دائمًا وهو يحكي أن التلفزيون الكرواتي لم يَتوقَّف في فترة التهديد الأخيرة للعاصمة عن عرض التمثيليات الميلودرامية الأجنبية الرخيصة المصحوبة بالترجمة، وعلى الدوام كانت تظهر على الشاشة عبارة «حالة تأهُّب عامة في زغرب».
«مثل هذه الأمور جعلت الوضع لا يُطاق بالنسبة له.»
ولهذا لم يعد يذهب إلى المدينة إلا نادرًا، وذلك منذ أن اختفت أكياس الرمل، ولم يعد أحد يرى القناصة على أسطح البنايات. وفي الشارع كان الصاعدون من أوحال الحرب هم الذين يأمرون وينهون، أولئك المجرمون بنسائهم اللعوب المثيرات للضحك، على حد قولها، وإنْ كان الوضع تغير الآن. كانت تلك طريقته في الدفاع ضد نوع من «العادية» لم يستطع أن يتأقلم عليه، رغم أن الأوضاع في وطنه كانت أسوأ من ذلك في بعض الأحيان. أتفه الأسباب كانت تكفي ليفقد السيطرة على نفسه.
«أي شيء كان من الممكن أن يفقده التوازن، عندئذٍ يبدأ مونولوجات طويلة تستغرق ساعات، أحيانًا كان من شبه المستحيل تهدئته.»
لم يكن يُعجبه العجب إذا كان الأمر يدور حول كيفية التعامل مع أسوأ الكوارث، ولكن بدلًا من أن ينأى بنفسه قَدْر الإمكان عن الموضوع، لم تكن تفوته شاردة أو واردة، فكان يتفرج على المَعارِض حسنة النِّيَّة التي تُقام لصور المُعتقلين الذين كادوا يَلقَون حتفهم جوعًا، ثم ينفجر غاضبًا من طريقة تصويرهم الأنيقة، بل لقد اجتاح ذات مرة المنصة حيث كانوا يعرضون فيلمًا عن آخِر الصور التي التقطها مصور سينمائي قبل أن يرديه الرصاص قتيلًا، لقطات مهزوزة تُظهِر جنودًا يجتاحون المكان بظهور منحنية ورءوس منخفضة، وفوقهم تَعْبُرُ السماءَ في هدوءٍ سُحبٌ بيضاء، منظر يكاد يكون لطيفًا، ثم لا شيء، فقط ظلام دامس، ثم لقطة مُقرَّبة جدًّا للنجيلة، ثم لا شيء مرة أخرى، سواد بدَا نهائيًّا، وأخيرًا السماء التي برقت باللون الأزرق في عصبية. كان ضعيفًا وقليل الحيلة؛ لذا راح يبحث عن المذنبين، ولم يكن يتورع عن اتهام أي إنسان، سيان مَن. على سبيل المثال المؤرخان اللذان شاركا في ندوة نقاش، أحدهما من صربيا والآخر من كرواتيا، لقد سألهما شخص عن الفارق بين لغتيهما، فظلَّا للحظات بشعة يتحدثان برطانة إنكليزية، وكأنهما لن يتفاهما بلغة أخرى، ثم شعورهما بالحرج وهما يحاولان تقديم إجابة، أو البُلهاء الذين كانوا يقدمون لهم العون باعتبارهم ممن يُدعون «الخبراء بمنطقة البلقان»، والذين كانت خبرتهم — إذا صدقناه — لا تتعدى ظهورهم بسترات فضفاضة وسراويل منتفخة عند الركبة، يكثرون من الشراب ولا يسكرون بسرعة، مطلقين شوارب ضخمة تبدو وكأنها مستقر أرواحهم، مُضيفون يودون أن يكونوا أكثر سلافيةً من ضيوفهم — أيًّا كان معنى ذلك — متباهين ومتفاخرين بمنظرهم البائس، لم يكن ذلك منظرًا كاريكاتوريًّا، بل كان مهزلة حقيقية. سيان إذا كان يعرف مدى ظلمه للآخرين أم لا، لم يكن أمامه سوى الثرثرة الدائمة عن كل تلك الجهود العبثية، كان في كثير من الأحيان يبالغ لدرجة أنه لا يعترف حتى بالمعونة الحقيقية، ويبدو أن قوله المأثور كان: حتى إطعام أفقر الفقراء في المناطق المحاصَرة بشرق البوسنة لم تكن له فائدة عَبْر السنين سوى اليقين بأن مَن مَزَّقتْهم القنابل إربًا إربًا قد ماتوا ببطون ممتلئة على الأقل.
على ما يبدو انتقل احتقاره للناس إلى إيزابيلا، وكما يتبين من طريقتها في الكلام، وعندما قال باول إنه كان من الأفضل لو فعل المرء شيئًا بدلًا من التفرج بسلبية عليه، سدَّدت إليه نظرة مُعلمة إلى تلميذ أدَّى ما عليه من واجبات منزلية، ثم هَزَّت رأسها بطريقة لم أتوقعها منها، طريقة ظاهرها الرحمة، وباطنها الاستهزاء.
«ربما تكون على حق.»
حتى تلك اللحظة كان قد نجح في إخفاء طريقة حديثه الخنفاء، لكنه راح يتلعثم فجأة مع كل كلمة يقولها، وتحتم عليه أن يعيد كلمة ما أكثر من مرة قبل أن تخرج من فمه جملة كاملة معناها أن ما تقوله عن ألماير يبعث على الاستغراب.
– «لم أتخيل أنه كان متهكمًا إلى هذا الحد.»
بالنسبة لها كانت هذه الجملة بمثابة تأكيد لكلامها.
– «إذن فأنتَ لا تعرفه جيدًا.»
أعادت إيزابيلا الفناجين إلى الصينية التي قَدَّمت لنا عليها الشاي، ثم استدارت إلى زجاجة الشنابس على المائدة الصغيرة بجانب الكنبة التي لفتت نظري بمُجرَّد دخولي الغرفة، ثم ملأت الكئوس. وبطريقة تكاد تكون احتفالية تقريبًا رَفعتْ كأسها، فخشيت أن تقول عبارة مأثورة من عبارات شُرب الأنخاب، غير أنها لم تزد عن «في صحتكم»، وعندما واصلت حديثها تولَّد لديَّ الانطباع أنها تريد بأسرع ما يمكن أن تَتجاوَز شيئًا يُسبب لها الإحراج.
«كان يَدَّعي دائمًا أن الإنسان لا يمكن أن يكون على مستوى الكلام عن الحرب إلا عندما يذكر أتفه التفاصيل وأكثرها بشاعة في آنٍ واحد.» ثم أضافَتْ: «وإلا صار الحديث محض كلام أكاديمي، مجرد مهاترات لن تؤدي إلا إلى المزيد من سوء التفاهم.»
لم يفاجئني أن أسمعها وهي تقول بتلقائية مدهشة: عندما تعرفت إليه كان قد سئم السؤال عن الأسباب والحيثيات، تلك الأقوال الساذجة حينًا، والبلاغية أحيانًا، والتي تحاول أن تفسر ما حدث.
«أنْ يحضر غريب في أي وقت ويقرع الباب، ثم يُشهر مسدسه ويطلب من الساكن أن يقتل جاره، بدَا له خاليًا من أي معنًى.»
بالفعل كان آنذاك يترك لديها انطباعًا بأنه لم يَعُد يتحدث منذ فترة طويلة عمَّا يحرك عواطفه في الحقيقة، ورغم أنها بذلت قصارى جهدها كي لا يظهر تأثُّرها، فإن صوتها انخفض فجأة. تَنحنحَتْ، ووضعتْ ساقًا فوق الأخرى، ومدت كِلَا ذراعيها على مسند الكنبة قبل أن تقول: «بدتْ عليه السعادة لأنه عثر أخيرًا على شخص يثق به. على ما يبدو، لقد جعله السلام يشعر بوحدته أكثر مما كان يشعر ربما قبل ذلك.»
امتعضتُ من فكرة أنه كان يرقد جوارها و«يأكل أذنها» بحكاياته المرعبة، ورغم أن ما أقوله قد يبدو مضحكًا، إلا أنني كنت أودُّ لو استطعتُ سؤالها: ألم يكن هناك شيء أفضل يستطيع أن يفعله معها؟ لم أَعُد أنتبه تمامًا إلى ما تقول، وفكرتُ: أي إهدار؟ وأيُّ تعجرف؟ هذا إذا صح ما حَكتْه عن مونولوجاته السوداوية، التي لم تكن تعرف سوى نهاية واحدة، رغم أن تلك الفترة كان من الممكن أن تكون بداية علاقتها به، بداية حياتها، بينما هو لا يتحدث سوى عن الموت. وفجأة أدركتُ كم كانت شابة آنذاك، وحاولتُ أن أتخيل السنوات التي قضتها معه، ولكن من دون جدوى، كان كلامها يَحُول من دون ذلك، ادعاؤها أنه منذ الساعات الأولى التي قضاها معها لم يكن يهتم بشيء سوى قتل الوقت، تمضية يوم، أسبوع، شهر، إلى أن يرسلوه إلى منطقة أخرى من مناطق القتال، ثم — بمجرد عودته — يبدأ كل شيء من جديد. لقد كانت بالتأكيد لا تستطيع أن تحتمل ذلك أيضًا، عندما يرى كل شيء عديم الأهمية، سواء أنهت دراستها أو توقفَت عن العمل بالمقهى أو بدأت فترة تدريب في مكتب محاماة، سيان ما فعلَت، لم يكن ذلك يعني له شيئًا، لا شيء مقارنةً بما يعايشه من أحداث، هكذا قلتُ لنفسي، حتى لو كان الشوق العارم يجتاحه نحو حياة عادية، أو ربما كان يُحدِّثها بحماسة عن الأطفال، وبيت في الأرياف، أو أي تخاريف أخرى تفترض نوعًا من الثقة بالمستقبل، نوعًا من اليقين بأنهم لن يستطيعوا أن ينتزعوا كل شيء من بين يديه في كل وقت.
لم تكن بحاجة إلى أن تؤكد أنه لم يكن له معارف تقريبًا، ولم أعرف ماذا قصدَتْ عندما حَكَت أنه كان يعزف الموسيقى في قبو بمكان ما في فاندسبيك، مرة أو مرتين في الشهر مع ثلاثة مدرسين عاطلين عن العمل تعرَّف إليهم عن طريق إعلان في صحيفة. حاولت أن أتخيله وهو يضرب على الجيتار الإلكتروني، بالتأكيد مرتديًا نظارة شمس وبيريه أدفأ من اللازم، إلى أن يهتز الهواء في القبو اهتزازًا، ثم رأيته واقفًا لا يحرك ساكنًا وكأنه مُنْتشٍ بالضوضاء. كان من الطبيعي أن نفكر في ضجيج الحرب وفرقعاتها، لذلك لزمت الصمت، حتى باول لم يَقُل غير أنه يريد الآن أن يفهم لماذا عنون واحدة من آخر مقالاته «هدير الملائكة» ملمحًا بذلك إلى الدوي الذي كان يشتد ويضعف، والصادر عن قاذفات القنابل التي كانت تظهر حينًا، وتتوارى أحيانًا في السماء عاليًا خلف السحب الكثيفة.
«لم أكن أعلم أنه كان يعزف في فرقة»، أكمل كلامه بنبرة شخص أُهين. «ولكن عندما أفكر في الموضوع، فإن هذا يناسبه.»
وكأنه قد اكتفى بالحكايات التي سمعها منها؛ لذا بدا مرتاحًا لِنَقْلِ الحديث بضعة لحظات إلى الخصوصيات.
– «هل احتفظ بدرَّاجته النارية؟»
أومأت إيزابيلا بهزة رأس فحسب، وعندما لاحظَتْ أنه ما زال ينتظر ردًّا، لم يصدر عنها شيء، ثم أشاحت بيدها.
«لم أره أبدًا يسوقها»، قالت في النهاية، وكان واضحًا أن الحديث في الأمر يضايقها. «لا بُدَّ أنه قد سقط من عليها مرة، قبل أن أتعرف إليه، ومنذ ذلك الحين لم يلمسها.»
وبينما لزمتْ هي الصمت من جديد، نظر باول إليَّ وكأنه فعل شيئًا خاطئًا. ولأن سلوكها كان صادًّا، أدركَت أنه يود لو استطاع أن يغرق في ذكرياته القديمة مرة أخرى ويظل غارقًا فيها. تجنب نظراتها، ولكن لم يفتني أن ألاحظ كيف رجع إلى الوراء هابطًا في الفوتيه عندما سألَتْ هي بدون تمهيد: ألا يمكن أن يعود السبب إلى ألماير أيضًا عندما كان يؤكد دومًا أن السلام في البوسنة ليس سلامًا. ثم أضافت: «لقد قال: بمجرد أن نترك الناس هناك وحدهم للحظات معدودة، يشرع كل واحد على الفور في تحطيم جمجمة الآخر. كلما ازداد خبرة بالمنطقة، قَلَّتْ على ما يبدو ثقته بقدرة الناس هناك على حل مشاكلهم وحدهم.»
لقد ذهب حوالي عشر مرات إلى هناك إذا لم تخني ذاكرتي، وفي كل مرة كان يعود محبَطًا خائب الآمال، إلى هذا الحد بدَا له الموقف متأزمًا لا حل له، عدد من المآذن، عدد من أبراج الكنائس، نهضت أكثر روعة من الأنقاض عمَّا كانت عليه في السابق، وكأن المهم هو الرمز، غير ذلك لم يَحدُث تَقدُّم، حسب قولها، إلى أن أخَذ يُكثِر من السفر إلى كوسوفو حيث كان الموقف يزداد تأزمًا.
لم يُثر كلامها انتباهي، وكذلك ذكرها أنها كانت حاضرة في لقاء بينه وبين أحد زعماء المتمردين في سويسرا، ألباني منفي، ولم يجد مكانًا يجيب فيه على أسئلة ألماير بألمانِيَّته المكسرة غير مقهى ذي شرفة على شاطئ بحيرة «الغابات الأربع»، كلَّا، ما جعلني أصغي، كان اللقاء الذي حدث قبلها بشهور بالصدفة مع أحد معارفه القدامى في جزيرة هفار.
حدث ذلك — حسب ما سمعت — في مطلع الصيف، ألماير كان قد عاد لتوه من إحدى رحلاته من بريشتينا، وأثناء هبوط الطائرة في سبليت قرر أن يستقل أول مَعدية، وأن يسافر إلى هناك ليقضي يومين أو ثلاثة. بمجرد أن قالت إن الشخص الذي قابله كان أحد المقاتلين الذين أجرى معهم في السابق مقابلة صحفية، حتى فكرت على الفور في سلافكو وحديثه معه في شرق سلوفينيا.
ولكن قبل أن أتمكن من قول شيء، بدأ باول يسألها عن التفاصيل، وكان صوته عاليًا من الانفعال عندما أَلَحَّ عليها بأسئلته بعد أن تمهلت في الرد.
«لم أعد أتذكر اسمه»، أجابت أخيرًا. «ولكنني أعتقد أنه عمومًا قد غير اسمه.»
طوال الوقت كنت أخشى أن يسألها عن لِيلي، كيف كان الأمر بالنسبة لها عندما تنازلَتْ وحضرَتْ جنازة ألماير ومثَّلت دور الأرملة الحزينة، ولكنني الآن كنتُ متأكدًا من أنه لم يعد يفكر فيها، إلى هذا الحد بدَا — بين لحظة وأخرى — مهووسًا بمعرفة هوية الرجل الذي قالت عنه إنه كان يظهر أمام الفندق في الجزيرة ليُسلِّي النزلاء بعروضه.
«يُقال إنه كان هناك في الموسم السياحي فقط»، أضافت لتروي تعطشه للمعلومات بعد أن لاحظَت إصراره على معرفة المزيد. «إنه في الأصل من سلافونسكي برود.»
هذا ما عرفه ألماير من صاحب المطعم، وعندما سألها باول عمَّا إذا كان قد تحدث معه شخصيًّا، أجابت بنعم، لكنها لا تعرف عن أي شيء، كل ما تتذكره أنه حكى في البيت فيما بعد كيف شعر بالخوف والضيق عندما تَقابَل في مكان سياحي بشخص تحدث معه قبلها بسنوات عن مشاعره وهو يرى — وأصبعه على الزناد — إنسانًا في عدسة بندقيته.
نظرت إلى باول الذي لم يتوقف عن هز رأسه، ولم يتعب من التأكيد على أن ما يهمه هو ما إذا كانت تقصد الرجل الذي قابله ألماير في السنة الأولى من الحرب على الجبهة الكرواتية الصربية. ثم تساءَل: «ومَن يكون غيره؟»
ورغم أنني لم أرد عليه، فإنه لم يَتخلَّ عن إصراره، بل ظَلَّ يردد: «بلا شك، بالتأكيد هو، خاصةً وأنه كان يتفاخر دائمًا بهذه المقابلة الصحفية.»
انتظرَت إيزابيلا أن يقول شيئًا آخر، ثم باحت لنا بأن هناك شريطًا مسجلًا عليه المقابلة. وعندما سألها عن الشريط قالت على الفور وكأنها تُعزيه: «ربما لا يزال في دُرج الأمانات الذي أطلعني عليه ذات مرة. إلى اليوم لم أستطع أن أسمعه.»
قالت ذلك وكأنها تبحث هي نفسها عن تفسير.
«النص المكتوب معروف للجميع.»
راحت تضيء المصباح بجانبها ثم تطفئه، في حين لفت انتباهي أن التعب بدَا عليها فجأة وكأنها لم تعد تريد التفكير في مثل هذه الأشياء. انتشر الظلام بسرعة، ولم أحول بصري عن وجهها الذي كاد يلمع وسط ظلمة الغسق الزاحفة. ما زال الهدوء التام يعم المنزل، ومن الشارع أيضًا لم تنفذ أي أصوات، ووجدتُ نفسي أصارع تصورًا في رأسي، أنها تجلس هناك كما ستجلس ربما طوال سنوات قادمة، من دون أن تحرك ساكنًا، ودون أن تدافع عن نفسها.
يبدو أن باول لم يلحظ أن سلوكها كان دعوة واضحة لا شك فيها إلى المغادَرة، وفي النهاية وجدنا أنفسنا نقف بالفعل في الشارع، وأنا أومئ على نحو آلي، بينما راح هو يتحدث عن الإمكانيات الهائلة التي ظهرت فجأة والتي يمكن أن يستفيد منها في روايته.
«لم أكن أجرؤ على أن أخترع لقاءً يجمع بين الاثنين»، قال من دون أن يلاحظ أنه بذلك يبتعد عن الواقع كليةً. «ورغم أن اللقاء حدث، فإن الأمر يبدو لي بعيدًا عن التصديق.»
ومع أنني شعرت بنظراته المتسائلة المصوَّبة نحوي، رحتُ أتطلع إلى نوافذ إيزابيلا. في اللحظة نفسها أُضيئت الشقة، ولم أعد أصغي إلى ما يقوله، بل رحتُ أتخيلها وهي تحمل الصينية بفناجين الشاي وكئوس الشنابس، ثم تدخل غرفة بعد الأخرى وكأنها تريد أن تتأكد من أنها وحدها في الشقة. قبل أقل من ثلاث دقائق كانت تقف أمام المدخل، وتصافحه ثم تصافحني من دون كلمة واحدة، ولكنها الآن عادت إلى حياتها، وربما تملأ البانيو بالماء أو تتصل تليفونيًّا بصديقة، بينما نقف نحن هنا وكأن علينا أن نفكر أولًا فيما نريد فعله، هو من دون أن يتوقف عن الكلام، وأنا من دون أن أرد بشيء.
لم أكن أود أن أُعَرِّضَ نفسي لسلوكه المتردِّد الذي كان من الممكن أن يصدر عنه في كل مرة عند الوداع، لذلك اختصرتُ الطريق عليه، قاطعتُه أثناء الحديث، ثم مضيتُ في طريقي من دون أن أتخيَّل أننا سنلتقي سريعًا. كنت أعرف أنه سيسافر في الصباح التالي مع هيلينا إلى إقليم التيرول، إلى مسقط رأسه، ورغم أنه دعاني إلى اللحاق بهما، فقد قلتُ لنفسي أثناء ذهابي إنه من الأفضل أن أقضي الأيام القادمة وحدي. وعندما ناداني من الخلف، انتظرتُ هنيهة قبل أن أستدير، لكنني رأيتُه يسير في الاتجاه العكسي، ففرحتُ أنني تخلصتُ منه بهذه السهولة. غير أنني نسيتُ هذا كله بعد مرور يومين أو ثلاثة، كنا نحتفل برأس السنة، وفي عجلة من أمري قمتُ في الصباح الباكر بحزم بعض الأمتعة، ووجدتُ نفسي على الطريق السريع وكان واضحًا بالنسبة لي إلى أين تقودني الرحلة.
كنت أعتقد أنني مُحَصَّنٌ ضد كل هذه الجلبة والضوضاء المثارة حول مَقْدِم الألفية الجديدة، إلا أن الإثارة انتقلَتْ عدواها إليَّ، وعندما وصلتُ إلى القرية بعد الظهر، لاحظتُ من أول نظرة أن ثمة ما يعكر أيضًا الجو بين هيلينا وباول. كانت مختلفة عن المرة الأخيرة، سلوكها الرافض عمومًا اختفى، على العكس لقد احتضنَتْنِي، أما هو فاستقبلني استقبالًا حارًّا، مجاملًا، ولعب دور المضيف الحريص على راحة ضيفه، لكنني كنتُ أودُّ لو رجعتُ على الفور؛ إلى هذا الحد كنتُ أشعر بالطمأنينة في سيارتي، وكنتُ أريد الانصراف عندما أدركتُ أنهما بالتأكيد قد تَشاجرَا قبل حضوري. لا أعرف إذا كان الشجار يتعلق بتوقعاتهما بخصوص الرحلة، ولكن اختيارهما كان بلا شك مجانبًا للصواب، بل لم يكن من الممكن أن يكون أسوأ من ذلك: أن يسافرَا تحديدًا إلى المكان الذي تعارفَا فيه قبل زمن بعيد. غير أنني لم أعرف كيف أُقَدِّمَ لهما المساعدة؛ رحت أسمع حكاياتهما من دون أن أقوى على فعل شيء، وهي حكايات كنت أعرف جزءًا منها بالفعل، نوادر كان يحكيها هو بنبرة مُؤثِّرة، تكاد لا تُطاق، كيف قَبَّلها لأول مرة، أو كيف أثلجت السماء عليهما، أو ذهابهما ببساطة إلى الكنيسة كي يريها مقبرة أبيه، أو ما اكتشفه خلف المذبح، جمجمة، أما الآن فليس هناك سوى كيس جمع التبرعات الأرجواني اللون والمُعَلَّق على عصا طويلة، وعدة تماثيل منسية لملائكة تعلوها طبقات الغبار.
كان بإمكانه أن يحكي ما يريد، لم يُفِد ذلك في شيء، كل كلمة كانت بلا جدوى، فقط عندما تركنا وحْدَنا، وتمشَّيتُ مع هيلينا في الشارع خارجين من القرية في اتجاه الوادي، عندئذٍ أدركتُ شيئًا من السحر الذي حاول أن يستدعيه، ورحتُ أسرع خطواتي جانبها مُغلق العينين، محاولًا ألَّا أفقد الاتجاه الصحيح، ولذلك كنتُ ألمسها من حين لآخر، منصتًا إلى وقع خطواتنا فحسب.
«كم أتمنَّى أن نظل نسير هكذا ساعات وساعات»، قلتُ لها بمجرد انطلاقنا. «كم أحب لو فاجأنا منتصف الليل في مكان ما في قلب الظلام.»
كلام لا يمكن أن يصدر إلا من أعظم البلهاء، لكنها تناولت يدي للحظات، وأعتقد أن إجابتها كانت السبب لسلوكي الطائش لاحقًا طيلة المساء.
– «وأنا طفلة كنت دائمًا أتخيل أنني أستطيع أن أختفي في الظلام ببساطة، وعندما يطلع النهار، يكون العالم قد اختفى.»
في هذه الجملة كنت لا أزال أفكر بعد أن انتهينا من تناوُل الطعام، حيث جلسنا ننتظر معًا، ثم دقَّ تليفون باول، وكانت زوجته على الخط، فنهض وأومأ لهيلينا. قام ليتحدث في الخارج، ورأيتُه يروح ويجيء أمام الشباك وهو يحرك يديه، مبتعدًا في بعض الأحيان عن دائرة الضوء التي سقطَت خارج الشباك، ليظهر بعد قليل مرة أخرى وقد زاد انفعاله. رحتُ أُراقبه، بينما أهمَلَتْه هي تمامًا. كان ينظر إلى ساعته بين الحين والآخر، عندئذٍ تطلعتُ أنا أيضًا إلى الساعة، إلى أن تَصيَّدت نظرتي مبتسمةً، وغَطَّت معصمي بمنديل المائدة، ثم تَصرَّفت على نحو طفولي وقلتُ لها: «أحبك». أتى الاعتراف مفاجئًا لي أنا أيضًا، ولكن عندما رأيتُ تعبير وجهها ولم أستطع أن أُحدِّد إذا كان ما قلتُه قد سبَّبَ لها الفرح أم العذاب، كررتُ قولي، وبالتأكيد كان صوتي ينم عن يأس كبير.
«عليك أن تسمع نفسك»، ردَّت ضاحكةً. «بكلامك الولهان يمكنك أن تنافس أي مُغَنٍ عاطفي.»
ولأول مرة نطقَت اسمي عندئذٍ، ورغم أنني أحببتُ ذلك، فقد شعرتُ بالارتياح عندما عاد باول إلى الغرفة من الخارج. بدا وجهه محمرًا، وبينما كان يسير في اتجاهها، ثبَّت نظره عليَّ، وكأنه سمع كل ما دار بيننا. تحاشيتُ نظراته، ولم أجعل هيلينا تحيد عن بصري عندما احتضنَها، بينما تطلَّعتْ هي إليَّ عَبْر أكتافه مثل ملاك بريء.