الفصل السابع
علم الأحياء الجزيئي في الطب السريري
يمكن أن تتسبَّب العوامل البيئية في تغيُّرات جينية وفوق جينية في
الحمض النووي، وقد تؤدي عواقب ذلك إلى الإخلال بتنظيم العمليات الخلوية
والمسارات التي تُسبب المرض. يمكن أن يكون التباين الجيني وراثيًّا إذا
اكتُسب عبر الخط الجنسي، أو غير وراثي عندما تحدث تغييرات الحمض النووي
في الخلايا الجسدية. بعض الطفرات يُحتفَظ بها في مجموعة من الأفراد إذا
كانت تمنح ميزة حال وجودها مع جين من جينات النمط الشائع يعمل بكامل
طاقته (مُتغاير الزيجوت). ولا تُسبب هذه الطفرات المرض إلا عندما تكون
نسختا الجين مُتحورتَين (متماثلة الزيجوت). وغالبًا ما كان اختيار
الطفرات الموروثة يرجع إلى الأدوار المفيدة التي لعبتها لدى أسلافنا؛
على سبيل المثال، قد يكون جين التليُّف الكيسي قد قلَّل من خطر الوفاة
بسبب الكوليرا.
استفاد مجالان معاصران رئيسيان من مجالات البحث السريري استفادةً
خاصة من التحسُّن الذي طرأ على معرفتنا بأساسهما الجزيئي، ألا وهما
الشيخوخة والسرطان. فنحن الآن أقدَر على التنبؤ بمخاطر المرض، وتصميم
أدويةٍ ذات فاعلية إكلينيكية أعلى من خلال استهداف مسارات جزيئية
محددة.
الشيخوخة وعلم الأحياء الجزيئي
نحن نعيش في مجتمعٍ يتقدَّم في العمر، وإذا استمرت الاتجاهات
الحالية، فسيكون خُمس سكان العالم فوق سنِّ الستين بحلول عام ٢٠٥٠.
وسيؤدي ذلك إلى زيادة حادة في العبء الصحي الناجم عن الأمراض
المزمنة الناتجة عن الشيخوخة، التي يطلق عليها «التسونامي الفضي».
تَنتُج الشيخوخة الطبيعية جزئيًّا عن استنفاد الخلايا الجذعية، وهي
الخلايا الموجودة في معظم الأعضاء لتجديد الأنسجة التالفة. ومع
تقدُّمنا في العمر، يتراكم الحمض النووي التالِف وهو ما يؤدي في
النهاية إلى دخول الخلايا في حالة دائمة غير منقسمة تُسمَّى
الشيخوخة. غير أن هذه الحيلة الوقائية لها جانبها السلبي لأنها
تحدُّ من عمرنا. عندما يشيخ عدد كبير للغاية من الخلايا الجذعية،
يتعرض الجسم لخطرٍ يتمثل في عدم قُدرته على تجديد الأنسجة البالية،
وهو ما يتسبَّب بدوره في ظهور آثار الشيخوخة. ويتسبَّب ذلك في
تأثير غير مباشر يتمثل في ضعف الاتصال بين الخلايا، والخلل الوظيفي
في الميتوكوندريا، وفقدان توازن البروتين (الاستتباب البروتيني).
تزداد المستويات المنخفضة من الالتهاب المزمن أيضًا مع تقدُّم
العمر ويمكن أن تكون العامل المسبب للتغييرات المرتبطة بالعديد من
الاضطرابات المرتبطة بالعمر.
الخرف
من المحتمَل أن تكون الشيخوخة أكثر ارتباطًا بالفقدان المُنْهِك
لوظائف المخ واضطرابات الشخصية المرتبطة بهذا الفقدان، والتي سجلها
لأول مرة الفلاسفة اليونانيون والرومانيون القدماء، من بينهم
فيثاغورس. والخرَف هو مصطلح يُطلَق على فئة واسعة من أمراض الدماغ،
بما في ذلك مرض باركنسون وألزهايمر. سُمِّي مرض ألزهايمر نسبة إلى
الطبيب النفسي وعالم الأمراض الألماني ألويس ألزهايمر الذي وصف
المرض في عام ١٩٠١. مرض ألزهايمر هو الشكل الأكثر شيوعًا للخرَف
ولا يُوجَد علاج له حاليًّا. فهو يشمل ما يصل إلى ٧٠ في المائة من
حالات الخرف وربما يُصيب ما لا يقل عن ٧ في المائة من السكان. قد
يكون من الممكن منع الإصابة بالمرض أو تأخيره من خلال اختيارات نمط
الحياة، ولكن إلى أن نفهم الطبيعة الجزيئية لهذا الاضطراب، لن تكون
للنصيحة سوى قيمة محدودة. يتَّسِم داء ألزهايمر بوجود بروتينات غير
مطوية في الدماغ تُقاوِم إعادة التدوير الإنزيمي الطبيعي. تأتي هذه
الفئة من الاضطراب تحت اسم اعتلال البروتيوباثي. تتكوَّن الصفائح
خارج الخلوية المقاوِمة للبروتياز المميزة لمرض ألزهايمر، والتي
تُعطل وظائف الخلايا العصبية، من بروتين الأميلويد. وأدَّى هذا
الاكتشاف إلى فرضية ارتباط الأميلويد بالخرف. يُشَفِّر أحد الجينات
الموجودة على كروموسوم ٢١ بروتين طليعة الأميلويد
(APP) ويُعاني الأفراد الذين لديهم
نسخة إضافية من كروموسوم ٢١ (المرتبط بمتلازمة داون) من الإصابة
بداء ألزهايمر مبكرًا. يدخل بروتين آخر يُسمَّى تاو في تحديد مدى
احتمالية الإصابة بمرض ألزهايمر أيضًا. فحين يتحوَّر بروتين تاو
بشكلٍ غير طبيعي، فإنه يشكل تشابكات ليفية عصبية من ألياف بروتينية
ملتوية داخل جسم الخلية العصبية، مما يؤدي إلى حدوث خللٍ وظيفي في
الخلية وموتها.
وجدت دراسات الترابط الجينومي الحديثة الجينات التي تنطوي على
خطر الإصابة بالخرف، وتقترح هذه الدراسات آلياتٍ لشرح الطبيعة
الباثولوجية الجزيئية للمرض. يصيب مرض باركنسون ما يصل إلى ثلاثة
من كل ألف شخص في العالم الغربي، من ضِمنهم مشاهير مثل الممثل
مايكل جيه فوكس والملاكم الشهير محمد علي كلاي. قد يكمُن مفتاح
فَهم مرض باركنسون في اكتشاف ارتباطه ببروتين جديد يُسمَّى تيجار
يقتل الخلايا العصبية عندما يُفرِط في نشاطه. يتعايش ما بين سبعة
إلى عشرة ملايين شخص حول العالم مع مرض باركنسون ولا تزال أسبابه
غير معروفة. وقد يوقف الاستهداف العلاجي لبروتين تيجار تقدُّم هذا
المرض المدمِّر.
أمراض الشيخوخة المبكرة
عُرِفَ الكثير عن الشيخوخة
من البيولوجيا الجزيئية للاضطرابات الوراثية للشيخوخة المبكرة،
التي تُسمَّى البروجيريا، أو الشيخوخة المبكرة عند الصغار.
اشتُقَّت كلمة «بروجيريا» من اليونانية وتعني التقدُّم المبكر في
العمر. تُعتبر البروجيريا حالة نادرة للغاية؛ لأن المصابين لا
يعيشون طويلًا بما يكفي للتكاثُر؛ لذلك فإن كل حالة من البروجيريا
ناتجة حتمًا عن طفرة جديدة. تظهر الأعراض في الطفولة المبكرة
مصحوبةً بفشل في النمو وشيخوخة ملحوظة للجلد. يُصاب المريض بتصلب
الشرايين وأمراض القلب والأوعية الدموية في مرحلة الطفولة. يتبع
ذلك ظهور تجاعيد الوجه وتساقط الشعر، إلى جانب فقدان دهون الجسم
والعضلات وتيبُّس المفاصل؛ أي جميع الأعراض التي عادة ما تظهر فقط
في سِن الشيخوخة. والسبب في هذا هو شكلٌ مُتحوِّر من بروتين
اللامين أ يُسمَّى البروجيرين. يُضعِف متحور اللامين أ بنية الغلاف
النووي أو الصُّفيحة ومن ثم يُضعِف وظائفها، مثل إصلاح الحمض
النووي التالف ووظيفة الكروماتين. قد يلعب البروجيرين دورًا في
الشيخوخة الطبيعية للإنسان؛ إذ ينشط إنتاجه في الخلايا الشائخة.
ترجع أيضًا اضطرابات الشيخوخة المتسارِعة الأخرى، مثل متلازمة
فيرنر، أو جفاف الجلد الصباغي، أو متلازمة كوكاين إلى تضاؤل القدرة
على إصلاح الحمض النووي.
المسارات المؤدية إلى الشيخوخة
أُحْرِز تقدُّم كبير في أبحاث الشيخوخة باستخدام الخميرة
واللافقاريات، مما أدى إلى اكتشاف المزيد من «جينات الشيخوخة»
ومساراتها. يمكن استنباط هذه النتائج وتطبيقها على البشر؛ وهذا لأن
المسارات الخاصة بطول العمر محفوظة تطوريًّا بين الأنواع. تشترك
المسارات الرئيسة المعروفة بتأثيرها على الشيخوخة في صفةٍ بعينها،
ألا وهي استشعار العناصر الغذائية واستقلابها.
بدأت قصة الراباميسين في الستينيات بعيِّنة مأخوذةٍ من تربة
«رابا نوي» (جزيرة الفصح) أثبتت أن لها نشاطًا قادرًا على قتل
الخلايا. نُسِب هذا النشاط لاحقًا إلى جزيء صغير، وهو الراباميسين،
تُنتجه بكتيريا التربة. تم تطوير الحقل من خلال تحديد مُسْتَهْدَف
الراباميسين في الثدييات، الذي يعرف اختصارًا ﺑ
mTOR. يعمل مُسْتَهْدَف
الراباميسين في الثدييات كمستشعرٍ جزيئي يدمج محفزات النمو مع
المتوفر من المغذيات والأكسجين. تعمل الجزيئات الصغيرة مثل
الراباميسين التي تُقلل من إشارات كيناز مُسْتَهْدَف الراباميسين
في الثدييات بطريقةٍ مشابهةٍ للحمية الغذائية القاسية على إبطاء
عملية الشيخوخة في الكائنات الحية مثل الخميرة والديدان. تظهر
الوظائف الشاذة المرتبطة عادةً بالشيخوخة أيضًا في مجموعةٍ من
الأمراض، وكان الرابامايسين محور بحث مُكثف من قِبَل الأكاديميين
وشركات الأدوية. استُخدِم الراباميسين ومُشتقاته (مثبطات
مُسْتَهْدَف الراباميسين في الثدييات) في التجارب السريرية التي
أُجرِيَت للحدِّ من الأمراض المرتبطة بالتقدُّم في العمر مثل مرض
ألزهايمر والسكري من النوع الثاني والسمنة وبعض أنواع السرطان. غير
أنه من غير المحتمَل أن تعتمد هذه الأدوية أو أي دواءٍ آخر
لاستخدامها سريريًّا لزيادة العمر الطبيعي؛ لأن الشيخوخة عملية
طبيعية وليست مرضًا. غير أن مسار كيناز مُسْتَهْدَف الراباميسين في
الثدييات غير المنظم له دور في الأمراض المرتبطة بالشيخوخة
وتُترجَم الأبحاث الحالية إلى تحسيناتٍ صحيةٍ وعلاجات جديدة تُخفف
الأمراض المزمنة أو تمنعها بدلًا من أن يكون هدفها المباشر هو
إطالة العمر. فمعظم الناس لا يرغبون في العيش طويلًا دون أن
يُصاحِب ذلك تحسُّن في صحتهم.
التيلوميرات وأمراض الشيخوخة
أحد مسارات الشيخوخة الرئيسة الأخرى هو صيانة التيلومير أو
القسيم الطرفي. تحتوي نهايات الكروموسومات الخطية على قبعات
متخصِّصة، مماثلة للرءوس الواقية التي تُثبت على أطراف أربطة
الأحذية، تعمل على تثبيتها لمنع أي أضرار. تتكون قبعات الكروموسوم
هذه من مركبٍ بروتيني يُسمى شيلتيرين يرتبط بتسلسلات الحمض النووي
المتكررة (TTAGGG في البشر). تنتهي
آلاف النُّسَخ من هذا التسلسل في شريطٍ واحد مُتدلٍّ يُثبت مرة
أخرى في الكروموسوم حيث تعمل البروتينات على تثبيته في مكانه.
يُشبه هذا إلى حد ما تثبيت نهاية خيط عند الرتق أو الحياكة. ويُعرف
المركب بأكمله باسم التيلومير
(telomere) من الكلمة اليونانية
التي تعني «الجزء النهائي». تحول التيلوميرات دون التعرف على
نهايات الكروموسومات كحمض نووي تالف، وهو ما يؤدي بدوره إلى
استثارة آلية إصلاح كسر الشريط المزدوج التي من شأنها أن تؤدي إلى
«التصاق» الكروموسومات بعضها ببعض أو إعادة ترتيبها بطريقة تؤدي
إلى فقدان السلامة الجينومية.
تقصُر التيلوميرات مع كل انقسام خلوي، وهو شرٌّ لا بد منه ينتج
عن فشل بوليمراز الحمض النووي في إكمال تكرار شريط مُتأخر. ويُعرف
هذا باسم «مشكلة تضاعف النهايات»؛ وقد طُرحت باعتبارها الساعة
البيولوجية التي تحسُب العمر الافتراضي منذ الولادة. في كل مرة
تنقسِم فيها الخلية، تفقد كمية صغيرة من الحمض النووي من
التيلوميرات الخاصة بها. في نهاية المطاف، تصل التيلوميرات إلى
طولٍ حرج، مما يؤدي إلى الشيخوخة ويضع الخلية في حالة عدم تكرار.
وهكذا تمنح التيلوميرات عمرًا محدودًا للخلية ما لم يكن من الممكن
تعويض الحمض النووي التيلوميري بطريقةٍ أو بأخرى. ومن المثير
للاهتمام أن امتداد التيلومير إلى المستويات التي لا تُرى إلا في
حديثي الولادة يبدو ممكنًا تمامًا في الخلايا الجرثومية، ولكنه
يحدُث على نطاق محدود في الخلايا الجذعية. والوسيلة الأكثر شيوعًا
لإصلاح التيلومير هي إضافة تكرارات التيلومير إلى نهايات
الكروموسومات بواسطة إنزيم التيلوميراز. وقد وُصِفَت آلية بديلة
تُسمَّى الإطالة البديلة للتيلوميرات أو
ALT لبعض أنواع الخلايا. يُعتبر
تآكُل التيلومير سمة مميزة للشيخوخة، وربطت الدراسات بين قِصَر طول
التيلومير (TL) وخطر الإصابة
بأمراضٍ مختلفة مرتبطة بالتقدُّم في العمر، مثل أمراض القلب
والأوعية الدموية والسكري من النوع الثاني والسرطان.
يتسارع فقدان التيلومير من خلال مُحدِّدات معروفة تسبب اعتلال
الصحة، بما في ذلك الإجهاد المزمن والتدخين والإفراط في استهلاك
الكحول والسمنة. وبالإضافة إلى هذه العوامل البيئية، تعمل
الاختلافات الجينية الوراثية على تحديد طول التيلومير. وقد سَلطت
دراسات الترابط الجينومي الضوء على ذلك بعدما كشفت عن وجود
ارتباطات بين طول التيلومير والاختلافات الموروثة في الجينات التي
تلعب دورًا مباشرًا في صيانة التيلومير. وتشمل هذه الجينات تلك
الجينات التي تشفر البروتين ومكونات الحمض النووي الريبي لإنزيم
التيلوميراز، وهي TERT
وTERC على التوالي، والجينات
الأخرى المشاركة في صيانة التيلومير مثل
CTC1. يعاني المرضى المصابون ﺑ
CTC1 المُتحور من داء كوتس بلس
الذي يصيب العين، وهي متلازمة نادرة مرتبطة بانخفاض متوسط العمر
المتوقع وقصر التيلومير. وهو ما يدعم وجود دور سببي لبيولوجيا
التيلومير في شيخوخة الإنسان.
في الدراسات السكانية، يجري تحديد طول التيلومير في خلايا الدم
البيضاء (الكريات البيضاء) حيث يسهل الحصول عليها. يتنبأ نمط
الحياة والاختلافات الجينية المرتبطة بقِصر تيلومير كريات الدم
البيضاء (LTL) بتزايُد مخاطر
الإصابة بتصلُّب الشرايين وقِصر العمر. تبدو العلاقة بين طول
التيلومير والسرطان معقدة. قد يكون التيلومير القصير عاملَ خطورة
لبعض أنواع السرطان، ولكن بالنسبة للورم الميلانيني، يبدو أن العكس
هو الصحيح؛ إذ إن التيلومير الطويل هو ما يُشكل خطرًا. السبب وراء
ذلك غير مؤكد، ولكن التيلومير الطويل قد يَعني زيادة تنظيم صيانة
التيلومير، وهو عامل يمنع الشيخوخة الطبيعية في الخلايا
الميلانينية، وهو ما يُعزز بدوره بقاء الخلايا ما قبل
السرطانية.
السرطان
يُعَد فهم أسباب السرطان أمرًا بالغ الأهمية للوقاية منه وعلاجه.
قبل زمن بعيد في أوائل القرن الثامن عشر، كانت الكُتَل والأورام
الحميدة تُستأصَل جراحيًّا للحد من الوفيات الناجمة عن
السرطان.
وفي وقتٍ لاحق من القرن نفسه، لاحظ بيرسيفال بوتس — وهو أول عالم
يصف مادة مُسرطنة بيئية — وجود ارتباط بين سرطان كيس الصفن والتعرض
للسخام. وأوصى بأن يرتدي الأولاد الذين يُنظفون المداخن ملابسَ
واقية بدلًا من العمل عُراة. فقد كان عملهم عراة هو الممارسة
المعتادة للحيلولة دون اتساخ ملابسهم التي لا يملكون سواها. ولكن
في الأغلب أن السرطان وأصوله لم يُفهَما حتى ظهور علم الأحياء
الجزيئي.
السرطان ليس مرضًا واحدًا، ولكنه مجموعة من الأمراض يُسببها
النمو غير الطبيعي للخلايا التي لدَيها القدرة على الانتشار
وبقاؤها. يتكوَّن الإنسان البالغ من
١٠١٤ خلايا، ويظل هذا الرقم ثابتًا
نسبيًّا. ويتحقق ذلك من خلال توازن مُحكَم بين تكاثر الخلايا
(التناسخ) وموتها. يمكن أن يزداد حجم الجسم بسبب زيادة حجم
الخلايا، مثل الخلايا الدهنية في السمنة أو خلايا العضلات بسبب
التمرين (تضخُّم نمو العضلة)، ولكن نادرًا ما تستمر الزيادات في
عدد الخلايا (فرط التنسُّج). إذا تجاوزت عملية ولادة الخلايا عملية
موتها، فسينتج عن ذلك نموٌّ جديد، أو ما يُعرف باليونانية
بالنيوبلازيا، أي الورم. والأورام (أي
Tumors، وهي مُشتقة من اللاتينية
هذه المرة) هي انتفاخات تتكوَّن من خلايا ورمية. يمكن أن تكون
«الخلايا النامية الجديدة» أو الأورام «حميدة» إذا كان التكاثر
المفرِط للخلايا موضعيًّا، أو خبيثًا إذا غَزَتِ البُنى المحيطة.
سُمِّيت الأورام الخبيثة باﻟ «سرطان» بسبب نتوءاتها المتشعبة
المنتشرة، الشبيهة بشكل سرطان البحر. وتنتشر السرطانات الأشدُّ
شراسة في الأعضاء المجاورة والبعيدة من خلال عملية تُعرَف باسم
الانبثاث أو هجرة الخلايا السرطانية.
يمكن أن يصيب السرطان أي عضو أو نسيج يحتوي على خلايا منقسِمة
ويتطور بسبب تكاثر الخلايا غير المنضبط. تخضع الخلية الطبيعية
لمجموعة من الضوابط الجزيئية المعقدة التي تحدُّ من تكاثر الخلايا
غير المناسب إما من خلال مرور الخلية بتوقف دورة الخلية أو بتحفيز
موت الخلايا المبرمج. في الخلايا السرطانية، تتعطل هذه الضوابط مما
يؤدي إلى تكاثرٍ مُطلَق. ولدعم هذا النمو الجامح، تكون هناك حاجة
إلى طاقةٍ إضافية؛ ومن ثم تُعيد الخلايا السرطانية برمجة مساراتها
الأيضية للحصول على هذه الطاقة. ونظرًا لأن الخلايا السرطانية ليست
خلايا طبيعية، فلا بد أن يتعرَّف عليها جهاز مناعة الجسم على أنها
كذلك ويدمرها. غير أن الخلايا السرطانية تتجنب التدمير من خلال
تبنِّي استراتيجيات مختلفة، حتى إنها قد تتحكم في جهاز المناعة
لمصلحتها الخاصة. السمة الأخرى المهمة التي تميز الخلايا السرطانية
هي قدرتها على إنماء أوعيةٍ دمويةٍ جديدة، وهي عملية تُسمى تكوين
الأوعية الدموية الجديدة. والعامل المحفز لتكوين الأوعية الدموية
الجديدة هو الحرمان من الأكسجين أو نقص التأكسج، الذي ينشأ في
مناطق الورم المتفشي على بُعد مسافةٍ قصيرة من أحد الأوعية
الدموية. عادةً ما يؤدي نقص التأكسُج إلى موت الخلايا، ولكن
استقطاب أوعيةٍ دموية جديدة يمكِّن الورَم من الاستمرار في
الازدياد في الحجم.
في نهاية المطاف، تُهاجر بعض الخلايا من الورم الأساسي وتُكَوِّن
أورامًا ثانوية في مواقع جديدة. على سبيل المثال، تفقد الخلايا
السرطانية في الأنسجة الطلائية الاتصال بعضها ببعض وتكتسب خصائص
مُهاجرة وغازية. ومن المراحل المبكرة في اكتساب نمط ظاهري غازٍ
عملية التحوُّل الظهاري المتوسطي أو تحول الخلايا الطلائية إلى
خلايا اللُّحْمة المتوسطة (EMT).
تشكل الخلايا الطلائية الجلد والأغشية ولهذا تمتاز بقطبية شديدة
الدقة (في القمة والقاع) وتثبت في مكانها عن طريق روابط وثيقة مع
الخلايا المجاورة. من ناحيةٍ أخرى، يكون ارتباط خلايا اللُّحمة
المتوسطة فضفاضًا وتمتاز بالحركية والافتقار إلى الاستقطاب. يُعتبر
التحوُّل من الخلايا الطلائية إلى خلايا اللُّحمية المتوسطة عملية
طبيعية أثناء مراحل التطور الجنيني والتئام الجروح، ولكن في حالة
الخلايا السرطانية، لا تخضع هذه العملية إلى التنظيم. يتضمن التحول
الطلائي المتوسطي إعادة البرمجة النسخية التي تُفقَد فيها
البروتينات البنيوية الطلائية وتُكتسَب بروتينات اللُّحْمة
المتوسطة. وهذا هو ما يُسهِّل تفشي الورم إلى الأنسجة
المحيطة.
السرطان مرض وراثي
السرطان مرض وراثي ولكنه في الغالب لا يُورَّث من الوالدين.
فالخلايا الطبيعية تتطور لتُصبح خلايا سرطانية من خلال اكتساب
طفراتٍ مُتتالية في الجينات المرتبطة بالسرطان. تُوجَد فئتان
رئيستان من جينات السرطان، طلائع الجينات الورمية والجينات الكابتة
للأورام. تشفِّر طلائع الجينات الورمية النواتج البروتينية التي
تُعزز تكاثر الخلايا. غالبًا ما تكون هذه النواتج عوامل نموٍّ
ومستقبلاتها تعمل ضمن مسارات الإشارات لتعزيز تكاثر الخلايا. يؤدي
حدوث طفرة في إحدى طلائع الجينات الورمية إلى تحويلها إلى «جين
ورمي»، وهو مصطلح صاغه كل من جورج تودارو وروبرت هوبنر لأول مرة في
عام ١٩٦٩. إن تكاثر الخلايا غير المنظم في حدِّ ذاته لا يؤدي إلى
تكوين الورم؛ لأن الجينات الكابتة للورم تتصدَّى له عن طريق تحفيز
شيخوخة الخلية أو موتها. وهذا يجعل السرطان احتمالًا نادرًا
نسبيًّا ما لم تظهر طفرات في الجينات نفسها التي تشكل نظام كبت
الورم. لذا فإن السرطان ينشأ عندما تحدُث طفرة وتُفلت من الضوابط
الطبيعية وتسمح ببقاء الخلايا غير المنظمة وتكاثرها.
على مدى أكثر من قرنٍ من الزمان، اعتُمِدت الالتهابات الفيروسية
والبكتيرية كعوامل خطورة للإصابة بالسرطان. ويُعزى ما لا يقلُّ عن
١٥ في المائة من السرطانات إلى العوامل المعدية، ومن الأمثلة على
ذلك ارتباط فيروس الورم الحليمي البشري بسرطان عنق الرحم، وجرثومة
المعِدة بسرطان المعدة، وكذلك ارتباط فيروس التهاب الكبد بي أو سي
بسرطان الكبد. في بعض الأحيان تُدخَل الجينات الفيروسية في الجينوم
البشري حيث يتم التعبير عنها باستمرار. يدمِّر العديد من هذه
النواتج الجينية الفيروسية مسارات كبت الورم الرئيسة، وبخاصة
بروتين p53 وبروتين
pRb؛ وهما صِماما الأمان القويَّان
اللذان يتحكَّمان في الانتشار. وقد قادت دراسة بروتين مسرطن من أحد
الفيروسات التي تصيب القرود (SV40)
إلى اكتشاف الجين الرئيسي لكبح الورم
TP53 الذي يشفر البروتين
p53.
جين TP53: حارس الجينوم
يتفوق جين واحد على كل الجينات الأخرى في ارتباطه بقمع السرطان،
وهو جين TP53. وقد أطلق عليه ديفيد
لين في عام ١٩٩٢ لقب «حارس الجينوم»، وأطلقت عليه كارين فوسدن في
عام ٢٠٠٠ لقب «نجم الموت»، بينما أطلق عليه رونالد دي بينهو في عام
٢٠٠٢ لقب «الشرطي الجيد/الشرطي السيئ». حاز هذا الجين في عام ١٩٩٣
لقب «جزيء العام» بتصويت العلماء، إذ صار معروفًا أن نصف إجمالي
أنواع السرطانات تقريبًا التي تصيب الإنسان تحمل جين
TP53 متحورًا، وفي كثير من
السرطانات الأخرى، يكون البروتين
p53 غير مُنظم.
تُنسَب إلى بروتين
p53 وظائف
عديدة، من ضمنها موت الخلايا المبرمج، والاستقرار الجينومي، وتثبيط
عملية تكوين أوعية دموية جديدة. ينشط
p53 استجابةً لإشارات الإجهاد
المختلفة، مثل تعرض الخلايا لانخفاض المغذيات، وانخفاض الأكسجين،
وتنشيط طلائع الجينات الورَمية. يعمل هذا البروتين بشكل أساسي في
النواة كعامل نسخ يُنشط الجينات المطلوبة للقيام بالوظائف
الاستتبابية. وُصِف البروتين
p53
في السيتوبلازم أيضًا بأنه يلعب دورًا مباشرًا أكثر في تنشيط موت
الخلايا المبرمج في الميتوكوندريا. وبوصفه محوِّلًا مباشرًا
لاستجابة الإجهاد، يجب أن يكون
p53
موجودًا دائمًا، حتى في الخلايا غير المجهدة. إن عملية نسخ
p53 وترجمته ستكون طويلةً جدًّا
بالنسبة لمدافع طليعي عن التوازن؛ لذا يُحْتَفَظ ﺑ
p53 عند مستوياتٍ منخفضة من خلال
عمليات التخليق والانحلال المستمرة، ويكون جاهزًا للتنشيط. يحدث
التنشيط بسبب فقدان البروتين المثبط
MDM2 الذي يُعزز تدمير
p53 بطبيعة الحال. ويلعب
p53 دورًا محوريًّا في القضاء على
الخلايا التي اكتسبت طلائع جينات ورمية مُنشِّطة أو تلفًا
جينوميًّا مُفرطًا. ومن ثم تسمح الطفرات في جين
TP53 للخلايا السرطانية بالبقاء
على قيد الحياة والانقسام أكثر عن طريق الهروب من عملية موت
الخلايا (انظر شكل
٧-١).
لا يفتقر البروتين p53 المتحوِّر
إلى وظائف مُثبط الورم للبروتين العادي أو بروتين النمط الشائع
فحسب، بل إنه في كثيرٍ من الحالات يلعب أيضًا دور الجين الورَمي.
في الواقع، صُنِّفَ p53 في البداية
على أنه جين ورمي حتى اكتُشِفَ أن الخصائص المعززة للورم التي
وُجِدت كانت ناتجة عن بروتين متحور. يمكن أن يكتسب
p53 المتحور وظائف تزيد من
استقراره، وتُبطل وظيفة بروتين من بروتينات النمط الشائع، وتُعزز
نمو الورم بشكل فعال.
يمكن أن تؤثر الأشكال
المتعددة التي تظهر بشكلٍ طبيعي في
p53 على وظيفته. يشفِّر كودون ٧٢
في جين
TP53 إما البرولين الأميني
أو الأرجينين الأميني. ويؤثر هذا الاختلاف على بنية
p53 ووظيفته؛ إذ ذُكِر أن
الأرجينين عند كودون ٧٢ يكون أكثر كفاءةً في تحفيز موت الخلايا
المبرمج من سلفه المتغير البرولين. في نصف الكرة الشمالي، لُوحِظت
اختلافات جغرافية واضحة في تواتر ظهور البرولين والأرجينين. يُظهر
مُتغير البرولين تدرُّجًا بين الشمال والجنوب، بمعدل تواتر ١٧ في
المائة فقط في الاسكندناف اللابيين، ولكنه يصل إلى ٦٣ في المائة في
النيجيريين (انظر شكل
٧-٢). وفي أوروبا
الغربية، يشيع وجود أليل الأرجينين أكثر بمعدلاتٍ تصل إلى ٨٣ في
المائة. من ناحية أخرى، يشيع البرولين لدى الأمريكيين من أصلٍ
أفريقي. وقد اقتُرِحَ أن هذه الاختلافات التي تعتمد على خطوط العرض
تُعْزى إلى الانتقاء المرتبط بدرجة حرارة الشتاء أو الأشعة فوق
البنفسجية. فيكون الجلد الشاحب ضروريًّا حيثما تكون الأشعة فوق
البنفسجية السنوية مُنخفضة من أجل تصنيع فيتامين د وقد يكون
مُتغيِّرُ الأرجينين — الأكثر ارتباطًا بموت الخلايا المبرمج —
مَطلوبًا لإزالة الخلايا التي أتلفتها الأشعة فوق البنفسجية في
الأفراد ذوي البشرة الشاحبة. وتشمل النظريات البديلة أن مُتغير
الأرجينين أكثر كفاءةً في تحفيز السُّمرة، وأنه يساعد على الخصوبة
عند القوقازيين أو يُعزِّز تحمُّل نظام غذائي غني بالدهون.
يمكن أيضًا أن تحدُث طفرات في الخط الجنسي في جين
TP53، مما يؤدي إلى ظهور متلازِمة
لي فراوميني التي سُميت نسبة إلى الطبيبين اللذين حدَّدا لأول مرة
الرابط الوراثي بين مجموعة من الأورام التي تنشأ في الثدي والدماغ
وخلايا الدم البيضاء (اللوكيميا). وبشكل عام، يحدث ٥ إلى ١٠ في
المائة من السرطانات بسبب طفراتٍ وراثية أو طفرات في الخط الجنسي
تنتقل من أحد الأبوَين إلى الأبناء. تشفر العديد من هذه الجينات
إنزيمات إصلاح الحمض النووي مثل جين قابلية تكوين سرطان الثدي ١
المبكر أو BRCA1. أما طفرات الخط
الجنسي في الإنزيمات التي تدخل في إصلاح القواعد غير المتطابقة في
الحمض النووي فتقف وراء بعض أشكال سرطان القولون الوراثي.
إن الغالبية العُظمى من الطفرات السرطانية ليست وراثية، بل هي
متفرقة تظهر فيها طفرات في الخلايا الجسدية. تنشأ الطفرات بسبب
أخطاء غير مُصحَّحة في التناسُخ، وأيضًا بسبب التعرض إلى عوامل
بيئية مثل المواد الكيميائية المسرطنة في دخان التبغ أو الأشعة فوق
البنفسجية. إذا ظلَّت الطفرات دون تصحيح وإذا حدثت في الخلايا
المنقسِمة، ينتقل الضرر إلى الخلايا البنوية. يؤدي الفشل في تصحيح
الأخطاء في الحمض النووي إلى عدم الاستقرار داخل الجينوم، وتتراكم
طفرات إضافية بمرور الوقت. وهو ما يزيد من فرص تطور الخلية
المتحورة إلى سرطان. وهكذا فإن تطور السرطان مُعقد؛ إذ ينطوي على
تفاعلات بين الجينات والبيئة. وبما أن حدوث الطفرات المتعددة أمر
مطلوب في مسارات بيولوجية مختلفة، فعادة ما يستغرق المرض وقتًا كي
يتطور؛ ولذا فهو عادة ما يرتبط بالأفراد الأكبر سنًّا.
التيلوميرات والخلايا السرطانية
تتمتع الخلايا البشرية الطبيعية بعُمرٍ محدود، وفي نهايته تتوقف
عن الانقسام وتدخل في حالة شيخوخة تكرارية، وهي عملية تقمُّع في
حدِّ ذاتها تُكوِّن الأورام. والسبب في ذلك هو تآكُل التيلومير.
يكتشف p53 التيلوميرات القصيرة
المتآكِلة ويمنع حدوث المزيد من الانقسام الخلوي. في المقابل، يمكن
أن تتمتع الخلايا السرطانية بالقدرة على الانقسام إلى الأبد كما
يظهر في خطوط الخلايا الخالدة مثل «خلايا هيلا» المشتقَّة من
الأورام البشرية. لذلك يجب أن تكتسب الخلايا السرطانية آلية صيانة
مُستمرَّة للتيلومير، وتأتي هذه الآلية بالنسبة إلى معظم السرطانات
على شكل إنزيم التيلوميراز الذي يُضيف تكرارات التيلومير إلى نهاية
الكروموسومات. تُصبح بعض الأورام خالدةً في غياب إنزيم
التيلوميراز، وتصلح عملية الإطالة البديلة،
ALT، التيلوميرات الخاصة
بها.
الحمض النووي الريبي غير المُشَفِّر والسرطان
صار الدور المهم لجزيئات
الحمض النووي الريبي غير المُشَفِّرة مُعترَفًا به كعامل أساسي في
تكوين السرطان. ويُعد سرطان البروستاتا أحد الأسباب الرئيسة
للسرطان لدى الرجال، وفيه يختل نظام ستة جزيئات من الحمض النووي
الريبي غير المُشَفِّر على الأقل، وبعضها يكون مُحَفَّزًا بهرمونات
الذكورة أو الأندروجينات. تضع عمليات الانتقال الكروموسومي الخاصة
بالسرطان عناصر استجابة هرمون الذكورة بجانب جينات الحمض النووي
الريبي غير المُشَفِّر مما يؤدي إلى اضطراب تنظيمها. وينتج عن هذا
سلسلة من الأحداث الخلوية التي تؤدي إلى التسرطن وتطور الورَم.
تمثل جزيئات الحمض النووي الريبي غير المُشَفِّرة احتماليةً
جذَّابة كواسِماتٍ للكشف عن سرطان البروستاتا وتصنيف درجات خطر
الإصابة به، وقد تكون أيضًا أهدافًا علاجية ممتازة. وقد تُصبح
العلاجات القائمة على الحمض النووي الريبي خيارًا واسع الانتشار
لعلاج السرطان مُستقبلًا.
الخلايا الجذعية السرطانية
لا تتمتع كل الخلايا التي تتكوَّن منها كتلة الورم بالقُدرة على
تجديده. فتُشير بعض الأدلة إلى أن عددًا قليلًا من الخلايا داخل
كتلة الورم هي التي تحافظ على السرطانات، وتُعرَف هذه الخلايا
بالخلايا الجذعية السرطانية
(CSCs). مثل نظيراتها العادية،
تقاوم الخلايا الجذعية السرطانية إلى حدٍّ ما العلاجات المضادة
للتكاثُر. وفي كثيرٍ من الأحيان، يكمُن السبب وراء فشل علاجات
السرطان الحالية في القضاء على المرض في أن الخلايا الجذعية
السرطانية تنجو من العلاجات الحالية التي تُدمِّر الحمض النووي؛
ومن ثم تُعيد تكوين الورم. حتى العلاجات الموجهة الحديثة قد تفشل
في النهاية بسبب وجود الخلايا الجذعية السرطانية؛ ولذا لا بد أن
تُصبح هذه الخلايا أهدافًا للعلاجات المستقبلية.
العقاقير الموجهة الجديدة
قدَّمت المشروعات الحديثة
الواسعة النطاق المعنية بتسلسل الجينوم السرطاني قدرًا هائلًا من
المعلومات حول التغيرات الجينية المرتبطة بالسرطان. ولكن لا بد أن
تؤخَذ أهمية مجموعة الخلايا الجذعية السرطانية التي تُشكل أقليةً
بعين الاعتبار عند تحليل هذه البيانات. وقد قدَّمت تقنية تحليل
المصفوفات، التي تُقارن مخططات تعبير الخلايا السرطانية وغير
السرطانية، بعض الأفكار المفيدة في هذا الشأن. وبما أننا لدَينا
الآن فهم أفضل للمسارات الجزيئية للسرطان، فقد صِرنا في وضع أفضل
يُمكِّننا من ابتكار العلاجات. حتى وقتٍ قريب، اقتصر علاج السرطان
على الاستئصال الجراحي للأورام والعلاج الكيميائي والإشعاعي. وفي
حين أن هذه العلاجات لا تزال قيد الاستخدام، فالنهج العلاجي الأحدث
هو استهداف جزيئاتٍ مُعينة يقتصر وجودها على السرطان. ويُشكِّل هذا
تحدِّيًا نظرًا لعدد المسارات البيولوجية المعنية وتعقيدها. غير أن
الهدف هو تعطيل وظيفة البروتينات المسرطنة المعززة لنمو الورم أو
إعادة تنشيط وظيفة كابتات الأورام.
من أوائل عقاقير العلاج
الموجَّه التي تم تطويرها كان عقار «إيماتينيب»
(Imatinib) أو «جليفيك»
(GleevecTM)،
وهو عقار مُصمَّم تُسوِّقه شركة «نوفارتس» لعلاج نوع من سرطان الدم
يُسمى سرطان الدم النخاعي المزمن
(CML). يبدأ سرطان الدم النخاعي
المزمن كمرحلةٍ مزمنة طويلة، مع ارتفاع عدد خلايا الدم البيضاء
بسبب انتقال كروموسوم بعينه يُعرف باسم كروموسوم فيلادلفيا
(Ph). يُولِّد كروموسوم فيلادلفيا
إنزيم الورم
BCR-Abl. تصبح اﻟ
BCR، أو منطقة التوقف العنقودي،
على الكروموسوم ٢٢ مرتبطة بكيناز
Abl من الكروموسوم
9q. يؤدي هذا إلى إزالة التحكم
الطبيعي لتعبير
Abl الذي أصبح
عالقًا الآن في وضع «التشغيل». يُنشِّط إنزيم
Abl المعبَّر عنه باستمرار، مسار
انتشارٍ في خلايا
Ph+ لسرطان الدم
النخاعي المزمن. ويُعَد عقار إيماتينيب نموذجًا لعلاجات السرطان
الموجهة المصمَّمة بمساعدة نماذج التصوير البلوري لتُلائم الموقع
النشط لهذا البروتين الاندماجي؛ ومن ثم تثبيط نشاط الإنزيم
المتحوِّر (انظر شكل
٧-٣). يمتاز العلاج
بآثاره الجانبية الشديدة الانخفاض؛ وهذا لأنه يُصيب الخلايا
السرطانية التي تؤوي الإنزيم المتحور على وجه التحديد دون أن يُصيب
الخلايا الطبيعية. وهذا يمنح المرضى الراحة من حدة المرض ويُطيل
فترة البقاء على قيد الحياة ولكنه لا يُعالج المرض مع الأسف؛ إذ
إنه لا يقتل الخلايا الجذعية السرطانية. فتظل خلايا سرطان الدم
Ph+ حيةً، كما اكْتُشِف من خلال
تقنية تفاعل البوليمراز المتسلسِل للنسخ العكسي؛ ومن ثم يحتاج
المريض إلى علاجٍ مُستمر. وفي نهاية المطاف تظهر طفرات إضافية في
الخلايا الجذعية السرطانية تمنحها مقاومةً للأدوية، ويتحوَّل سرطان
الدم النخاعي المزمن إلى مرحلةٍ قاتلة لا يمكن تمييزها عن سرطان
الدم الحاد. وقد خضعت بعض هذه الطفرات الجديدة للدراسة وجُرِّبَت
عقاقير مُصمَّمة جديدة.