«أحمد» … يلعب لعبة ذكية!
سار الجميع في ممر طويل صامت. كان الجوُّ دافئًا ونظيفًا، وكان الشياطين يرصدون المكان ليعرفوا تفاصيله. انتهَوا إلى بابٍ فُتحَ عندما اقتربوا منه. كانوا، وكأنهم يدخلون عالَمًا غامضًا لا يوجد على الأرض. دخلوا غرفة واسعة تبدو وكأنها غرفة استقبال هادئة، وقفوا مترددين لا يعرفون ماذا يفعلون. وبالرغم من وجود مقاعد، إلا أن أحدًا لم يجلس. كان الشياطين يفكِّرون: من المؤكد أن هناك كاميرات سرية تكشف وجودهم.
بعد قليل جاء صوت يقول: تفضَّلوا بالجلوس، وأهلًا بكم في بيتنا.
ابتسم «أحمد»، وقال هامسًا بلغة الشياطين: إنه استقبال طيب على كل حال!
مرَّت دقائق دون أن يظهر أحد، نظر الشياطين إلى بعضهم؛ فالخطوة القادمة يتوقف عليها كلُّ شيء … بعد قليل فُتحت أرض الغرفة، وارتفعت منضدة مستديرة فوقها أكواب الشاي الساخن … نظر الموجودون إلى بعضهم البعض دون أن يعلِّق أحد بشيء … تناول كلٌّ منهم كوب الشاي، كانت هناك آنية صغيرة مغطاة، ولم يقربها أحد، جاء الصوت يقول: إنها للكلب، قليل من اللبن الدافئ.
أسرع «أحمد» إلى الآنية وكشفَها، فتصاعد بخار قليل. قدَّم اللبن إلى «وايت» الذي أسرع إليه وأخذ يلعقه بسرعة.
جاء الصوت مرة أخرى يقول: يبدو أنكم جوعى، بعد قليل سيكون الطعام أمامكم!
أصبح واضحًا الآن للشياطين أن الغرفة مراقبة وعليها رقابة كاملة، وأن عليهم أن يتصرفوا بحذرٍ. فكَّر «أحمد» قليلًا، ثم قال بلغة الشياطين: ينبغي أن نتصرف بسرعة قبل أن ينقلونا إلى الطائرة مرة أخرى.
ردَّ «عثمان»: أعتقد أن المسألة تحتاج إلى حذر شديد؛ فنحن لا نعرف شيئًا هنا!
ردَّ «أحمد»: هذا يحتاج إلى أن نتحرك خارج هذه الغرفة، لنستطيعَ تحقيقَ أيِّ خطوة.
قال «مصباح»: نحن في حاجة الآن إلى إرسال رسالة إلى «إلهام» حتى نعرف أين هي بالتحديد وحتى تكون خطتنا صحيحة!
وكأنَّ «إلهام» كانت تسمعهم في هذه اللحظة؛ فقد شعر «قيس» بدفء جهاز الاستقبال، فعرف أن هناك رسالة … نظرَ إلى الشياطين نظراتٍ لها معنًى، فَهِموا منها ما يقصده. وضع يده في جيبه، وبدأ يستقبل الرسالة. كانت الرسالة شفرية من «إلهام» تقول: «٦ – ٣٠ – ١٧ – ٢٨ – ٢٢ – ١٨»، وقفة «٣٠»، وقفة «٦ – ١٢ – ١٤ – ٦ – ١٨»، وقفة «٢٠ – ١٩ – ٦ – ٣٠»، وقفة «٢٠ – ٣ – ٢٨»، وقفة «٦ – ٣٠ – ٢ – ٦ – ٥٠ – ٧٠ – ١٨»، وقفة «٤٥»، وقفة «٦ – ٣٠ – ١ – ١٩» … انتهى.
وكانت أصابع «قيس» تستقبل الأرقام، فيترجمها في ذهنه بسرعة. وعندما انتهَتْ، نظرَ إلى الشياطين، وقال بلغتِهم وهو يبتسم: يبدو أن «إلهام» كانت تسمعنا، إن الرسالة منها، وهي تحدِّد فيها موقعها!
سأل «أحمد»: أين؟!
ردَّ «قيس»: تقول إنها في النقطة «ل» في اتجاه الشمال الشرقي بزاوية ٤٥ …
كان الآخرون يراقبون الشياطين، وهم لا يفهمون شيئًا … غير أن الصوت المجهول تردد وهو يقول: سوف تتحرك الطائرة بعد تناول الطعام مباشرة.
صمت لحظة ثم أضاف: إن الرجل الكبير هو الذي أمر أن تتناولوا الطعام في ضيافته، وكنَّا سوف نقدِّمه لكم في الطائرة.
ردَّ «أحمد» بسرعة: نرجو أن تشكر لنا الرجل الكبير، وأن تعطونا فرصة كي نقدِّم له الشكر بأنفسنا … خصوصًا وأن معنا أحد رجال الأعمال الهامين في «إيطاليا».
ابتسم المليونير وهو لا يدري أن «أحمد» كان يقصد شيئًا من وراء ذلك، ليس هو تعظيم المليونير فقط، ولكن ليفتح شهية العصابة إلى إبقاء المجموعة كلها، فيمكن أن يتحول المليونير الضيف إلى رهينة في يد العصابة، وفي هذه الحالة سوف تكون الفرصة أمام الشياطين كاملة ليحققوا مغامرتهم كما يريدون.
قال الصوت بسرعة: انتظر، سوف أنقُل طلبكم إلى الرجل الكبير.
مرَّت دقائق. فجأة، انسحبَت المنضدة التي خرجت بالشاي، وفوقها الأكواب الفارغة، وعندما توسَّطت الغرفة هبطَت في هدوء في نفس المكان الذي خرجَت منه، ثم أُغلقت الفُتحة التي ظهرَت منها فلم يظهر شيءٌ في أرض الغرفة. كان ركَّاب الطائرة ينظرون إلى ما يحدث في دهشة، لكن الشياطين كانوا يراقبون فقط، وهم يُخفون ابتسامتَهم؛ فهم يعرفون هذه الأشياء جيدًا. مرَّت دقائق أخرى ثم جاء صوت الرجل الكبير يقول: أهلًا بكم بيننا … إنني الرجل الكبير الذي يتحدث، سوف أستقبلكم بعد الغداء مباشرة.
لمعَت أعين الشياطين؛ فقد تحقَّق ما فكر فيه «أحمد»؛ ولذلك كان من الضروري أن يضعوا خطتهم الآن، فهذه هي فرصتهم الذهبية …
قال «فهد» بلغة الشياطين: نستطيع أن نُوقِف عمل العدسات التي تراقبنا أو أجهزة التسجيل!
ردَّ «عثمان»: إنهم قد يشكُّون في ذلك وينكشف أمرنا!
أضاف «مصباح»: علينا أن نفكِّر ثم نعرض خُطَّتنا ونحن هنا.
قال «أحمد»: نعم، هذه هي الطريقة الصحيحة؛ فحدوثُ أيِّ شيء يمكن أن يكشفنا، بجوار أننا ينبغي أن نتحرك بسرعة قبل أن تَصِل أيُّ أخبار من «جان» و«جلوب».
فجأة، قطع حديثَهم صوتُ الرجل الكبير يقول: إنها لغة غريبة تلك التي يتحدث بها الأصدقاء!
لمعَت أعين الشياطين. ها هو أمرهم قد انكشف، جاء الصوت مرة أخرى يقول: أرجو أن أعرف من الأصدقاء هذه اللغة؛ فإنني أهوى تعلُّمَ اللغات.
انتظر لحظة، ثم أضاف: ويبدو أننا سوف نحتاج لبعض الوقت!
مع نهاية كلماته فُتح باب جانبي، وجاء صوت يقول: تفضَّلوا … الطعام في انتظاركم!
لم يتحرك أحد، كان الشياطين يفكِّرون فيما حدث، وكان ركَّاب الطائرة حائرين؛ فهم حتى الآن لم يفهموا شيئًا. نظر كابتن الطائرة إلى «أحمد» وقال هامسًا: يبدو أنني وثقت فيك أكثر من اللازم!
ابتسم «أحمد»، وقال: وسوف تكون سعيدًا بهذه الثقة!
وقف «أحمد» بسرعة وتقدَّم في اتجاه الباب المفتوح، فتَبِعه الشياطين، ثم بدأ ركاب الطائرة يتبعونهم، كانت المقاعد مرصوصة بطريقة دائرية. ولم يكن بينها منضدة أو طعام.
ابتسم «أحمد» وهو يفكِّر مرة أخرى سوف تظهر المائدة من أرض الغرفة ما دامت المقاعد مرصوصة بهذا الشكل … وكما توقَّع «أحمد» تمامًا، فتحت أرض الغرفة، ثم ظهرت مائدة ضخمة مزدحمة بأنواع الطعام. ظلَّت ترتفع، حتى استوت بين المقاعد تمامًا. جلس الجميع حولها. كانت أعينهم تلتقي دون أن ينطق أحد بكلمة. بدأ «أحمد» فمدَّ يدَه، وبدأ يأكل … فتبعه الجميع. كانوا يأكلون في صمت، لكن «أحمد» قطع عليهم صمْتَهم قائلًا: طريقة بديعة للخدمة، فلا خدَم ولا مشاكل!
لكن أحدًا لم يردَّ. وبعد قليل قال «عثمان»: إن الطعام الإلكتروني يبدو أحلى مذاقًا من الطعام العادي.
ثم أضاف «فهد»: خصوصًا وأن اللحم مطهوٌّ بطريقة بديعة!
أضاف «مصباح» هو الآخر: بجوار أن ذلك يختصر الوقت تمامًا!
قالت السيدة زوجة المليونير: إنها حقًّا طريقة جيدة!
قدَّم «أحمد» قطعة من اللحم المشوي إليها، وقال: أرجو أن تتذوق سيدتي هذا اللحم المشوي، إن مذاقه جميل.
ابتسمت السيدة، وأخذت قطعة اللحم وبدأت تأكلها، ثم فجأة صرخَت، وهي تضع يدها فوق فمها؛ حدث هَرجٌ في المكان، وظهر رجل من الداخل يقول: ماذا حدث يا سيدتي؟
كانت السيدة ما زالت تصرخ، وقد التفَّ حولها الجميع، قالت في إجهاد: أشعر وكأن الجحيم في جسمي!
أمسك الرجل قطعة اللحم وأكل منها، ثم قال: يبدو أن المواد الحريفة قد جاءت زائدة قليلًا، لكن ذلك مفيد في هذا الجو البارد!
غير أن هذه الكلمات لم تُسكِت السيدة؛ فقد كانت لا تزال تصرخ … قدَّم لها الرجل كوبًا من الماء وهو يقول: ربما يكون الماء عاملًا مساعدًا لتهدئة هذا الجحيم!
شربت السيدة بعض الماء، لكنها ازدادت صراخًا. قال الرجل مترددًا: ينبغي نقلها إلى الطبيب.
أمسك بها زوجها المليونير، وأسندها إلى ذراعه ثم دخل من نفس المكان الذي ظهر منه الرجل وأسرع «أحمد» خلفها. في نفس الوقت توقَّف الباقون عن الأكل؛ فقد أخذوا ينظرون إليه بشكٍّ، إلا أن «عثمان» استمر في تناوله الطعام وهو يقول: أظن أنها مصادفة، وقد تكون السيدة معتادة على أطعمة معينة.
أخذ الشياطين يأكلون، إلا أن الباقين كانوا ينظرون إليهم وكأنهم مخلوقات غريبة لكنهم بعد فترة مدُّوا أياديَهم وبدءوا يأكلون؛ فقد كانوا يشعرون بالجوع فعلًا. في نفس الوقت كان إقبال الشياطين على الطعام مطمئنًا لهم.
نظر «قيس» إلى الكابتن، وقال: أعتقد أن الطعام جيد!
ردَّ الكابتن: أعتقد ذلك، وإلا فقد كان من الممكن أن يحدث ما حدث لأيٍّ منَّا.
انهمكوا في الأكل جميعًا، لكن الشياطين كانوا يعرفون أن ما حدث ليس نتيجة قطعة اللحم «المشوية». إن «أحمد» لعب لعبة ما، حتى يكون في منطقة قريبة من «إلهام»؛ ولهذا كانوا يأكلون وهم يبتسمون في نفس الوقت.