الطب الشرعي وعلم الأحياء الجزيئي
يتمثل التحدي الأساسي لعلم الأحياء الجزيئي في استخدام نتائج الأبحاث لتلبية متطلبات المجتمع الحديث. وللواسمات الجزيئية تأثير كبير، سواء على القاضي أو على المستشارين أو حتى على من في قاعة المحكمة. يلعب تحديد البصمة الوراثية دورًا في المساعدة على حل الجرائم، وفي حالات الإخفاق في تطبيق العدالة. وعلى الرغم من أن ٩٩٫٥ في المائة من تسلسل الحمض النووي البشري ثابت لدى جميع البشر، فهناك مناطق صغيرة من التبايُن خاصة بكل فرد وتمنح كل شخص بصمة وراثية فريدة. وتتزايد التطبيقات الخاصة بتحديد البصمة الوراثية وتُستخدَم الآن لتحديد الأغذية المغشوشة والملوثة.
تحديد البصمة الوراثية باستخدام التسلسُل الفريد الموجود في جينوماتنا
لفتت إمكانات هذه التكنولوجيا انتباه محامٍ كان يدافع عن صبيٍّ صغير في عام ١٩٨٥ معرض لخطر الترحيل؛ ومن ثم الانفصال عن عائلته المزعومة في بريطانيا. وكانت هذه فرصة لاستخدام تقنية البصمات الجزيئية بشكلٍ عملي. فقد أُخِذَت عينات من الحمض النووي من الصبي ووالدَيه وأفراد الأسرة الآخرين وحُلِّلَت. وأظهر نمط الحزم على الهلام أن الصبي هو الابن الحقيقي للوالدَين البريطانِيَّين؛ ومن ثم لم يتم ترحيله إلى أفريقيا. وبعد تلك الواقعة، أدَّت تقنية تحديد البصمة الوراثية إلى تغييرٍ في قوانين الهجرة.
يُوجَد نحو ١٠ ملايين موقع مختلف يمكن للناس أن يتباينوا فيه في تسلسل الحمض النووي الخاص بهم داخل القواعد الموجودة في حمضنا النووي المقدَّرة بثلاثة مليارات قاعدة. وقد عمل البروفيسور جيفريز وفريقه على تحسين تقنيتهم للاستفادة من عددٍ أكبر من هذه التباينات، مما يجعلها مناسبةً لقواعد البيانات. كان هذا يُطلَق عليه آنذاك «تقنية تحديد البصمة الوراثية» وكانت على وشك تغيير وجه علم الإجرام إلى الأبد. يُخْتار عدد قليل ولكن شديد التبايُن من التسلسلات أو التوابع الصغيرة لتحديد البصمة الوراثية. وينتج عن هذه التسلسلات إجراءٌ شديد الحساسية مناسِب للاستخدام مع كمياتٍ صغيرةٍ من سوائل الجسم، واختبر جيفريز ذلك في المختبر عن طريق وضع بُقَع من الدم على عدة أسطح، ثم استعادتها وتحليلها. كانت تقنية تحديد البصمة الوراثية على وشك أن تختبر في المحكمة. فقد تعرضت فتاتان للاغتصاب والقتل، واحدة في عام ١٩٨٣ والأخرى في عام ١٩٨٦. فهل كان هذا من فعل قاتل مُتسلسل، أم كانت الجريمتان غير مرتبطتَين؟ ألقت الشرطة القبض على رجلٍ وحصلت منه على اعتراف بارتكاب جريمة القتل الثانية. بدت القضيتان متشابهتَين لدرجة أن الشرطة اعتقدت أن المشتبه به ارتكب كلتا الجريمتَين حتمًا. قام جيفريز بتحليل عينات الطب الشرعي لتحديد البصمة الوراثية وأثبت أن نفس الرجل قد اغتصب الفتاتين. غير أن المشتبه به، الذي من الواضح أنه أدلى باعترافٍ كاذب، لم يكن هو القاتل. كان على الشرطة الآن العثور على رجلهم المنشود، وبعدما حصلوا على نتيجة فحص البصمة الوراثية للمجرِم، شرعوا في اختبار عينات دم أخذت من خمسة آلاف رجل في المنطقة. وبعدما عثروا على من طابقها، حكم على المشتبَه به بالسجن مدى الحياة.
من التوابع الصغيرة إلى قواعد بيانات التكرارات المترادفة القصيرة
في منتصف الثمانينيات، اغتال قاتل متسلسل اسمه المستعار «جريم سليبر» (النائم القاتم) عشر نساء على الأقل في منطقة لوس أنجلوس. ونجح هذا القاتل في تفادي الاعتقال لما يقرُب من خمسة وعشرين عامًا، ولكنه قُبِضَ عليه أخيرًا نتيجة لوجود قاعدة بيانات للبصمات الوراثية. في البداية، لم يُعثَر على أي تطابُق في قاعدة بيانات كاليفورنيا، ولكن بعد ذلك بعامَين، جاءت عينة حمض نووي من السلاح الناري لأحد المجرمين مُتشابه تشابهًا ملحوظًا مع الحمض النووي الخاص بالنائم القاتم. كان التفسير الأرجح هو أنه يعود لأحد أفراد عائلة النائم القاتم. كان مُستخدم السلاح الناري أصغر من أن يكون قد ارتكب جريمة قتلٍ في الثمانينيات؛ لذا تركَّزت الشكوك على قريبٍ يكبره، ربما والده. أُخِذت عينة من الحمض النووي الخاص بالأب تطابقت مع الحمض النووي المأخوذ من أدلة مسرح الجريمة التي جُمِعَت منذ فترةٍ طويلة. وأخيرًا، تم القبض على النائم القاتم.
الحمض النووي القديم والتحليل الميتوكوندري
تُعَد التكرارات المترادفة القصيرة مفيدة للغاية في تحليل الحمض النووي الرديء الجودة أو المتدهور الموجود في مسرح أي جريمة؛ إذ عادة ما تكون تسلسلاته القصيرة محفوظة. غير أن الحمض النووي في العينات التي لم تُحفظ على النحو الأمثل لا يبقى منه سوى كمياتٍ صغيرة جدًّا ويكون مُفككًا للغاية. ومن المحتمَل أيضًا أن يكون مليئًا بالتلوُّث والتلَف الكيميائي. وهذه المصادر للحمض النووي تكون مُتدنية للغاية بحيث لا يمكن الحصول منها على سجل بصمةٍ وراثية باستخدام التكرارات الترادُفية الجينومية القصيرة، وفي هذه الحالات يكون الحمض النووي للميتوكوندريا، كونه أكثر وفرة، أفيدَ من الحمض النووي في تحديد البصمة الوراثية. يُعتقَد أن الميتوكوندريا، وهي مراكز توليد الطاقة في الخلية الفقارية، تنحدِر من بكتيريا انتقلت إلى الخلايا منذ ملياري سنة. يشفِّر الجينوم المتواضع المتبقي للميتوكوندريا سبعة وثلاثين جينًا، ولكن يُوجَد العديد من النُّسَخ لكل خليةٍ مقارنة بالحمض النووي. وبناءً عليه تُوجَد المئات من جينومات الميتوكوندريا مقابل جينوم نووي واحد. يُورَث الحمض النووي للميتوكوندريا من خلال النسل الأنثوي فقط، وقد أُرْجِع الحمض النووي للميتوكوندريا الموجود في البشرية جمعاء إلى سلَف أنثوي مُشترَك، يُطلَق عليها اسم «حواء الميتوكوندريا»، التي عاشت (من بين نساء أخريات) في أفريقيا منذ حوالي ١٧٠ ألف سنة. ويعتبر تحديد البصمة الوراثية الخاص بالحمض النووي للميتوكوندريا هو الطريقة المُثلى لتحديد هويات الأشخاص المفقودين أو مجهولي الهوية إذا كان العثور على قريبٍ من ناحية الأم ممكنًا.
يمكن لاختصاصيِّي علم الأحياء الجزيئي تضخيم المناطق الشديدة التغير من الحمض النووي للميتوكوندريا من خلال تفاعُل البوليمراز المتسلسل للحصول على مادة كافية للتحليل. تُحدَّد تسلسلات نواتج الحمض النووي ويُبْحَث عن اختلافات النوكليوتيدات المفردة عن طريق مقارنتها بالحمض النووي المرجعي لأحد أقرباء الأم. ويُعَد وجود تناقُض بين اثنين أو أكثر من النوكليوتيدات سببًا كافيًا لاستبعاد التطابق. وقد استُخْدِم اختبار الحمض النووي للميتوكوندريا لاستبعاد احتمالية أن تكون المحتالة آنا أندرسون هي الأميرة أناستازيا أميرة عائلة رومانوف.
فتحت قوة الجمع بين تضخيم تفاعل البوليمراز المتسلسل مع تحديد البصمة الوراثية إمكانية استخدام الحمض النووي من بقايا الهياكل العظمية، وفي عام ١٩٨٩ استُخدِمَت تقنية التكرارات المترادِفة القصيرة هذه للعثور على مكان الطبيب السيئ السُّمعة جوزيف مينجيل. لطالما تمَّ البحث عن طبيب معسكر الأوشفيتز النازي لتحقيق العدالة لضحايا جرائم الحرب التي ارتكبها. كانت هناك مشاهدات عديدة مزعومة له، ولكن أفادت تقارير أُخرى إلى أنه تُوفي في البرازيل. قورنت البصمات الوراثية من رفات مينجيل المزعومة في مقبرةٍ برازيلية، مع تلك الخاصة بأقاربه الذين على قيد الحياة، وتأكَّدت هوية الجثة بأنها لطبيب الأوشفيتز السيئ السمعة.
تصدَّرت هذه التكنولوجيا عناوين الصحف عندما طُبِّقَت في حل قضية قتلٍ عمرها ثمانون عامًا، حيث عُثر على الضحية، التي لم يتسنَّ التعرُّف عليها في ذلك الوقت، في سيارة مُحترقة. قتل القاتل ألفريد روس الذي كان مصابًا بالذهان رجلًا مجهول الهوية ثم وضع الجثة في سيارة ثم أضرم فيها النار. أراد أقارب رجل اختفى في ذلك الوقت معرفة ما إذا كانت الضحية المجهولة هي سلَفهم. كانت كمية صغيرة من الأنسجة التي تعود إلى الضحية متاحةً لمقارنة الحمض النووي للميتوكوندريا مع الحمض النووي للعائلة لمعرفة ما إذا كان هناك تطابق. استبعدت النتائج الرجل المختفي، ولا تزال هوية ضحية جريمة السيارة المشتعلة دون حل.
تقنيات الجيل التالي من تحديد تسلسُلات الحمض النووي: عندما لا يكون تطابق الحمض النووي كافيًا
بغض النظر عن مدى قوة تقنية تحديد البصمة الوراثية، فهي لا يمكنها تزويدنا إلا بهويةٍ مطابقة. وسيكون من المفيد للغاية أن يكشف الحمض النووي المأخوذ من مسرح الجريمة أيضًا شيئًا عن المظهر الجسدي للشخص صاحب العينة.
الحمض النووي القديم والنياندرتال
اكتشفت بقايا إنسان النياندرتال في ألمانيا في القرن التاسع عشر، ولكنها كانت تُعتبر في ذلك الوقت ظاهرة تطورية غريبة لا علاقة لها بالإنسان العاقل (الهومو سابين). غير أن إنسان النياندرتال قد اختلط بالإنسان الحديث في أوروبا منذ ما يصل إلى ٣٠ ألف سنة، مما يجعل تزاوجهما احتمالًا مُثيرًا للاهتمام. جاءت المحاولات المبكرة لحل مسألة الحمض النووي لإنسان نياندرتال في الجينوم البشري بالسلب، ولكنها اقتصرت على استخدام الحمض النووي للميتوكوندريا بحجمه الجينومي المحدود. وكشف تسلسُل الحمض النووي الجينومي الحديث أن غير الأفارقة المعاصِرين ينحدِرون من أفرادٍ قدامى كانوا نتاجًا للتزاوج بين البشر وإنسان النياندرتال. تُظهِر مقارنة بين الحمض النووي الجينومي من مجموعات إنسان النياندرتال وأشباه البشر القُدامى (الهومينين) مع الإنسان الحديث غير الأفريقي أن ميراثنا الصغير من الحمض النووي الخاص بإنسان النياندرتال يرجع إلى التزاوُج المحدود و«الحديث» من منظورٍ جيولوجي. لذلك في أواخر عصر البليستوسين، يبدو أن مستوياتٍ منخفضةً من التزاوُج حدثت بالفعل بين إنسان النياندرتال ومجموعات أشباه البشر الأخرى، بمن في ذلك الإنسان العاقل. لقد ورث الإنسان الحديث بالذات المعلومات الوراثية لإنسان النياندرتال التي تؤثر على الكيراتين على وجه الخصوص، وهو البروتين البنيوي الليفي الموجود في الشعر والجلد الذي ربما ساعدَنا على التكيُّف مع المناخ غير الأفريقي. وتشير النتائج إلى أن جزءًا من السبب وراء وجود نسبة منخفضة للغاية (١٫٥ إلى ٢ في المائة فقط) من جينوم إنسان النياندرتال في الإنسان الحديث الآن هو أن أليلات النياندرتال، أو المتغيرات الجينية، تسببت في انخفاض الخصوبة عند الذكور عند انتقالها إلى السياق الوراثي البشري.
الحمض النووي للملك ريتشارد الثالث يُحدِّد رُفاته
معالجة الأوبئة والجوائح
على مرِّ التاريخ، نزل بالعالم الذي نعرفه كوارث كالكوليرا وغيرها من الأمراض أو الأوبئة المتفشِّية. وتُساعدنا أدوات وتقنيات علم الأحياء الجزيئي الحديثة الآن في فَهْم كيفية تطوُّر مُسببات الأمراض، ومن أين تأتي الأوبئة، وإذا كان يمكن فعل أي شيءٍ لإيقافها. مع تطور الحشرات والكائنات المضيفة معًا، تظهر سلالات من مُسببات الأمراض تكون أكثر ملاءمة للمضيف ومن ثم تكون أقل فتكًا. ويكون لهذا عواقب بالنسبة إلى موجات تفشي الكوليرا.
يُلقي هذا الضوء على المشكلات التي تُواجه العمل على عينات الحمض النووي القديمة. باستخدام تحليل مصفوفات الحمض النووي الذي يحمل أليجنوكليوتيدات مُكملة لجينوم الكوليرا، وكذلك الحمض النووي للميتوكوندريا البشرية، تم بعد ذلك تنقية تسلسلات الحمض النووي لضمَّة الكوليرا وتحديدها وتجميع النتائج. قورنت هذه التسلسلات مع تلك الموجودة في جينومات الكوليرا المعروفة من موجتَي تَفَشٍّ حديثتَين وقعتا في أوائل ومنتصف القرن العشرين، والمعروفتَين باسم الجائحتين السادسة والسابعة على التوالي. كان الوباء الثاني الذي حدث في القرن التاسع عشر سببه سلالة الكوليرا الكلاسيكية التي نشرت الوباء في العالم حتى الجائحة السادسة (١٨٩٩-١٩٢٣). ولكن هذه الكوليرا الكلاسيكية اختفت الآن من الأرض، وحلَّت محلها سلالة كوليرا الطور في الوباء الأخير أو السابع. إذن فقد تسببت سلالة الكوليرا نفسها لأكثر من ١٥٠ عامًا في موجاتٍ مُتكررةٍ من العدوى، ولكن حلَّت محلها سلالةٌ أقل تدميرًا ولكنها لا تزال فتَّاكة.
أصبح علم الأحياء الجزيئي في الوقت الراهن في صميم مكافحة وباء حديث ولكنه وباء فيروسي هذه المرة، وهو مرض الإيبولا. اكْتُشِف فيروس الإيبولا في عام ١٩٧٦ وهو جزء من مجموعة حالات الحُمَّى النزفية الفيروسية. يتكوَّن جينوم الفيروس من شريطٍ واحدٍ من الحمض النووي الريبي طوله ١٩ كيلو قاعدة، وهو مُغطًّى بالبروتين والدهون التي تُشكِّل الفيريون أو الجسيم الفيروسي. أحد هذه البروتينات هو بوليمراز الحمض النووي الريبي المعتمِد على الحمض النووي الريبي الفيروسي والمطلوب لنسخ جيناته السبعة. تُعَد الخلايا البلعمية والوحيدات والخلايا التغصُّنية التي عادة ما تصدُّ أي دخيلٍ جديد في الجسم؛ هي نفسها المواقع المفضلة لتكاثر الفيروس. بعد ذلك تنقل هذه الخلايا المصابةُ الفيروسَ في جميع أنحاء الجسم. يُغير الفيروس جهاز المناعة عن طريق تحفيز التعبير عن الجزيئات الداعمة للالتهابات مثل الإنترفيرون والإنترلوكينات ذات التأثير الضار على المريض. تتسبَّب هذه البروتينات الصغيرة أو السيتوكينات في جَعْل الأوعية الدموية راشحةً وتحفز تخثر الدم. يستهلك هذا التخثر المنتشِر داخل الأوعية الدموية جميع عوامل التخثر في الجسم مما يؤدي إلى نزيفٍ داخلي وفشل الأعضاء الرئيسية والموت.
رمز شريطي للأنواع
النوع هو مجموعة من الكائنات الحية قادرة على التزاوج وإنتاج ذُرية خصبة، ولكن في حالة عدم وجود تجربةٍ تكاثُرية، كيف يُمكِننا التأكد من تحديد النوع؟ توصل بول هيبرت، الذي يعمل في معهد التنوع البيولوجي في أونتاريو، إلى فكرة الترميز الشريطي (أو الباركود) للحمض النووي كوسيلةٍ للإجابة على هذا السؤال. يَستخدِم الترميز الشريطي للحمض النووي تسلسلًا للحمض النووي داخل منطقة جينٍ واحدة تُوجَد في مجموعة كبيرة من الكائنات الحية التي تُتيح المجال للتوحيد القياسي عبر الأنواع.
عندما تتغير الظروف البيئية ويتاح مصدر غذاء جديد، يجب أن تختار الكائنات الحية إنزيمات جديدة للاستفادة من هذا المصدر. تُولَد جينات الميتوكوندريا، عن طريق تحورها السريع، التباين اللازم لهذا الاختيار. ولكن لا بد من انتقاء التحورات في الجينوم النووي كي يظل متناغمًا وظيفيًّا مع الحمض النووي للميتوكوندريا، والكائنات الحية التي يمكنها ضمان عمل جينومات الميتوكوندريا والجينومات النووية معًا، هي فقط من يمكنها البقاء. تأتي جينات الميتوكوندريا من الأم فقط، ولكنها إذا لم تعمل في السياق النووي للنسل الجديد، فسيحدث انخفاض خطير في الكفاءة، يُشار إليه باسم الانهيار الهجيني. وهكذا فالتغييرات في جينوم الميتوكوندريا، للسماح باستخدام مصدر غذاء جديد لتوليد الطاقة على سبيل المثال، تتطلَّب انتقاء التغييرات المناسبة في الجينوم النووي للحفاظ على الأداء الوظيفي. عندما يتزاوج هذا الفرد المتكيِّف بعد ذلك مع فرد من المجموعة الأصلية، يمكن أن يؤدي اختلال التوازُن بين الجينومين إلى نسل غير قابل للاستمرار. ويُشير هذا الفشل في التزاوج بنجاح إلى أن الفردَين ينتمِيان إلى نوعَين منفصلَين. ومن ثم فقد ينجح الرمز الشريطي للحمض النووي في تتبُّع الأنواع؛ لأنه مُرتبط ارتباطًا وثيقًا بنشوئها من الأساس.
استخدام الحمض النووي للميتوكوندريا في الأمن الحيوي
يشمل الأمن الحيوي، من بين جوانب أخرى، حماية الحدود من غزو الآفات الضارة غير المرغوب فيها، وهو ما يتطلَّب تحديدًا دقيقًا وسريعًا للأنواع الغريبة والغامضة مورفولوجيًّا. ولهذا الأمر أهميةٌ خاصة في تحديد مراحل الحياة غير الناضجة للافقاريات التي يمكن أن يكون لها تأثيرات عميقة على النظم البيئية أو على اقتصاد بلد يعتمد بقوة على الزراعة. يمكن أن توفر الرموز الشريطية للحمض النووي أداة قيمة لتحديد الأنواع في سياق الأمن الحيوي. في عام ١٩٩٩، وصل وافد جديد مُدمِّر إلى نيوزيلندا، وهي عثات التفاح المطلية. وعلى الرغم من أنها تشكل مصدر إزعاج بسيطًا في موطنها الأصلي في أستراليا، فقد كان من المتوقَّع أن يكون لها تأثيرٌ كبيرٌ على مجال زراعة الفاكهة في نيوزيلندا يصل إلى ٢٠٠ مليون دولار نيوزيلندي على مدار العشرين عامًا القادمة إذا لم يتم القضاء عليها. كان الترميز الشريطي للحمض النووي أداةً لا تُقدَّر بثمنٍ لتحديد الآفة وتَتبُّع مكانها أثناء تنفيذ برنامج إبادتها. كذلك تم التعرُّف على ذباب الفاكهة الذي تم اعتراضه على حدود نيوزيلندا باستخدام الترميز الشريطي للحمض النووي. اعتمدت الأساليب السابقة على الأنسجة الطازجة المناسبة للفحوصات المناعية أو القائمة على البروتين. وتتناسب الفحوصات القائمة على الحمض النووي، لا سيما عند الجمع بينه وبين تفاعُل البوليمراز المتسلسل لفحص الحساسية، أكثر مع قضايا الأمن الحيوي والسعي إلى الإبادة عند الضرورة.
كيف يُمكننا التعرُّف على الأطعمة المغشوشة؟
كذلك استُخدِم تحليل البصمة الوراثية للكشف عن وجود لحوم الخيل في منتجات لحوم البقر في الفضيحة التي بدأت في المملكة المتحدة وأيرلندا وتطوَّرَت حتى شملت عموم أوروبا. حدث ذلك عندما أجرت هيئة سلامة الأغذية في أيرلندا اختباراتٍ على المنتجات التي تحمل علامة «١٠٠٪ لحم بقري». فاكتشفوا وجود لحم الخيل في الهامبرجر الأرخص ثمنًا وفي بعض الوجبات الجاهزة المجمَّدة، بما في ذلك لازانيا اللحم البقري ومعكرونة البولونيز. واستُخدِمت طريقة فحص البصمة الوراثية المستندة إلى تفاعل البوليمراز المتسلسل للتمييز بين لحم الخيل ولحم البقر. وأدت النتائج إلى سحب الملايين من منتجات هامبرجر اللحم البقري والوجبات الجاهزة وعبوات اللحم المفروم من محلات السوبر ماركت والمطاعم. ومنذ ذلك الحين، يعمل تجار التجزئة بكدٍّ لاستعادة ثقة المستهلِكين بإعادة تقييم مصادرهم وزيادة اختبار المكوِّنات.