مقدمة
«جدير بالمثقفين الأوروبيين أن يقدِّموا الشكر لفرنسا لانتزاعها مسلةً من أعماق الطمي المتراكم في مصر، ومن الجهل البربري للتُّرك؛ فالأوروبيون هم أصحاب الحق في الآثار القديمة؛ لأنهم وحدهم يعرفون كيف يتذوقونها، فهي حقيقةً تخص من لهم الحق الطبيعي في رعايتها وجني ثمارها.»
«إنه لمؤسف حقًّا أن تكون الآثار آثارنا، والتاريخ تاريخنا، ولكن من يكتبون تاريخ مصر القديم ليسوا من المصريين … غير أننا لا نملك سوى التعبير عن إعجابنا بالأستاذ سليم حسن لبراعته في علم الآثار ولاكتشافاته الأثرية الدائمة، والتي كان آخرها الهرم الرابع.»
يعالج هذا الكتاب الكيفية التي تناول بها المصريون (ومعظمهم من الوطنيين)، والأوروبيون (ومعظمهم من الإمبرياليين)، حقبًا معينة من تاريخ مصر الممتد فيما بين غزو نابليون لمصر في العام ١٧٩٨م، واندلاع نيران الحرب العالمية الأولى.
وعندما تعرَّف المصريون على علم الآثار عن طريق الأوروبيين، بدءوا يدركون — تدريجيًّا — إمكانية استخدامه لخدمة أهدافهم الوطنية. وعندما أيقن المصريون من الدور الحيوي الذي يلعبه علم الآثار — في صياغة هويتهم القومية — راحوا يلتمسون السبل التي تتيح لهم تدريب الآثاريين المصريين، وهيأ ذلك المسرح للتحدي الوطني للهيمنة الأوروبية على المؤسَّسات الآثارية المصرية، وللتفسيرات الغربية الإمبريالية لتاريخ مصر.
ولم تكن تلك الزوايا الوحيدة التي رأى الغربيون من خلالها تراث مصر؛ فورثة السحر رأوا في مصر منبع الحكمة السحرية، وما زال الإيمان بالسر الخفي للأهرام موجودًا حتى اليوم. وتصوَّر البعض الآخر من الغربيين أنفسهم صليبيين عادوا لاسترداد مواقعهم المفقودة، وإن كان ذلك أكثر ارتباطًا بفلسطين وسوريا، مثلما كان شعور الجنرال اللينبي عند دخوله القدس عام ١٩١٧م، والجنرال جورو عند دخوله دمشق عام ١٩٢٠م. وراح الرومانسيون الذين افتقدوا عالم ما قبل الثورة الصناعية في بلادهم، راحوا ينشدون في البدو «الأرستقراطية الطبيعية» والمُثل الخلقية الفطرية، ورأى بريطانيو الهند في المصريين الصفات الوراثية للشرقيين الذين يمكن حكمهم بالأساليب التي استُخدمت في الهند. ولما كانت الحكمة غائبة عن الجميع، كان السؤال الأساسي يتعلق بنوع الغرابيل التي يمكن استخدامها لاستخلاص حقيقة مصر، ومدى اتصال ذلك بالواقع المصري وتعبيره عنه.
لم يكن العصر الفرعوني وحده الذي ادعى العلماء الغربيون وشعوبهم حقهم فيه، فقد كان للأوروبيين فضل الريادة في تأسيس متاحف أخرى في مصر: المتحف اليوناني-الروماني بالإسكندرية، ومتحف الفن العربي (الإسلامي الآن) بالقاهرة، وهم الذين ألهموا من أسسوا المتحف القبطي، وكما رأينا في «المتحف المصري»، عبر كل المتاحف الثلاثة عن أحد الفروع العلمية القائمة، وعن عصر من عصور تاريخ مصر الضارب في أعماق الزمن، ومع وجود هذه المتاحف والحقول المعرفية التي اتصلت بها، شعر المصريون بالحاجة إلى تكوين وتدريب المتخصصين الذين يعطون مصداقية لتطلُّع المصريين إلى تولِّي مهمة دراسة وتفسير مختلف عصور تاريخهم المديد.
وجاء تأسيس متحف القاهرة للفن العربي تاليًا لتأسيس «المتحف المصري» نتيجة عمل «لجنة حفظ آثار الفن العربي» التي تأسست عام ١٨٨١م، وكان تأسيس اللجنة لهذا المتحف الذي افتُتح عام ١٨٨٤م تعبيرًا عن افتتان أهل الغرب بالآخر «الشرقي»، ولا يدخل هذا الاهتمام — بحال من الأحوال — في نطاق سعي الغرب للبحث عن جذوره الحضارية.
وأعقب ذلك تأسيس المتحف اليوناني-الروماني عام ١٨٩٢م الذي لم يقم بالقاهرة، وإنما أقيم بالإسكندرية العاصمة البطلمية لمصر. ومن السهولة بمكان تعريف الأوروبيين في إطار الحضارة الإغريقية-الرومانية أكثر من حضارتَي مصر القديمة والإسلام. فقد قلل الكثيرون من فضل مصر القديمة على اليونان والرومان، واعتبروها مجرد نقطة ارتكاز في الطريق إلى الحضارة اليونانية-الرومانية العظيمة. ومع وجود العديد من المتاحف التي ضمت آثار اليونان والرومان في أوروبا، كان إنشاء متحف آخر بمصر لا يحتل الأولوية.
ولكن بحلول عام ١٨٩٢م، ومع وجود نخبة من البريطانيين المثقفين ممن حكموا مصر، ووجود جاليات أوروبية كبيرة، أصبح الوقت مناسبًا لإقامة هذا المتحف؛ ففي إيطاليا كانت الطبقات العليا تبحث منذ عصر النهضة عن الآثار الرومانية القديمة وأعطى القوميون الذين أسسوا الوحدة الإيطالية في القرن التاسع عشر دفعة جديدة لتلك الجهود، وتعاقب على إدارة المتحف اليوناني-الروماني ثلاثة من المديرين الإيطاليين الذين بذلوا الجهود لدعم الجانب الثقافي من مطالب بلادهم في تلك الولاية القديمة من ولايات الإمبراطورية الرومانية.
وكان المتحف القبطي — الذي أُسس عام ١٩٠٨م — آخر المتاحف الأربعة التي تمت إقامتها في مصر. لقد ظل الكاثوليك والبروتستانت في الغرب ينظرون إلى الكنيسة القبطية منذ زمن بعيد على أنها هرطقة تعكس عيوب «البيئة الشرقية». ولكن المسيحيين الغربيين — واليهود فيما بعد — اهتموا بعلم الآثار لإقامة الدليل على صحة الكتاب المقدس في مواجهة دعاوى العلمانية والنزعة العلمية، دعمًا لقضيتهم. وقد جاسوا خلال فلسطين وبقية بلاد الهلال الخصيب بحثًا عن الأدلة الأثرية التي تدعم دعواهم، وكان من الصعب عليهم تجاهل بلد النيل (مصر) التي ارتبط بها يوسف، وموسى، والمسيح، وأمه مريم، والقديس مرقص. ويرجع الأقباط أصل كنيستهم إلى القديس مرقص، وهم الذين ابتدعوا نظام الرهبنة المسيحية. وفي التسعينيات من القرن التاسع عشر، اهتم بعض الأوروبيين بالفن القبطي والعمارة القبطية، وكان حماسهم مصدر إلهام مرقص سميكة فكرة تأسيس «المتحف القبطي»، وكان المتحف فريدًا في نوعه، يديره مؤسِّسه المصري، ولا يخضع لسلطة الدولة وإنما ترعاه الطائفة القبطية.
والغرض الرئيسي لهذا الكتاب هو كتابة تاريخ المصريين المحدثين من خلال دراسة تاريخ هذه المتاحف والمؤسَّسات والعلوم التي ارتبطت بهم: علم المصريات، والدراسة القديمة (الكلاسيكية)، والدراسات القبطية، والفن والعمارة الإسلامية. فالكتابات الغربية في تاريخ تلك العلوم تعكس عادة النظرة الإمبريالية التي طبع بها ذلك العصر، وحتى الكتابات التي احتفت بها، همشت دور المصريين. ويهتم هذا الكتاب — أيضًا — بالبحث في المفاهيم الأكثر شيوعًا عن المصريين فيما يتعلق بماضيهم — في مصر والغرب على حد سواء — ومدى صلتها بالإمبريالية، والقومية والهوية المصرية.
وكانت تلك التطورات التي شهدها علم الآثار المصري والمتاحف جزءًا من عملية دولية، سعت من خلالها الدول والشعوب لتقديم نفسها باعتبارها «أممًا حديثة»، وكان البون شاسعًا بين أن يكون أو لا يكون المرء مواطنًا لإحدى الدول الغربية الكبرى: بريطانيا، أو فرنسا، أو ألمانيا، أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية؛ تلك الدول التي حظي نفوذها السياسي والاقتصادي باعتراف العالم أجمع. وكانت المتاحف التي أُنشئت في المستعمرات كمصر والهند، ساحات متميزة للنضال من أجل الاستقلال الوطني. أما البلاد المستقلة شبه الطرفية كاليونان، وإيطاليا، والإمبراطورية الروسية، والمكسيك، فقد بُذلت فيها جهود مضنية لدراسة وعرض ما يتصل بماضيها لخدمة أهداف توسعية عكست — بدرجات مختلفة — ملامح علم الآثار في البلاد المستقلة والمستعمرة على السواء.
ويحاول هذا الكتاب تقديم أطروحة ذات مستويات خمسة؛ أولًا: المقابلة بين التواريخ المألوفة للآثاريين الغربيين والتاريخ المهمل لنظرائهم المصريين، فما زال علم الآثار المصرية يحتاج إلى أن يُكتب عنه الكثير حتى بعد ميشيل فوكو، وإدوارد سعيد، وعودة الاهتمام بأنطونيو جرامشي، والفرضيات الوضعية حول المعرفة التقدمية، الموضوعية، «العلمية». فالذين يحتلون على مسرح علم الآثار المصرية دور «البطولة» هم: شامبليون، ريتشارد ليبسيوس، أوجست مارييت، جاستون كاميل شارل ماسبيرو، أدولف إرمان، فلندزر بتري، هوارد كارتر، جيمس برستيد، وجورج ريشنر. بينما تحجب الظلال المصريين باعتبارهم ملاحظي عمال أكفاء، وخدمًا مخلصين، وعمالًا، ولصوص جبَّانات، وتجار عاديات، وموظفين معوقين للعمل، ووطنيين مهووسين. ومن المقابلات التي لا جدال فيها، مقابلة شامبليون ورفاعة الطهطاوي، وكذلك إدوارد لين ورفاعة الطهطاوي، وماسبيرو وأحمد كمال، وماكس هيرتز وعلي بهجت، على نحو ما فعلنا في هذا الكتاب لتحدي الفكرة السائدة عن تفرد الغربيين في علم الآثار المصرية، دون أن نقلل من حجة مساهمات الغربيين أو نبالغ في مساهمات المصريين أو أوجه التشابه بين الفريقين، ولندحض الفكرة القائلة باستحالة التقاء الطرفين، وأن تاريخ علم الآثار كان غربيًّا محضًا، يلعب المصريون فيه دور المتفرج.
وفي المستوى الثالث للأطروحة التي يقدمها هذا الكتاب، يتسع إطار النظر إلى تواريخ علوم المصريات، والدراسات اليونانية-الرومانية، والدراسات القبطية، والعمارة والفن الإسلامي، ليضمنها جميعًا معًا. فمجال هذه العلوم الأربعة هو ماضي مصر، ولكن المتخصص في واحد منها نادرًا ما يهتم بما يخرج عن إطار تخصصه، وأحيانًا يمتد اهتمامه إلى العصر السابق أو اللاحق لمجال تخصصه. والتخصص في واحد من هذه العلوم ضروري بحكم اختلاف اللغات وطرق الكتابة والأديان في كل عصر من تلك العصور عنها في غيره، ولكن حدود التخصص والعصور التاريخية قد تترك آثارًا سلبية على الدراسات نفسها. وقد ارتضى المؤرخون المصريون المعاصرون أن يتركوا تاريخ علم الآثار للآثاريين (ولهواة الكتابة من غير المتخصصين)، مما يؤدي إلى نقص في دراسة تاريخ علم الآثار؛ فرغم أن كتابة الآثاريين فيه مطلوبة إلا أن مؤرخي مصر الحديثة أقدر على وضع تطور ذلك العلم في سياق تاريخ مصر الحديث.
ولا يتضح دائمًا الحد الفاصل بين «علم المصريات» و«الولع بمصر الفرعونية»؛ فمن بين أصحاب الاتجاه الأخير نجد مارييت، وزميله الألماني هنريش بروجش، وعضو اللجنة المهندس المعماري ماكس هرتز الذي سعى لضمان الأصالة المصرية في تصميم الجناح المصري في المعارض الدولية، واستخدم كارل بايدكر، وتوماس كوك، وجون موراي العلماء من أهل الاختصاص لكتابة بعض فصول كتب «الدليل السياحي» التي حملها السياح معهم في رحلاتهم المتجهة إلى الصعيد. وتنوع الرسامون والمصورون الغربيون من السياح إلى الآثاريين. وكتب جورج إيبرس كتيبات في علم المصريات، كما كتب بعض الروايات التي تناولت موضوعات من عصر الفراعنة. وتولى مارييت — عالم المصريات — إدارة مصلحة الآثار والمتحف، بينما عبر عن ولعه بمصر القديمة من خلال كتابته النص الذي أصبح أوبرا «عايدة» لفردي، وقد أصر على أن تكون ملابس الأوبرا مطابقة تمامًا للزي الفرعوني، ولكن ماذا يجدي الإصرار على الأصالة مع تلك الموسيقى الأوروبية البديعة التي لا صلة لها بمصر القديمة، والتي لم يستطع تذوُّقها المصريون المعاصرون له؟
وهذا الكتاب لا يقدم تاريخًا شاملًا لعلوم المصريات أو الدراسات القبطية أو الدراسات اليونانية-الرومانية أو الفنون والعمارة الإسلامية. ولأن الكتاب يركز على التطورات التي شهدتها مصر ذاتها في القرن التاسع عشر، فقد تم تهميش علماء المصريات من أمثال صامويل برش — الذي كان يعمل بالمتحف البريطاني — وأدولف إرمان الذي كان أستاذًا بجامعة برلين الذين فضلوا العمل في حقل الكشوف الأثرية، بدلًا من البقاء في بلادهم داخل قاعات الدراسة وباحات العرض المتحفي. ولكن مارييت وماسبيرو يبرزان هنا بسبب طول فترة خدمتهما في مصر ونشاطهما المؤثر فيها.
وعلى كلٍّ، فلا مناص من بروز مصر الحديثة وعلم المصريات، ولكن في سياق زمني آخر، وبفعل عوامل أخرى.
ويتوقف الكتاب عند عام ١٩١٤م الذي شهد تقاعد كل من ماسبيرو وأحمد كمال، وقيام الحرب العالمية الأولى التي أوقفت نشاط علماء المصريات من الألمان والنمساويين العاملين في مصر. وتوقف — أو كاد — نشاط العلماء الإنجليز والفرنسيين، وفتح رحيل النمساوي ماكس هرتز من لجنة حفظ الآثار العربية وإدارة «متحف الفن العربي»، فتح الباب أمام تمصير إدارة المتحف على يد علي بهجت. وعند نهاية الحرب العالمية الأولى، قامت ثورة ١٩١٩م. وأصدرت بريطانيا تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م الذي أعطى مصر نوعًا من الاستقلال المنقوص، وبدأت حقبة جديدة شبه استعمارية في تاريخ السياسات الوطنية والمتاحف وعلم الآثار، وعلى مدى العقود الثلاثة التي أعقبت التطور سارت عملية تمصير العمل في الآثار وغيرها من مرافق الحكومة بخطى مناسبة، وإن كانت الأبواب الخلفية أتاحت للأوروبيين أن يمسكوا بأيديهم زمام التحكم في السلطة حتى ثورة ١٩٥٢م.
ويستند الكتاب إلى المادة الوثائقية والمصادر المنشورة بالعربية واللغات الغربية التي دعمت بالمقابلات الشخصية. فقد تم استخدام الوثائق غير المنشورة المودعة بدار الوثائق القومية ودار المحفوظات العمومية بالقاهرة، ووثائق الخارجيتين البريطانية والفرنسية، ومحفوظات المتحف البريطاني، ومتحف جامعة بنسلفانيا. وكان أهم ما عثرنا عليه حتى الآن المخطوطة التي لم يسبق استخدامها من قبل، والتي تضم مذكرات مرقص سميكة مؤسس المتحف القبطي.
ويعالج الباب الأول «البدايات الإمبريالية والوطنية» الفترة السابقة على الاحتلال البريطاني عام ١٨٨٢م، فيتناول الفصل الأول التصورات الغربية والإسلامية لمصر القديمة قبل القرن التاسع عشر، والحملة الفرنسية وكتاب «وصف مصر» وتطور التنافس الإنجليزي-الفرنسي في ميدان المصريات حتى منتصف القرن، ويبرز الفصل مساهمات الجبرتي ورفاعة الطهطاوي، ومحمد علي، ويوسف حككيان في تاريخ المصريات الذي يعالج — غالبًا — من منطلق المركزية الأوروبية.
يوضح الفصل الثاني مدى مساهمة السفن البخارية والسكك الحديدية، وكتب الدليل السياحي الحديثة، والفنادق السياحية في اختراع السياحة الجماعية التي لعبت فيها مصر وشركة توماس كوك دورًا قياديًّا. ويرجع الفضل في ظهور عصر السياحة الجديد إلى التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدها الغرب عندئذٍ. وحظيت كتب الرحلات والرسوم والصور الفوتوغرافية التي تناولت موضوعات ومشاهد مصرية باهتمام كبير من جانب العلماء، ولكن الدور الذي لعبه المصريون في هذا المجال ما زال بحاجة إلى المزيد من البحث.
أما الفصل الثالث، فيعالج علم المصريات في ثلاثة عقود تتركز في عصر إسماعيل الذي مهد الطريق للاحتلال البريطاني في العام ١٨٨٢م. فمع امتداد ظلال الإمبريالية الغربية بعد منتصف القرن، شجع ولاة مصر: سعيد وإسماعيل: مارييت على تأسيس مصلحة الآثار المصرية والمتحف المصري. وقام مارييت بإشباع نزعة الولع بمصر الفرعونية عند الأروربيين بالترتيبات التي وضعها لاحتفالات افتتاح قناة السويس، ونص أوبرا عايدة، وجناح مصر بالمعرضين الدوليين بباريس. وكتب الطهطاوي أول كتاب بالعربية عن تاريخ مصر القديم، وقام علي مبارك — ناظر المعارف — بجلب هنريش بروجش من ألمانيا ليتولى إدارة «مدرسة اللسان المصري القديم»، وبدأ بعض المصريين المساهمة في نشاط الجمعية الجغرافية الخديوية، والمجمع العلمي المصري، والمؤتمرات الدولية للاستشراق.
ويتناول الباب الثاني فترة ازدهار الاحتلال البريطاني (١٨٨٢–١٩١٤م)، ويضم فصلًا عن كل من المتاحف الأربعة، والتخصصات الأثرية التي ارتبطت بكل منها. وقد استهلت هذه الفترة — سياسيًّا — بكرومر، وختمت بكتشنر، بينما سيطر ماسبيرو وبتري على مشهد علم المصريات. وتناول علي مبارك آثار مختلف العصور في موسوعته الشهيرة «الخطط التوفيقية»، وتولى أحمد كمال وعلي بهجت ومرقص سميكة تكوين جيل جديد من المتخصصين في مختلف فروع التخصصات الآثارية.
ويعالج الفصل الرابع المتحف اليوناني-الروماني والدراسات القديمة (الكلاسيكية)، فقد أهمل الإمبرياليون الإنجليز والفرنسيون في مصر، من نابليون إلى كرومر وكتشنر، آثارَ الإسكندر وقيصر، وازدهر المتحف اليوناني-الروماني بفضل من تولَّى إدارته من الإيطاليين: جيسب بوتِّي، وإيفرستو برشيا، وقدمت الجمعية الآثارية بالإسكندرية ذات الطبيعة الدولية، وكذلك بلدية الإسكندرية، الدعم اللازم للمتحف، ولم يظهر أي متخصص مصري في الدراسات القديمة أو الآثار اليونانية-الرومانية من مستوى أحمد كمال وعلي بهجت ومرقص سميكة حتى نهاية فترة الدراسة، ولكن نفرًا قليلًا من المصريين تابعوا أعمال علماء الغرب الإمبريالي في حقل الدراسات القديمة، ووجدوا فيها مَعينًا جديدًا للمعرفة.
أما الفصل الخامس، فيتناول علم المصريات في تلك الحقبة، حيث يقف في الجانب الأوروبي ماسبيرو، وبتري وصندوق الكشوف الأثرية، بينما يقف في الجانب المصري أحمد كمال وحيدًا. وغطت الخلافات الحادة بين الآثاريين الإنجليز والفرنسيين على الضجة التي أثارها حادث فاشودة في السودان عام ١٨٩٨م، وكان للوفاق الودي عام ١٩٠٤م جانبه الآثاري إضافة إلى جانبه السياسي، وقامت الحكومة بنقل المتحف من بولاق إلى الجيزة ثم استقر في موقعه الحالي بميدان التحرير. وحوالي نهاية القرن التاسع عشر استأنف الألمان حفائرهم في مصر، وبدأ علماء المصريات الأمريكيون يضعون أقدامهم في هذا الميدان، وانهمك أحمد كمال في بذل الجهد في مجال المصريات، ونشر الوعي بتاريخ مصر القديم بين مواطنيه، وبذلك ساعد الكتَّابَ والسياسيين المصريين من أمثال أحمد لطفي السيد على التماس جذور فرعونية للقومية المصرية.
ويتحول الفصل السادس إلى «لجنة حفظ الفن العربي» و«متحف الفن العربي»، والصحوة المعمارية الإسلامية الجديدة. وقد وجَّه أعمالَ كلٍّ من اللجنة والمتحف بنجاح في الفترة من ١٨٨١م حتى ١٩١٤م كلٌّ من يوليوس فرانتز الألماني، وماكس هرتز اليهودي المجري (من رعايا إمبراطورية النمسا والمجر)، بقدر كبير من النجاح. وحاول يعقوب أرتين — الأرمني الكاثوليكي — أن يلعب دور حلقة الوصل بين العلماء الأوروبيين والمصريين. وعمل علي بهجت تحت رئاسة هرتز لمدة عشر سنوات قبل أن يبدأ حفائره الرائدة في الفسطاط عام ١٩١٢م. وجاء رحيل هرتز المفاجئ بعد عامين ليفتح الطريق أمام علي بهجت ليصبح مديرًا لمتحف الفن العربي.
وخُصص الفصل السابع للدراسات القبطية والمتحف القبطي. والفصل يعتمد أساسًا على مذكرات مرقص سميكة التي لم يسبق استخدامها من قبل. ويضع الفصل الآثار القبطية والتاريخ القبطي في إطار الجدل الذي يدور بين الأقباط حول الإصلاح الاجتماعي، وفي سياق السياسة الوطنية المصرية. ويعكس عنوان هذا الفصل «الأبناء المحدثون للفراعنة» الانتماء عميقَ الجذور لمصر القديمة الذي بدأ بعض مثقفي الأقباط تأكيده عند نهاية القرن التاسع عشر.
وبعد أن لخصت الخاتمة التطورات التي شهدتها المجالات الأربعة لعلم الآثار على مر القرن التاسع عشر، أشارت إلى التغيرات التي حدثت بعد الحرب العالمية الأولى. ففي عام ١٩٢٢م ربط التصريح البريطاني بإعلان استقلال مصر، واكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، بين علم المصريات والنزعة القومية عند المصريين بشكل أكثر وضوحًا من ذي قبل، فاستفاد المصريون من استقلالهم الجديد في افتتاح جامعة حكومية عام ١٩٢٥م، وكان من بين أقسام الجامعة قسم للآثار والمصريات وقسم للدراسات الأوروبية القديمة (الكلاسيكية). وبعد ذلك بعامٍ أُدخل برنامج للدراسات العليا في الآثار الإسلامية، وأبدى المشتغلون بالعمل الوطني فخرهم واعتزازهم بأجدادهم الفراعنة، وعبَّر عن ذلك الكتَّاب، والرسامون، والمعماريون، والنحاتون، ومؤلفو الكتب الدراسية، ومصممو طوابع البريد في استخدامهم للرموز الفرعونية.
وفقد علم الآثار بوفاة أحمد كمال عام ١٩٢٣م، وعلي بهجت عام ١٩٢٤م، رائدَين مصريَّين لعلم الآثار في فترة حرجة من تاريخ مصر، وجاء سقوط وزارة سعد زغلول عام ١٩٢٤م ليحبط الآمال في تحقيق الاستقلال التام. وخلال ربع القرن التالي أحكم بيير لاكو وإيتيان دوريوتون قبضة الفرنسيين على مصلحة الآثار المصرية، وخلف أكيل أدرياني، برتشتا في إدارة المتحف اليوناني-الروماني، وآلت إدارة متحف الفن العربي إلى جاستون فييت. وتولى الأوروبيون رئاسة قسم الآثار بالجامعة المصرية. وفي عام ١٩٣٣م، أسَّس الكابتن كييل أرشيبالد كامرون كرزويل شعبة الآثار الإسلامية بالجامعة. وكان درايتون، وفييت، وكرزويل علماء كبارًا لم يتأثروا بهجوم غلاة الوطنيين ضد الأجانب. وكان على ثورة ١٩٥٢م التي قادها عبد الناصر أن تحقق هدفين كانا مثار قلق جيل ثورة ١٩١٩م هما تحقيق الاستقلال التام، وتمصير العمل في المتاحف وعلم الآثار.
حيث يذكر أن فردينان فيفر هو النحات الذي صنع تمثالَي إلهة الوجه القبلي وإلهة الوجه البحري على جانبي مدخل المتحف.
وقد تأسست «السمير الصغير» عام ١٨٩٧م لتقديم المعلومات المصورة للأطفال.
والكتاب يتناول النزعة الفرعونية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين.