ادفنوا موتاكم!١
على عينا وراسنا كلُّ ألوان الخطاب التدليلي التبجيلي لمؤسسة الأزهر، لكنني أعتقد أنه مع حركة الإصلاح فلا أحد فوق المؤاخذة أو كبير على المساءلة، ومن هنا سأحاول إلقاء نظرة تاريخية على الأزهر للوصول إلى نتيجةٍ نستطيع أن نحكم فيها على أدائه كمؤسسة حكومية وطنية، خاصة في ظل مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان، والتي سنصر طوال الوقت على طلب تفعيلها في واقعنا حتى نصدِّق ما يحدث ونتفاعل معه ونحترمه.
إن الأزهر يقوم في مبادئه على أهدافٍ ثابتة وغايات أسمى، هي تخريج قادة للفكر الديني، هدفهم إنقاذ العالم من الظلمات والأخذ بيده إلى النور؛ أي إلى الإسلام، ويقدِّم للدارسين فيه معارف ومهارات يؤكد أنها الأفضل في العالم كله؛ لأنها موروثة عن الزمن القدسي عندما كانت الأرض على اتصال بالسماء في بلاد أخرى تقع على الجانب الشرقي من البحر الأحمر، وأن الرب قد اختار هذه المنطقة وباركها وحرَّمها وبخاصة مكة والمدينة، فأصبحتا أقدس المواقع على الأرض، وأن الله الذي أوحى لعبده هناك هو الأدرى بما يصلح لمخلوقاته منهم.
وهنا نقول كلامًا تقريريًّا لا بلاغيًّا، إن هذا الفكر عندما يكون الخلفية والأساس الذي يقوم عليه التعليم الأزهري، فهو ما يعني أن هذا اللون من التعليم ظل دون تطوُّر أو تغيُّر أو تبدُّل أو انفتاح، تأسيسًا على مسلَّمة تؤكد أن خير القرون في الزمان كله كان بالحجاز في القرن السابع الميلادي.
وتقوم المسلَّمة على حديث نبوي بهذا المعنى، فيترتب عليها أن أي تغيير يتفاعل مع متغيرات الواقع وتقدم الزمن؛ يعني أن هناك نقصًا في مأثورنا وتراثنا الكامل المقدَّس، وحتى لا يكون هناك أي نقد تم تشريع الحدود التي تقنن قطع الأطراف وجز الأعناق والجلد والسلخ في حال التفكير، مجرد التفكير، بما يتناقض مع تراثنا الخالد أبد الدهر، تفنى الدهور ولا يفنى.
والمعلوم أن التعليم في بلادنا قد انقطع عن تخصصاته القديمة في جامعات الإسكندرية وأسيوط وطيبة، ومدارسه المتخصصة في الفنون والعلوم على اختلافها، فمع الفتح العربي أصبح التعليم في بلادنا كله دينًا، وبعضه دين، وما يُستنتج منه دين؛ وذلك لكفالة طاعة المواطنين لسيادة سلطة تمثِّل جماعة أو هيئة أو طائفة، مهمتها أن تقوم بالتفكير نيابة عن كل المواطنين، لأن الوطن ليس بحاجة لتفكيرٍ أكثر مما هو بحاجة إلى دين وذمة وشرف … إلخ، وتُعتبر هذه السيادة السلطوية نفسها العقل المفكر القادر المبدع المتمكن من إدارة كل الشئون داخليًّا وخارجيًّا؛ وذلك لأن العوام قاصرون عن إدارة شئونهم بالخلقة والفطرة.
ومع هجمة الأسلمة التي أتتنا مع زوبعةِ ما يسمونه «الصحوة الإسلامية» تمكَّن السعودي ابن عبد الوهاب من إعادة فتح مصر، وقام كل أسيادنا من القبور، يشيرون لنا كي نسمع ونطيع، هكذا قال ابن تيمية، وهكذا قال الغزالي، وهكذا قال ابن عبد الوهاب، وهكذا قال ابن قطب، وهكذا قال ابن عاكف، وهكذا قال ابن هويدي. لقد نهض موتى التاريخ ليحكمونا مرة أخرى كسادة لنا يقولون قولًا مقدسًا، بعد أن ظلوا يقولون ما ينوف على ألف وأربعمائة عام، ظلوا أربعة عشر قرنًا يقولون وحدهم ولا ينطق غيرهم، ومعهم لا قول لشعب ولا لمواطن عبر التاريخ الهباب غير قول آمين.
ماذا يقول الطالب الدارس؟! وهل مسموح له أن يقول أمام البخاري أو الشعراوي وباقي جحافل أصحاب هذه الأقوال المقدسة المنزهة وحدها؟! إن الطالب في ظل هذا المنهج التعليمي لن يفهم أبدًا أن من حقه أن يقول، فهذا شيء عُجاب، وبدعة ما لها في شرعنا من باب. ألا ترون المسلمين في الفضائيات يخاطبون أصحاب القداسة بقولهم: يا شيخنا، ويا مولانا، ويا سيدنا، في اعتراف بائس بأن العبودية كحامل لهذه الثقافة قد ختمت الأرواح بالذلة والمسكنة؟! ألا تسمعونهم يطلبون الفتوى على الملأ في أخص الشئون حتى أدخلوهم معنا في مخادع الزوجية؟!
ألا ترون مدى الصَّغار ومدى التمكُّن من الأرواح والعقول حتى بات الواحد منا لا يخطو خطوة دون أن يعرف فيها رأي مشايخنا؟!
وفي المقابل لا بد أن يستشعر الشيخ أنه شخص استثنائي غير باقي الناس؛ فهو سيدهم، وهو مَن يخطط لهم، وهو مَن يضع لهم القوانين، ويكون له الحق كل الحق من بعد أن يكفِّر هذا ويرضى عن هذا، أن يشكل خطرًا على هذا النظام، وأن يضغط على ذلك الفريق، ومِن ثَمَّ أن يلعب سياسة لأن جمهوره يقدِّسه، وهو الفائز بحول الله.
وكلنا يعلم أن الهدف من إنشاء الأزهر كان هو دعم توجهات الفاطميين بمصر، ومع تغيُّر الأنظمة الحاكمة والمذاهب المسيطرة، تقلب الأزهر في جلسته مع كل جديد على مستوى السلطة، وأثبت أنه يمكنه التغيُّر مع المستجدات، فانتقل من التشيع الفاطمي إلى المذهب السني في نقلة نقيضة بالكلية، ومن بعد ذلك أثبت مرونة مذهلة في التحول والتغير، فكان مع اشتراكية عبد الناصر، ثم مع الانفتاح الاقتصادي، وكان مع الحرب، ثم أصبح مع السلام، وهي مرونة تحسده عليها كل الهيئات الدينية المشابهة في العالم.
لكن عندما يتعلق الأمر بحريات المواطنين أو بحقوق الإنسان الأساسية كحق الحرية وحق الاعتقاد وحق إعلان الرأي، فإن الأزهر كان يتخذ أشد المواقف تزمتًا وانغلاقًا وأصولية شديدة المراس. وهو أمر يؤدي إلى التساؤل عن سرِّ هذه الازدواجية ما بين أزهر مرن قادر على تطوير نفسه وتطويع الإسلام لما هو جديد، وبين وقوفه ضد حقوق المسلمين وحرياتهم الأساسية!
هل كان موضوع مشايخ الأزهر عبْر التاريخ هو استمرار الحظوة السلطانية وهباتها اللدنية فقط؟! هل كان مع ما يريد الحاكم حتى لو قهرًا واستعبادًا، ويصبح ضد شعبه عندما يطلب أن يكون المواطن إنسانًا كبقية الناس في العالم، وإنسانًا كريمًا كرَّمه الله؟!
والملاحظ لتاريخ الأزهر سيكتشف أنه رغم كل ما حصل عليه من قداسة ورفعة، فإنه لم تثبت عليه يومًا اهتمامات وطنية بالمعنى المفهوم من كلمة وطنية، ومن كلمة مواطنة؛ لأن لغته واهتماماته وموضوعاته وتاريخه وكل ما يتعلق بشأنه الدعوي يأخذنا إلى وطنٍ أهم وأقدس من مصرنا، يأخذنا إلى حيث أسيادنا في الحجاز. ولا أتهم الأزهر أنه انشغل يومًا بناسنا الذين هم على مختلف الاصطلاحات؛ غوغاء، رعية، أهل ذمة، أنباط، علوج، موالي، بقدْر ما انشغل بكيف يوجِّه العوام ليدفعوا لله والحاكم خراجهم وجزيتهم، كما لا أتهم الأزهر بأنه حقق سبقًا في ميدان حقوق الإنسان؛ لأنه ضدها حتى الآن، وأكثر ما يحز في نفسي كمسلم أن الأزهر لم يسعَ مرة إلى رقي الأمة، أو دعوتها إلى نقل الحضارة من بلاد المتقدمين إلى بلادنا، حتى بعد أن أدرك مدى تخلُّفه مع مجيء الحملة الفرنسية، ومع ذلك لم يطور الأزهر نفسه، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فهو ما كان بالأصل قادرًا على تطوير الأمة.
حتى بعد بونابرته، وقف الأزهر ضد كل اكتشاف أو اختراع أو حرية؛ لأن كل ذلك خروج على الإيمان، لأنه لم يخرج من لدنهم هم، ولا يبقى إلا أن تسألهم: ومَن أعجزكم عن فعل مثل فِعْلهم وأن تتطوروا مثل تطوُّرهم؟! هل كان المسلمون سيقولون لكم لأ؛ هذا كفر؟!
وعبْر السنين السوداء السوالف التي كان فيها أجدادنا يروون أرض مصر الطيبة بعَرَقهم ودموعهم … وحتى الآن، كان رجال الأزهر هم محل الوجاهة الاجتماعية والوجوه المقدمة، تحترمهم الرعية وتجلُّهم، بل تتبارك بهم وتتقدس، لكن هذه الرعية التي كانت تقبِّل الأيدي طلبًا للرضا السماوي، لم يكونوا موجودين في أجندة مشايخنا؛ لأن مصدر رزق مشايخنا ووضعهم السيادي مستمد وقائم على عدم الأخذ في الاعتبار بشئون الرعية في القرارات السيادية؛ لذلك كان رجال الأزهر هم الطبقة الحقيقية الحامية للحكام من أجل استقرار الأوضاع الاجتماعية على ما هي عليه دومًا، ومِن ثَمَّ كان الأزهر هو الحامي الحقيقي لمنظومة الاستبداد الشرقي في دولةِ خراجٍ تتركز كل السلطات فيها عند القمة، حيث السادة والأشراف والبكوات والفاتحون، ولم يكن للشعب سوى دور واحد هو تنفيذ الأوامر والصدع بالفتاوى ودفع المطلوب منه لتقسيمه على مائدة اللئام! ثم آل الأزهر في النهاية إلى حليف للحكومات الوطنية، أخذ بموجبه مكانًا سياديًّا يتم تعيين شيخه بقرار جمهوري مع تلقيبه بالإمام الأكبر وبدرجة رئيس وزراء!
وكلنا يعلم أيضًا أنه بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر، فإن محمد علي لم يلجأ للأزهر مع عزمه وكارزميته وخططه لبناء مملكة قوية، إنما اتجه أولًا إلى التخلص من كل مراكز القوى الفاسدة في مذبحة القلعة، ثم اتجه ثانيًا نحو أوروبا، ولم يستطع الأزهر حينها أن يقدِّم بديلًا وطنيًّا أو قوميًّا أو دينيًّا أو محليًّا للتحضُّر كالغرب، لم يكن عنده ما يفيد به الأمة وينهض بها، كان خالي الوفاض، كان لا يعرف سوى التخديم على السلاطين، وهو ما استمر يقوم به، لكن النهضة زمن محمد علي تركته إلى بعْث البعثات واستجلاب الخبراء وخطط الإصلاح الغربية، فنهضت مصر لتصبح ندًّا للدول العظمى في عصرها منذ قرنين من الزمان، وقامت نهضتها على الانفتاح على العلم بمعناه العصري الإنساني الكشفي الابتكاري التجريبي، وأيامها قال أحدهم: لو كان لمشايخ الأزهر أي نفع لَأَخَذهم معه نابليون إلى فرنسا.
ولا بد من توضيح بدهية معلومة وهي أننا عندما نتحدث عن الأزهر لا نتحدث عن الإسلام؛ لأنه ليس في القرآن أو الحديث شيء اسمه أزهر أو رجال أزهر، وبالنظر إلى حال الأزهر سنجد أنفسنا بإزاء حالة متخفية تتحرك في عالم حفري؛ لأن علماء الأجناس والحضارات يقولون لنا إن أية حضارة سليمة لا بد أن يضيف إليها الجيل الواحد إضافات ابتكارية جديدة تصل إلى نسبة ١٥٪ لتفسح المجال للتطور والنمو والازدهار، بينما تعلقت قلوب الناس في بلادي برجال الدين، فإن رجال الدين في بلادي ما زالت غاية أمانيهم أن نعود معهم إلى القرن السابع ميلادي! هي دعوة إلى «الخلاء» حيث لا تاريخ، ولا وجود.
وإذا طالعنا كشف حساب الأزهر في تأدية مهمته التأسيسية، وهي حماية دينه ومجتمعه، بما له من كرامة مرفوعة وأموال مدفوعة ليؤدي دوره التربوي والديني، ولأنه قلعة ديننا الحصينة بالفرض الضروري ليبرِّر وجوده، فإن أزهرنا لم يحصِّن نفسه ولا مجتمعه ولا دينه، وفشل بكل سلطانه القادر في إرساء مبادئ الدين السمح ومعاني الأمن والأمان أو التطور بالدين ليتماشى مع متطلبات الزمن، لقد فشل الأزهر في ذلك ولم يستطع مواجهة الفكر التكفيري، بينما من تصدى لهذه المهمة للحفاظ على الدين وعلى الناس وعلى الوطن، هم المفكرون الليبراليون الذين يكفِّرهم الأزهر، وإنهم في ذلك أصحاب الفضل العظيم الذي لا ينكره إلا فاسد الضمير والأفاق اللئيم. لقد فشل الأزهر لأن الفيروس اخترقه مبكرًا، بينما أَمِن الليبراليون من الإصابة عندما تحصنوا بطعم الحضارة.
لقد فشل الأزهر في أداء دوره لله وللوطن وللناس عندما أصرَّ، ولم يزل يصر، على مسلَّمة أن «الحق لا يتغير».
نعم إن الحق والخير والجمال هي قيم مطلقة بين بني الإنسان، لكن معيار القيمة نفسه قد تغير بمرور الزمن، واكتسبت هذه القيم معاني جديدة، وللتبسيط الشارح أتساءل: هل تكون مضاجعة رجل لامرأة رغم إرادتها بحجة أنها جارية أو ملك يمين أو سبيةَ حربٍ … خيرًا؟! أم هو هتك عرض علني بموافقة القانون الشرعي؟!
وهل يظل القانون الذي يشرِّع هذا قانونًا ملائمًا اليوم؟! وهل مضاجعة صغيرات البنات حتى سن تسع حسب المبدأ السني المعلوم هو خيرٌ اليوم أم شرٌّ؟! وهل الفنون الجميلة بأنواعها من موسيقى إلى مسرح إلى باليه إلى غناء وطرب إلى فن تشكيلي رسمًا أو نحتًا أو تصويرًا، مما يرتقي بالحس الإنساني ويؤدي إلى رهافة الروح … هل هذا شر أم خير؟! وهل تفجير زوار الحفيد النبوي في مساجد العراق في يوم الجمعة، وتمزيق أشلاء الأبرياء من شيعة أو سنة أو نصارى العراق … هو خير أم شر؟ يبدو سادتي أن الأزهر بما يعلنه يعيش زمنًا غير زماننا، وعلينا نحن أن نراجع شئونه، وقبل هذا وذاك أن نراجع فهمنا لقيم الحق والخير والجمال بما يوافق زماننا.
والعجيب أن الأزهر يراوح مكانه دون أن يلتفت شرقًا إلى بلاد المقدسات ليرى الإصلاح وهو يدق أبواب الأرض المقدسة، ونوافذ محمد بن عبد الوهاب، ثم قام الأزهر يصلح ويعالج بعد أن دقَّت أمريكا عاصمة الخلافة، منذرة بقية الأنظمة الخليفية في المنطقة، لكن الأزهر قام يصلح بنفس الفكر ونفس الأدوات وذات المنهج والمنطق، فهو يعالج بينما هو حامل الوباء، ويداوي بالتي كانت هي الداء. مشايخنا ما زالوا عند قديمهم لا يدركون أن القيم أيضًا متغيرة، وأن الحق ليس واحدًا، وأن الخير والجمال أيضًا قد أصبحا قيمتين إنسانيتين لا طائفيتين، بل تشملان جميع البشر.
كان يُفترض في الأزهر بالنسبة للدين أن يكون كوزارة الصحة بالنسبة للمواطنين، لكنه عندما لم يتحرك اخترقه الوباء واستشرى فيه وانتشر؛ فإذا برجاله يُصدِرون فتاوى قتل الأبرياء فيُستشهَد فرج فودة، ويُطعَن نجيب محفوظ، ويقفون ضد الحملة التي قامت للقضاء على عادة ختان الإناث بفتاوى محتشدة، ويكفِّرون بنوك الدولة ويحرِّمون معاملاتها بما يضرب الاقتصاد الوطني في مقتل.
فذهب الناس يُودِعون أموالهم بيوت الأموال الإسلامية برعايةٍ مباشرة علنية دعائية من رجال الدين في بلادنا من شعراوي إلى قرضاوي، إلى أزلامهم ممن وفَّروا للصوص نهب فقراء مصر وتدمير اقتصادياتها، عندما ركن الناس إلى ثقتهم في مشايخهم بإيمانٍ تسليمي خانع خاضع يبحث عن ربح سريع دون بذل أي جهد، فكان ما كان، وكم حذَّر أخي وصديقي الراحل ممجَّدًا فرج فودة من بيوت الأموال (ارجع لكتابه «الملعوب»)، وقدَّم فيه الدراسات الوافية بحسبانه اقتصاديًّا مُبَرَّزًا ووطنيًّا مخلصًا، في وقتٍ كان المشايخ يعلنون ويدعون لبيوت الأموال، وأيضًا يقبضون أجورهم من هذه البيوت من مال الفقراء، وقتلوا فرج بفتاواهم وفرُّوا بأموال الناس، ولم يقُم واحد فقط ممن قبضوا من هذه الأموال بردِّها حتى تعود لأصحابها، من شعراوي إلى قرضاوي وما بينهما وما بعدهما من أزلام، ومع ذلك ما زال عوامُّنا يعتبرونهم السادة والأسياد.
لقد ظلوا يقولون ألفًا وأربعمائة عام (أربعة عشر قرنًا) البخاري يقول … وابن عباس يقول … وابن تيمية يقول … وابن لادن يقول … ليضيفوا لإسلامنا ما لم يكن فيه يومًا، وكلهم ليسوا بأنبياء، لقد قالوا طويلًا وقننوا طويلًا، لكن اليوم مَن سيقول، هو نحن … الناس، وسنقول كل مختلف عن المعلوم بالضرورة، وسنعلن كل رأي يضرب الخطوط الحمراء جميعًا، ويهتكها هتكًا، وسنتجاوز كل الأسوار المانعة القامعة من ثوابت الأمة، سنقول مصالحنا ومعاشنا ومستقبلنا وحرياتنا وحقوقنا الإنسانية، نريد عندما ينزل المواطن المصري بلدًا لا يفتشون حتى ما تحت ملابسه الداخلية، نريدهم أن يستقبلوه هاشين باشين حفاوة بإنجازه وعلمه ونبوغه، لقد انتهى بنا مشايخنا إلى كاريكاتير دموي ومحل هزوء وسخرية واحتقار من شعوب العالم، بعد أن وأدوا وقتلوا كل جميل في بلادنا.
اليوم لم تَعُد معاهد العلم مكانًا لتعليم الناس الإيمان، فهو أمر يحصله الإنسان بنفسه عندما يريد، ولم تَعُد مكانًا يحفظون فيه التراث؛ لأن التراث يُحفظ بدار الكتب أو المتاحف، معاهد اليوم هي التي تقوم بصنع الإنسان الحي لا الميت ولا المخدَّر بأحلام أموات لم تتحقق يومًا ولا حتى في زمانها القدسي، معاهد اليوم مهمتها أن تعلِّم الناس ما ينفعهم بالعمل والجهد المنتج المبهج.
أما التراث وأهله الملتحفون بأكفان الموتى فقد آنَ لنا أن نودِّعهم اليوم غير آسفين داعين أهل مصر: يا أهل مصر … ادفنوا موتاكم، وبلا عزاء!