الخاتمة
على مر الرحلة التي قطعها هذا الكتاب من ١٧٩٨م حتى ١٩١٤م، قام بربط تاريخ علم الآثار المصرية — كما يُكتب في الغرب — بتاريخ دخول المصريين المحدثين في ذلك المجال، فوضع بذلك تاريخ الآثار والمتاحف في سياقاتٍ أرحب أبعادًا لكلٍّ من الإمبريالية الغربية، وتاريخ مصر القومي، وجمع بين تخصصاتٍ أربعة في علم الآثار، غالبًا ما يُدرس تاريخ كل منها على حدة. وتناول هذا الكتاب التوتر الذي اتَّسم به الالتزام الأيديولوجي بالإمبريالية والقومية من ناحية، والمُثل الخاصة بالمعرفة العالمية الموضوعية، من ناحية أخرى، آخذًا في الاعتبار الاهتمامات البحثية والشعبية بالآثار في كل من مصر والغرب، ويوضح هذا الكتاب كيف أثَّر علم الآثار في عملية بناء الهوية المصرية الوطنية.
ففي الغرب، ألقى الافتتان العلمي والشعبي بالعصر الفرعوني، بظلاله على الاهتمام بالعصور الأخرى من تاريخ مصر، ويعكس دليل بايديكر السياحي في تغطيته للمتاحف المصرية عام ١٩١٤م، الأهمية النسبية للعصور المختلفة من منظور صناعة السياحة، فقد خصص للمتحف المصري ٤٢ صفحة، وللمتحف اليوناني-الروماني أربع صفحات، وصفحتين ونصف الصفحة لمتحف الفن العربي، ولم يكن المتحف القبطي قد دخل دائرة اهتمام دليل بايديكر بعدُ، وإن كان قد أشار إلى المجموعة القبطية بالمتحف المصري في بضعة أسطر، وفي طبعة ١٩٢٩م، أضاف ذلك الدليل صفحة واحدة عن المتحف القبطي، ولكن نِسب التغطية للمتاحف الأخرى ظلت تميل إلى جانب مصر القديمة.
وكانت المسافة التي قطعها علم المصريات الغربي فيما بين ١٧٩٨ و١٩١٤م، بالِغة الطول. ففي أيام بونابرت، قدَّم العلماء رؤيةً مضطربة لظلال مصر القديمة استنادًا إلى المصادر الكلاسيكية، والكتاب المقدس، والآثار التي اختفى نصفها تحت الرمال. وعند العام ١٩١٤م كان العلماء يقرءون منذ وقت طويل كلمات المصريين القدماء أنفسهم. فقد قام علماء المصريات بنسخ ودراسة آلاف النقوش، ومَلئوا متاحف الغرب والقاهرة بمجموعات بالغة الثراء من الآثار الفرعونية. كما قاموا بالتنقيب على نطاق واسع، وتحسنت الطرق الفنية للحفائر تدريجيًّا، ودخلت آثار ما قبل التاريخ مجال الاهتمام.
ومن الصعوبة بمكانٍ رصد التغير في أفكار المصريين عن الآثار والتاريخ طوال القرن التاسع عشر. فلا يزال إدراك معظم المتعلمين المصريين لمصر القديمة محجوبًا وراء ظلال الدراسات الإسلامية والعربية التقليدية، وما زالت «فرعون» و«فرعوني» كلمتين بغيضتين عند الكثير من المتدينين المحافظين حتى يومنا هذا. ولكن الطهطاوي، وعلي مبارك، وأحمد كمال، وكلوديوس لبيب، تكونت عندهم رؤًى مختلفة لمصر القديمة باعتبارها تمثل ماضيًا مجيدًا يحسد العالم المصريين عليه. ورغم الصعاب التي واجهت أحمد كمال في زمنٍ علا فيه مدُّ الإمبريالية، كوَّن نفسه في مجال المصريات، وساعد على إقناع أحمد لطفي السيد وغيره بأن الاعتزاز بمصر القديمة ضروري للصحوة الوطنية.
وعلى ضفاف السين، بدأ رفاعة الطهطاوي يراجع فكره عن هوية مصر، وصاغ فلسفة سياسية ربطت الوطنية المصرية (التي تضمنت مكونًا فرعونيًّا)، بالولاء للأمة الإسلامية، والإخلاص لأسرة محمد علي. ولعب الطهطاوي دورًا في الجهود التي بذلها محمد علي للحدِّ من نهب الآثار، وألف — بعد ذلك بثلاثة وثلاثين عامًا — أول كتاب في تاريخ مصر القديمة، يُنشر باللغة العربية.
وفي الجيل التالي، كان لعلي مبارك، ومحمود الفلكي، اهتمامات موسوعية تجمع بين تاريخ مصر القديم والإسلامي معًا. ولعبا دورًا في وضع أسُس التعليم الحديث في مصر.
واستطاع الفرنسيون الاحتفاظ لأنفسهم بالسيطرة على الآثار المصرية منذ إنشاء المصلحة الخاصة بها، بفضل جهود مارييت ودبلوماسية ماسبيرو. وسجلت واجهة المتحف الذي افتُتح عام ١٩٠٢م «الغلو الاستشرافي الإمبريالي» عندما خلدت علماء المصريات الغربيين، وأهملت المصريين. وفي العام التالي تم افتتاح مبنى الكتبخانة الخديوية ومتحف الفن العربي، ذي الطراز المماليكي، وكان المستشرقون الأوروبيون قد أقنعوا الخديو توفيق عام ١٨٨١م بتأسيس لجنة حفظ آثار الفن العربي، وجاء متحف الفن العربي ثمرةً لجهود تلك اللجنة، من باب الافتتان «بالآخر الشرقي»، وقامت اللجنة بالمحافظة على بعض المباني الأثرية الإسلامية، وترميم بعضها، وإعادة بناء البعض الآخر.
وفي عام ١٨٩٢م أقامت الجاليات الأجنبية بالإسكندرية المتحف اليوناني-الروماني، الذي دخل تحت الإشراف «العلمي» لمصلحة الآثار المصرية، وقامت نخبة الجاليات الأجنبية السكندرية بدعم المتحف من خلال «الجمعية الآثارية السكندرية».
وفي إطار تلك المؤسَّسات التي تطلَّع المصريون المعنيون بالمصريات إليها، تكوَّن ثلاثة من الرواد المصريين الذين قضوا معظم حياتهم العملية تحت ظلال الاحتلال: عالم المصريات أحمد كمال، وعالم الآثار الإسلامية علي بهجت، ومرقص سميكة مؤسس المتحف القبطي؛ هؤلاء الرواد الذين انتموا إلى جيل الثمانينيات، عزفوا عن الاتجاه الموسوعي للجيل السابق عليهم، وسايروا التوسع الهائل في المعرفة بالاتجاه نحو التخصص، شأنهم في ذلك شأن أبناء الغرب في القرن التاسع عشر.
وإذا استرجعنا ظروف علم الآثار عند نهاية العام ١٩١٤م، نجد أن الوطنيين المصريين لم يجدوا ما يبعث السرور عندهم. فقد فتحت بداية الحرب الطريق أمام علي بهجت ليتولى إدارة متحف الفن العربي، وتولى أحمد لطفي السيد إدارة (دار الكتب)، ولكن تلك كانت حالاتٍ استثنائية. فقد كان حماس المصريين أن ينالوا موقعًا في مصلحة الآثار، ولجنة حفظ الآثار، والمجمع العلمي المصري والمتاحف في العقود السابقة على الحرب، مرهونًا ببقائهم تحت الهيمنة الأجنبية. فقد حالت معارضة الأوروبيين دون تكوين جيل ثالث من المصريين المتخصصين في المصريات، وتقاعد كلٌّ من أحمد كمال، وعلي بهجت دون أن يخلُفهم مصريون في مواقفهم.
وإذا نظرنا إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، نجد أن السياسات الإمبريالية والوطنية حددت اتجاه العمل في مجال علم الآثار، ولكن المجال ذاته كان له إيقاعاته الداخلية الخاصة به. وجاء اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون صدفةً في نفس السنة التي أعلنت فيها بريطانيا — من جانب واحد — استقلال مصر (٢٨ فبراير ١٩٢٢م)، ليربط علم الآثار بالسياسة برباطٍ لم يستطع منه فكاكًا. وأتاح هذا «الاستقلال» المحدود لمصر فرصة الاحتفاظ بكل محتويات مقبرة توت عنخ آمون، ووضع قيود أكثر حزمًا على تصدير الآثار، والبدء في تمصير العمل بالمتاحف ومصلحة الآثار، وتدريس التاريخ الفرعوني بالمدارس، وإقامة جامعة حكومية، وفتح برامج جامعية لتدريب المصريين في مجالات المصريات، والكلاسيكيات والآثار والفنون الإسلامية.
ولكن التراجع الإمبريالي كان مخادعًا، فمع وجود دريتون على رأس مصلحة الآثار — وكريزويل على رأس قسم الآثار الإسلامية بمعهد الآثار التابع للجامعة، وجاستون فييت على رأس متحف الفن العربي، وأدرياني على رأس المتحف اليوناني-الروماني، أحكم الأجانب سيطرتهم على تلك المؤسَّسات لجيل كامل آخر. لقد كانوا جميعًا علماء بارزين، بذلوا القليل من الجهد لإخضاع الوطنيين.
وعرف الانتساب إلى مصر القديمة طريقة للبروز من خلال التيارات الوطنية الرئيسية، ومن خلال وسائل الإعلام، وتمثال نهضة مصر لمحمود مختار، وضريح سعد زغلول، وجدارية محمود سعيد بمبنى البرلمان، وعلى طوابع البريد، وأوراق البنكنوت، ورواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وثلاثية نجيب محفوظ.
وحصلت مصر على استقلالها التام، وأحكمت قبضتها على الآثار والمتاحف في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين. فقد تعرَّض فييت للضغوط حتى اضطر لترك منصبه في ربيع ١٩٥١م وغادر البلاد. وفي ديسمبر من نفس السنة أنهت آخر حكومة وفدية عمل كريزويل وغيره من الموظفين الإنجليز بالحكومة المصرية. وبعد ستة شهور أرسل «الضباط الأحرار» دريتون إلى بلاده، عشية قيامهم بالثورة. وهكذا أصبح مصطفى عامر أول مدير مصري لمصلحة الآثار، بينما جاء تعيين محمد مصطفى مديرًا لمتحف الفن الإسلامي ليسدَّ فراغًا تركه علي بهجت من قبل.