البيعة ليست هي التصويت١
إصرارٌ من لون عجيب، دون كل شعوب الدنيا، على إدخال الدِّين في كل مدخلٍ كبُر شأنه أو صغُر، إصرارٌ أصبح نوعًا من المرض العُضَال. وضِمن هذا الإصرار يأتي إلحاح الذين يلعبون السياسة بالإسلام، وكيف أمكنهم العثور في الإسلام على كلِّ ما وصلت إليه المبادئ والقيم والحقوق الإنسانية في زمن الحداثة وما بعدها، وكلِّ ما يتعلق بنظام الحكم المتفوق والذي أدَّى لتفوق بلاده حيثما تم تطبيقه، مما دفعهم بدلًا من الأخذ به وتطبيقه إلى البحث في ركامنا التاريخي عن كل مكونات العمل السياسي الديمقراطي كما هو في أقصى نضوجه اليوم. وأول سؤال بديهي يطرح نفسه إزاء سادتنا هؤلاء هو: إذا كنا نملك كل تلك الأدوات الحاكمة بين الشعب والدولة، بما يؤدي إلى إرادة شعبية هي الحاكم الحقيقي عبْر انتخابات حرة، إذا كنا نعرف حقوق الإنسان فعلًا، إذا كنا نعرف ما هي الحرية؟ فلماذا نحن هنا في القاع، ولماذا هم هناك يجوبون الفضاء؟! والمصيبة الأفدح أن تكون كل تلك القيم الدافعة للتحضُّر موجودة في ديننا ولا نعرفها ولا نكتشفها إلا بعد أن نراها محققة في بلاد الغرب، وهو ما يعني أحد أمرين: إما كذب وبطلان هذا الادعاء كله بِرُمَّته، وأن الإسلام لم يعرف مفاهيم الحريات والمساواة وحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية التي نعرفها اليوم، وهو الموقف العلمي الذي لا بد منه؛ لأن تلك مفاهيم بِنت زماننا لم تكن تعرفها البشرية زمن الدعوة الإسلامية، وإن عرَفتها مناطق أخرى كاليونان وروما؛ لأن اﻟ «إما» الأخرى ستعني أن أُولي الأمر منَّا ومشايخنا وفقهاءنا التاريخيين والصحابة والراشدين كانوا يعرفون كل تلك القيم المؤدية للعدل والتفوق والتحضر في ديننا، ولم يعملوا بها ولم يحاولوا تحقيقها، وتركوا المسلمين وغيرهم معهم تحت الظلم والقهر بطول عصور الخلافة السوداء، وهي جريمة تاريخية كبرى، ثم ظهروا يحدِّثوننا اليوم عن هذا الذي كان بيدهم وكانوا يخفونه عنَّا! إنهم لا زالوا يريدوننا عبيدًا لسَدَنتِهم بسرقة حُلمنا في وطنٍ ديمقراطي دستوري حقوقي محترم.
نموذجًا لهؤلاء الفلاسفة الجدد الدكتور محمد زيدان، وهو مَن يكتب للنخبة الراقية من الإسلاميين؛ لذلك هو يشغل منصب رئيس القسم الشرعي بشبكة إسلام أون لاين، وهي أهم شبكة إسلامية حتى الآن، وتحظى بنسبة زوار هائلة. وقد كتب الدكتور زيدان على شبكته عملًا بعنوان: «البيعة: شرعية الشورى وتمكين الأمة».
وهو عمل مثالي ونموذجي لما نحن بصدده كخطاب إسلامي جديد قرَّر التفاعل السياسي بعد حراك العالم في سبتمبر ٢٠٠١م، ليثبت أن حداثتنا موجودة لدينا، وهي ذات الديمقراطية الغربية لكن بمسميات وآليات إسلامية، وهي تناسبنا بعكس تلك الغربية لأنها غريبة عنَّا. ومن هنا تأتي أهمية موضوع الدكتور زيدان الذي يمكن اتخاذه لمناقشة مسألة البيعة، كأداة ديمقراطية إسلامية في ممارسة الشعب للسلطة، ومدى صدق هذا الطرح من عدمه كشهادة لفلاسفة الإسلام السياسي الجديد. وعليه يمكن هنا إنشاء موضوع يبحث البيعة حسبما تراها أحدث الأدبيات الباحثة في تيار الإسلام السياسي المعاصر.
البيعة كشرعية للنظام
يدخل الدكتور زيدان إلى موضوعه بفقرة قوية تبدو محكمة الترتيب والغرض، يقول: «البيعة من أبرز جوانب الفعل السياسي الذي تمارسه الأمة؛ إذ إنها في الرؤية الإسلامية هي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم، بل وتسبق إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية في عهد الرسول ﷺ فهي ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، وأداة إعلانه الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى، وهي صيغة تمكين الأمة لا إخضاعها، قبل الدولة وبعدها، والبيعة في الخبرة النبوية هي عَقْد اجتماعي تأسَّست عليه الأمة ثم الدولة؛ فالعقد الذي حدث مرتين عند العقبة كان عقدًا حقيقيًّا تاريخيًّا، تم فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة، وأفكار واعية ناضجة من أجل تحقيق رسالة سامية، في حين أن فكرة العقد الاجتماعي عند روسو مثلًا في الفكر الغربي الحديث، كانت تبريرًا غيبيًّا لا نصيب له من الواقع، لجأ أصحابها إليها لمحاربة سلطة الحاكم الفرد عبْر أسطورةٍ لم يشهد تاريخهم تحققها كما حدث في التاريخ الإسلامي.»
ألا ترون هذا الكلام الكبير العظيم الفخيم؟ ألا تروننا قد سبقنا عَقد روسو الاجتماعي في بيعتَي العقبة، بينما نحن في قاع الأمم تراتبًا؟ بل إن عقد روسو كان مجرَّد تهويم غيبي مقابل عَقدنا الواقعي الحقيقي (البيعة) الذي تشهد عليه أحداث تاريخية وقعت مرتين عند العقبة. مثلي لا يقتنع بسهولة بطرح الكلام الجميل المرتَّب المنمَّق المفلسف؛ لأن ذلك لو كان حقًّا لكنا نحن القاطرة التي أخذت العالم نحو الحداثة منذ ألف وأربعمائة وستة وعشرين عامًا، ولكُنا الأكثر رقيًّا وتقدُّمًا نحن ودول العالم الأخرى مما هي عليه الدنيا الآن. هنا لا بد أن نشك في الكتالوج المقدَّم إلينا من الدكتور زيدان؛ فالكتالوج يقول شيئًا وواقعنا يقول شيئًا آخر، ومِن ثَمَّ وجب البحث وراء ما طرح الدكتور ومدى صدقه من كذبه أو تدليسه.
هنا، وحتى نفهم ما قال سيادته، سنقوم بتحليل وتفصيص ما قال واحدة واحدة، في خطابه السياسي الإسلامي الجديد؛ ولنبدأ بالواحدة الأولى:
يقول سيادته: «إن البيعة من أبرز جوانب الفعل السياسي الذي تمارسه الأمة؛ إذ إنها في الرؤية الإسلامية هي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم.»
وهكذا يكون أوَّل الآية كفرًا، واستئصالًا وتكفيرًا وتحريضًا، بصيغة الجزم والتأكيد؛ فهو يُصدِر حكمًا على كل الحكومات الإسلامية القائمة بالكفر، ويسحب عنها الشرعية؛ فكلها قامت على نظام الدولة الحديثة، ولم يكن فيها كلها بيعة (عدا بضعٍ منها)، ألا ترونه يصوغها مشروطة بقطْع تأكيدي «إذ إنها» مما يعني أن كل حكومات المسلمين المعاصرة غير مشروعة، «إذ إنها (أي البيعة) في الرؤية الإسلامية هي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم.»
الغريب في شأن سادتنا هؤلاء من مفكري التيار الإسلامي أنهم يبنون أبنية محكمة قوية البناء، لكن كلها على مستوى المخيلة وحدَها وليس أبعد من ذلك. المشكلة أن هذا الكلام المتخيَّل يتم ترديده باستمرار حتى بات كما لو كان حقيقة، وأن علينا التصديق ثم السمع والطاعة.
لكن هل القواعد الدينية المفترض فيها السمو والبناء والتقدُّم، يمكن أن تصبح مهمتها إثارة الفتن وتدمير الأوطان بالحركات الدينية المسلحة، أو حتى الثورات الشعبية المتدينة؟ والأهم هو السؤال: ما هو مصدر هذه القاعدة التي تبدو صحيحة واضحة دينيًّا ١٠٠٪، في أي مكان هي موجودة بدين المسلمين؟ إن عبارة تحريضية من هذا النوع إنما تحرِّض الشعوب بالدين للفتن لأن حكوماتها لم تقُم على نظام البيعة، رغم أنه إذا كان لا بد من الثورة، فهناك أسباب ومبررات أخرى كثيرة لا تدمِّر لكنها تبني. نحن بحاجة لمعرفة مدى صدق هذه العبارة التي بنى عليها موضوعه كلَّه عن البيعة، وبحاجة إلى النصوص الصريحة التي يمكن أن تنبثق عنها مثل هذه القاعدة الدينية الدستورية؟
إن التحريض على التمرد الديني غير المعارضة البناءة، إن تحريض البسطاء وهم وقود كل الحركات الدينية عبْر التاريخ، يحوِّلهم عن الولاء لوطنهم إلى خيانة الولاء الوطني لصالح ما يُقال لهم إنه شرع السماء، مما يعطي الضوء الأخضر لعمليات الإرهاب المسلح بحجج شرعية قالها الدكتور زيدان، المفترض أنه في طليعة الحداثيين الإسلاميين ليعطي الدافع لمزيد من دمار اقتصاد بلاد المسلمين وموت الأبرياء وتفجير السياح ودُور العبادة ووسائل المواصلات وأنابيب البترول، فيضرب منتج د. زيدان في كل مكان دون هدف واضح سوى التخريب والتدمير؛ لأن الدكتور زيدان لم يضع بديلًا حقيقيًّا واضحًا يمكن تطبيقه اليوم للنظام الذي تقوم عليه الدول الإسلامية، وسنرى معًا كيف أن وِفاضَه أخلى من عباراته الكبيرة، الأهم في كل هذا أنهم يشيعون بين المسلمين اتفاقًا على عدم شرعية الحكومات القائمة، حتى يكونوا هم البديل الشرعي لأنهم هم مَن يفهم الإسلام وشروطه، وحتى يتم اتفاق الأمة على اختيارهم بديلًا، فليس أمام المسلمين سوى الإرهاب والتخريب حتى تسقط هذه الأنظمة غير الشرعية بيد الجماعات الإرهابية الشرعية.
المثير هو أن زيدان يعلن يقينه هذا على المسلمين وهو يعلم أن الحال لم يكن كذلك في تاريخنا الميمون، لنقرأ معًا «فصل في وجوب الإمامة وبيان طرقها، من كتاب الإمامة وقتال البغاة، في المجد الثالث من روضة الطالبين»؛ إذ يقول فصل: وأما الطريق الثالث (لتنصيب الإمام) «فإذا مات الإمام فتصدى للإمامة مَن جمع شرائطها، من غير استخلاف ولا بيعة، وقهرَ الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته، لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعًا للشرائط بأن كان فاسقًا أو جاهلًا، فوجهان أصحهما انعقادها لما ذكرنا، وإن كان عاصيًا بفعله.» وبعد تولي المتغلِّب تُوضع له الأحاديث في الصحاح، عن حذيفة بن اليمان: «اسمع لحاكمك وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك.» وكذلك عن الحسن البصري: «لا تعصوا أولي الأمر منكم فإن عدلوا فلهم الأجر وعليكم الشكر، وإن بغَوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، فهو امتحان من الله يبتلي به مَن يشاء من عباده، فعليكم أن تتقبلوا امتحان الله بالصبر والأناة لا بالثورة والغيظ.» وعن أحمد بن حنبل عن رواية عبدوس العطار: «مَن غلب على المسلمين بالسيف حتى صار خليفة وسُمي أمير المؤمنين، فلا يَحِل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إمامًا، بارًّا كان أم فاجرًا.» ويقول ابن عبد ربه في العقد الفريد (كتاب اللؤلؤة في السلطان): «السلطان زمام الأمور ونظام الحقوق وقوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا، وهو حِمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده، به يمتنع حريمهم، وينتصر مظلومهم وينقمع ظالمهم ويأمن خائفهم. قالت الحكماء: إمام عادل خير من مطرٍ وابل، وإمام غشوم خير من فتنة تدوم، ولما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن.» قال وهب بن منبه فيما أنزل على نبيه داود ﷺ: «إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم نعمة، ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة.» وعن عبد الله بن عمر: «إذا كان الإمام عادلًا فله الأجر وعليك الشكر، وإن كان جائرًا فعليه الوزر وعليك الصبر.» ليوجز حذيفة بن اليمان نظرية الإسلام السياسي في الحكم فيقول عن النبي ﷺ: «ما مشى قوم قطُّ إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله.»
إنها بيعة المتغلب التي يتميز بتشريعها فقهنا الإسلامي عن غيره، في تسليمه بالأمر منعًا للفتنة وانشقاق الأمة، فما بالُ زيدان يحرِّض على الفتنة وانشقاق الأمة، خاصة وهو يعلم أن بيعة المتغلِّب كانت هي المتغلب على تاريخ الخلافة الإسلامية بطولها وعرضها؟ فما باله لا يعترف بحكومات إسلامية ولو متغلبة منعًا للفتن؟ أم تكون الفتن هنا مطلوبة في حالة وجود البديل الذي يزعم أنه الإسلامي الشرعي، في حالة وجود زيدان ورفاقه دون فلسفة حكم متكاملة واضحة بأيديهم؟ وإذا كانت البيعة هي التي تعطي الشرعية للحاكم، فماذا عن تأخُّر علي بن أبي طالب والهاشميين ومعظم جزيرة العرب عن بيعة أبي بكر، ومع ذلك فإن التيار السني يعتبر بيعة أبي بكر شرعية مائة بالمائة.
وماذا عن امتناع الوالي معاوية عن مبايعة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب؟ وما هي الإجراءات الدستورية التي كان يلزم اتباعها وإجراؤها في ذلك الوقت لضمان عدم امتناع معاوية؟ وهل كان للبيعة مؤسسات تضمن تنفيذها؟ وهل تمكَّن الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب الذي حكم بالبيعة، من فرض سلطانه على الشام وعزل المتمرد معاوية؟ إن البيعة لم تحافظ على نظام حكمها الشرعي مع علي، وأخذ غير الشرعي (معاوية) منصبه بل واجتاز الخلافة كلها دفعة واحدة، ثم أخذ البيعة له ولابنه يزيد تحت تهديد الصحابة بالقتل، ما قيمة البيعة هنا؟ وهل أفادت البيعة عثمان بما أضفته من شرعية على نظام حكمه، وهل ساعدته على إخضاع المتمردين من عرب مصر والصحابة وصانت حياته؟ وماذا وضع نظام البيعة من إجراءات لمثل هؤلاء؟ وكيف كان يمكن التصدي لهم شرعيًّا، وما هي الترتيبات والتنظيمات والإجراءات والمؤسسات التي يقترحها د. زيدان لمواجهة مثل تلك المشاكل مستقبلًا؟ وما هو حكمه على تلك الأحداث من منطق فكره السياسي الإسلامي المعاصر؟ أم إن الشخصيات التي عاصرت الفتنة الكبرى مقدَّسة ولا يجوز توجيه النقد إليها بما يفيدنا في تطوير نظم الحكم والمراقبة الشرعية وفق نظام البيعة؟
اللطيف في شأن سادتنا المفكرين الإسلاميين أنهم لا يلحظون ما هو شديد الوضوح، وهو أن البيعة لم تكن يومًا سببًا لشرعية أحد، وقد عبَّر الخليفة عثمان عن ذلك بوضوح عندما طالبه الثوار بالاعتزال، فهو لم يعتدَّ ببيعتهم، ولا بسحْبهم هذه البيعة؛ لأنها لم تكن لا في العير ولا في النفير؛ فقد كان رده التاريخي: «والله لا أخلع قميصًا سربلنيه الله.» كانت هي إذن إرادة الله وليست إرادة الناس وبيعتهم، كان عثمان يعتقد أن تلك بيعة من الله وليست بيعة من الناس، وماذا تكون بيعة الناس بجوار بيعة الله؟
ويبقى النظام الإسلامي غير قابل للتطوير والتحديث بسبب هذه القدسية التي لحقت زمن الصحابة وبيعاتهم. على زيدان أن يختار — وهو لا يستطيع حتى أن يختار — ثم يقدِّم لنا درسًا في العقد الاجتماعي الإسلامي، بنظام البيعة الذي لم يتمكن من حماية نفسه يومًا.
البيعة تسبق الدولة
الحديث مع الدكتور زيدان لا يُمَل، فلنأخذ الواحدة الثانية من حديثه إذ يقول: «بل وتسبق (أي البيعة) الدولة في الخبرة الإسلامية في عهد الرسول ﷺ.» ويستشهد على ذلك بقوله: «فالعقد الذي حدث مرتين عند العقبة، كان عقدًا حقيقيًّا تاريخيًّا» (يقصد عقدًا اجتماعيًّا كما قال). إذن البيعة قد تمَّت مرتين في العقبة الأولى والثانية من الأنصار للنبي، وبذلك «تسبق إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية في عهد الرسول». ولا تفهم الغرض من وضع قاعدة لا تعمل منذ أن وُضعت؛ فالخلافة على مدار التاريخ الإسلامي كله كانت تقوم على الوراثة، إلا في عصر الخلفاء الراشدين وحدهم، حيث تولَّى كل خليفة بأسلوب وطريقة فريدتين لم تتكرر مع سواه، فلم يخضع تولية منصب الخلافة في زمن الراشدين لأي آلية أو لقاعدة منتظمة، وهو ما يعكس ارتباك تلك الفترة وعدم وضوح شكل الدولة أو نظام تداول السلطة فيها أمام أصحابها، ولا تجد هنا أية فائدة لكون البيعة «تسبق إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية»؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لظهر معها قواعد لتداول السلطة ولنظام الدولة وشكلها، وهو ما لم يحدث مما أدى للارتباك في تداول السلطة، وإلى قيام نزاع مسلح بدأ في الفتنة الكبرى ثم الجمل ونزاع علي ومعاوية في حرب أهلية، ونعرفها بالفتنة الكبرى تمييزًا لها عن فتن أخرى تملأ صفحات تاريخنا الإسلامي السياسي.
ولم تستقر الأوضاع إلا بعد قيام الدولة الأموية على فكرة الملكية وتداول السلطة بالوراثة أو بالغلبة والقهر، وكانت البيعة مجرد إجراء شكلي يعبِّر عن خضوع الرعية؛ لأن البيعة ليست آلية انتخابية كما يحاول زيدان أن يلقي في رُوع المسلمين المسالمين الطيبين، البيعة لم تكن وسيلة اختيار الحاكم؛ لأن الحاكم يكون معروفًا قبل البيعة، فالبيعة لا تكون إلا لخليفة، فتولي الخلافة أسبق من البيعة في إجراءات تولي الحكم، ويريد زيدان هنا أن يُفهِّمنا أن اللاحق هو الذي أنتج السابق، رغم أن البيعة تكون للحاكم بعد تعريفه وإعلانه وتوليه الكرسي فعلًا. وحتى بعد استقرار الدولة في المملكة الأموية والعباسية لم ينجح الفقه في الاستقرار على طريقة تداول السلطة ونظامه، ولم ينجح في تحديد شكل هذه الدولة، وجعل كل شيء جائزًا لغياب فلسفة السياسة التي تحدِّد أهداف الدولة والعلاقة مع المحكومين، لغياب دستور ونظام موحَّد للحكم، رغم نجاح شعوب قديمة قبل الإسلام بقرون طويلة، ولم يستفِد المسلمون منها، وكان أقربها إليها النظام الروماني الدستوري. كل ما يقوله الفقه لنا جاء في «روضة الطالبين» نفس الباب السابق: «وتنعقد البيعة بثلاثة طرق: أحدها البيعة كما بايعت الصحابة أبا بكر الصديق (رضي الله عنه)، والطريق الثاني استخلاف الإمام من قِبَل الإمام القائم وعهده إليه كما عهد أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) إلى عمر (رضي الله عنه)، وانعقد الإجماع على جوازه. والاستخلاف أن يَعقد له في حياته الخلافة بعده، فإن أوصى له بالإمامة فوجهان حكاهما البغوي: ولو جعل الأمر شورى بين اثنين فصاعدًا بعده كان كالاستخلاف، إلا أن المستخلَف غير متعين، فيتشاورون ويتفقون على أحدهم، كما فعل عمر فجعل الأمر شورى بين ستةٍ اتفقوا على عثمان (رضي الله عنه). وذكر الماوردي أنه يجوز العهد إلى الوالد والولد، وفيه مذهبان، وأنه لو عهد إلى جماعة مرتَّبين فقال الخليفة بعد موتي فلان، وبعد موته فلان، وبعد موته فلان جاز، وانتقلت الخلافة إليهم على ترتيبِ ما رتَّب، كما رتَّب رسول الله ﷺ أمراء جيش مؤتة. وأما الطريق الثالث فهو القهر والاستيلاء (سبق سرده في بيعة المتغلِّب).»
وفي حال بيعة المتغلب لا معنى للبيعة؛ فسواء بايعته أو لم تبايعه فقد جلس هو واستراح على الكرسي، هو لا ينتظر التمثيلية الإسلامية الهزلية إلا لإثبات السيادة والسيطرة، وخضوع شعبه وإقراره بذلِّه، هي تهنئة وتباريك وإعلان إذعان وطاعة.
وفي حالات البيعة الثلاث لا وجود هنا للناس؛ ففي أنواعها تنعقد البيعة بعد تولي الخليفة بالاستخلاف أو بالشورى أو بالتغلُّب، هذا رقم ١، ثم تأتي البيعة في الترتيب رقم ٢، والبيعة بهذا المعنى لا تضفي الشرعية على النظام بقدْر ما هي إعلان خضوع الناس للحاكم الجديد؛ هي إعلان إذعان علني.
ويحاول د. زيدان جعْل البيعة مبدأ إسلاميًّا مقدَّسًا تم صكُّه قبل إقامة الدولة في عهد النبي. وهو منطق مردود عليه بمنطقه هو نفسه؛ لأنه إذا كانت البيعة هي التي تضفي المشروعية على الحاكم، وأن البيعة سبقت إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية لأن رسول الله — حسب اعتقاد المسلمين — لم يكن في حاجة للبيعة بهذا المعنى؛ لأنه نبي ليس بحاجة لمن يضفي الشرعية على فعل أو قول من أقواله؛ فالنبي مختار من السماء ويدعمه الرب وليس بحاجة لاستمداد الشرعية من بيعة بشرية ينشئ بها الرب لنفسه دولة إسلامية على الأرض. كما أن البيعة لم تؤدِّ إلى إجماع كل الناس على الإله الإسلامي، فلا زالت الأرض تتقاسمها أديان شتى؛ لأن زيدان إن قصد بالبيعة مفهوم الانتخاب المعاصر فهو يعني الاختيار بين بدائل، والرسل لا يأتون باختيارنا بل من السماء، بايعناهم أم لم نبايعهم، وبيعة البشر لا تعطيهم شرعية لهم ولا لدولتهم.
البيعة في الخبرة النبوية
فماذا عن بيعتَي «العقبة» كما يقول «بعقد تاريخي حقيقي بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية ناضجة من أجل تحقيق رسالة سامية»؟ بنص كلام د. زيدان؟ ألا يعني ذلك أن الانتخاب/البيعة الإسلامية كانت المفهوم الأعلى والأرقى؛ لأنها تحققت في الواقع كعقد اجتماعي، وسبقت مفاهيم روسو التي كانت مجرد كلام غيبي، بل وسبقت وجود الدولة وإنشاءها، مما يعني إعطاءها قيمةً عليا أعلى من الدولة؛ فهو يقول عن هذا العَقد الذي تم في العقبتين: «تم فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة، وأفكار واعية ناضجة، من أجل تحقيق رسالة سامية، في حين أن فكرة العقد الاجتماعي عند روسو مثلًا، في الفكر الغربي الحديث، كانت تبريرًا غيبيًّا لا نصيب له من واقع.»
يبدو الكلام هنا قويًّا مدعَمًا ببيعتين حدثتا على الأرض، بل وقبل إنشاء الدولة، لكن الخطأ الوحيد هنا أو التلبيس على المسلمين، هو أن كل الكلام يبدو صحيحًا خاصة وقائعه التاريخية التي لا يمكن إنكارها، لكن ما يمكن إنكاره — بل يجب إنكاره — أن بيعتَي العقبة كانتا لمحمد ﷺ لإنشاء دولة، وهنا خلطٌ للأوراق الذي يفوت على العين التي لا تدقِّق فيما يسوقه لنا سادتنا أهل الدولة الإسلامية؛ فلم يكن هناك أي اتفاق في البيعة على إنشاء دولة بموجب تلك البيعة، ولا توجد أي بيعة في الإسلام منشِئة للدولة كما يزعم الدكتور زيدان، هو يريد تأكيد أن الإسلام دينٌ ودولةٌ وليس مجرَّد دولة، بل دولة مستكملة الشروط والأركان التي وصلت إليها الدول المعاصرة المتفوقة. وهو في واقع الخبرة الإسلامية لا وجود له بالمطلق؛ لأن الإسلام كما جاء كان دينًا للحياة وللآخرة بالعبادات والثواب والجزاء، نعم حدثت بيعات وليس بيعتين؛ فهناك العقبة الأولى والعقبة الثانية، وبيعة الرضوان المسماة ببيعة الشجرة في الحديبية، لكنَّ أيًّا منها لم يَرِد فيه شيء عن الدولة ولا السياسة ولا نظام الحكم. ويبدو لنا أن الإسلاميين لديهم شيء من الارتباك والتخبط في هذه المفاهيم، حتى إن الدكتور زيدان نفسه يفسِّر البيعة لنا ثلاث مرات، كل مرة بمعنًى مختلف، فالمعنى الأول في قوله: «إن البيعة هي ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي»، وفي قوله: «فالعقد الذي حدث مرتين عند العقبة كان عقدًا حقيقيًّا تاريخيًّا تم فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية ناضجة.» وأن هذه البيعة كانت «من أجل تحقيق رسالة سامية». وهكذا لم تَعُد البيعة ميثاقَ تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي؛ لأن الهدف في القول الثاني هو من أجل تحقق رسالة سامية؛ أي إنها كانت شأنًا دينيًّا صرفًا داعمًا للرسالة كي تتحقق؛ فهي مرة عَقد اجتماعي تأسَّست عليه الأمة، ومرة كانت أساسًا لتأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، ثم مرة تحقيقٌ لرسالة سامية. إن دقة المفاهيم عند حضراتهم مفقودة بالمرة.
للتدقيق نعود إلى ما حدث ليلة العقبة الأولى وليلة العقبة الثانية اللتين ركَّز عليهما الدكتور زيدان، نبحث عن الدولة، أو عن العقد الاجتماعي، وعن الإرادات الإنسانية الحرة، وعن عقد تأسيس المجتمع الإسلامي، وأيًّا ما نجد منها، سيكون في صف الدكتور وإخوانه المسلمين، وعسانا نجد خيرًا.
نقرأ حوادثه سنة ١١ للهجرة في أي كتابٍ من كتب السِّيَر والأخبار والحديث، ولنأخذْ هنا من المنتظم؛ إذ يحدثنا أن «من حوادث هذه السنة، أن اثني عشر رجلًا لقوه ﷺ بالعقبة، وهم أسعد بن زرارة … (يذكر الأسماء حتى) عويم بن ساعدة، فبايعهم رسول الله ﷺ ليلة العقبة الأولى … ويقول: ونحن اثنا عشر رجلًا أنا أحدهم، فبايعناه على بيعة النساء؛ على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصاه في معروف، وذلك قبل أن تُفرض الحرب، قال ﷺ: فإن وفَّيتم بذلك فلكم الجنة، وإن غشيتم فأمركم إلى الله، إن شاء غفر وإن شاء عذب».
هذه حكاية بيعة العقبة الأولى على اتفاق بين الرواة في كتب السِّيَر والأخبار والحديث والتفسير، ألا يشركوا بالله ولا يزنون، ولا يقتلون، ولا يكذبون، كلها بنود لشأن ديني أخلاقي بحت، كلها تأكيد من أصحابها قبول الإسلام وشروطه دينًا يؤدي لدخول الجنة أو النار، أمرُ الناس فيه مفوَّض لرب الدين إن شاء غفر وإن شاء عذب؟ فأين هو الفكر الواعي الجديد؟ إن منطوق هذه البيعة يوعز بشدة أن مجتمع العرب كان مجتمع فسوق ورذيلة وفجور وانحلال وفساد، حتى يحتاج الأمر إلى هذا اللقاء التعهدي المبايع على التخلي عن أخلاق الجاهلية وفسوقها والتخلُّق بأخلاق الإسلام، منطوق البيعة ليس فيه ما يشير بالمرة إلى تأسيس مجتمع سياسي إسلامي، وليس فيها أي عَقد اجتماعي يؤسس أمة أو مجتمعًا؛ لأن المجتمع كان قائمًا موجودًا، ولن يقيمه اثنا عشر رجلًا، هذه البيعة كانت إشهار إسلام ودخول في الدين الجديد، تم فيها تعريفهم ببعضٍ يسيرٍ من مبادئ وشئون دينهم؛ فلم تكن الحرب (الجهاد) قد فُرضت بعد، ولم يكن الدين قد اكتمل، فحتى الدين نفسه تعاهدوا على بعضه وهو الجزء الذي كان يعرفه النبي حتى حينها في الزمن المكي الذي لا يحوي إلا على اليسير من مبادئ الإسلام وقيَمه وتشريعاته ونصوصه، ومعظمها نسخه الزمن المدني في يثرب الذي لم يتعاهدوا عليه، هكذا كانت بيعة العقبة الأولى؛ تحديد هدف الدين بالسعي في الدنيا للحصول على رضا الله لدخول جنته، وليس لإنشاء دولة ذات سلطة وسلطان، وملك يتناصر حوله الناس أو يتصارعون.
فماذا عن العقبة الثانية؟ «قال كعب بن مالك: خرجنا في حجَّاج قومنا حتى قدمنا مكة، وواعدنا رسول الله ﷺ بالعقبة من أواسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج كانت الليلة التي واعدنا رسول الله ﷺ ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام … وكنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله ﷺ، نتسلل تسلُّل القطا حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن نحو ثلاثة وسبعين رجلًا ومعنا امرأتان من نسائنا؛ نسيبة بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرو بن عدي وهي أم منيع، فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله ﷺ، حتى جاء ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذٍ على دينِ قومه، إلا أنه أحبَّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثق له، فلما جلس ﷺ كان أول من تكلم العباس (المشرك!) فقال: يا معشر الخزرج … إن محمدًا منا حيث قد علمتم (يقصد قرابته وقبيلته وليس دينه)، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه (الحديث هنا عن حماية ومنعة النبي من قبيلة قريش رغم عدم إيمانهم به)، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم (لم يقل كما أمره الله بذلك؛ فهو لا يؤمن بدين محمد، ولا يرى إلا الوقائع).»
القضية المطروحة هنا أن العباس بن عبد المطلب يعلن للأنصار أن محمدًا لا نتبع دينه ولا نؤمن بنبوته ومع ذلك نحميه لأنه ابن قبيلتنا، ونحن نحافظ عليه في مكة ونحميه طبقًا لتقاليد القبائل البدوية، ولكنه رغب في اللحوق بكم والهجرة إليكم. المطروح هنا هو مسألة حماية محمد ﷺ وضمان أمنه وسلامته؛ لذلك كانت الكلمة الأولى للعباس غير المسلم لكنه عم النبي.
نكمل الاستماع إلى العباس مستطردًا: «فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه (أي الهجرة إليهم)، ومانِعوه ممن خالفه (كانت حرية العبادة مكفولة وموفورة حتى هذه اللحظة، ولم تكن الآيات المدنية بهذا الشأن قد وصلت)، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسلِموه وخاذِلوه بعد الخروج إليكم (أي الهجرة)، فمنذ الآن دعوه، فإنه في عزٍّ ومَنَعة من قومه وبلده.»
العقبة الثانية إذن كانت تمهيدًا للهجرة، نجح فيها العباس الكافر في تحقيق الغرض منها، وهو توفير الأمن لمحمد عند هجرته ليثرب؛ لأن كعب بن مالك يستطرد: «فقلنا إنا قد سمعناك وسمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخُذ لنفسك وربك ما أحببت. قال: فتكلم رسول الله ﷺ فتلا القرآن ودعا إلى الله تبارك وتعالى ورغَّب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب والحلقة ورثناها كابرًا عن كابر.»
هو اتفاقية دفاع مشترك ستقوم فيها حروب مقبِلة سيقودها النبي؛ لذلك كان هذا الاتفاق واللقاء سريًّا، تسللوا إليه تسلُّل القطا؛ لأن قريش كانت هي المستهدف الأول؛ لأن يثرب كانت تقع على عصب الطريق التجاري إلى الشام، وبعد الهجرة قطع المسلمون من يثرب هذا الطريق وحاصروا مكة اقتصاديًّا لتركيعها؛ لذلك أكَّد البراء أن أهل يثرب هم أهل الحرب والحلقة. لقد قبِل الأنصار تولِّي مهمة حماية النبي وتأمينه عند هجرته إليهم. يستمر كعب بن مالك روايته فيقول: «فاعترض القول البراء، يكلم رسول الله ﷺ، أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالًا ونحن قاطعوها — يعني اليهود — فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعنا؟ فتبسَّم رسول الله ﷺ ثم قال: بل الدم الدم، الهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أحارب مَن حاربتم وأسالم مَن سالمتم.»
إنها بيعةُ اتفاق على الدم والهدم والحرب، وألا يتخلَّى الأنصار عن نبيهم، ويمنعونه كما يمنعون نساءهم وأطفالهم حتى يشتد أمره وتقوى شوكته، وعليه أيضًا عندما يقوى شأنه ألا يرتد عنهم ويتخلى عنهم ويعود إلى بلده. هذه هي العقبة الثانية بتفاصيلها ليس فيها شيء عن دولة ولا انتخابات ولا تصويت ولا دستور ولا ديمقراطية ولا أي شيء مما يريد الدكتور زيدان أن يُوهِم به القارئ المسلم.
للرواية بقية، فيتابع ابن مالك: «وقال ﷺ أخرِجوا اثني عشر نقيبًا؛ تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وقال ابن إسحق، فخبرني عبد الله بن أبي بكر بن حرام، أن رسول الله قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء كفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي، قالوا: نعم.»
الرواية توضِّح أنه حتى ذلك الوقت وهذا الاتفاق، كان للأنصار أحياء؛ أي قبائل، ولها زعامات مستقلة سوف تتكفل بتنفيذ بنود هذا الاتفاق الدفاعي أو الهجومي المشترك، وأن هذه الزعامات كانت اثنتي عشرة؛ لأن مجتمعهم كان قبليًّا عشائريًّا وليس دولة ذات قيادة واحدة بنظام تراتبي إداري هرمي كما هو أبسط نُظُم الدول المجاورة، منذ ألوف السنين.
يقول بن مالك: «وقام منهم العباس بن عبادة بن نضلة موضحًا لهم ملخَّص ما تم الاتفاق عليه، فقال: يا معشر الخزرج، هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعون على حرب الأحمر (اليهود) والأسود (قريش) من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذ نُهِكت أموالُكم مصيبةً، وأشرافُكم قتلًا، أسلمتموه؟ فمن الآن، فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتْل الأشراف، فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف.»
أين هنا الدولة؟ العقبة الأولى كانت تمهيدًا للهجرة، وكانت اتفاقًا سريًّا غير علني والدول غير سرية، العقبة الثانية سرية لتنفيذ الاتفاق، ثم قال رسول الله ﷺ: «ارفضوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلنَّ غدًا على أهل مِنى بأسيافنا، فقال ﷺ: لم نُؤمر بعدُ. فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما غدت علينا جلة من قريش جاءونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنا قد بلغَنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينكم. فانبعث من مشركي قومنا من يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه. قال: وصدقوا، ولم يعلموا.»
مرة أخرى: أين هي الدولة؟
العقبة الأولى كانت تمهيدًا للهجرة، وكانت اتفاقًا سِريًّا غير معلن، والدول غير سرية. العقبة الثانية سِريَّة بدورها لتنفيذ الاتفاق السِّري، الهدف هو تكوين حلف عسكري ضد الأحمر والأسود من الناس، حلف هجومي وليس دفاعيًّا، وليس أكثر من هذا، الكلام الأهم في العقبة الثانية هو الذي تم طرحه، هو كلام العباس الكافر نيابةً عن بني هاشم الكفار في بيعة تأسيس لمجتمع إسلامي، كيف يتفقان أو يلتقيان؟ الاجتماع ببساطة كان لتأمين الهجرة وتكوين الجيش الهجومي الذي سيأخذ منه كلُّ طرف نصيبه من الصفقة أو البيعة، ولا علاقة لها بروسو وعَقده الاجتماعي لا من قريب ولا من بعيد، ولا بتأسيس مجتمع سياسي إسلامي لأنه كان يرأسه كافر هو العباس، وإلا لو أقررنا بذلك فلا بد أن نُقرَّ بما يترتب عليه، وهو إمكانية وصول غير المسلم إلى رئاسة المسلمين بالقياس، فهل هذا المطلب الرفيع والسامي هو ما يطلبه سيدي الدكتور؟ فلنتابع لمزيد من الفهم والتدقيق.
البيعة كعَقد اجتماعي
يقول الدكتور زيدان «إن البيعة هي ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي». وهي من العبارات العجيبة التي تُلقى هكذا دون تدقيق في القول حتى يكون مفهومًا. فهل سيؤسس الدكتور زيدان بالبيعة مجتمعًا سياسيًّا إسلاميًّا من فراغ؟ أم في مجتمع قائم؟ أم هي السير على السنة، كما انفصل النبي وأتباعه عن مجتمعهم، ثم أخذوا في التغذي على المجتمع الجديد والتهامه إما بدخول أفراده في الإسلام أو خضوع القبائل للقوة الجبرية، إنه يحدثنا عن مجتمع كالثقب الأسود يظهر فيلتهم ما حوله.
إن أي انفصال عن أي مجتمع يُعتبر في نظر أهله خيانة للمجتمع وللوطن، والدكتور زيدان يريد تكوين مجتمع يتم سلخه من المجتمع القائم، وهو ما يحمل في طياته تكفير المجتمع كله لأن مجتمعنا ليس المجتمع السياسي الإسلامي المطلوب، إنهم يأخذون المواطن من الولاء لمجتمعه ووطنه للولاء إلى كيان هلامي معادٍ غريب محارب لوطنه وأهله وناسه، يَفصِل الناس عن مجتمعهم ليعود بهم إلى طريقة حياة مخالفة، ليتم التفجير والتدمير ونتساءل مندهشين: من أين أتانا الإرهاب؟
كيف يمكن القول اليوم إن التصويت هو البيعة، وإن تصويتنا مقدَّس لأنه يقوم على فعلٍ مقدس تم في العقبة الأولى والثانية، دون أن يكون في الأولى لا سياسة ولا دولة ولا شورى ولا ديمقراطية، كان الكلام عن الدين والعبادة والجنة وليس للحصول على دولة. وفي الثانية كانت شديدة التكتم والسرية لأنها كانت تأخذ إقرارًا وتعهدًا من رؤساء قبائل اثني عشر أنصاريًّا، لا توجد هنا دولة، هنا حوار قبلي وليس حوار دولة. الدولة عندما تتعاقد تتعاقد مع رئيس واحد وليس ١٢ رئيسًا، لا يوجد نظام هرمي يعطي الرئيسُ فيه تعليماته للدرجات الأولى من السُّلم لِنقْلها للدرجات التحتية الأوسع.
أما الآيات التي جاءت بشأن البيعة فقد جاءت تالية للبيعة وليس قبلها، لتوافق عليها، لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (الفتح: ١٨)، أو إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (الفتح: ١٠). ليس هنا أيضًا دولة ولا ديمقراطية ولا مؤسسات ولا هيئات، لا شيء، هي برقيات تهنئة وتبريكات سماوية ليس أكثر، وليس فيها فرضٌ للبيعة على المسلمين حتى يُنشِئوا مجتمعًا سياسيًّا إسلاميًّا كما يريد زيدان. يعني المسلمون عملوا بيعة، جاءت الآيات وقالت إن ما فعلوه هو عمل حميد، ليس أكثر.
كل هذا كان عندنا، بينما روسو كان هيمان في غيبيات العقد الاجتماعي؟ لماذا كل هذا الجهد الذي يبذله زيدان وإخوانه بلا طائل، لماذا؟ لماذا يكون الدين هو معيار الديمقراطية؟ كل هذا الجهد لأن أهل الدين كأصحاب مصالح لن يتنازلوا بسهولة، لكني أعتقد أن هذا اللون من الخطاب الذي بين أيدينا هو زفرتهم الأخيرة.
انظر اختياره للألفاظ للتعبير عن دلالاتٍ لا تعنيها بالمرة؛ فالبيعة هي «ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، وأداة إعلانه الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى».
عندما يقول رجل أكاديمي قولًا فلا بد أن يعنيه، لا أن يعتمد على انتشاره في المخيلة الجماعية لكثرة الترديد والتكرار. فإذا كانت البيعة ميثاقًا فلا بد أن يكون هذا الميثاق مكتوبًا، خاصة مع تعلُّقه بأمر مصيري يمس تأسيس المجتمع الإسلامي السياسي، يمتد بامتداد الإسلام، وأن يكون هذا الميثاق موضحًا به كلَّ ما قدَّم الدكتور زيدان، خاليًا من الغموض ومبينًا لأسس ذلك المجتمع وعوامل قيامه بالتفصيل الدقيق، وقد قرأنا المكتوب في كتب السِّير ونصوص القرآن دون أن نجد لهذا الميثاق ذكر. إن نفس الكتب تعرف ما هو الميثاق لذلك دوَّنت بنود المواثيق للتاريخ حتى اليوم، مثل ميثاق صلح الحديبية بندًا بندًا وشرطًا شرطًا، وكان لهذا الميثاق مدة زمنية وليس أبديًّا، فكانت مدَّته عشر سنوات فقط، ومع ذلك دوَّنه لنا التاريخ الإسلامي، فإذا كانت البيعة ميثاقًا ونظامًا أبديًّا في السياسة الإسلامية فلماذا لم يتم تدوين بنود هذا الميثاق بالمرة في أي مرجع إسلامي؛ لأن هناك فرقًا بين الحديبية ووثيقة البيعة، البيعة هي الأهم، ومع ذلك ذُكرت تفاصيل الحديبية بكل دقة رغم أننا لن نطبق الحديبية اليوم وهي المدوَّنة بندًا بندًا، ونريد أن نطبِّق البيعة، وليس لدينا وثيقتها لا في القرآن ولا في حديث ولا في كتب الروايات الإسلامية التي يدعيها الدكتور زيدان، لماذا لم يخبرنا الله بتفاصيل هذا الميثاق إذا كان له كل هذه الأهمية في دين المسلمين.
لماذا لم ينزل على نبيه آية الميثاق أو سورة الدستور؟ إن قوله إن البيعة ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، وبما أن هذه البيعة قد تمَّت في الخبرة الإسلامية زمن الرسول، فالنتيجة المحتَّمة هو أن ما لدينا الآن مجتمع سياسي إسلامي، وهو ما يَرُدُّ طلبَه إنشاء هذا المجتمع؛ لأنه قد تم إنشاؤه بتلك البيعة، لكن لو أسمينا مجتمعنا بالمجتمع السياسي الإسلامي فعليه يمكن لنا افتراضُ مجتمعٍ مسيحي سياسي، ومجتمع بوذي سياسي، ومجتمع هندوسي سياسي، ويكون لهذه المجتمعات خصوصياتها المغايرة لخصوصيات المجتمع الإسلامي، وحتى لا يحدث أي خلط يشوب مغايرة مجتمع المسلمين ومخالفاته للمجتمعات الدينية الأخرى، خاصة مع وصف مجتمعنا تمييزًا له بالمسلم، لم يضع د. زيدان تعريفًا دقيقًا لهذا المجتمع، ولا وضعه غيره من متأسلمين أو إخوان، حتى يمكن للمجتمع إجراء عمليات الفرز والتجنيب للمجتمعات لمعرفة مسلميها من غير المسلمين. لنعرف مثلًا موقع المسلمين الذين يعيشون في الغرب الكافر والشرق الوثني وهي ديار حرب جميعًا، هل يشكل هؤلاء جزءًا من المجتمع الإسلامي المقصود؟ أم إنهم مواطنون يعيشون في أوطان؟ أم إنهم يعيشون جاليات بدون هوية؟ وهل ستنطبق قواعد المجتمع المسلم كالبيعة والشورى على تلك الجاليات؟ هل يذهبون للتصويت في بلادهم حسب الأنظمة المعمول بها في الديمقراطية، أم سيعطون الرئيس بوش البيعة؟ أم تُراهم سيبايعون ابن عاكف وابن قرضاوي بِغضِّ النظر عن الأوطان؟ أم يجب عليهم الانتظار حتى يقوم سَدنة الإسلام بالاستقرار على تسمية الخليفة المقبِل للمجتمع الإسلامي وساعتها يبايعونه؟ أم تُراهم سيختارون فيما بينهم مَن يبايعونه ويعطونه الولاء؟ أم سيختارون هاني السباعي أو أبا حمزة المصري أو أبا قتادة أو أبا فصادة؟ أم سيعيشون في الغرب ويعطون ولاءهم لخليفة من بلادنا جاري البحث عنه؟ وعلينا انتظار اتفاق الفِرَق الإسلامية ربما ألف وأربعمائة عام أخرى ضائعة كالتي ضاعت. كل هذه الأسئلة بلا إجابة لأن الألفاظ بلا معنًى وبلا ضابط، كلها كلام نظري لطيف لا علاقة له بواقع، كلها خيلاء وشعر وفخر بمجتمع غير موجود ولم يُوجد قطُّ.
البيعة كالتزام بالإسلام
هنا يتضح لنا أن الدولة المطلوبة باسم البيعة هي دولة الاستبداد عينه، إنهم من الآن وقبل أن يستبدوا بنا مرة أخرى، يقومون بتقديس وسائل الاستبداد وأدواته ليسلِّم بها المسلمون بحسبانها دينًا وإسلامًا. ألا ترونه يقول إن البيعة هي ميثاق تأسيس المجتمع، لا بل وهي «أداة إعلانه الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى»!
ألا ترون معي أن البيعة لا يصح أن تكون أداة إعلان الالتزام بالمنهج والشريعة بمنطق الإسلام نفسه؟ لأن إشهار الإسلام والنطق بالشهادتين يحمل ذلك الالتزام ويتضمنه؛ فهو جزء في مبناه، بمجرد الدخول في الإسلام يعني الالتزام بمنهجه وشريعته وأحكامه. والحاجة لبيعة لتحقيق ذلك الالتزام بالإسلام يعني شعورهم أن هناك مَن سيرفض حكمَهم ودولتهم، وهنا يتم اعتبار هذه المعارضة عدم التزام بالإسلام؛ لذلك يكون النكوص عن البيعة نكوصًا عن الإسلام.
ولو كان الأمر بهذا المنطق صحيحًا؛ أي إن البيعة موضوعة لإلزام المسلم غير الملتزم، لترتب على ذلك أن تكون البيعة ركنًا من أركان الإسلام تجعل الناس يلتزمون بشريعته ونظامه، ويصبح الإسلام بلا بيعة هو والكفر سواء. كل هذه الإضافات في دين الإسلام يفعلونها ببساطة لأنهم يتحدثون باسم الإسلام، ولا شرعية معهم لذلك، بينما البدعة المكروهة في الإسلام هي «الزيادة في الدين» على اتفاق الفقهاء، إنهم أيضًا يعلمون هذا ومع ذلك يفعلونه. إن الدين ليس هو غرضهم ولا هو هدفهم، إنما هو الكرسي الأعظم في الوطن.
المصيبة أن البيعة بهذا الشكل الذي يسوقه لنا د. زيدان ليست ركنًا سادسًا في دين الإسلام فقط، بل هي الحاكمة على الخمسة أركان الأساسية التأسيسية التي نعرفها، فهي شرط التزام وتنفيذ. الدكتور زيدان يكتب لنا شيكات بدون رصيد، غير قابلة للصرف، ويريد توقيعنا في المقابل على بيعته، فإذا كانت البيعة فرضًا فلماذا احتاس أبو بكر في السقيفة؟ لماذا لم يقل إن البيعة فرض، كما قال «الخلافة في قريش»، وكما قال: «الأنبياء لا يُورِّثون»؟
لماذا لم يحلَّها أبو بكر دفعة واحدة كما فعل بالحديثين السابقين؟ لو كانت البيعة ركنًا إسلاميًّا وميثاقًا معروفًا مفروضًا، لفرضها أبو بكر بحديث نبوي ثالث، وإذا كانت الخبرة النبوية والخبرة الإسلامية مصدرًا هامًّا كأحداثِ واقعٍ وليست تنظيرات فلسفية كما عند روسو، فكيف جاز له أن يقول «إن البيعة هي أداة إعلان المجتمع الإسلامي الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى»؟ ألا يرى أن البيعتين اللتين كانتا مناط حديثه (العقبتين)، كانت قبل اكتمال الشريعة وقبل الهجرة وقبل نزول آية الشورى أصلًا؟ إن البيعتين ببساطة كانتا حلفًا هجوميًّا يكون فيه النبي هو الزعيم الديني، كانت البيعتان قَسَمَ ولاءٍ للنبي والدين لا للدولة؛ فلم يكن هناك دولة.
ناهيك عن كون البيعة لم تُلزِم مَن أعطاها بالإسلام، فلم تثمر مع المنافقين مثلًا لأن الدين اقتناعٌ وليس إعلانًا بالبيعة. زيدان يعلم أننا أسلمنا سلفًا، لكنه يريد منا الحلف والقسم بصدق إسلامنا بإعطاء البيعة؟ المصيبة هنا أن الهدف الحقيقي من البيعة قد اختفى وراء هذا الركام من الكذب والتلفيق، إن الخليفة جالس سلفًا في الصورة وحوْله خلفيته طاقم محترف من تجار الدين ينتظرون البيعة، التي أصبحت شأنًا مقدَّسًا لأنها ركن سادس للإسلام يضمن بقية الأركان!
إن الحديث مع هؤلاء القوم له لذة كشف الباطل ومحاكمة الفاسد وتعريته لكشف مدى استهانتهم بديننا وبناسنا، مدفوعين بالرغبة في تحصيل السيادة السلطانية. انظر مدى الخلط بلعبة الثلاث ورقات الفاسدة، يقول البيعة أداة إعلان المجتمع المسلم التزامه بالمنهج والشريعة والشورى، بينما الإيمان ومقياسه وكميته شأنٌ لا يمكن معرفته؛ لذلك الإيمان شأن فردي تمامًا؛ لذلك كان يوجد منافقون زمن النبي، ومع الإيمان يكون الالتزام بالشريعة من عدمه. أما البيعة فهي شأن جماعي لا يؤثِّر في صدق إيمان الأفراد؛ فالإيمان لا يتعلق بالمجتمع الذي تريدونه «إسلاميًّا» إنما يتعلق بالفرد.
وحسب العقيدة الإسلامية فإنه لا تَزر وازرةٌ وزرَ أخرى، فسوف يحاسب الله الأفراد لأنها أمور تخص الفرد وحده وتعود نتائجها عليه وحده، دون مسئولية على المجتمع أو على الحاكم أو حتى على النبي؛ فالمسئولية الدينية شأن فردي ليس جماعيًّا، فلا البيعة ولا المجتمع بقادرين على إلزام أي فرد بإيمان معيَّن ولا بدين معيَّن، حتى إن النبي المؤيَّد من السماء لم يستطع أن يُلزِم أعمامه بالإيمان؛ لأنه في الزمن الملكي لا إكراه في الدين حتى لو كان بالبيعة؛ فقد حضر عمه العباس البيعة وكان كافرًا (أسلم العباس قبل فتح مكة بساعات).
البيعة كتمكين للأمة
قال زيدان: إن البيعة «هي صيغة تمكين الأمة لا خضوعها، قبل الدولة، وبعدها.» ألا ترون حجم الكذب على التاريخ؟ ابحث في تاريخنا ما شاء لك البحث، فلن تجد هذا التمكين للأمة يومًا، في عهد مَن مِن خلفائنا العظام كانت الأمة متمكنة وغير خاضعة؟ من أين لهم هذه القدرة على التزييف ليأتي بهذا التعريف الذي يجعل الأمة متمكنة من الدولة وليست خاضعة؟ مَن سنَّ هذا من الخلفاء؟ راشدون أو غير راشدين؟ أو أين يمكن أن نجد هذا، في كتب السيرة أم التاريخ الإسلامي أم الفقه؟ أين تحديدًا؟ لن تجد شيئًا بين يديك يدل على هذا المعنى ولو من باب التأويل. إنه يقصد تمكين أهل الدين؛ فهُم كل الأمة، هم حراس الدين، ومَن يُؤتمن على الدين يُؤتمن على الحياة بالضرورة. أما حكاية «الأمة» التي يرددونها طوال الوقت فإن زيدان لا يعرف معناه، ولا الصحابة عرفوا معناه، ولا النبي قال لنا شيئًا عن معناه، ولا أحد منهم شرح لنا وقال ما هي الأمة المقصودة، وأين هي؟ وأين تقيم؟ الغريب هذا الاجتراء على مستقبل البلاد والعباد، بينما لا توجد قاعدة واحدة واضحة ثابتة مدوَّنة بدقة قانونية لتمكين الأمة في تنصيب الخليفة أو خلعه؟ ولو كانت مثل تلك القاعدة موجودة ما حدثت الفتنة الكبرى؛ لأنه بموجبها كان الجميع، الصحابة وعثمان، يعرفون ما يجب فعله، إما خلعه وإما بقاؤه واستسلام كل المسلمين للقاعدة مع خليفتهم وطاعتها دون قتل وقتال وفتن.
لم تكن هناك قاعدة توضِّح هذا أو ذاك. إذا كانت دولة كما يزعمون فالمعنى أنها كانت دولة بلا نظام؛ لأن الإسلام لم يقصد إقامة نظام دولة، بل قصد الدين وحده، ولذلك كان لكل خليفة من الراشدين رأي يختلف عن الآخرين في طريقة استلام الحكم وفي علاقته بالمحكومين. كل شيخ وطريقته في الشغل، ولم يكن هذا الشغل تنويعًا مفيدًا كما يقول لنا أهل الدين، إنما كان ارتباكًا عشوائيًّا، ولم تنتظم الدولة إلا بعد الراشدين وأخذ الخلافة بالنظام الرومي وبعض الفارسي، وفق ملكية وراثية منتظمة إلى حدٍّ ما، فلم توجد في الإسلام عمليًّا في الواقع أية قواعد لوصول أي حاكم لكرسيه؛ الإمام علي كان يريدها دينًا وسياسة، معاوية لم يشغله لا الدين ولا السياسة وأخذها بيعةَ متغلِّب. مَن تمَّت مبايعته عن رضًا من الناس هو عليٌّ ولم تمكِّنه البيعة من الحكم، ومن تمكَّن هو معاوية، إذن البيعة لا بتهش ولا بتنش.
يضع زيدان البيعة ليس مقابل العقد الاجتماعي عند روسو، إنما في مكانٍ أرقى سبق في عمق التاريخ وأنها تحققت في واقع الخبرة النبوية، ومع ذلك فإن أصحاب الخبرة في عمق التاريخ هم اليوم في الدرجات السفلى في رتبة الكائن الإنساني، بينما أصحاب العقد الاجتماعي الوهمي الغيبي هم مَن يمثِّلون رتبة جديدة في فرع الإنسان هي العالم المتمدن الراقي بحضارته التي ننفس الغرب عليها، وهي الحضارة التي قامت على تهويم العقد الاجتماعي المتخلف الغيبي! والفكرة الأساسية في عقدهم الاجتماعي هي التي دفعت زيدان وإخوانه لإعادة فحص ركامنا لاستخراج ما يكون بديلًا لها، أو ينافسها، أو يعادلها، أو حتى يشبهها كلامًا، وهذا أضعف الإيمان! فلما لم يجد شيئًا قام يقيم مدينته الفاضلة تخيُّلًا ووهمًا، ودليل أنها مجرد أخيلة وهلاوس هو عدم توصُّل هذا الخطاب إلى أي جديد يمكن تطبيقه حتى هذه اللحظة.
زيدان لا يُقِر بفضل روسو نكايةً فيه لأنه سمح لنفسه أن يكون من العلماء الكبار دون أن يشهر إسلامه، ودون أن يفهم زيدان أنه سواء أقرَّ أم لم يقرَّ فلن يقدِّم شيئًا ولن يؤخِّر؛ لأن المجتمعات التي قامت على فكرة العقد الاجتماعي عند روسو قد نهضت بالفعل وأصبحت هي المجتمعات التي تُوصَف بالمجتمعات الحرة، وليس المسيحية ولا اليهودية ولا الإسلامية؛ فالمجتمعات التي تُطلِق على نفسها اسمًا دينيًّا في العالم اليوم، هي المجتمعات المتخلفة وحدها.
العجيب في شأن سادتنا عدم إدراكهم ما بأيديهم من متناقضات؛ فبينما يؤكد الدكتور زيدان البيعة كمقدس دونه الكفر، يستشهد بأحاديث: «من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات موتة جاهلية، ومن مات وقد نزع يده من بيعة كانت ميتته ميتة ضلالة»، يقول لنا «وهي (أي البيعة) ليست ممارسة قهرية بل اختيارية حرة»، ثم يدرك الخلل فيبرِّره بقوله في مهرجان كلامي عجيب: «والالتزام الديني ببيعة وفق حديث مَن مات وليس في عنقه ميتة جاهلية، يعني ببساطة أن البيعة وإدارة تولي السلطة ووجود إدارة سياسية في المجتمع الإسلامي تنظِّم شئونه وتدير مصالحه، هو شرط التمدن الإسلامي، وتجنب الوقوع في الفوضى التي قد تضيع مقاصد الشرع وبالتالي تعود جاهلية … إلخ.» في وسط هذه المتاهة يمكننا أن نخلص إلى أن البيعة يمكن أن تكون اختيارية دون أي دليل شرعي نقلي أو حتى عقلي فيما قال، المهم أنه يريدها اختيارية لتجنُّب الوقوع في الفوضى التي قد تضيع مقاصد الشرع … إلخ، وهو ما يعني أن المسلمين قبل ذلك منذ زمن الدعوة وحتى الآن قد عاشوا في فوضى ضيَّعت الشرع وعادت جاهلية، وليس فقط الحكومات في الدول الإسلامية المعاصرة.
لنقرأ معًا كتاب الجهاد من فتح الباري باب «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر …» فيه حديث لأبي هريرة عن قزمان الذي قاتل مع النبي في غزوة أُحد وكان شديدًا على المشركين وقتل وحده ما قتله الجيش كله، فأُصيب إصابة شديدة فقتل نفسه من الألم فقال النبي: «إنه من أهل النار.» ونعيد قراءة كتاب روضة الطالبين، الطريق الثالث لتولي الإمامة «فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام فتصدى للإمامة مَن جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعًا للشرائط بأن كان فاسقًا أو جاهلًا فوجهان أصحهما انعقادها لما ذكرنا، وإن كان عاصيًا بفعله.»
وعليه يمكن اعتبار الخلافة قائمة، فلماذا يبحثون عن دولة إسلامية وخليفة؟ لماذا لا يعتبرون حكام المسلمين ممن تصدَّوا للإمامة بشوكتهم وجندهم، وإن كان الحاكم فاسقًا أو جاهلًا، حتى يستقر المجتمع المسلم؟ إذن ليس الدين هو هدف الدكتور زيدان ولا كل كوكبته من إخوان، إنما هي السلطة، وما أسوأهما من خيارين أمام شعوبنا، الحكومات الاستبدادية القائمة في الدول الإسلامية، أو زيدان ورفاقه.