التحدِّيات المستقبلية
يوفِّر لنا التقدُّم في علم الأحياء الجزيئي فُرَصًا لمعالجة القضايا العالمية المزمِنة. وهناك مجالان من مجالات علم الأحياء الجزيئي سيكون لهما تأثير كبير على المجتمع في السنوات القادمة، وهما الأمراض غير المعدِية وعلم الأحياء التخليقي.
يُطبَّق «علم الأحياء الجزيئي» على بعضٍ من أخطر التحديات التي تُواجه صحتنا المستقبلية وطول عمرنا. تتمثل هذه التحديات في وباء السمنة، والطب الشخصي، وتأثير الأمراض الوراثية. يلعب كلٌّ من النظام الغذائي ونمط الحياة دورًا في ثُلثي الأمراض المرتبطة بالتقدُّم في العمر مثل مرض السكري والسرطان واضطرابات القلب والأوعية الدموية. تُشكل معدلات حالات المرض والعواقب الاقتصادية الخاصة بوباء السمنة مصدرَ قلقٍ كبيرًا لدى كبار السن من السكان، وفي الوقت الحالي تُمثل تكلفة علاج مرض السكري من النوع الثاني المرتبط بالسمنة أكثر من ١ في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في جميع أنحاء العالم. ومن الأمور ذات الصِّلة أيضًا تأخُّر الإنجاب وزيادة التلقيح الصناعي، ومرة أخرى، تأتي «البيولوجيا الجزيئية» في طليعة التقنيات الجديدة في هذا المجال. كما رأينا سابقًا، السرطان ليس مرضًا واحدًا ولكن له مئات الأشكال المختلفة؛ إذ يعتمد على الموقع والخلية الأصلية التي ينشأ فيها، ولكن الأهم من ذلك أنه يعتمد على طيف التعديلات الجينومية التي تُعزِّز تكوينه. كل هذه العوامل تؤثر على الاستجابة العلاجية. لذا أصبح واضحًا بشكلٍ مُتزايد أن معظم السرطانات ستتطلب تشخيصًا على مستوًى جزيئي حتى يمكن تقديم خدمات الطب الشخصي. يُشير الطب الشخصي إلى تصميم العلاج الذي يُناسِب المريض، بناءً على التركيب الجزيئي الخاص لمرضه. وقد أحدثَت التقنيات الجينومية والبروتينية ثورةً في فَهْمنا لعمليات المرض، والآن نترجم هذه المعرفة إلى إطارٍ سريري للتشخيص والعلاج.
من بين المبادئ الأساسية لأخلاقيات مهنة الطب، يأتي مبدأ «لا ضرر ولا ضرار» في المقام الأول، وهو ما يُشير إلى نهجٍ شخصي في العلاج. حتى وقت قريب، كان الأفراد المصابون بالمرض نفسه يتلقَّون العلاج نفسه مع تبايُن نتائجه. فيستجيب البعض بشكلٍ جيد لهذه العلاجات، بينما لا يستجيب البعض الآخر، أو حتى قد يُعانون من آثارٍ جانبية خطيرة. في الطب الشخصي، يتمثل النهج المتَّبع في تحديد المؤشرات الحيوية: الحمض النووي أو الحمض النووي الريبي أو جزيئات البروتين الخاصة بمرضٍ معين أو مرحلة مرَضية معينة. والطب الشخصي هو مجال بحث متطور بموارد هائلة مخصَّصة للبحث عن المؤشرات الحيوية التي يمكن قياسها بدقةٍ لتوجيه التشخيص والعلاج. ومن المجالات التي تُستخدَم فيها المؤشرات الحيوية حاليًّا في الطب السريري علاج السرطان. يمكن استخدام التقنيات الجزيئية العالية الإنتاجية مثل تقنيات الجيل التالي في تحديد تسلسل السرطان الذي يُعاني منه المريض لتحديد العيوب الجزيئية المحدَّدة التي يحملها. إن العثور على نقطة الضعف الجزيئية لسرطان المريض هي الخطوة الأولى في علاجه. ونتحدَّث هنا عن «إدمان» الورَم على عيبٍ جزيئي بعينه يعتمد عليه الورم من أجل بقائه. وهكذا يكون تثبيط هذا العيب أو إزالته هو مفتاح القضاء على هذا السرطان.
المؤشرات الحيوية للتنبُّؤ العلاجي في السرطان
التحدي الذي يُواجهنا مستقبلًا هو توصيف إدمان الجينات الورَمية الجديدة، وتوفير أهداف جزيئية مناسبة لتطوير الأدوية، وتوثيق الفائدة السريرية لكبحِها. ويعمل التقدُّم الحثيث في تقنيات الجيل التالي لتحديد التسلسُلات من الجزيئات المشتقَّة من العينات الحية على تعزيز موجةٍ من التقنيات الجينومية والنسخية وفوق الجينية والبروتينية الجديدة لتوفير هذه المعلومات. غير أن ثمة تحذيرًا من أن بعض التغيرات التي يُفترَض أنها مُتعلقة بالورم قد تكون موجودة في الخلايا الطبيعية. ويتطلب ذلك تقنيات آلية قائمة على التسلسُل لإتاحة الحصول على التحليلات العالية الإنتاجية والمتعددة الأبعاد للخلايا الفردية.
أدَّت الرغبة في استخدام طرقٍ أقل اجتياحًا من عينة الأنسجة إلى انهماك الباحثين في دراسة المؤشرات الحيوية في الدم للكشف عن السرطان والأمراض الأخرى، كما أن الحمض النووي الريسبي الميكروي من المرشَّحين المحتمَلين الجدد. تتورط جزيئات الحمض النووي الريبي التنظيمية الصغيرة هذه في العديد من الأمراض، منها السرطان والاضطرابات العصبية وأمراض القلب والأوعية الدموية، من بين أمراضٍ أخرى. تنتشر هذه الجزيئات في سوائل الجسم في حالةٍ مستقرة مما يجعلها علامات حيوية قوية محتمَلة، ولكن التقنيات الجديدة مطلوبة لقياسها قياسًا دقيقًا. قد تكمن الإجابة في تفاعل البوليمراز المتسلسل الرقمي الذي كانت تكاليفه المرتفعة حتى وقتٍ قريب تعوق استخدامه. يُعَد تفاعل البوليمراز المتسلسل الرقمي أحد أشكال الطريقة التقليدية التي تُتيح قياس المتغيرات النادرة بدقةٍ في سياق بيئة من جزيئات النمط الشائع. كذلك تُتيح تقنية تفاعل البوليمراز المتسلسل الرقمي عدَّ خلايا الدم البيضاء التي تتسرَّب إلى الورم بدقةٍ بحيث يمكن تقسيم المرضى إلى مجموعاتٍ للعلاج باستخدام العلاجات المناعية الجديدة. هذه العلاجات عبارة عن عقاقير مُصمَّمة لمنع الخلايا السرطانية من الهروب من جهاز المناعة؛ ومن ثم السماح للمناعة الطبيعية بالقضاء عليها.
الحمض النووي للميتوكوندريا والأمراض الوراثية
ترتبط مجموعة كبيرة من الحالات المنهِكة والمميتة، والتي لا يمكن علاج أيٍّ منها، بطفراتٍ في الحمض النووي للميتوكوندريا. ونظرًا لأن الحمض النووي للميتوكوندريا موروث من الأم، فإذا كانت المرأة تحمل طفرةً في الحمض النووي في الميتوكوندريا الخاصة بها، فهي مُعرضة لخطر نقْل هذه الطفرة إلى أطفالها. يتحوَّر الحمض النووي للميتوكوندريا بمُعدل أعلى من الحمض النووي بسبب ارتفاع عدد جزيئات الحمض النووي وانخفاض الكفاءة في التحكُّم في أخطاء تكرار الحمض النووي. يمكن أن تُسبب الطفرات في الحمض النووي للميتوكوندريا كلًّا من الإجهاض والمرض فيما يصل إلى واحدٍ من كل ٢٠٠ مولود حي في المملكة المتحدة. تتراوح أمراض الميتوكوندريا في شِدَّتها من المنهِكة إلى المميتة. ونظرًا لأن الميتوكوندريا تُوفر غالبية الطاقة في الخلية، تشعر الأنسجة التي تتطلَّب الطاقة مثل القلب والدماغ والعضلات الهيكلية بالطفرات الضارة بشكلٍ أكثر حدة. على سبيل المثال، ترجع بعض أشكال الحثل العضلي إلى طفرةٍ في الحمض النووي للميتوكوندريا. كذلك تُقرر المزيد من النساء الغربيات تأجيل الأمومة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى زيادة خطر الإصابة بالعقم، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الميتوكوندريا المسنَّة والمتحوِّلة. وقد يؤدي تصحيح عيوب الميتوكوندريا هذه إلى تقليل العقم وفشل التلقيح الصناعي.
يُوجَد أكثر من ١٠٠ ألف نسخة من الحمض النووي للميتوكوندريا في سيتوبلازم البويضة البشرية. بعد الإخصاب، تبقى ميتوكوندريا الأم فقط على قيد الحياة، بينما تُستهدَف الأعداد القليلة من ميتوكوندريا الأب في البويضة الملقَّحة من أجل تدميرها. وهكذا يكون كل الحمض النووي للميتوكوندريا لجميع أنواع الخلايا في الجنين الناتج مُشتقًّا من الأم. عادة لا تحمل كل الميتوكوندريا الخاصة بالأم أي طفرةٍ بعينها، وهي حالة تُعرَف باسم التنسُّج المغاير. والمرضى المصابون بمرض مُتعلق بالميتوكوندريا عادةً ما يكون لدَيهم مزيج من نمط الحمض النووي الشائع (العادي) للميتوكوندريا والحمض النووي المتحوِّر للميتوكوندريا، وتعتمد شدة المرض على نسبة الاثنين. والأهم من ذلك أن المستوى الفعلي للحمض النووي المتحور في التنسُّج المغايِر للأم ليس وراثيًّا، ويمكن أن يكون النسل في حالةٍ أفضل أو أسوأ من الأم. يؤدي هذا أيضًا إلى عدم اليقين؛ إذ إن نسبة ميتوكوندريا النمط الشائع مقارنة بالميتوكوندريا المتحورة قد تتغير أثناء التطور. لا تزال هذه العملية غير مفهومة بشكلٍ جيد حاليًّا، ولكن أي زيادة في نسبة الحمض النووي المتحور تؤدي إلى ظهور المرض تدريجيًّا وهو عادةً ما يكون أكثر وضوحًا في الأنسجة غير المنقسمة مثل الدماغ والقلب مما يؤدي إلى الإصابة بالخلل المعرفي والاعتلال العضلي.
ثمة مخاوف بشأن هذه التقنية؛ لأننا ما زلنا نجهل العواقب المحتمَلة لجينوم الميتوكوندريا على النسل، إما بشكلٍ مباشر من خلال دوره في توفير الطاقة الخلوية، وإما بشكلٍ غير مباشر من خلال تخفيف أنشطة الجينوم النووي. وقد أظهر علم الأحياء الجزيئي أن جينوم الميتوكوندريا قد تطور ليكون مُتناغمًا مع نظيره النووي وأن آثار اختلال هذا التوازن قد تكون شديدة. فتشير الدراسات الحديثة في نماذج الفئران إلى أن استخدام الميتوكوندريا والجينومات النووية غير المتطابقة أثناء عملية استبدال الميتوكوندريا يمكن أن يحفز استجابةً مناعية أو يؤدي إلى تغيرات فسيولوجية وسلوكية في النسل. من المؤكد أن الميتوكوندريا لها وظائف تتجاوز عملية إنتاج الطاقة البسيطة، مما يُعزِّز المخاوف بشأن استبدال الميتوكوندريا.
قد يحتاج المانح والمتلقي إلى أن يكونا مُتطابقَين على غرار ما يحدث في عمليات نقل الدم لمنع انخفاض الكفاءة نتيجة للانهيار في تفاعلات الحمض النووي والحمض النووي للميتوكوندريا التي تطوَّرت بشكلٍ مُشترك. إن تأثيرات عدم التطابق في الحمض النووي للميتوكوندريا والحمض النووي وعتباته القابلة للاستمرار مطلوبة، وكذا قياسات الطفرات الموجودة في الحمض النووي للميتوكوندريا في الأم التي تنتقِل إلى النسل. مطلوب العمل لوصف هذه الظواهر وتقديم أدلةٍ من شأنها طمأنة الآباء المحتمَلين أنهم لا يُشكلون تهديدًا كافيًا لمنع تطبيق العلاج باستبدال الميتوكوندريا.
علم الأحياء التخليقي
كان من أقدم النجاحات التي تحقَّقت في مجال علم الأحياء التخليقي؛ إنتاجُ أرتيميسينين شبه مُخلق، وهو عقار مضاد للملاريا يُنتجه نبات الشيح الحَوْلي طبيعيًّا. استُخْدِم هذا النبات في الطب الصيني التقليدي لسنواتٍ عديدة وفي سبعينيات القرن الماضي، عرف العلماء الصينيون الأرتيميسينين على أنه المكوِّن المضاد للملاريا. والملاريا مرض يصيب ٣٠٠ مليون شخص كل عام وهو شائع بشكلٍ خاص في أفريقيا.
بعد ما يقرب من ٣٠ عامًا، اعترفت منظمة الصحة العالمية بالعقاقير القائمة على الأرتيميسينين كعلاجٍ فعَّال ضد المتصورة المنجلية وهي الطفيلي المسبب للملاريا. ونظرًا لأن الأرتيميسينين مُستخرَج من النباتات، يمكن أن تحدُث تقلُّبات في سعر الدواء وإمداداته على نطاقٍ واسع مع اختلاف إنتاجية محصول النبات نتيجة للتغيرات المناخية. ولضمان مصدرٍ معقول سعرًا وموثوق به، أُطلِقَ مشروع الأرتيميسينين شبه المخلَّق في عام ٢٠٠٤ بتمويلٍ من مؤسسة «بيل وميليندا جيتس». كان الهدف هو تصميم كائن حي دقيق لإنتاج مُركب أرتيميسينين طليعي على مستويات عالية يمكن بعد ذلك استخلاصه وتحويله إلى العقار الفعلي باستخدام العمليات الصناعية. ولتطبيق ذلك، أنشأ اختصاصيُّو علم الأحياء التخليقي مسارًا أيضيًّا يتضمن عددًا من الخطوات المتتابعة داخل خميرة الكائن المضيف لإنتاج المركب الطليعي. أنتج العقار المضاد للملاريا على نطاق واسع في عام ٢٠١٣، وبعد عام، أصدرت شركة «سانوفي» لتصنيع الدواء أول دفعة من الأرتيميسينين شبه المخلق.
يُعد دمج مسارات كيميائية حيوية مُحددة أو مُعادٍ تشكيلها داخل الكائنات المضيفة أحد جوانب علم الأحياء التخليقي. والمجال الآخر الأكثر إثارة للجدل هو بناء خلايا جديدة تحمل حمضًا نوويًّا مُخلَّقًا بالكامل. ستُصَمَّم هذه الخلايا القليلة — التي شُكِّلت من لَبِنات بناء كيميائية وبيوكيميائية أساسية تحتوي على الحد الأدنى من الجينات — بحيث تعمل كمُضيفِين مُتخصِّصِين، أو هياكل، يقوم كلٌّ منها بوظيفةٍ محددة. تتمثل الميزة في أن الوظائف الحيوية لجميع الجينات المضافة ستكون معروفةً وسيمكن التغلُّب على عدم القدرة على التنبؤ بسلوك الخلايا الطبيعية، التي تُعد سمةً متأصلة لها. أنتج الباحثون في معهد جي كريج فنتر أول جينوم خلوي مُخلَّق كيميائيًّا، ونُشِر عملهم الرائد في عام ٢٠١٠. قام هؤلاء الباحثون بتجميع جينوم دائري كامل يحتوي على مليون زوج قاعدي، لبكتيريا المفطورة الفطرانية من قِطَع مخلَّقة من الحمض النووي. تم تجميع الجينوم في الخميرة ثم زُرع في خلية بكتيرية تخلو من الحمض النووي. يُشار إلى الخلية باسم «الخلية المخلَّقة»، على الرغم من أن الجينوم فقط هو ما يُصنع كيميائيًّا، وليس خلية المتلقي.
يتسم علم الأحياء التخليقي بالقدرة على تزويد المجتمع بأدويةٍ أكثر فاعلية، وأنواع من الوقود الحيوي الرخيص، ومحاصيل مُعاد تصميمها بحيث تكون أغنى بالعناصر الغذائية وذات إنتاجيةٍ مُعزَّزة. غير أن هذه التكنولوجيا المتقدِّمة تثير مخاوف أخلاقية واجتماعية بشأن المخاطر التي قد تشكلها على صحة الإنسان، والتلوث البيئي، وإساءة الاستخدام المتعمد، وهي مسائل قيد النظر بالتزامن.
التحرير الجينومي
إن الإمكانات المستقبلية لتقنيات البيولوجيا الجزيئية هائلة، وإذا وجِّهَت بصورةٍ صحيحة، فستكون قادرة على تحسين الصحة وإفادة البيئة.