مقدمة

«جدير بالمثقفين الأوروبيين أن يقدِّموا الشكر لفرنسا لانتزاعها مسلةً من أعماق الطمي المتراكم في مصر، ومن الجهل البربري للتُّرك؛ فالأوروبيون هم أصحاب الحق في الآثار القديمة؛ لأنهم وحدهم يعرفون كيف يتذوقونها، فهي حقيقةً تخص من لهم الحق الطبيعي في رعايتها وجني ثمارها.»

الكابتن فرانك سان-مور
رحلة الأقصر (١٨٣٥م)

«إنه لمؤسف حقًّا أن تكون الآثار آثارنا، والتاريخ تاريخنا، ولكن من يكتبون تاريخ مصر القديم ليسوا من المصريين … غير أننا لا نملك سوى التعبير عن إعجابنا بالأستاذ سليم حسن لبراعته في علم الآثار ولاكتشافاته الأثرية الدائمة، والتي كان آخرها الهرم الرابع.»

صحيفة «البلاغ» المصرية، ٢٦ فبراير ١٩٣٢م

يعالج هذا الكتاب الكيفية التي تناول بها المصريون (ومعظمهم من الوطنيين)، والأوروبيون (ومعظمهم من الإمبرياليين)، حقبًا معينة من تاريخ مصر الممتد فيما بين غزو نابليون لمصر في العام ١٧٩٨م، واندلاع نيران الحرب العالمية الأولى.

وتعود البداية الأوروبية لعلم الآثار في مصر إلى زمن الحملة الفرنسية، فقد اكتشف الجنود الفرنسيون حجر رشيد صدفة عام ١٧٩٩م، واستطاع جان فرانسوا شامبليون أن يحل رموز النص الهيروغليفي المدوَّن عليه بعد ثلاثة وعشرين عامًا من ذلك التاريخ، ففتح بذلك الباب أمام علم «المصريات» الحديث. وعلى مدى نصف القرن الذي يقع بين ١٨٥٨م و١٩٠٨م، لعب الأوروبيون الدور الرئيسي في تأسيس مصلحة الآثار المصرية وأربعة متاحف تاريخية هي: المتحف المصري (للعصر الفرعوني)، والمتحف اليوناني الروماني، والمتحف القبطي، ومتحف الفن العربي (ويعرف الآن بمتحف الفن الإسلامي). وخلال نفس الفترة — نصف القرن — أحكم الاستعمار الأوروبي قبضته على مصر؛ مدفوعًا لتحقيق متطلبات الثورة الصناعية: الحاجة للقطن وغيره من المواد الخام، والسعي لإيجاد أسواق وفرص استثمار فيما وراء البحار، واحتدام مشكلات الإنتاج الواسع، والصراعات بين الدول الأوروبية. وبدا وكأن علم الآثار والإمبريالية يسيران معًا يدًا بيد.١

وعندما تعرَّف المصريون على علم الآثار عن طريق الأوروبيين، بدءوا يدركون — تدريجيًّا — إمكانية استخدامه لخدمة أهدافهم الوطنية. وعندما أيقن المصريون من الدور الحيوي الذي يلعبه علم الآثار — في صياغة هويتهم القومية — راحوا يلتمسون السبل التي تتيح لهم تدريب الآثاريين المصريين، وهيأ ذلك المسرح للتحدي الوطني للهيمنة الأوروبية على المؤسَّسات الآثارية المصرية، وللتفسيرات الغربية الإمبريالية لتاريخ مصر.

كانت الاعتبارات الجيوبوليتكية وحدها هي التي دعت الأوروبيين في القرن التاسع عشر إلى محاولة السيطرة على مصر، ولكن الرؤية المبهرة لتاريخها السحيق أعطت تلك المحاولات دفعة قوية. فقد أحس الغربيون الذين يطئُون أرض مصر أنهم يدخلون عالم الفراعنة، عالم التوراة، والإغريق والرومان، والقرآن، وألف ليلة وليلة. وقد عبَّرت فلورانس نايتنجيل عن هذه العوالم الأربعة في جملة واحدة حين قالت: «هنا عاش أوزيريس وعباده، وسار إبراهيم وموسى، وإلى هنا جاء أرسطو، وفيما بعد جاء محمد٢ ليتعلم مبادئ دينه ويدرس المسيحية، ولعل أُمَّ مخلِّصنا (السيدة مريم) جاءت بابنها إلى هنا ليفتح عينيه على النور.»٣

ولم تكن تلك الزوايا الوحيدة التي رأى الغربيون من خلالها تراث مصر؛ فورثة السحر رأوا في مصر منبع الحكمة السحرية، وما زال الإيمان بالسر الخفي للأهرام موجودًا حتى اليوم. وتصوَّر البعض الآخر من الغربيين أنفسهم صليبيين عادوا لاسترداد مواقعهم المفقودة، وإن كان ذلك أكثر ارتباطًا بفلسطين وسوريا، مثلما كان شعور الجنرال اللينبي عند دخوله القدس عام ١٩١٧م، والجنرال جورو عند دخوله دمشق عام ١٩٢٠م. وراح الرومانسيون الذين افتقدوا عالم ما قبل الثورة الصناعية في بلادهم، راحوا ينشدون في البدو «الأرستقراطية الطبيعية» والمُثل الخلقية الفطرية، ورأى بريطانيو الهند في المصريين الصفات الوراثية للشرقيين الذين يمكن حكمهم بالأساليب التي استُخدمت في الهند. ولما كانت الحكمة غائبة عن الجميع، كان السؤال الأساسي يتعلق بنوع الغرابيل التي يمكن استخدامها لاستخلاص حقيقة مصر، ومدى اتصال ذلك بالواقع المصري وتعبيره عنه.

وثمة رؤيتان فرنسيتان ترمزان إلى ارتباط الغرب بالآثار المصرية طوال القرن التاسع عشر، إحداهما: فاتحة المجلد الأول من كتاب «وصف مصر» الذي أعدته الحملة الفرنسية، وثانيتهما: مبنى «المتحف المصري» الذي افتُتح عام ١٩٠٢م وما زال يُستخدم حتى اليوم؛ ففي فاتحة المجلد الأول من «وصف مصر» رسم إطار زخرفي غني، يدعو ناظره إلى الغوص في مناظر النيل الخلابة من الإسكندرية إلى أسوان (انظر الشكل رقم ١).٤ فهذه بلاد قديمة مليئة بالخرائب الفرعونية، ولا نرى أثرًا إسلاميًّا بينها. أو منظرًا للقاهرة، أو سكان مصر المحدثين. وعلى رأس الإطار منظر عارٍ لنابليون في صورة أبولُّو أو الإسكندر، يصوِّب رمحًا من عربته الحربية بينما يخر المماليك أمامه، ووراء «البطل» اثنتا عشرة من إلهات الفنون (في الأساطير الإغريقية) يُعدن إلى مصر الفنون لتستقر في أرضها الأسطورية التي نبعت منها.
وبعد ذلك بقرن من الزمان، خلَّدت واجهة «المتحف المصري» عام ١٩٠٢م، وحديقة النصب التذكاري لمؤسسة أوجست مارييت، أبطال علم المصريات الأوروبي منذ نابليون (انظر الشكلين ٢، ٣). وتضمنت قائمة رواد علم المصريات الأوروبيين: ستة من الفرنسيين وخمسة من البريطانيين، وأربعة من الألمان، وثلاثة من الإيطاليين، وهولندي، ودانماركي، وسويدي (انظر الشكل ٤). وخلت القائمة من أسماء المصريين. وثمة لوح تذكاري آخر أكد المدخل الكلاسيكي الذي أطال من خلال الغرب النظر إلى مصر القديمة، إذ يبرز اللوح هيرودوت، وإراتوس، ومانيتو، وهور أبولُّو. واحتل ذلك اللوح مكانه بين ألواح أخرى خلدت حكام مصر القدامى والعلماء المحدثين.
وعلى جانبَي مدخل المتحف، نُحت تمثالان جداريان يمثلان إلهة الوجه القبلي، وإلهة الوجه البحري (انظر الشكل ٥) يرتدي كلٌّ منهما «عباءة مبتلة» على نحو ما جرت عليه تماثيل النساء عند الإغريق، حيث تكشف تلك العباءة عن تفاصيل الجسد، وذلك في وقت كانت فيه نساء الطبقة العليا في مصر يعشن في عصر الحريم ولا يستطعن الخروج من بيوتهن دون نقاب. وجاء نقش اسم الخديو عباس حلمي الثاني على المدخل طبيعيًّا، ولكنه لم يقدم ترضية كافية للمشاعر الوطنية (انظر الشكل ٦)، فقد كُتب النص باللاتينية التي لا يعرفها إلا الندرة من المصريين، وجاءت إضافة السنة الهجرية إلى جانب السنة الميلادية كنوع من الترضية ولكنها كُتبت باللاتينية أيضًا وبطريقة الترقيم الرومانية. وقد تعني بذلك واجهة المتحف عند المصريين أن «علم المصريات أوروبي خالص، وهو العلم الذي كشف عن عظمة مصر القديمة التي تعد أصل الحضارة الأوروبية، وأن المصريين المحدثين لا يستحقون أن يكونوا ورثة قدماء المصريين، فهم لم يصلوا إلى عظمتهم، ولم يأخذوا علم المصريات مأخذ الجد.»٥
وكان للمصريين نظراتهم الخاصة بهم في مجال السياسة وعلم الآثار؛ فعلى الصفحة الأولى من أحد أعداد العام ١٨٩٩م لصحيفة الأطفال المصرية «السمير الصغير» التي لم تعمر طويلًا، وُضعت مصر القديمة في بؤرة النهضة الوطنية الحديثة (انظر شكل ٧٦ فأشعة الشمس التي ترمز إلى «نور المعرفة» تتجه نحو الأم التي بدت في زيها الوطني، والتي توجه أنظار أطفالها إلى الأهرام وأبي الهول. واحتل عباس حلمي الثاني (وليس نابليون) قمة المشهد الذي أحاط به أربعة من رموز الإصلاح من رجال الدولة والمعلمين والعلماء، ثلاثة منهم يحتلون موقعًا مهمًّا من كتابنا هذا، وهم: رفاعة الطهطاوي، ومحمود الفلكي، وعلي مبارك. وبذلك وُضعت عند ختام القرن التاسع عشر البذور التي أنبتت أُكُلها في العشرينيات من القرن العشرين التي اتسمت بالاعتزاز القومي بالماضي الفرعوني وعلم المصريات.

لم يكن العصر الفرعوني وحده الذي ادعى العلماء الغربيون وشعوبهم حقهم فيه، فقد كان للأوروبيين فضل الريادة في تأسيس متاحف أخرى في مصر: المتحف اليوناني-الروماني بالإسكندرية، ومتحف الفن العربي (الإسلامي الآن) بالقاهرة، وهم الذين ألهموا من أسسوا المتحف القبطي، وكما رأينا في «المتحف المصري»، عبر كل المتاحف الثلاثة عن أحد الفروع العلمية القائمة، وعن عصر من عصور تاريخ مصر الضارب في أعماق الزمن، ومع وجود هذه المتاحف والحقول المعرفية التي اتصلت بها، شعر المصريون بالحاجة إلى تكوين وتدريب المتخصصين الذين يعطون مصداقية لتطلُّع المصريين إلى تولِّي مهمة دراسة وتفسير مختلف عصور تاريخهم المديد.

وجاء تتابُع تأسيس المتاحف ليعكس أولويات الاهتمام الأوروبي بمصر أكثر من تعبيره عن الأولويات المصرية. فجاء تأسيس «المتحف المصري» للآثار الفرعونية نتيجة اهتمام الأوروبيين بالكشف عن الحضارة المصرية القديمة، وكان الاهتمام بالإغريق تأكيدًا لأهمية هذه الحضارة كأصل للحضارة الغربية. وتسمية «المتحف المصري» وعلم «المصريات» تعكس الأهمية الكبرى التي يوليها الغرب للعصر الفرعوني، وكان من المنطقي أن يتضمن علم المصريات دراسة لتاريخ مصر في مختلف عصور التاريخ، ولكن المصطلح صيغ في منتصف القرن التاسع عشر ليعني دراسة تاريخ مصر القديم مع اعتبار العصرين اليوناني-الروماني والقبطي نتاجًا له. وهذا الاستثناء للعصرين الإسلامي والحديث يعني — بصورة أو بأخرى– «أن مصر فقدت هويتها عند نهاية تاريخها القديم».٧

وجاء تأسيس متحف القاهرة للفن العربي تاليًا لتأسيس «المتحف المصري» نتيجة عمل «لجنة حفظ آثار الفن العربي» التي تأسست عام ١٨٨١م، وكان تأسيس اللجنة لهذا المتحف الذي افتُتح عام ١٨٨٤م تعبيرًا عن افتتان أهل الغرب بالآخر «الشرقي»، ولا يدخل هذا الاهتمام — بحال من الأحوال — في نطاق سعي الغرب للبحث عن جذوره الحضارية.

وأعقب ذلك تأسيس المتحف اليوناني-الروماني عام ١٨٩٢م الذي لم يقم بالقاهرة، وإنما أقيم بالإسكندرية العاصمة البطلمية لمصر. ومن السهولة بمكان تعريف الأوروبيين في إطار الحضارة الإغريقية-الرومانية أكثر من حضارتَي مصر القديمة والإسلام. فقد قلل الكثيرون من فضل مصر القديمة على اليونان والرومان، واعتبروها مجرد نقطة ارتكاز في الطريق إلى الحضارة اليونانية-الرومانية العظيمة. ومع وجود العديد من المتاحف التي ضمت آثار اليونان والرومان في أوروبا، كان إنشاء متحف آخر بمصر لا يحتل الأولوية.

ولكن بحلول عام ١٨٩٢م، ومع وجود نخبة من البريطانيين المثقفين ممن حكموا مصر، ووجود جاليات أوروبية كبيرة، أصبح الوقت مناسبًا لإقامة هذا المتحف؛ ففي إيطاليا كانت الطبقات العليا تبحث منذ عصر النهضة عن الآثار الرومانية القديمة وأعطى القوميون الذين أسسوا الوحدة الإيطالية في القرن التاسع عشر دفعة جديدة لتلك الجهود، وتعاقب على إدارة المتحف اليوناني-الروماني ثلاثة من المديرين الإيطاليين الذين بذلوا الجهود لدعم الجانب الثقافي من مطالب بلادهم في تلك الولاية القديمة من ولايات الإمبراطورية الرومانية.

وكان المتحف القبطي — الذي أُسس عام ١٩٠٨م — آخر المتاحف الأربعة التي تمت إقامتها في مصر. لقد ظل الكاثوليك والبروتستانت في الغرب ينظرون إلى الكنيسة القبطية منذ زمن بعيد على أنها هرطقة تعكس عيوب «البيئة الشرقية». ولكن المسيحيين الغربيين — واليهود فيما بعد — اهتموا بعلم الآثار لإقامة الدليل على صحة الكتاب المقدس في مواجهة دعاوى العلمانية والنزعة العلمية، دعمًا لقضيتهم. وقد جاسوا خلال فلسطين وبقية بلاد الهلال الخصيب بحثًا عن الأدلة الأثرية التي تدعم دعواهم، وكان من الصعب عليهم تجاهل بلد النيل (مصر) التي ارتبط بها يوسف، وموسى، والمسيح، وأمه مريم، والقديس مرقص. ويرجع الأقباط أصل كنيستهم إلى القديس مرقص، وهم الذين ابتدعوا نظام الرهبنة المسيحية. وفي التسعينيات من القرن التاسع عشر، اهتم بعض الأوروبيين بالفن القبطي والعمارة القبطية، وكان حماسهم مصدر إلهام مرقص سميكة فكرة تأسيس «المتحف القبطي»، وكان المتحف فريدًا في نوعه، يديره مؤسِّسه المصري، ولا يخضع لسلطة الدولة وإنما ترعاه الطائفة القبطية.

والغرض الرئيسي لهذا الكتاب هو كتابة تاريخ المصريين المحدثين من خلال دراسة تاريخ هذه المتاحف والمؤسَّسات والعلوم التي ارتبطت بهم: علم المصريات، والدراسة القديمة (الكلاسيكية)، والدراسات القبطية، والفن والعمارة الإسلامية. فالكتابات الغربية في تاريخ تلك العلوم تعكس عادة النظرة الإمبريالية التي طبع بها ذلك العصر، وحتى الكتابات التي احتفت بها، همشت دور المصريين. ويهتم هذا الكتاب — أيضًا — بالبحث في المفاهيم الأكثر شيوعًا عن المصريين فيما يتعلق بماضيهم — في مصر والغرب على حد سواء — ومدى صلتها بالإمبريالية، والقومية والهوية المصرية.

وكانت تلك التطورات التي شهدها علم الآثار المصري والمتاحف جزءًا من عملية دولية، سعت من خلالها الدول والشعوب لتقديم نفسها باعتبارها «أممًا حديثة»، وكان البون شاسعًا بين أن يكون أو لا يكون المرء مواطنًا لإحدى الدول الغربية الكبرى: بريطانيا، أو فرنسا، أو ألمانيا، أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية؛ تلك الدول التي حظي نفوذها السياسي والاقتصادي باعتراف العالم أجمع. وكانت المتاحف التي أُنشئت في المستعمرات كمصر والهند، ساحات متميزة للنضال من أجل الاستقلال الوطني. أما البلاد المستقلة شبه الطرفية كاليونان، وإيطاليا، والإمبراطورية الروسية، والمكسيك، فقد بُذلت فيها جهود مضنية لدراسة وعرض ما يتصل بماضيها لخدمة أهداف توسعية عكست — بدرجات مختلفة — ملامح علم الآثار في البلاد المستقلة والمستعمرة على السواء.

ويحاول هذا الكتاب تقديم أطروحة ذات مستويات خمسة؛ أولًا: المقابلة بين التواريخ المألوفة للآثاريين الغربيين والتاريخ المهمل لنظرائهم المصريين، فما زال علم الآثار المصرية يحتاج إلى أن يُكتب عنه الكثير حتى بعد ميشيل فوكو، وإدوارد سعيد، وعودة الاهتمام بأنطونيو جرامشي، والفرضيات الوضعية حول المعرفة التقدمية، الموضوعية، «العلمية». فالذين يحتلون على مسرح علم الآثار المصرية دور «البطولة» هم: شامبليون، ريتشارد ليبسيوس، أوجست مارييت، جاستون كاميل شارل ماسبيرو، أدولف إرمان، فلندزر بتري، هوارد كارتر، جيمس برستيد، وجورج ريشنر. بينما تحجب الظلال المصريين باعتبارهم ملاحظي عمال أكفاء، وخدمًا مخلصين، وعمالًا، ولصوص جبَّانات، وتجار عاديات، وموظفين معوقين للعمل، ووطنيين مهووسين. ومن المقابلات التي لا جدال فيها، مقابلة شامبليون ورفاعة الطهطاوي، وكذلك إدوارد لين ورفاعة الطهطاوي، وماسبيرو وأحمد كمال، وماكس هيرتز وعلي بهجت، على نحو ما فعلنا في هذا الكتاب لتحدي الفكرة السائدة عن تفرد الغربيين في علم الآثار المصرية، دون أن نقلل من حجة مساهمات الغربيين أو نبالغ في مساهمات المصريين أو أوجه التشابه بين الفريقين، ولندحض الفكرة القائلة باستحالة التقاء الطرفين، وأن تاريخ علم الآثار كان غربيًّا محضًا، يلعب المصريون فيه دور المتفرج.

لقد أسقطت الطبعة الأولى (١٩٥١م) من موسوعة أعلام علم المصريات (Who Was Who in Egyptology) اسم رائد المصريات المصري أحمد كمال، ولم يذكر في الطبعتين الثانية والثالثة إلا عرضًا، وإن خصته الطبعة الثالثة من هذه الموسوعة البريطانية الشهيرة (١٩٩٥م) بعشرين سطرًا، على حين كان نصيب ماسبيرو ٨٢ سطرًا، ونصيب بتري ١٣٤ سطرًا. ولا شك أن ماسبيرو وبتري كانا عملاقين، ولكن التعامل مع أحمد كمال بهذا القدر من الإهمال يحتاج إلى تفسير. إن الموسوعات من هذا النوع تهدف إلى استخلاص «العلم» من السياق السياسي الاجتماعي، ولا تضع في اعتبارها الانتماء القومي للأعلام أو الصراعات الشخصية ولكن ما فعلته «موسوعة أعلام علم المصريات» يحول دون فهم علم المصريات كما عاشه أولئك الرواد.٨ كانت سيادة اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية في حقل المصريات أحد العوامل المهمة التي أعطت للأوروبيين ميزة بارزة في هذا المجال.
أما المستوى الثاني للأطروحة فهو وضع تاريخ علم الآثار والمتاحف في المجرى العام لتاريخ مصر الحديث. فبعد احتدام الحركات الوطنية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، زعم علماء الآثار الغربيون أنهم أقاموا أسس علمهم على قواعد الموضوعية ونبذ المنفعة. وفي العقدين الماضيين تعرَّض هذا الزعم لهجوم متزايد بافتراض أن الأهداف السياسية كانت كامنة وراء علم الآثار في الغرب،٩ ولكن بالنسبة لمصر بدأت عملية إعادة التقويم. فلا يُذكر مارييت وماسبيرو إلا باعتبارهما من كبار علماء المصريات، ولكن يجب أن يذكرا أيضًا باعتبارهما ممثلين بارزين للإمبريالية في عصرهما، وعناوين مثل «اغتصاب النيل»، و«اغتصاب مصر»، و«اغتصاب توت عنخ آمون»، تعكس الاعتراف الغربي الراهن بالجانب الإمبريالي من علم المصريات في القرن التاسع عشر، ولكن هذه الكتب تترك الغربيين يتصدَّرون المسرح، وتترك للمصريين دور «الضحايا».١٠
غير أن المؤرخين المصريين المحدثين ركزوا جهودهم في مراجعة التاريخ على مجالات أخرى، ولم ينل علم الآثار إلا القليل من اهتمامهم؛ فالقليل من المصريين والأقل من الغربيين يعرفون شيئًا عن أحمد كمال، أو علي بهجت، أو مرقص سميكة؛ وغير هؤلاء من المصريين الذين تناولهم هذا الكتاب معروفون بشكل أفضل، كالجبرتي، والطهطاوي، وعلي مبارك، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين، والملك فؤاد؛ ولكن علم الآثار، والمتاحف والتاريخ القديم، لا يدخل ضمن ما عُرف عن هؤلاء. تُرى من يتذكر أن طه حسين عندما عُين أستاذًا بالجامعة كان أستاذًا للتاريخ اليوناني-الروماني وليس أستاذًا للأدب العربي؟١١

وفي المستوى الثالث للأطروحة التي يقدمها هذا الكتاب، يتسع إطار النظر إلى تواريخ علوم المصريات، والدراسات اليونانية-الرومانية، والدراسات القبطية، والعمارة والفن الإسلامي، ليضمنها جميعًا معًا. فمجال هذه العلوم الأربعة هو ماضي مصر، ولكن المتخصص في واحد منها نادرًا ما يهتم بما يخرج عن إطار تخصصه، وأحيانًا يمتد اهتمامه إلى العصر السابق أو اللاحق لمجال تخصصه. والتخصص في واحد من هذه العلوم ضروري بحكم اختلاف اللغات وطرق الكتابة والأديان في كل عصر من تلك العصور عنها في غيره، ولكن حدود التخصص والعصور التاريخية قد تترك آثارًا سلبية على الدراسات نفسها. وقد ارتضى المؤرخون المصريون المعاصرون أن يتركوا تاريخ علم الآثار للآثاريين (ولهواة الكتابة من غير المتخصصين)، مما يؤدي إلى نقص في دراسة تاريخ علم الآثار؛ فرغم أن كتابة الآثاريين فيه مطلوبة إلا أن مؤرخي مصر الحديثة أقدر على وضع تطور ذلك العلم في سياق تاريخ مصر الحديث.

ويتناول المستوى الرابع من أطروحة هذا الكتاب، الاهتمام العلمي والشعبي بتاريخ مصر، في مصر، وكذلك في الغرب. وغالبًا ما تقوم الدراسات التاريخية لعلم المصريات وغيره من تخصصات الآثار المصرية، بتنحية الأفكار الشعبية المتصلة بموضوع دراستهم، رغم ما في بعضها من إثارة للخيال: فالأدبيات الخاصة «بالولع بمصر» طرقت موضوعات فرعونية في الرسم والتصوير الفوتوغرافي، وطرز الملابس، وأدب الرحلات، والروايات، والأغاني الشعبية، والموسيقى الكلاسيكية، والمعارض الدولية، وكتب الدليل السياحي، وبطاقات البريد، وطوابع البريد، فابتداءً من «معرض لندن الكبير» (أو قصر الكريستال) في العام ١٨٥١م، لم يكن هناك معرض دولي يستحق أن يسمى كذلك إذا غاب عنه «جناح مصر». وعلى الجانب المصري التفتت الأنظار مؤخرًا إلى الرموز الفرعونية التي استخدمها دعاة الاستقلال الوطني في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين.١٢ وفي تتبعي لهذه الظاهرة فضلت أن أصفها «بالولع المصري بالعصر الفرعوني» أو «الحماس الشعبي تجاه مصر القديمة» نحو «الفرعونية» أو «النزعة الفرعونية» التي تثير عند الكثير من المسلمين الصور المستهجنة للوثنية وطغيان فرعون الذي عانى منه موسى وبنو إسرائيل على نحو ما جاء به القرآن (والإنجيل).

ولا يتضح دائمًا الحد الفاصل بين «علم المصريات» و«الولع بمصر الفرعونية»؛ فمن بين أصحاب الاتجاه الأخير نجد مارييت، وزميله الألماني هنريش بروجش، وعضو اللجنة المهندس المعماري ماكس هرتز الذي سعى لضمان الأصالة المصرية في تصميم الجناح المصري في المعارض الدولية، واستخدم كارل بايدكر، وتوماس كوك، وجون موراي العلماء من أهل الاختصاص لكتابة بعض فصول كتب «الدليل السياحي» التي حملها السياح معهم في رحلاتهم المتجهة إلى الصعيد. وتنوع الرسامون والمصورون الغربيون من السياح إلى الآثاريين. وكتب جورج إيبرس كتيبات في علم المصريات، كما كتب بعض الروايات التي تناولت موضوعات من عصر الفراعنة. وتولى مارييت — عالم المصريات — إدارة مصلحة الآثار والمتحف، بينما عبر عن ولعه بمصر القديمة من خلال كتابته النص الذي أصبح أوبرا «عايدة» لفردي، وقد أصر على أن تكون ملابس الأوبرا مطابقة تمامًا للزي الفرعوني، ولكن ماذا يجدي الإصرار على الأصالة مع تلك الموسيقى الأوروبية البديعة التي لا صلة لها بمصر القديمة، والتي لم يستطع تذوُّقها المصريون المعاصرون له؟

أما المستوى الخامس لأطروحة هذا الكتاب فيتناول المناورات التي درات بين «الوطنية» و«الإمبريالية» من ناحية، والموضوعية المثالية لعلم ذي طبيعة دولية من ناحية أخرى. ولم ينجح كل من الغربيين والمصريين في التوصل إلى حل معضلة أن يكونوا مواطنين صالحين لمجتمعَين متخيَّلَين؛ أحدهما سياسي ذو طبيعة خاصة (إما إمبريالي غربي، أو مصري وطني)، والآخر عالمي. ففي الاقتباس الذي نستهل به هذه المقدمة، برر سانت-مور نقل مسلة من الأقصر إلى باريس بالمزج بين مخاطبة «مثقفي أوروبا» كمبرر عالمي الطابع، والوطنية والإمبريالية الفرنسية.١٣ وبعد ذلك بقرن من الزمان كتب مصري مجهول في صحيفة «البلاغ» القاهرية صيغة بليغة جمعت بين العالمي والوطني معًا عندما قال: «إن العلم لا وطن له؛ لأنه ثمرة الفكر البشري المتطلع لتحقيق الخير للإنسانية، ويجب ألا يعرف العلم حدودًا جغرافية، وأن يتخلص تمامًا من شبهة التحيز الوطني. غير أننا لا نملك سوى التعبير عن إعجابنا بالأستاذ سليم حسن، لبراعته في علم الآثار، ولاكتشافاته الأثرية الدائمة والتي كان آخرها الهرم الرابع.»١٤
وتقدم الإمبريالية الغربية في مواجهة الوطنية المصرية، إطارًا ضروريًّا لهذا المستوى من الأطروحة، لا يتسم بالبساطة، ولكنه ليس كافيًا. فقبل عام ١٩١٤م أبدى الآثاريون الغربيون (الإنجليز، والفرنسيون، والألمان، والإيطاليون، والنمساويون، والأمريكيون) اتجاهات إمبريالية في تعاملهم مع الآثار المصرية. وكان بعض أولئك العلماء أكثر تسيسًا من الآخرين. وكان الصراع بين بعض الأفراد من جنسية واحدة بالغ الحدة أحيانًا. وتباين الآثاريون المصريون أيضًا في درجة التزامهم الوطني وسبل التعبير عن ذلك الالتزام. وقصر الغربيون المناصب الكبرى على أنفسهم أحيانًا، مسيئين بذلك إلى حرمة العلم المتسم بالتقدمية، واتهموا المصريين بأنهم مجرد «وطنيين متطرفين». لأنه — على حد قول فرانز فانون — «تُستخدم الموضوعية دائمًا ضد كل من يتسم بالوطنية».١٥
ولا يُغفل هذا الكتاب الجدل الخلَّاق الذي دار بين إدوارد سعيد ونقاد الاستشراق من ناحية، والمؤرخين ذوي العقلية الإمبريقية من نقاد إدوارد سعيد وغيره، فقد أبرز سعيد الدور المعقد للمستشرقين الذين يريدون فرض الإمبريالية الغربية على العالم الإسلامي.١٦ ويذهب المؤرخون من نقاده أن سعيدًا يبحث عن باطن النصوص ليضع يده على ما يدين به الاستشراق، وأن نقده للاستشراق مفرط في الأيديولوجية، ويستند إلى وقائع تاريخية بعينها تفتقر إلى الدقة.
ويذكر جون ماكنزي في كتابه: «الاستشراق: التاريخ، والنظرية، والفنون» أنه رغم التفاوت في القوة، كان اتصال الغربيين «بالشرقيين» يسير في اتجاهين، وأنه أدى إلى نتائج متعددة غير متوقعة. وفي تناوله للفنون تحديدًا، رأى أن الكثير من الفنانين المستشرقين: من الرسامين، والمعماريين، والمصممين، والمسرحيين، والموسيقيين لم يبدُ منهم عداء للشرق، كما لم يروِّجوا للإمبريالية.١٧ وأشار إدموند بروك الثالث إلى أن تركيز سعيد على مقدمة فورييه لكتاب «وصف مصر» المحملة بالأيديولوجية، حجبت عن سعيد مغزى هذا العمل. ويقول إن كتاب سعيد (الاستشراق) يعيد إنتاج نفس الأساسيات والتعميمات، مغطاة بطلاء من الرعاية الإمبريالية التي استخدمتها، فهي ذات سلالة معروفة، ولكن ليس لها تاريخ.١٨ ويعترف كارتر فندلي في مقاله: «عثماني مستغرب في أوروبا» بالرؤية الثقافية للاستشراق التي قدمها إدوارد سعيد، وطرح خطوطًا أخرى مثمرة للتفسير.١٩
ويقدم هذا الكتاب — من حين لآخر — مقترحات حول نقاط في حاجة إلى إضافة أو دراسة متعمقة، فيذهب برانسنجت دوارا — من منطلق مدرسة «المهمشين» — إلى ضرورة «إنقاذ التاريخ من الأمة».٢٠ وقد يحاول البعض ذلك باسم الموضوعية «ذلك الحلم النبيل»، ولكن بيتر نوفك يثير الشك حول صلاحية هذا الاختيار.٢١ ويرى أصحاب مدرسة «المهمشين» أن مقولة الوطنية أداة لتأكيد هيمنة النخبة الحاكمة على عامة الناس (المهمشين)، والحواضر على الأقاليم، والرجال على النساء. ونستطيع أن نقدم رواية تاريخ علم الآثار المصرية كما تروى «من أسفل». أو من وجهة نظر بعض المصريين:٢٢ المرأة، الأقباط، أهل الصعيد، التراجمة، عمال التنقيب عن الآثار، تجار العاديات، بحارة السفن النيلية، الفلاحين من قرى الجيزة أو القرنة، الجماعات الإسلامية التي هاجم أفرادها السياح.٢٣ ورغم إدراك برانسنجت دوارا لواقع مجتمع ما بعد الاستعمار، فإن قصة المراحل الأولى لمحاولات المصريين في مجال علم الآثار هي «إنقاذ الأمة من الإمبريالية» الذي يمثل الخط الرئيسي في هذه الدراسة.

وهذا الكتاب لا يقدم تاريخًا شاملًا لعلوم المصريات أو الدراسات القبطية أو الدراسات اليونانية-الرومانية أو الفنون والعمارة الإسلامية. ولأن الكتاب يركز على التطورات التي شهدتها مصر ذاتها في القرن التاسع عشر، فقد تم تهميش علماء المصريات من أمثال صامويل برش — الذي كان يعمل بالمتحف البريطاني — وأدولف إرمان الذي كان أستاذًا بجامعة برلين الذين فضلوا العمل في حقل الكشوف الأثرية، بدلًا من البقاء في بلادهم داخل قاعات الدراسة وباحات العرض المتحفي. ولكن مارييت وماسبيرو يبرزان هنا بسبب طول فترة خدمتهما في مصر ونشاطهما المؤثر فيها.

وبالنسبة للحقبة الزمنية التي يتناولها الكتاب، يعد القرن التاسع عشر من ١٧٩٨م حتى ١٩١٤م مناسبًا للوفاء بالغرض الذي ننشده، فقد ذهب المتصدون لهذا العصر بالدراسة إلى التردد بين قدوم حملة نابليون في ١٧٩٨م وتولية محمد علي في عام ١٨٠٥م باعتبارها الحد الفاصل بين «العصر الوسيط» و«العصر الحديث» في مصر.٢٤ فافتراض أن «الغرب» الحركي الطابع قد أثر في «الشرق» الراكد لا يصمد أمام النقد، فهناك استمرارية للكثير من الظواهر تمتد جذورها حول ذلك الفاصل الزمني بين العصرين. ورغم ذلك اتخذنا عام ١٧٩٨م نقطة انطلاق لهذا الكتاب؛ لأنه لولا مجيء الحملة الفرنسية لما اكتُشف حجر رشيد، ولما كُتب «وصف مصر»؛ فبدون حجر رشيد ربما تأخر حل رموز الهيروغليفية، وبدون حل تلك الرموز يظل التاريخ الفرعوني مجهولًا.

وعلى كلٍّ، فلا مناص من بروز مصر الحديثة وعلم المصريات، ولكن في سياق زمني آخر، وبفعل عوامل أخرى.

ويتوقف الكتاب عند عام ١٩١٤م الذي شهد تقاعد كل من ماسبيرو وأحمد كمال، وقيام الحرب العالمية الأولى التي أوقفت نشاط علماء المصريات من الألمان والنمساويين العاملين في مصر. وتوقف — أو كاد — نشاط العلماء الإنجليز والفرنسيين، وفتح رحيل النمساوي ماكس هرتز من لجنة حفظ الآثار العربية وإدارة «متحف الفن العربي»، فتح الباب أمام تمصير إدارة المتحف على يد علي بهجت. وعند نهاية الحرب العالمية الأولى، قامت ثورة ١٩١٩م. وأصدرت بريطانيا تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م الذي أعطى مصر نوعًا من الاستقلال المنقوص، وبدأت حقبة جديدة شبه استعمارية في تاريخ السياسات الوطنية والمتاحف وعلم الآثار، وعلى مدى العقود الثلاثة التي أعقبت التطور سارت عملية تمصير العمل في الآثار وغيرها من مرافق الحكومة بخطى مناسبة، وإن كانت الأبواب الخلفية أتاحت للأوروبيين أن يمسكوا بأيديهم زمام التحكم في السلطة حتى ثورة ١٩٥٢م.

ويستند الكتاب إلى المادة الوثائقية والمصادر المنشورة بالعربية واللغات الغربية التي دعمت بالمقابلات الشخصية. فقد تم استخدام الوثائق غير المنشورة المودعة بدار الوثائق القومية ودار المحفوظات العمومية بالقاهرة، ووثائق الخارجيتين البريطانية والفرنسية، ومحفوظات المتحف البريطاني، ومتحف جامعة بنسلفانيا. وكان أهم ما عثرنا عليه حتى الآن المخطوطة التي لم يسبق استخدامها من قبل، والتي تضم مذكرات مرقص سميكة مؤسس المتحف القبطي.

ويعالج الباب الأول «البدايات الإمبريالية والوطنية» الفترة السابقة على الاحتلال البريطاني عام ١٨٨٢م، فيتناول الفصل الأول التصورات الغربية والإسلامية لمصر القديمة قبل القرن التاسع عشر، والحملة الفرنسية وكتاب «وصف مصر» وتطور التنافس الإنجليزي-الفرنسي في ميدان المصريات حتى منتصف القرن، ويبرز الفصل مساهمات الجبرتي ورفاعة الطهطاوي، ومحمد علي، ويوسف حككيان في تاريخ المصريات الذي يعالج — غالبًا — من منطلق المركزية الأوروبية.

يوضح الفصل الثاني مدى مساهمة السفن البخارية والسكك الحديدية، وكتب الدليل السياحي الحديثة، والفنادق السياحية في اختراع السياحة الجماعية التي لعبت فيها مصر وشركة توماس كوك دورًا قياديًّا. ويرجع الفضل في ظهور عصر السياحة الجديد إلى التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدها الغرب عندئذٍ. وحظيت كتب الرحلات والرسوم والصور الفوتوغرافية التي تناولت موضوعات ومشاهد مصرية باهتمام كبير من جانب العلماء، ولكن الدور الذي لعبه المصريون في هذا المجال ما زال بحاجة إلى المزيد من البحث.

أما الفصل الثالث، فيعالج علم المصريات في ثلاثة عقود تتركز في عصر إسماعيل الذي مهد الطريق للاحتلال البريطاني في العام ١٨٨٢م. فمع امتداد ظلال الإمبريالية الغربية بعد منتصف القرن، شجع ولاة مصر: سعيد وإسماعيل: مارييت على تأسيس مصلحة الآثار المصرية والمتحف المصري. وقام مارييت بإشباع نزعة الولع بمصر الفرعونية عند الأروربيين بالترتيبات التي وضعها لاحتفالات افتتاح قناة السويس، ونص أوبرا عايدة، وجناح مصر بالمعرضين الدوليين بباريس. وكتب الطهطاوي أول كتاب بالعربية عن تاريخ مصر القديم، وقام علي مبارك — ناظر المعارف — بجلب هنريش بروجش من ألمانيا ليتولى إدارة «مدرسة اللسان المصري القديم»، وبدأ بعض المصريين المساهمة في نشاط الجمعية الجغرافية الخديوية، والمجمع العلمي المصري، والمؤتمرات الدولية للاستشراق.

ويتناول الباب الثاني فترة ازدهار الاحتلال البريطاني (١٨٨٢–١٩١٤م)، ويضم فصلًا عن كل من المتاحف الأربعة، والتخصصات الأثرية التي ارتبطت بكل منها. وقد استهلت هذه الفترة — سياسيًّا — بكرومر، وختمت بكتشنر، بينما سيطر ماسبيرو وبتري على مشهد علم المصريات. وتناول علي مبارك آثار مختلف العصور في موسوعته الشهيرة «الخطط التوفيقية»، وتولى أحمد كمال وعلي بهجت ومرقص سميكة تكوين جيل جديد من المتخصصين في مختلف فروع التخصصات الآثارية.

ويعالج الفصل الرابع المتحف اليوناني-الروماني والدراسات القديمة (الكلاسيكية)، فقد أهمل الإمبرياليون الإنجليز والفرنسيون في مصر، من نابليون إلى كرومر وكتشنر، آثارَ الإسكندر وقيصر، وازدهر المتحف اليوناني-الروماني بفضل من تولَّى إدارته من الإيطاليين: جيسب بوتِّي، وإيفرستو برشيا، وقدمت الجمعية الآثارية بالإسكندرية ذات الطبيعة الدولية، وكذلك بلدية الإسكندرية، الدعم اللازم للمتحف، ولم يظهر أي متخصص مصري في الدراسات القديمة أو الآثار اليونانية-الرومانية من مستوى أحمد كمال وعلي بهجت ومرقص سميكة حتى نهاية فترة الدراسة، ولكن نفرًا قليلًا من المصريين تابعوا أعمال علماء الغرب الإمبريالي في حقل الدراسات القديمة، ووجدوا فيها مَعينًا جديدًا للمعرفة.

أما الفصل الخامس، فيتناول علم المصريات في تلك الحقبة، حيث يقف في الجانب الأوروبي ماسبيرو، وبتري وصندوق الكشوف الأثرية، بينما يقف في الجانب المصري أحمد كمال وحيدًا. وغطت الخلافات الحادة بين الآثاريين الإنجليز والفرنسيين على الضجة التي أثارها حادث فاشودة في السودان عام ١٨٩٨م، وكان للوفاق الودي عام ١٩٠٤م جانبه الآثاري إضافة إلى جانبه السياسي، وقامت الحكومة بنقل المتحف من بولاق إلى الجيزة ثم استقر في موقعه الحالي بميدان التحرير. وحوالي نهاية القرن التاسع عشر استأنف الألمان حفائرهم في مصر، وبدأ علماء المصريات الأمريكيون يضعون أقدامهم في هذا الميدان، وانهمك أحمد كمال في بذل الجهد في مجال المصريات، ونشر الوعي بتاريخ مصر القديم بين مواطنيه، وبذلك ساعد الكتَّابَ والسياسيين المصريين من أمثال أحمد لطفي السيد على التماس جذور فرعونية للقومية المصرية.

ويتحول الفصل السادس إلى «لجنة حفظ الفن العربي» و«متحف الفن العربي»، والصحوة المعمارية الإسلامية الجديدة. وقد وجَّه أعمالَ كلٍّ من اللجنة والمتحف بنجاح في الفترة من ١٨٨١م حتى ١٩١٤م كلٌّ من يوليوس فرانتز الألماني، وماكس هرتز اليهودي المجري (من رعايا إمبراطورية النمسا والمجر)، بقدر كبير من النجاح. وحاول يعقوب أرتين — الأرمني الكاثوليكي — أن يلعب دور حلقة الوصل بين العلماء الأوروبيين والمصريين. وعمل علي بهجت تحت رئاسة هرتز لمدة عشر سنوات قبل أن يبدأ حفائره الرائدة في الفسطاط عام ١٩١٢م. وجاء رحيل هرتز المفاجئ بعد عامين ليفتح الطريق أمام علي بهجت ليصبح مديرًا لمتحف الفن العربي.

وخُصص الفصل السابع للدراسات القبطية والمتحف القبطي. والفصل يعتمد أساسًا على مذكرات مرقص سميكة التي لم يسبق استخدامها من قبل. ويضع الفصل الآثار القبطية والتاريخ القبطي في إطار الجدل الذي يدور بين الأقباط حول الإصلاح الاجتماعي، وفي سياق السياسة الوطنية المصرية. ويعكس عنوان هذا الفصل «الأبناء المحدثون للفراعنة» الانتماء عميقَ الجذور لمصر القديمة الذي بدأ بعض مثقفي الأقباط تأكيده عند نهاية القرن التاسع عشر.

وبعد أن لخصت الخاتمة التطورات التي شهدتها المجالات الأربعة لعلم الآثار على مر القرن التاسع عشر، أشارت إلى التغيرات التي حدثت بعد الحرب العالمية الأولى. ففي عام ١٩٢٢م ربط التصريح البريطاني بإعلان استقلال مصر، واكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، بين علم المصريات والنزعة القومية عند المصريين بشكل أكثر وضوحًا من ذي قبل، فاستفاد المصريون من استقلالهم الجديد في افتتاح جامعة حكومية عام ١٩٢٥م، وكان من بين أقسام الجامعة قسم للآثار والمصريات وقسم للدراسات الأوروبية القديمة (الكلاسيكية). وبعد ذلك بعامٍ أُدخل برنامج للدراسات العليا في الآثار الإسلامية، وأبدى المشتغلون بالعمل الوطني فخرهم واعتزازهم بأجدادهم الفراعنة، وعبَّر عن ذلك الكتَّاب، والرسامون، والمعماريون، والنحاتون، ومؤلفو الكتب الدراسية، ومصممو طوابع البريد في استخدامهم للرموز الفرعونية.

وفقد علم الآثار بوفاة أحمد كمال عام ١٩٢٣م، وعلي بهجت عام ١٩٢٤م، رائدَين مصريَّين لعلم الآثار في فترة حرجة من تاريخ مصر، وجاء سقوط وزارة سعد زغلول عام ١٩٢٤م ليحبط الآمال في تحقيق الاستقلال التام. وخلال ربع القرن التالي أحكم بيير لاكو وإيتيان دوريوتون قبضة الفرنسيين على مصلحة الآثار المصرية، وخلف أكيل أدرياني، برتشتا في إدارة المتحف اليوناني-الروماني، وآلت إدارة متحف الفن العربي إلى جاستون فييت. وتولى الأوروبيون رئاسة قسم الآثار بالجامعة المصرية. وفي عام ١٩٣٣م، أسَّس الكابتن كييل أرشيبالد كامرون كرزويل شعبة الآثار الإسلامية بالجامعة. وكان درايتون، وفييت، وكرزويل علماء كبارًا لم يتأثروا بهجوم غلاة الوطنيين ضد الأجانب. وكان على ثورة ١٩٥٢م التي قادها عبد الناصر أن تحقق هدفين كانا مثار قلق جيل ثورة ١٩١٩م هما تحقيق الاستقلال التام، وتمصير العمل في المتاحف وعلم الآثار.

١  «علم الآثار» يُعنى بدراسة المجتمعات القديمة من خلال ما يتم العثور عليه من آثار مادية في الحفريات. وقد استخدمنا المصطلح في هذا الكتاب ليعني «التاريخ القديم» (ويجمع بين الفلسفة والتاريخ)، وقد ساد هذا المعنى في العقود الأولى من القرن العشرين. وأخذت بهذا المفهوم كلية الآثار بجامعة القاهرة حتى الآن، ويركز قسم الآثار الإسلامية فيها على التاريخ والفن أكثر من اهتمامه بالحفائر.
٢  هذا نص الاقتباس من نايتنجيل، أورده المؤلف ونقلناه بأمانة، ولا يعني ذلك أن النبي محمدًا تعلَّم مبادئ الدين في مصر. (المترجم)
٣  Florence Nightingale, Letters From Egypt: A Journey on the Nile 1849-1850 (New York), 33.
٤  رغم أن المجلد الأول من «وصف مصر» يحمل تاريخ ١٨٠٩م فإنه لم يُنشر إلا في ١٨١٠م. انظر: Commission des monuments d’Egypt, Description de l’Egypt, vol. 1, Paris 1809, Frontispiece.
٥  انظر: Benedict Anderson, Imagined Communities, 2nd ed. (London 1991), 181; Karl Baedeker, Egypt and the Soudan, 8th ed. (Leipzig 1929) 88.
حيث يذكر أن فردينان فيفر هو النحات الذي صنع تمثالَي إلهة الوجه القبلي وإلهة الوجه البحري على جانبي مدخل المتحف.
٦  Bertrand Millet, Samir, Mickey, Sindbad et les autres: Histoire de la presse enfantine en Egypt (Cairo 1987) 30-31.
وقد تأسست «السمير الصغير» عام ١٨٩٧م لتقديم المعلومات المصورة للأطفال.
٧  A. Zvie, “L’Egypte ancien ou l’Orient perdu et retrouvé” in D’un Orient l’autre, 2 vols. (Paris 1991), 1: 38.
٨  W. R. Dawson, Who Was Who in Egyptology (London 1951), W. R. Dawson and Eric P. Uphill, 2nd ed., (1972); W. R. Dawson, Eric P. Uphill and M. L. Bierbrier, 3rd ed., (1995).
٩  Bruce Trigger, A History of Archaeological Thought (Cambridge, Mass., 1989); Bruce Kuklick, Puritans in Babylon: The Ancient Near East and American Intellectual Life 1880–1930 (Princeton, N.J., 1996): Suzanne L. Marchand, Down From Olympus, Archaeology and Philhellenism in Germany, 1750–1970, (Princeton, N.J., 1996).
١٠  Brian M. Fagan, The Rape of the Nile (London 1975); Peter France, The Rape of Egypt: How Europeans Stripped Egypt of Its Heritage (London 1991); John and Elizabeth Romer, The Rape of Tutankhamun. (London 1993).
١١  كان المقرَّر الذي تولَّى طه حسين تدريسه بالجامعة المصرية عام ١٩١٩م هو «تاريخ الشرق القديم»، وقد قام بتدريسه مركِّزًا على التاريخ اليوناني الروماني وموقع مصر منه.
١٢  Israel Gershoni and James Jankowski, Egypt, Islam and the Arabs, The Search For Egyptian Nationhood, 1900–1930, (New York 1986).
والكتاب يتناول النزعة الفرعونية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين.
١٣  E. de Verninac Saint-Maur, Voyage du Luxor (Paris 1835) as quoted in Leslie Greener, The Discovery of Egypt (New York 1965), 157-58.
١٤  البلاغ، القاهرة: نقلًا عن الإجبشيان جازيت، عدد ٢٦ فبراير ١٩٣٢م.
١٥  Quoted in Edward Said, Culture and Imperialism (New York 1993).
١٦  Edward Said, Orientalism (New York 1978); and Said, Culture and Imperialism; Timothy Mitchell, Colonising Egypt (Cambridge, 1988); Martin Bernal, Black Athena, Afroasiatic Roots of Classical Civilization, 2 vols. (New Brunswick, N.J., 1987–1991).
١٧  John MacKenzie, Orientalism: History, Theory and the Arts (Manchester, 1995).
١٨  Edmund Burke III, “Egypt in the Description de l’Egypte”, Paper, MESA meeting at Phoenix, Ariz., November 1994.
١٩  Carter Vaughn Findley, “An Ottoman Occidentalist in Europe: Ahmed Midhat Meets Madame Gülnar, 1889” American Historical Review 103, (February 1998), 14–49.
٢٠  Prasenjit Duara, Rescuing History from the Nation: Questioning Narratives of Modern China (Chicago 1995).
٢١  Peter Novick, That Noble Dream: The “Objectivity Question” and the American Historical Profession (Chicago 1988).
٢٢  Partha Chatterjee, The Nation and Its Fragments: Colonial and Postcolonial Histories (Princeton, N.J., 1993).
٢٣  Michael Herzfeld, A Place in History, Social and Monumental Time in a Cretan Town (Princeton, N.J., 1991).
٢٤  من أمثلة ذلك: Peter Gran, Islamic Roots of Capitalism, Egypt 1760–1840 (Austin, Tex., 1979); Kenneth Cuno, The Pasha’s Peasants: Land, Society and Economy in Lower Egypt, 1740–1858 (Cambridge 1992).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥