البروتينات
تشكل البروتينات نصف الوزن الجاف للخلية، في حين يُشكل الحمض النووي ثلاثةً في المائة والحمض النووي الريبي ٢٠ في المائة فقط. لم تحظَ الصلة بين الحمض النووي والبروتين باهتمامٍ كبير حتى عام ١٩٤١، عندما أوضح كلٌّ من جورج بيدل وإدوارد تاتوم على نحوٍ قاطع لا لبس فيه أن الجينات تُوجِّه عملية تصنيع البروتينات، التي بدورها تتحكَّم في عملية التمثيل الغذائي. صنَع هذان الرائدان فطريات عفن خبز طافرة تطلَّبت إضافة حمض الأرجينين الأميني كي تنمو. فقَدَ كلُّ فطرٍ طافر جينًا واحدًا وتبيَّن أن كل طافرٍ يفتقر إلى إنزيمٍ واحدٍ يدخل في تخليق الأرجينين. وأدَّى هذا إلى التوصُّل إلى فرضية «جين واحد إنزيم واحد».
الإنزيمات هي بروتينات تُحفِّز مُعدل التفاعلات الكيميائية أو تُغيره، ومن خلال إظهار أن الجينات هي التي تتحكم في إنتاج الإنزيمات، كشف بيدل وتاتوم لأول مرةٍ كيف أن الجينات كانت تلعب دورًا رئيسًا في علم الأحياء الجزيئي.
يمكن للإنزيمات تسريع التفاعلات التي كانت ستستغرق وقتًا طويلًا جدًّا لتكتمل في درجة حرارة الجسم، ولكنها أيضًا تُبطئ بعض التفاعلات. كذلك تلعب البروتينات عددًا من الأدوار المهمة الأخرى. فهي تشارك في الحفاظ على شكل الخلية وتوفير الدعم البنيوي للأنسجة الضامَّة مثل الغضاريف والعظام. البروتينات المتخصِّصة مثل الأكتين والميوسين ضروريةٌ لتوفير الانقباض للحركة العضلية الهيكلية والقلبية. وتعمل البروتينات الأخرى ﮐ «رُسُل» لنقل الإشارات التي تعمل على تنظيم وتنسيق العمليات الخلوية المختلفة، مثل هرمون الإنسولين. تُوجَد فئة أخرى من البروتينات، ألا وهي الأجسام المضادة التي تُنْتَج كاستجابةٍ مناعية ضد العوامل الدخيلة مثل البكتيريا والفطريات والفيروسات.
تركيب البروتينات
البروتينات هي جزيئات كبيرة تتكوَّن من سلسلةٍ واحدة أو أكثر من الأحماض الأمينية مطوية في بُنًى ثلاثية الأبعاد شديدة الدقة. ولكل حمض أميني حجم مختلف ويحمل مجموعة جانبية مختلفة. وطبيعة المجموعات الجانبية المختلفة هي التي تُيسِّر عملية الطي الصحيح لسلسلة عديد الببتيد لتكوين بنية بروتينية ثلاثية فعَّالة. كان لينوس باولينج هو أول من طرح الرابطة الهيدروجينية — وهي القوة الجاذبة الضعيفة بين ذرة هيدروجين في جزيء وذرة قريبة سالبة الشحنة — كآليةٍ لتعزيز طي البروتين في بنيةٍ ثلاثية. تتمُّ عملية الطي أيضًا عن طريق التفاعلات الكارهة للماء، حسبما أوضح كلٌّ من والتر كاوزمان وكاج ليندرستروم-لانج لأول مرة. تتجمع سلاسل جانبية كارهة للماء على سلسلة الأحماض الأمينية معًا، وتُطمَر في قلب الجزيء، وبهذه الطريقة تتجنب ملامسة الماء. ينطوي الطي الصحيح للبروتين أيضًا على بروتينات خاصة تُسمَّى الشابيرونات الجزيئية التي تُحفِّز ثَنْيَ وطيَّ البروتين. وعلى ذلك تتكوَّن البروتينات من سلاسل عديدة الببتيد تعمل إما مُنفردة أو كوحداتٍ فرعية مُتعددة الببتيد. يحتوي العديد من البروتينات أيضًا على عوامل مساعدة مرتبطة مثل أيونات المعادن أو المجموعات العضوية مثل مجموعة الهيم في الهيموجلوبين. وغالبًا ما تُشْتقُّ العوامل المساعدة العضوية من الفيتامينات، مثل فيتامين ب ٦ أو النياسين أو حمض الفوليك.
عندما لا تكون هناك حاجةٌ لوظيفةٍ بعينها من وظائف البروتين أو عندما تُرْهَق هذه الوظيفة، تُمَيَّز البروتينات كي تُدَمَّر وتُفَكَّك ويُعاد تدوير مكوناتها. وتتم عملية إعادة تدوير البروتين هذه بعنايةٍ بحيث لا يُحْتَفَظ بالبروتينات التالِفة أو تلك التي لها وظائف مطلوبة مؤقتًا فحَسْب، وذلك حتى لا تتداخَل مع عمل الخلية. يُقاس عمر البروتين بعمره النِّصفي، الذي يمكن أن يستمرَّ بضع ثوانٍ أو قد يصل إلى سنوات. ويمكن أن يؤدي عدم كفاءة أو عدم اكتمال دوران البروتين إلى تراكُمٍ غير طبيعيٍّ للمواد في الخلايا، والتي تُسبِّب مرض ألزهايمر على سبيل المثال.
كيف ندرس البروتينات؟
ما المعلومات التي نحتاج إليها لفَهم كيفية عمل البروتينات، وماذا يحدث عندما تتعطَّل وظيفتُها عند الإصابة بالمرض؟
من المهم أولًا أن نكون قادرين على عزْل البروتين محل الاهتمام من «الحساء الخلوي» للجزيئات الكبيرة. والعنصر الحيوي لعملية التنقية هو إيجاد وسيلةٍ لتحديد البروتين محل الاهتمام خلال عملية العزل. ويمكن تحقيق ذلك على أساس الشحنة الإجمالية للبروتين، التي ترجع إلى نوع الأحماض الأمينية الموجودة على سطحه، أو حسب حجمه، وهو ما يعتمد على عدد الأحماض الأمينية التي يحتويها البروتين، أو مزيج من الطريقتَين.
التبئير المتساوي الكهربية والفصل الكهربي الأحادي والثنائي الأبعاد
تُفصَل البروتينات على أساس شحنتها السطحية عن طريق وضعها على مواد هلامية تم فيها تثبيت قيمة الرقم الهيدروجيني. وعادة ما تكون المادة الهلامية المستخدَمة هي مادة الأكريلاميد التي تمتاز بحجمٍ مُوحَّد للمسام ويمكن التحكم فيه بسهولة. تتحرك البروتينات عبر الهلام تحت تأثير تيار كهربائي حتى تستقر عند النقطة التي يتطابق فيها الرقم الهيدروجيني مع نقطة التساوي الكهربي في الهلام. عند هذا المعامل، لا يُوجَد صافي شحنة للبروتين؛ ومن ثم تتوقَّف الهجرة. وينتُج عن ذلك مادة هلامية ببروتينات مُتجمِّعة، يتموضع كلٌّ منها وفقًا لنقطة تَساويه الكهربية.
مطيافية الكتلة أو عملية وزن الجزيئات
تُميَّز البروتينات من خلال كتلتها أو حجمها، إلى جانب إجمالي أو صافي شحنتها الكهربية. وهذه هي نسبة الكتلة إلى الشحنة، والتي يمكن قياسها من خلال تقنية قياس مطيافية الكتلة. المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه مطيافية الكتلة أن مقدار انحراف جسمٍ مُتحرك بفعل قوةٍ معينة يعتمد على كتلته. على سبيل المثال، إذا ضربَت كرة تنسٍ طاولة بلاستيكية فستنحرف عن مسارها بمسافةٍ أكبر بكثير من كرة التنس العادية تحت تأثير قوة الضربة نفسها. إذا وضعنا الحقول المغناطيسية محلَّ مضرب الكرة أو مضرب التنس في المثال السابق، نجد أن من الممكن استخدامها لتحريف مسار الجسيمات المشحونة كهربيًّا، المعروفة باسم الأيونات الجزيئية. يمكن استخدام هذه التقنية لتحديد عددٍ من البروتينات داخل مزيج يجمع كل البروتينات الموجودة في الخلية باستخدام كمياتٍ صغيرة فقط من مادة البدء. ويمكن استخدامها أيضًا لتحليل البروتينات المعزولة سابقًا. ولتقنية مطيافية الكتلة استخدامات عديدة؛ فهي تُستخدَم في الطب لاختبار الأدوية أو لفحص حديثي الولادة باستخدام السوائل أو الأنسجة البيولوجية، وللكشف عن التلوث البيئي مثل الملوثات في الأنهار، وتستخدمها الصناعات الدوائية عند اختبار خواص الأدوية الجديدة.
دراسة البروتيوم
استخدم مارك ويلكنز مصطلح «البروتيوم» لأول مرة في عام ١٩٩٤ للإشارة إلى جميع البروتينات التي تُعبر عنها خلية أو نسيج أو كائن حي في ظروفٍ محددة. بالنسبة إلى الكائنات الحية البسيطة، مثل الفيروسات، يمكن استخلاص جميع البروتينات التي شفَّرتها جينوماتها من تسلسُلها، وهذه البروتينات هي ما تحتوي على البروتيوم الفيروسي. أما بالنسبة إلى الكائنات الحية الأكثر تعقيدًا، فيكون البروتيوم الكامل أكبر بكثيرٍ من الجينوم نتيجة للوصل البديل للجينات، ومواقع بدء وتوقف الترجمة المختلفة، والتعديلات اللاحِقة للترجمة. بالنسبة إلى هذه الكائنات، لا تُوجَد كل البروتينات التي يُشفِّرها الجينوم في أي نسيج في أي وقت؛ لذا عادةً ما يُدرَس بروتيوم جزئي. ما يهم هو تلك البروتينات التي يُعبر عنها في أنواعٍ مُعينة من الخلايا في ظروفٍ محددة.
عادة ما تُجرى دراسة البروتيومات عن طريق الفصل الكهربي الثنائي الأبعاد؛ لأن هذه التقنية يمكن أن تفصل ألفي ببتيد. يمكن تحديد الببتيدات باستخدام كتلتها ونقطة تساويها الكهربي كإحداثيات تُقارَن بالمعايير الموجودة في قواعد البيانات. وقد تم تحديد ببتيدات غير معروفة مؤخرًا باستخدام قياس مطيافية الكتلة إلى جانب تقنيةٍ حديثة تُعرف باسم البصمة الوراثية لكتلة الببتيد، مما أحدث ثورةً في دراسة البروتيومات. تمتاز هذه الطريقة بأنها لا تتطلَّب تحديد تسلسُلات الببتيدات، بل كتلتها فحسب. وقد نُشرت مؤخرًا مسودة لخريطة البروتيوم البشري باستخدام هذه الاستراتيجية (١). دمج واضعو هذه المسودة البيانات البروتيومية التي جمعوها من ثلاثين نسيجًا بشريًّا طبيعيًّا مختلفًا، وهو ما مكَّنهم من التعرُّف على البروتينات المشفرة بواسطة ١٧٢٩٤ جينًا، وهو ما يُقدَّر بنحو ٨٤ في المائة من الجينات المشفرة للبروتين في الجينوم البشري. تكمُن أهمية البروتيوم الطبيعي في أنه سيوفر الأساس للبحث في الطرُق التي تتغيَّر بها البروتينات مع الإصابة بالأمراض.
دراسة بِنية البروتين
تعتمد وظائف معظم البروتينات على البنية الثلاثية الأبعاد وإمكانية التفاعُل مع الجزيئات الكبيرة الأخرى أو العوامل المساعدة التي توفِّرها هذه البنية. ولدراسة هذا نحتاج إلى بعض وسائل التكبير التي تُتيح لنا تصوُّر بِنية البروتين على المستوى الذرِّي. وهذا يتطلَّب شكلًا من أشكال الإشعاع الكهرومغناطيسي بأطوالٍ موجية قصيرة بما يكفي لتمييز الذرات؛ لأن الطول الموجي للضوء المرئي طويل جدًّا. تتمتع الأشعة السينية بخصائص الإشعاع الكهرومغناطيسي بأطوال موجية تصل إلى ٠٫١ نانومتر، مما يجعلها مثاليةً لفحص البُنى الذرِّية. خرجت هذه التقنية إلى النور منذ نحو مائة عامٍ بفضل العالم الألماني ماكس فون لاو مُكتشِف حيود الأشعة السينية للبلورات. عند تمرير الأشعة السينية عبر مجموعةٍ منتظمة من الذرَّات في بلورة، فإنها تتشتَّت، وتتداخَل الموجات الناتجة المختلفة بعضها مع بعض إما عن طريق الإضافة أو الإلغاء. الأمر هنا شبيه بعض الشيء بحركة الأمواج على بركة ماء عند سقوط حجرٍ فيها. يمكن استخدام نمط حيود الأشعة السينية الناتج لإعادة حساب ترتيب الذرات في الجزيئات الأصلية كما رأينا في حالة الحمض النووي.
يمكن أن تشكل البروتينات المنقَّاة بلورات؛ ومن ثم يكون لديها مجموعةٌ منتظمةٌ من الذرات التي يمكن أن تُشتِّت الأشعة السينية لتشكيل نمَط حيود. والوسيلة الأساسية للذرات لتشتيت موجات الأشعة السينية هي من خلال إلكتروناتها، مما يؤدي إلى تشكيل موجاتٍ ثانوية أو مُنعكسة. يمكن التقاط نمط حيود الأشعة السينية الذي يتمُّ من خلال ذرَّات البروتين على لوحٍ فوتوغرافي أو مُستشعِر صور، مثل جهاز اقتران شحنات يُوضَع خلف البلورة. بعد ذلك يُستخدَم النمط والشدة النسبية للبُقَع الموجودة على صورة الحيود لحساب ترتيب الذرَّات في البروتين الأصلي. ويلزم معالجة البيانات المعقَّدة لتحويل سلسلة أنماط الحيود أو التشتت الثنائية الأبعاد إلى صورةٍ ثلاثية الأبعاد للبروتين. كانت أُولى البُنى البروتينية التي اكتُشِفت هي الميوجلوبين والهيموجلوبين في عام ١٩٥٨. ويتجلَّى النجاح المستمر لهذه التقنية وأهميتها بالنسبة إلى علم الأحياء الجزيئي من خلال حقيقة أنه قد تم تحديد ما يقرب من ١٠٠ ألف بنية للجزيئات البيولوجية بهذه الطريقة، مُعظمها لبروتينات. كذلك يُستخدَم تصوير البلورات بالأشعة السينية في الصناعة؛ على سبيل المثال، في المستحضرات الدوائية لمراقبة تفاعلات البروتين الدوائي.
يؤرشِف البنك العالمي لبيانات البروتينات ما يقرب من ١٠٠ ألف بنية بروتينية جُمِعت منذ عام ١٩٧١. وتُجرى الآن تجربة مركبات مُتعدِّدة البروتينات عن طريق بلورتها بشكلٍ مجزأ ثم ربط الأجزاء الفردية معًا مثل أُحجية الصور المقطوعة. في الوقت الحالي، تحل أجهزة الليزر المتخصِّصة محل شعاع الأشعة السينية. وتشمل البُنى المهمَّة، التي توصَّل العلماء لحلِّها حتى الآن، الخطاف الثلاثي لفيروس نقص المناعة البشرية الذي يَستخدِمه الفيروس لإصابة الخلية التي يُفضلها والارتباط بها من أجل التكاثُر. وتُشبه بنية هذا المركب البروتيني الموجود داخل غلاف الفيروس أرجُل مان الثلاث؛ الرمز الشهير لجزيرة مان.
لا يشكل العديد من البروتينات بلوراتٍ كبيرة ومستقرة؛ لذا فهي لا تُناسب هذه التقنية. وعلى الرغم من نجاح تقنية تصوير البلورات بالأشعة السينية، يُستخدَم الآن التحليل الطيفي بالرنين المغناطيسي النووي كنهجٍ بديل ومُكمل لتوصيف البُنى الجزيئية. تَستغل تقنية التحليل الطيفي بالرنين المغناطيسي النووي الخواص المغناطيسية للنواة الذرية، التي تمتصُّ الإشعاع الكهرومغناطيسي وتُعيد إصداره وفقًا للبيئة الجزيئية المحلية التي تؤثر على نُوِيِّ الذرَّات. لا تُنتج التقنية صورة مباشرة ولكنها تعتمد على الحسابات لإنشاء نماذج ثُلاثية الأبعاد. يمكن تصوُّر هذه التقنية كنوعٍ من التصوير بالرنين المغناطيسي للجزيئات التي تُمكِّن العلماء من حساب بِنية جزيءٍ ما. ولا تُستخدَم فقط لتحديد البُنى الجزيئية، ولكن أيضًا لتحديد تفاعلاتها مع الجزيئات الأخرى، حتى وإن كانت ضعيفةً أو وقتية. وتتمثَّل إحدى فوائدها الأساسية في إمكانية تحديد البُنى باستخدام الجزيئات الموجودة في محلول، وهي ميزةٌ ذات أهميةٍ فسيولوجية أكبر.
الكشف عن البروتين بالوسائل المناعية
يُعرَف أحد الأجسام المضادة باسم الجلوبولين المناعي. تتميز الجلوبولينات المناعية بخصائص تمييز جُزيئي محددة للغاية وترتبط بطريقة «القفل والمفتاح» بمواقع أو مُحددات أنتيجينية بعينها على بروتين آخر يُعرَف باسم الأنتيجين أو المستضد. واعتُبرَت هذه الدقة العالية أداةً قوية وأساسية للعديد من تقنيات الكشف في علم الأحياء الجزيئي.
لطخة ويسترن
لطخة ويسترن هي تقنية مناعية تكشف عن البروتينات بعد فصل الهلام. أدخل هاري توبين من معهد فريدريش ميشر بسويسرا هذه التقنية في سبعينيات القرن الماضي، ومع توافر عشرات الآلاف من الأجسام المضادة الأولية تجاريًّا الآن، أصبحت واحدة من الدعائم الأساسية لعلم الأحياء الجزيئي. سُمِّيت التقنية «لطخة ويسترن» تماشيًا مع لطخات الحمض النووي التي تُعرَف باسم لطخة ساذرن التي اكتشفها إدوين ساذرن، ولطخات الحمض النووي الريبي التي أُطلِق عليها اسم لطخة نورثرن. ولكن لا تُوجَد لطخة إيسترن.
الكيمياء الهيستولوجية المناعية
شُبِّهت دراسة مُكونات البروتينات بعد نقع الأنسجة بتحديد قائمة الطعام بعد تحويل محتويات طبقك إلى حساء. فحينئذ سيُفقَد الكثير من المعلومات المهمة مثل مكان وجود البروتين في الخلية أو حتى في أي نوعٍ من الخلايا. وغالبًا ما تُشَخَّص الأمراض باستخدام أجزاءٍ رقيقة من النسيج وتحديد البروتينات المرتبطة بأنواع خلايا بعينها أو وظائف أو حالات مرضية مُعينة. وتُعد دراسة التعبير البروتيني في الخلايا الفردية للنسيج أيضًا أمرًا جوهريًّا لأبحاث الطب البيولوجي. في هذه التقنية تكون البروتينات الموجودة في النسيج أو العضو ثابتة أو مرتبطة تصالبيًّا للحفاظ على بِنيتها، وبعد ذلك تُطمَر العينة في وسطٍ ما مثل شمع البارافين. يسمح بقطع أجزاء من الأنسجة بسهولة. بعد ذلك، تُثبَّت أجزاء رقيقة من الأنسجة على شرائح مِجهر زجاجي وتُلطخ بحثًا عن بروتينات مُعينة. عادة ما يحتفظ بالخواص المناعية للبروتين في الأنسجة المثبتة ويمكن استخدامها مع أجسامٍ مضادة مُحدَّدة لتحديد بروتينٍ ما بطريقةٍ مماثلة لتقنية لطخة ويسترن. في تقنية الكيمياء الهيستولوجية المناعية، يمكن ربط الجسم المضاد الثانوي بفلوروفور يعمل على تضخيم الإشارة عند تنشيطها لتتوهَّج تحت المجهر. وكبديل، يمكن ربط الجسم المضاد الثانوي بإنزيمٍ ينتج مُنتجًا ملونًا في موقع البروتين محل الاهتمام، وهو ما يمكن رؤيته من خلال مجهرٍ ضوئي. وغالبًا ما يُطبَّق مُلوِّن مُباين لإبراز ملامح العينة مثل النواة وغشاء الخلية قبل الفحص والتخزين.
التكرار الجيني ونظائر البروتين
أدت الأخطاء في استنساخ الحمض النووي على مدى ملايين السنين إلى إنتاج نُسَخ مكررة من جينات موروثة معينة. يمكن أن تتطور هذه النسخ المكررة بعد ذلك على نحوٍ منفصل لإنتاج بروتينات أو نظائر مماثلة تعمل بشكلٍ مختلف. ويُعتبر التكرار الجيني آليةً مُهمة أخرى في تطور الكائنات الحية المعقَّدة تؤدي إلى تكوين نظائر البروتين أو الأشكال الإسوية. وخير مثال على ذلك إنزيم الإينولاز الذي ينشَط في عملية تَحلُّل الجلوكوز المنتجة للطاقة. يملك هذا الإنزيم ثلاثة نظائر في الفقاريات، ألا وهي ألفا وبيتا وجاما، والتي تَنتُج عن حدثي تكرار جيني. يُعبَّر عن الإينولاز بشكلٍ كبير في الأنسجة الجلايكولية مثل الدماغ والعضلات والكبد التي لكلٍّ منها احتياجات عالية من الطاقة. يحفز الإينولاز الخطوة قبل الأخيرة في تحلُّل الجلوكوز عن طريق تحويل ٢ فوسفوجليسرات إلى فوسفو-إينول حمض البيروفيك. يتم التعبير عن شكل ألفا على نطاقٍ واسع في الكبد، وهو الشكل الوحيد الموجود فيه. أما البيتا إينولاز فهو يخصُّ العضلات، ويخصُّ جاما إينولاز الخلايا العصبية وخلايا الغُدَد الصمَّاء العصبية. وبهذه الطريقة يمكن للأنسجة المختلفة التعبير عن أشكالٍ مختلفة من البروتين نفسه. نشأت نظائر الإينولاز من حدث تكرار جيني واحد في مرحلة مُبكرة من تطور الفقاريات متبوعًا بتكرارٍ ثانٍ أدى إلى ظهور نظائر بيتا وجاما منفصلة. وتُعتبَر بروتينات بيتا وجاما هي الأكثر ارتباطًا بين النظائر الثلاثة.
البروتينات المتعددة الوظائف أو «التقاسُم الجيني»
يُعتبر الإنسان أكثر الكائنات الحية تعقيدًا في الطبيعة، وينعكس ذلك في الحجم النسبي للبروتيوم البشري، الذي يفوق في تعقيده تعقيد حجم الذبابة ثلاث مرات. ويتجاوز عدد البروتينات في الكائنات الحية الأعقد عدد الجينات المُشَفِّرَة المعروفة بكثير. وتُعتبر حقيقة أن العديد من البروتينات يؤدِّي وظائف متعددة ولكن بطريقةٍ منظمةٍ هي إحدى الطرق التي ينشأ بها بروتيوم مُعقد دون زيادة عدد الجينات. وقد اكتسبت البروتينات التي أدَّت دورًا واحدًا لدى أسلافنا من الكائنات وظائفَ إضافيةً ومُتباينة في كثيرٍ من الأحيان من خلال التطور.
توصل كلٌّ من بياتيجورسكى وويستو في عام ١٩٨٧ إلى اكتشافٍ مذهل وهو أن البروتينات الشفافة في عدسة العين لدى الفقاريات، والمعروفة باسم الكريستالين، كانت في الواقع نفس البروتينات مثل بعض الإنزيمات المحللة للجلوكوز في تكسير الجلوكوز لإنتاج الطاقة. في عيون البط، كان الكريستالين من نوع إبسيلون هو عبارة عن إنزيمٍ نازعٍ لهيدروجين اللاكتات، بينما تبين أن الكريستالين من نوع تاو في السلاحف هو إنزيم ألفا إينولاز الذي يُحلل السكر. تتراكم هذه الإنزيمات في العدسة وتصل إلى تركيزاتٍ عالية جدًّا حيث يبدو وجود دورٍ أيضي بعيد الاحتمال. ولكن من المحتمل أن يكون لها وظيفة بنيوية فقط. والموقع النشط للإنزيم المستخدَم في التحفيز ليس إلا جزءًا صغيرًا من البروتين، وهو ما يترك سعة فائضة لاكتساب وظيفةٍ ثانية.
وتُعد الإنزيمات التي لها أدوار أخرى بالإضافة إلى التحفيز من بين الأمثلة الأكثر شيوعًا لتقاسم هذا الجين. يدخل مسار تحلل السكر في تكسير السكريات مثل الجلوكوز لإطلاق الطاقة. وقد طور العديد من إنزيمات هذا المسار القديمةِ والمحفوظةِ بشدةٍ وظائف ثانوية أو وظائف «تقاسمية». وغالبًا ما تُغير البروتينات موقعها في الخلية لأداء «وظيفة ثانية». وهكذا يؤدي إنزيم الإينولاز في السيتوبلازم وظيفته التحفيزية لمسار تَحلُّل السكر، بينما تكون وظيفته بنيويةً في العدسة، ولكن عندما يكون موجودًا في الغشاء الخلوي، اتضح أن له دورًا في الاستجابات الداعمة للالتهابات.
قد لا يكون الحجم المحدود للجينوم هو الضغط التطوُّري الوحيد الذي يدفع البروتينات للتقاسم الجيني. يمكن أن يكون للجمع بين وظيفتَين في بروتينٍ واحدٍ ميزة تنسيق أنشطة متعدِّدة في الخلية، مما يمكِّنها من الاستجابة بسرعةٍ للتغيرات البيئية دون الحاجة إلى عمليات نسخ وترجمة طويلة. وقد وصف اختصاصيُّو علم الأحياء الجزيئي المهتمون بالتصاق الخلية وتنظيم الهيكل الخلوي هذا الأمرَ لأول مرة عندما كانوا يدرسون بروتين البيتا-كاتينين. يتم التعبير عن البيتا-كاتينين على نطاق واسع على سطح الخلية وله دور في الحفاظ على شكل الخلية وسلامة النسيج الطلائي. تخيَّل دهشة العلماء عندما وجدوا أنه البروتين نفسه الذي كان يُدْرَس بسبب نشاطه النسخي داخل النواة. يعتبر الدور المزدوج لهذا البروتين مَنطقيًّا من الناحية البيولوجية؛ لأنه ينسق إشارات سطح الخلية مع الاستجابات النسخية. فبدلًا من مجرد تدمير البيتا-كاتينين الذي أُزيح من سطح الخلية، صار يُستخدَم كمنشطٍ لعملية النسخ. ويُعد هذا مثالًا رائعًا للتقاسُم الجيني البروتيني الذي يربط تغييرًا بنيويًّا على سطح الخلية بمسار الإشارات.
ويؤدِّي فقدان التصاق الخلية بخليةٍ أخرى إلى إطلاق البيتا-كاتينين حيث يُنْقَل إلى النواة ليقوم بدَوره الثاني كعامل نسخٍ ينشط مجموعة من الجينات اللازمة للتكاثر.
الأشكال الإسوية للبروتين التي تنتُج من جين واحد
تعديلات ما بعد الترجمة
كما يُوحي مصطلح تعديلات ما بعد الترجمة، فهو عملية أخرى يمكنها تعديل دور أحد البروتينات عن طريق إضافة مجموعات كيميائية إلى الأحماض الأمينية في سلسلة الببتيد بعد الترجمة. على سبيل المثال، تُعتبر إضافة مجموعات الفوسفات (الفسفرة) آلية شائعة لتفعيل أو تثبيط نشاط إنزيم بعينِه. وتشمل تعديلات ما بعد الترجمة الشائعة الأخرى إضافة مجموعات الأسيتيل (الأستلة)، أو الجلوكوز (الجلكزة أو الارتباط بالجليكوزيل)، أو مجموعات الميثيل (المَثْيَلَة). يمكن أيضًا إضافة بروتينات صغيرة مثل اليوبيكويتين (الارتباط باليوبيكويتين) الذي يمكن أن يغير وظيفة بروتينٍ ما. بعض الإضافات قابلة للعكس، مما يسهل التبديل بين الحالات النشطة وغير النشطة، والبعض الآخر لا رجعةَ فيه مثل وسم البروتين باليوبيكويتين لتدميره.
تسلط الأمراض الناجمة عن حدوث خللٍ في هذه التعديلات الضوء على أهمية تعديلات ما بعد الترجمة. يتَّسِم مرض ألزهايمر، على سبيل المثال، بالفشل في «إعادة تدوير» البروتينات البنيوية في الدماغ. فيتراكم البروتين الذي يُطوى بطريقة خاطئة في الخلايا العصبية، مما يضعف وظيفتها ويؤدي في النهاية إلى موت الخلايا وفقدان الخلايا العصبية. والمثال الآخر يحدث في مرض السكري. يؤدي ارتفاع مستويات الجلوكوز في الدم إلى عمليةٍ غير مرغوبةٍ من ارتباط البروتينات بالجليكوزيل أو الجلكزة. وعند تركيزات الجلوكوز المرتفعة المرتبطة بمرض السكري، يؤدي تفاعل كيميائي غير مرغوب فيه وغير قابل للعكس إلى ربط الجلوكوز ببقايا الأحماض الأمينية مثل اللايسينات المكشوفة على سطح البروتين. بعد ذلك، تتصرف البروتينات المرتبطة بالجليكوزيل بشكلٍ سيئ؛ إذ ترتبط تصالبيًّا بالنسيج البيني الموجود خارج الخلية. ويشكِّل هذا خطورةً على وجه الخصوص في الكُلى، حيث ينقص من وظيفتها ويمكن أن يؤدي إلى الفشل الكلوي.
البريونات
البريونات هي بروتيناتٌ تتطلَّب نقاشًا خاصًّا؛ لأنه عند تعرُّضها للطيِّ الخاطئ يمكن أن تُسبب أنواعًا من «العدوى» الإسفنجية المدمِّرة، مثل مرض جنون البقر.