الفصل الثاني
توماس كوك
من الاستكشاف إلى السياحة
في كتاب المويلحي «حديث عيسى بن هشام» الذي نشر في مطلع القرن العشرين، نجد تعليقًا
يورده المؤلف على لسان مصري، معلقًا على تواجد السياح الأوروبيين بملهى ليلي
بالقاهرة:
«… هؤلاء سياح الغربيين أهل المدنية والحضارة، الناظرون إلى الشرقيين بعين المهانة
والحقارة، فإن نظروا إليهم من جهة العزة فنظرة العقاب من شماريخ رضوى وثبير إلى جنادب
الرمل وضفادع الغدير. وإن نظروا إليهم من طريق العلم، فنظرة معلم الإسكندر عالم
العلماء، إلى صبي يتهجى في العين والياء، وإن نظروا إليهم من باب الصناعة فنظرة
«فيدياس» صانع التماثيل والدمى إلى بنَّاء يقيم أكواخ القرى، وإن نظروا إليهم من جهة
الغنى، فنظرة صاحب المفاتيح التي تنوء بالعصبة إلى أجيرٍ ينضح عرقًا تحت القربة … تلك
دعواهم في نفوسهم بأفواههم.
وهم في رحلتهم إلى الشرق على ضربين: أهل الفراغ والجِدَة الذين أبطرهم الغنى، وألهاهم
الاستمتاع ببدع المدنية، ولم يبقَ في أعينهم جديد … فأصبحوا هائمين على وجوههم في
الأقطار والبلدان، وحطتهم القدرة إلى الاستشفاء من الداء بالتنقل في البلاد المنحطة
عنهم في درجات المدنية، والإقامة في الأقطار الباقية دونهم على الفطرة الغريزية.
والضرب الثاني: منهم أرباب العلم والسياسة وأهل الاستعمار والاستنفاض، يستعملون
علومهم، ويُعملون أفكارهم في احتلال البلدان، وامتلاك البقاع ومنازعة الناس في موارد
أرزاقهم، ومزاحمة الخلق أرضهم وديارهم، فهم طلائع الخراب، أدهى على الناس في السلم من
طلائع الجيوش في الحرب.»
١
وسياح المويلحي الغربيون، الذين لا يجدون ما يفعلون سوى التجول هنا وهناك، هم موضوع
هذا الفصل. ويختلف هذا الفصل عن بقية الكتاب في أنه لا يروي سوى نصف قصة التواصل الغربي
المصري من منظور غربي خالص. وتشير الفقرة المقتبسة من «حديث عيسى بن هشام» أن المصريين
يرون إمكانية أن يكون للسياحة تاريخ في بلادهم، ولكن ذلك يخرج عن نطاق هذا الكتاب.
والدراسات الاستكشافية تعاني نقصًا شديدًا، والمصادر الأولية حول رؤية المصريين للسياحة
في القرن التاسع عشر محدودة جدًا، والكثير من المصريين الذين عملوا بمجال السياحة
المتنامي كانوا من الأميين، كما انشغل معظم كتّاب ذلك العصر بأمور أخرى.
وعلى النقيض من ذلك، هناك وفرة كبيرة في المصادر الأوروبية عن السفر والسياحة في
مصر.
فقد مكنت الثورة الصناعية قطاعات من الغربيين من توفر وسائل ومتعة السفر، عندما أصبحت
البواخر والقطارات تربط العالم. واجتذبت مصر الكثير من راغبي السفر إلى الشرق، فقد
تخيلها الغربيون باعتبارها أرض التاريخ القديم والعراقة، أرض الفراعنة، والكتاب المقدس،
وهيرودوت، وألف ليلة وليلة. وفي السنوات الأخيرة، أدى الحنين إلى «الزمن الجميل» زمن
السياحة إلى مصر قبل ١٩١٤م إلى صدور كم هائل من الكتب التي تتراوح بين كتب لصور طاولات
المقاهي إلى الدراسات الجادة. ويعتمد هذا الفصل على هذه الكتب والمصادر الأولية التي
اعتمدت عليها لتوضيح كيف أن السياحة الحديثة، والمتاحف، وعلم الآثار قد شبت عن الطوق
معًا على أرض مصر.
٢ فقد كتب الآثاريون كتب الدليل السياحي أو كتبوا بعض فصولها، وقاموا بتأسيس
المتاحف في بلادهم وفي مصر وهم يفكرون في خدمة السياح الذين لم يغيبوا عن بالهم، ونظموا
أجنحة مصر في المعارض الدولية، واستثاروا فضول القراء بقصص المغامرات والاكتشافات. وقد
تحوَّل معظم من أقبلوا على شراء هذه المواد إلى سياح، وتحول القليل من السياح — بدورهم
—
إلى آثاريين.
المكتشف، والرحالة، والسائح
«إنك تنظر إلى ظهر رجل من أبناء البلاد، معمم، يرتدي قفطانًا طويلًا أزرق اللون،
ويتمنطق بحزام أحمر، وقدماه البنِّيتان مكشوفتان، فتقول: «يا له من شرقي نموذجي!»
وعندما يستدير نحوك، وتقرأ عبارة «حمَّال كوك»، يقول لك: «إنك تسافر مع كوك يا سيدي»،
ويسألك: «كله تمام؟» … ويكون كل شيء على ما يرام … إن مندوب كوك هو أول من تلقاه في
مصر، فهو يستقبلك، ويصحبك في رحلتك، ويودعك عند السفر …»
نقلًا عن ستيفنز كما وردت بكتاب جون باندي «قصة توماس كوك».
لقد بدأ استخدام البواخر والقطارات في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، فبدأت
بذلك ثورة في دنيا السفر، أخرجت مصر والشام وغيرها من بلاد العالم خارج أوروبا من
عالم المستكشفين والرحالة المغامرين إلى عالم السياح العاديين.
ففي مطلع القرن الثامن عشر، اعترف الدكتور صامويل جونسون أن «من لم يزر إيطاليا
يشعر بعقدة نقص تجاه الآخرين؛ لأنه لم يرَ ما يجب على الإنسان أن يراه».
٣ وفي القرن التالي فعل توماس كوك وولده جون ما لم يفعله غيرهما، فأضافا
الأهرام إلى قائمة «ما يجب على الإنسان أن يراه». وقد أثار امتعاض النخبة
الأرستقراطية أن توماس كوك وولده وسعوا من دائرة السياح لتشمل من جاءوا من الدرجات
الدنيا من السلم الاجتماعي بأعداد ملحوظة.
ويذهب جيمس بوزارد إلى أن السياحة الحديثة وما حققته من دفعة، تعود إلى مجال واحد
برز في شمال أوروبا والولايات المتحدة مع الثورة الصناعية والديموقراطية، وركز
الرحالة على البلاد المتخلفة ليميزوا أنفسهم عن السياح حتى يكونوا أكثر حساسية
ومتعة واقتناعًا. وهذا التمييز بين الرحالة والسائح يعود إلى افتراض وجود تمييز
طبقي وحساسية شديدة، وأحيانًا تميز ثقافي. ويقول إيفلن فوج: «السائح هو الرفيق
الآخر»، ويرد بول فوسل بقوله: «كلنا سياح الآن، ولا مفر من ذلك.»
٤
وكانت القاهرة والإسكندرية بالنسبة للأوروبيين في القرن الثامن عشر لا تدخل في
مجال المكتشفين، وإنما تدخل في اهتمام الرحالة المغامرين. وهناك الكثير من الروايات
عن الإسكندرية والقاهرة والأهرام. وفي أعقاب الحملة الفرنسية وتكوين محمد علي
لحكومة مركزية قوية انضم الصعيد حتى أسوان إلى جدول الرحالة، ولم يمض وقت طويل حتى
أصبح على جدول السياح العاديين.
أما جون لويس بوركهارت الذي اكتشف (من وجهة نظر الغرب) بترا — المدينة النبطية —
فقد مد نشاطه جنوب أسوان، وقام باكتشاف النوبة حتى قرب الشلال الثالث — أي ما يمثل
اليوم الحدود المصرية السودانية — مما جعلها في متناول الرحالة. وقد اشتمل دليل
ريفو السياحي الرائد والخاص بمصر عام ١٨٣٠م على النوبة السفلى،
٥ ووادي حلفا قرب مسقط الشلال الثاني، الذي ما لبث أن أصبح «الخط الذي
يقف عنده الرحالة الذين ينشدون استكشاف المناطق الصعبة والخطرة».
٦
الباخرة والقطار وزمن الرحلة
ظهر مصطلح «السائح» في الإنجليزية لأول مرة عام ١٧٨٠م، وما لبث مصطلح «السياحة» أن
ظهر عام ١٨١١م، فقد حبست الحروب النابليونيين البريطانيين في جزرهم، واستفاد مغامر
كاللورد بيرون من قوة البحرية البريطانية ليستبدل بالجولة التقليدية في فرنسا
وإيطاليا الرحلة إلى اليونان والبلقان.
٧ ووجد مصطلح «سائح» طريقه إلى الفرنسية عام ١٨١٦م، في الوقت الذي كانت
فيه موجة من السياح البريطانيين تجتاح أوروبا بعد الحروب النابليونية، وانضمت كلمة
«سياحة» إلى الفرنسية عام ١٨٤١م، وهو العام الذي شهد أول رحلة نظمها توماس كوك في
وسط إنجلترا.
ونظم أول خط بحري لنقل الركاب بالبواخر بين دوفر وكاليه عام ١٨٢١م، وفي نهر الراين
عام ١٨٢٨م، وفي نهرَي الرون والدانوب في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر.،
٨ وهو نفس العقد الذي شهد إقبالًا على مد الخطوط الحديدية في غرب أوروبا
والولايات المتحدة، كما شهد ظهور «جدول مواعيد القطارات»، وكتب الدليل السياحي
واستخدام البرق الكهربي (التلغراف). وأدى التوسع التدريجي لمجموعات السياح من
الطبقة الوسطى إلى تحويل ما كان قاصرًا على النخبة إلى حركة سياحية جماهيرية،
«وحيثما كانت الباخرة ترسو على الشاطئ، تراجع الرحالة المغامرون إلى الداخل، وأخذ
الخيال الرومانسي في التلاشي … ولكنه ثمن بخس لنشر الحضارة» على حد قول ثاكيراي.
٩
لقد احتاج هنري سولت إلى قضاء ستة شهور في الطريق — في ١٨٠٢-١٨٠٣م — حتى يصل إلى
كلكتا قادمًا من لندن عن طريق رأس الرجاء الصالح؛ ولذلك ليس غريبًا أن تحاول شركة
الهند الشرقية البريطانية أن تقيم خطًّا بريًّا لنقل الركاب والبريد عبر مصر، لتختصر
٤١٪ من طريق كلكتا — لندن عن طريق رأس الرجاء الصالح الذي يصل إلى ١٠٧٠٠ ميل. وحتى
في البحر المتوسط، استغرقت رحلة الطهطاوي من الإسكندرية إلى مرسيليا عام ١٨٢٥م شهرًا
بالسفينة الشراعية، قضى بعدها ١٨ يومًا أخرى في الحجر الصحي. وأدى سوء الأحوال
الجوية إلى إطالة زمن الرحلة البحرية التي حملت ويلكنسون من مالطا إلى الإسكندرية
عام ١٨٣٣م إلى ما يزيد على الشهر.
١٠
وقد غيرت البواخر ذلك تمامًا؛ ففي عام ١٨٣٧م، حصلت شركة «بننسولار آند أورينتال
P & O» على عقد لنقل البريد إلى الهند
عن طريق جبل طارق ومالطا والإسكندرية. وفي عام ١٨٤٢م حصلت على مرسوم ملكي يرخص لها
بحمل البريد الحكومي إلى الهند على خط البواخر الذي مدته الشركة بين السويس
وبومباي. وفي العام ١٨٤٣م وصلت بواخر الشركة القادمة بين ساوث هامبتون إلى
الإسكندرية في رحلة استغرقت خمسة عشر يومًا. وأدى استخدام طريق أقصر عبر فرنسا
ومنها ببواخر شركة «مساجيري ماريتم» من مرسيليا إلى الإسكندرية، أدى إلى اختصار زمن
الرحلة ما بين ثلاثة وأربعة أيام.
١١
ونظم ثوماس واجهورن وصلة برية من الإسكندرية إلى السويس في خمسة أيام، جعلت
بالإمكان الوصول من لندن إلى بومباي في ٤١ أو ٤٢ يومًا. وقفز عدد المسافرين عبر مصر
من ٢٧٥ مسافرًا عام ١٨٤٤م إلى ثلاثة آلاف مسافر عام ١٨٤٧م.
وما كان غريبًا على نابليون، طلبه ثاكيراي من فندقه بالقاهرة: «بالمقارنة
بواجهورن، ذبح نابليون المماليك عند الأهرامات، ولكن واجهورن هزم الأهرام ذاتها،
وقربها من إنجلترا شهرًا، وجلب الإنجليز إليها … يروح واجهورن جيئة وذهابًا في
الفناء مشغولًا بعمله، لقد غادر بومباي صباح الأمس، وشوهد في البحر الأحمر يوم
الثلاثاء، ويتناول العشاء مساء اليوم في ريجنت بارك (بعد دقيقتين من رؤيتي به
بالفناء) ولا شك أنه الآن في مالطا أو الإسكندرية، وربما كان فيهما معًا.»
١٢
وقد أقيم نصب تذكاري تخليدًا لهذه السرعة في مدينة السويس فيما بعد.
١٣
وفي عام ١٨٣٤م، اقترح البريطانيون إقامة خط حديدي يربط القاهرة بالسويس لتسهيل
النقل البري، ولكن محمد علي رفض الاقتراح، وجاء نجله عباس الأول (١٨٤٨–١٨٥٤م) فمنح
جورج ستيفنسون، ابن رائد السكك الحديدية روبرت ستيفنسون، امتياز مد الخط الحديدي من
الإسكندرية إلى القاهرة، ثم امتد الخط إلى السويس عام ١٨٥٨م. وبحلول عام ١٨٧٣م، كانت
القطارات السريعة تقطع المسافة بين القاهرة والإسكندرية في أربعة ساعات ونصف بعد أن
كانت الرحلة تستغرق أربعة أيام.
١٤ وأقيمت شبكة أخرى من الخطوط لا صلة لها بالطريق إلى الهند، ولكنها
اتصلت بنقل القطن إلى ميناء التصدير، غطت الدلتا وبعض مناطق الصعيد. وصحب البرق
الكهربي بناء السكك الحديدية.
١٥
وكان فردينان ديلسبس صديقًا لسعيد في صباه، وعندما تولَّى الأخير الحكم منحه امتياز
حفر قناة السويس، وتغلب ديلسبس على الاعتراضات البريطانية والعثمانية، وبدأ الحفر
عام ١٨٥٩م. وجاء افتتاح القناة بعد ذلك بعشر سنوات ليضع مصر في نقطة التقاء التجارة
الآسيوية-الأوروبية. وفقد بذلك الخط الحديدي أهميته، وبدأت تظهر كتب الدليل
السياحي خاصة بمصر وحدها بعد أن كانت تشركها مع الهند في رحلة سياحية واحدة.
١٦
وقد وضع دليل ويلكنسون السياحي عام ١٨٤٧م إطار رحلة مداها ثلاثة شهور لزيارة مصر،
فالرحلة من القاهرة إلى الأقصر بالمراكب النيلية كانت تستغرق عشرين يومًا في
المتوسط ذهابًا وإيابًا، يضاف إليها ١٤ يومًا لزيارة الشلال الثاني. وكانت تلك
الرحلة التي تمتد إلى ثلاثة شهور تكلف الفرد ٨٠ جنيهًا إسترلينيًّا أو ١٢٠ جنيهًا
لشخصين. وفي عام ١٨٨٠م، كان باستطاعة السائح أن يقوم بنفس الرحلة من لندن إلى الشلال
الثاني والعودة في ستة أسابيع، رغم أن دليل موراي السياحي أوصى السائح بقضاء ما بين
شهرين ونصف الشهر وخمسة شهور، لتغطية كل ما يمكن رؤيته بمصر.
١٧
المال، والمتعة، والطبقة الاجتماعية
كانت الجولة السياحية الكبرى تربط بين أرستقراطية القرن الثامن عشر في بريطانيا
—
الذين عاشوا في وهم العصر الأوغسطي — والذين اشتركوا في المغامرة على الطريقة
الفرنسية، وحب الفن الإيطالي والآثار الرومانية.
١٨ وعلى مر القرن التاسع عشر انضم إلى الطبقة الأرستقراطية في الإقبال على
السياحة قطاع متزايد من أبناء الطبقة الوسطى الذين جنوا ثمار الثورة الصناعية،
وأقبلوا على السياحة من أجل المتعة أو الثقافة. وخرج توماس كوك، رسول سياحة عصر
الصناعة الذي ظهر من المنجم والمصنع وبلاد السكك الحديدية، وسط إنجلترا، وعمل كوك
جاهدًا ليسحب متعة السياحة لتغطي الدرجات الأدنى من السلم الاجتماعي. وانضم إلى
البريطانيين في الجولات السياحية الأوروبية، الأمريكيون من رجال الدين والكتاب
والفنانين، فقد وجد الأمريكيون في السياحة متعة استهلاكية الطابع. فالدراسة أو
الكتابة أو الرسم فيها علاج لمخاوف البيوريتان من خشية الميل إلى إشباع الشهوات.
١٩
وقد صنعت شركة بواخر
P & O أسعار السفر
على خطوطها حسب النوع، والطبقة الاجتماعية، والتمايز العرقي/الوطني. وفي عام ١٨٤٧م،
كانت أجرة السفر من إنجلترا إلى عدن ٧٧ جنيهًا إسترلينيًّا للرجل الأرستقراطي، و٨٢
جنيهًا للسيدة، و٣٧ جنيهًا للخادمة الأوروبية، و٣٥ جنيهًا للخادم الأوروبي، و٣٠
جنيهًا للخادمة من أهالي المستعمرات، ٢٦ جنيهًا للخادم من أبناء المستعمرات. ويبدو
أن المقصورات الخاصة بالنساء كانت أغلى ثمنًا، أنيقة، أو لعلها كانت أفخم من
مقصورات الرجال. وحتى بين الخدم روعي التمييز بين الأوروبيين وغيرهم، ليبقى كل في
موقعه. وبحلول عام ١٨٥٨م كانت أجرة السفر بالدرجة الثانية من ساوثهامبتون إلى
الإسكندرية، والتي استخدمها هواة الاقتصاد في النفقة، كانت تزيد قليلًا عن أجرة سفر
الخدم. وفي عام ١٨٨٠م وحدت أجور السفر بالدرجة الثانية وأجور سفر الخدم. وفي عام
١٨٩٥م، توقف دليل بايدكر السياحي عن ذكر أجرة سفر الخدم.
٢٠ كذلك اختفى التمييز في أجور السفر على أساس النوع.
وقام توماس كوك بتنظيم رحلات لمحدودي الدخل وأبناء الطبقة العاملة إلى «معرض لندن
الكبير» عام ١٨٥١م، وذلك للتغلب على خشية زبائنه من أبناء الطبقة الأولى من الاختلاط
بالسوقة. وبعد صدور قانون الإصلاح في ١٨٦٧م، ذلك القانون الذي وسع من دائرة من لهم
حق الانتخاب من الرجال، نظَّم كوك رحلة سياحية إلى مصر لأول فوج من أبناء الطبقة
الوسطى، ولكن كوك لم يستطع أن يجعل أسعار السفر عبر البحار في متناول الشرائح
الدنيا من الطبقة الوسطى، وأبناء الطبقة الدنيا إلا من سافروا منهم كخدم أو جنود أو بحارة.
٢١
مولد كتاب الدليل السياحي الحديث – موراي، بايدكر، جوان
مع ازدياد سرعة، وانضباط، ورخص أسعار وسائل السفر، قام ثلاثة من المنظمين بتبنِّي
نصيحة عملية لتلخيص ما يمكن مشاهدته في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع
عشر، مما أدى إلى اختراع كتاب الدليل السياحي. فقد ورث كل من جون موراي الثالث
(١٨٠٨–١٨٩٢م) وكارل بايدكر (١٨٠١–١٨٥٩م) دور طباعة وتوزيع كتب، بينما بدأ أدولف جوان
(١٨١٣–١٨٨١م) حياته العملية محاميًا وصحفيًّا. وكان مجال السياحة الذي يحيطه الشك
يفت في عضد المؤلفين، ويجعلهم يترددون في تقديم كتب تشرح جغرافية وطبيعة البلاد
التي تتجه إليها السياحة، والمعلومات الخاصة بها، لحث القراء على الإقدام على
مغامرة السفر. وكانت بعض نشرات الرحلات السياحية تعكس خبرات كتابها، بينما كان
بعضها الآخر يقدم معلومات عن المناخ والطرق، والنباتات، أو الشعوب، واللغات،
والطعام والعمارة، والآثار.
٢٢
وعلى نقيض النشرات السياحية، يخضع مؤلف كتاب الدليل السياحي لمطالب المحرر. ولما
كان قراء تلك الكتب هم من يعتزمون السفر سائحين، فإنهم يحتاجون إلى معلومات دقيقة
عن الأسعار، وقيمة صرف العملة، والطرق ووسائل المواصلات، وأماكن الإقامة، وألوان
الطعام، والحالة الصحية، وبعض النصائح المهمة، وما يمكن شراؤه من أشياء تذكارية.
وقد رتبت كتب الدليل السياحي المواقع حسب أهميتها، وقدمت حقائق موضوعية صحيحة.
وخرجت تلك الكتب صغيرة الحجم، يسهل حملها في اليد (hand
book) أو في الجيب (livre de
poche)، وكُتبت ليستعين بها السائح مباشرة في المواقع التي
يقوم بزيارتها.
وكما يتضح من الجدول رقم
١ (انظر الملاحق)، ظهرت كتب الدليل
السياحي الأولى الخاصة بمصر في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، كان أولها عام
١٨٣٠م، وثانيها في ١٨٣٥م، وظهرت خمس طبعات أخرى من تلك الكتب في الأربعينيات، وست
طبعات في الخمسينيات. ولم يطبع سوى كتاب واحد عام ١٨٨٢م وهو العام الذي شهد
الاضطرابات التي صحبت الثورة العرابية والاحتلال البريطاني، وكان ذلك الكتاب من
مطبوعات وزارة الحربية البريطانية، ومن الطريف أنه كان بالفرنسية وليس الإنجليزية.
وطبعت أربع كتب فقط فيما بقي من عقد الثمانينيات مما يعكس حالة القلق بالنسبة
لاستمرار الوجود الاحتلالي في مصر واندلاع الثورة المهدية بالسودان، ولكن نهاية
العصر الفيكتوري وخلال العصر الذهبي الإدواردي ظهرت ٨٢ طبعة من كتب الدليل السياحي
الخاصة بمصر فيما بين ١٨٩٠ و١٩١٤م.
وكان ريفو (١٧٨٦–١٨٥٢م) أول من أدلى في هذا المجال بكتابه الذي حمل عنوان «جدول
مصر والنوبة وملحقاتها» (نشر في باريس ١٨٣٠م). وُلد ريفو في مارسيليا، ودرس النحت،
وخدم بجيش نابليون بإسبانيا قبل قدومه إلى مصر عام ١٨١٢م ليقضي فيها أربعة عشر عامًا
كمساعد لدروفتي في جمع الآثار. ولما كان ريفو ذا قدرات علمية وأدبية، فقد قاد كتابه
السياح من الإسكندرية إلى القاهرة إلى الأهرام فيما بين الجيزة والفيوم، وصعودًا مع
النيل إلى طيبة وأسوان والشلال الثاني. وتضمن رحلات اختيارية جانبية إلى الدلتا
والبحر الأحمر وسيناء. وخصص فصولًا من الكتاب لجغرافية البلاد، وسكانها، وعاداتهم.
٢٣ واحتوت ملاحق الكتاب على ٤١ صفحة من كلمات عربية باللهجة الصعيدية،
وسبع صفحات لكلمات نوبية. لقد كان كتاب ريفو أول محاولة في مجال لم توضع بعد أصوله،
ولذلك افتقر إلى الخرائط، واكتفى بإعطاء معلومات سطحية عن الآثار، ولم يشر إلى حل
شامبليون للرموز الهيروغليفية، وأسرف في ذكر مواقع لا تهم السائح من قريب أو
بعيد.
واستجاب جاردنر ويلكنسون للتحدي الفرنسي بدليله السياحي الأكثر علمية، والذي نشر
عام ١٨٣٥م بعنوان «طبوغرافية طيبة، ونظرة عامة إلى مصر»، وقام ويلكنسون بتوقيع مقدمة
الكتاب في طيبة عام ١٨٣١م، ولا ندري كيف تلقَّى قراء الكتاب ممن يعتزمون زيارة مصر،
اعتذار المؤلف عن تأخر الكتاب في الصدور بسبب تفشي الكوليرا، ووفاة الناشر الذي
اعتزم نشر الكتاب، مما أدى إلى تأخر الطبع حتى ١٨٣٥م.
وكان تأخير طبع الكتاب خيرًا، فقد تمكن ويلكنسون أن يجد ناشرًا مناسبًا هو جون
موراي. كان جون موراي الثاني ما زال مسئولًا عن دار النشر، ولكن جون موراي الثالث
(١٨٠٨–١٨٩٢م) كان مشغولًا بتطوير كتب موراي الشهيرة للدليل السياحي. فقد أحس أن
الإنجليز الذين تدفقوا على أوروبا زائرين بعد موقعة وترلو في حاجة إلى دليل جيد
مناسب، فألف موراي الصغير كتاب «دليل المسافرين إلى هولندا وبلجيكا وبروسيا وشمال
ألمانيا وعلى الراين من هولندا إلى سويسرا» (١٨٣٦م)، وقد أدخل هذا الكتاب المصطلح
الألماني
Handbuch إلى الإنجليزية. وقد أحرزت دار
موراي شهرة عن طريق كتب الدليل وليس عن طريق الكتب الأخرى.
٢٤ وما لبثت الدار أن أصدرت كتبًا أخرى لإرشاد السياح. وكان ويلكنسون أحد
ثلاثة من أعضاء «الجمعية الجغرافية الملكية» الذين كلفهم موراي بتأليف سلسلة من تلك
الكتب.
كان كتاب ويلكنسون «طبوغرافية طيبة ونظرة عامة إلى مصر» سابقًا على أول كتاب نشر
في سلسلة موراي للدليل السياحي الأوروبي. وتضمن كتاب ويلكنسون مائتي صفة عن تاريخ
طيبة القديمة منها ٦٠ صفحة عن «عادات وتقاليد قدماء المصريين» و٢٥ صفحة عن «الإنتاج
في مصر الحديثة» وهنا فقط قفز ويلكنسون إلى الإسكندرية نقطة الدخول الوحيدة إلى مصر
للقادم من أوروبا، ووصف الطريق على النيل صعودًا إلى أسوان، متجاوزًا طيبة التي
عالجها بإسهاب من قبل. وكان نصيب الإسكندرية خمس صفحات، والقاهرة ثماني عشرة صفحة،
وأهرام الجيزة ١٢ صفحة.
وتضمنت الطبعة الأولى من كتاب ويلكنسون الملامح التي أصبحت أساسية في كل كتاب
دليل سياحي بمصر: مفردات إنجليزية — عربية، قسم عن الهيروغليفية، قائمة بخراطيش
الفراعنة، وجدول زمني لحكام مصر حتى الغزو العثماني، أضيف إليها في الطبعة الثانية
الولاة العثمانيون وأسرة محمد علي إلى زمن صدور الطبعة.
ورغم أن الطبعة الثانية من كتاب ويلكنسون (١٨٤٣م) لم تكن قد أدرجت ضمن سلسلة موراي
للدليل السياحي فقد كانت قريبة الشبه بها من حيث الإخراج، وأصبح العنوان «مصر
الحديثة وطيبة» ويبدأ الرحلة بالإسكندرية (٨٥ صفحة) والقاهرة (١٨٥ صفحة)، وجاءت
طبعة ١٨٤٧م من الكتاب ضمن سلسلة موراي، وحملت عنوان «كتاب الدليل للمسافرين إلى
مصر»، وفي الطبعة الثالثة من الكتاب في سلسلة موراي (١٨٦٧م) حل اسم موراي محل
ويلكنسون، وحملت الطبعة الرابعة اسمهما معًا. وفي ١٨٥١م ظهر دليل موراي للسياحة في
سوريا وفلسطين. وتحدث توماس كوك عن الحجاج إلى الأراضي المقدسة الذين كانوا «يحملون
الإنجيل في يد، ودليل موارى في اليد الأخرى».
٢٥
وفي فرنسا، صدر أول دليل سياحي لجوان عن منطقة الألب (١٨٤١م)، وتبع موراي في تناول
خط سير الرحلة،
٢٦ وتبع ذلك صدور دليل جوان لمناطق أخرى من فرنسا، وفي الخمسينيات أصدر
جوان دليل سياحي لإنجلترا بالفرنسية وكذلك لألمانيا وإسبانيا. وأعقب ذلك إصداره
لدليل «الشرق» وفيه مصر (١٨٦١م)،
٢٧ وجاء بعده دليل اليونان ١٨٨٨–١٨٩١م.
وكما فعل سميث في إنجلترا، أوجد الناشر الفرنسي جوان ولوي هاشيت سوقًا لكتب
الدليل السياحي بإقامة أركان لبيعها في محطات السكك الحديدية، وميز لون الغلاف
الأحمر كتب دليل موراي وبايدكر، وحملت كتب جوان اللون الذي جعلها تعرف فيما بعد
«بالدليل الأزرق».
وتناول دليل جوان للشرق (١٨٦١م) مصر وسيناء، ومالطا، واليونان، وتركيا الأوروبية،
وتركيا الإسلامية، وسوريا، وفلسطين، و«بترا العربية». وكان نصيب مصر مائتي صفحة من
بين ١١٠٠ صفحة ضمها الكتاب. وبعد مقالات افتتاحية، تبع جوان الطريق من الإسكندرية
إلى القاهرة ثم صعودًا بالنيل حتى الشلال الثاني متناولًا رحلات جانبية على طول
الطريق. ولما كان الكتاب موجهًا للقارئ الفرنسي فقد خصص صفحة لكلٍّ من معركة أبي قير
والأهرام، وحدد موقع البيت الذي أقام فيه بونابرت بالأزبكية، والموقع الذي اغتيل
فيه كليبر، وقدم شرحًا مطولًا للاكتشافات الأثرية التي قام بها مارييت في السرابيوم.
٢٨
وفي ألمانيا، أسس كارل بايدكر دارًا للنشر عام ١٨٢٧م في كوبلنز على نهر الراين،
وهي محطة على طريق خط بواخر كولن — مينز النهري الذي افتُتح في تلك السنة.
٢٩ وتأثرًا بموراي، أصدر بايدكر كتاب الدليل الأول عن ألمانيا والنمسا عام
١٨٤٢م، وأصدر أول دليل بايدكر عن مصر بالألمانية في ١٨٧٧م، وبالإنجليزية في
١٨٧٨م.
ولما كان كوك يعمل في مجال السياحة وليس النشر، باع لعملائه — في بداية الأمر —
دليل هنري جيز (منافس موراي الذي لم يعمر طويلًا). وفي ١٨٧٦م أصدرت الشركة «دليل كوك
السياحي لمصر والنيل والصحراء». وبعد ذلك بعشر سنوات تبنَّى كوك دليلًا أعده عالم
المصريات بالمتحف البريطاني إرنست بادج
٣٠ الذي بلغ عدد طبعاته ١٢ طبعة بحلول عام ١٩١٢م.
وبينما عكس دليل ريفو ذروة سيطرة القناصل، وغلب عليه طابع العمل البدائي، جاء
كتاب دليل ويلكنسون نتاجًا لعمل خبير بالمصريات. وسار بقية علماء المصريات على نهج
ويلكنسون، فقد أعد مارييت دليلًا لزوار احتفالات افتتاح قناة السويس، وكتب بادج
دليلًا لكوك. وفي عصر انتصار العلم تضمن دليل بايدكر فصولًا كتبها كبار المتخصصين
مثل عالم التاريخ الطبيعي جورج شيفا ينفورت، والكابتن ليونز من مصلحة المساحة
المصرية، وخبير العمارة الإسلامية يوليوس فرانز، والمستشرق كارل بيكر، وعلماء
المصريات صامويل بيرش، وجورج ايبرز، وجورج شتايندورف.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن أوروبا كانت في قمة الهيمنة والقوة، وتقدُّم المعرفة،
فلن يدهشنا عدم وجود دليل سياحي عربي لأوروبا في القرن التاسع عشر. كانت هناك رحلات
مثل رحلة الطهطاوي التي قدم فيها المجتمع الفرنسي وعاداته، ولكن لم يكن هناك كتاب
دليل سياحي، ليس لأوروبا فحسب، بل ولمصر ذاتها. وقد استقى مرقص سميكة — مؤسس المتحف
القبطي — معلوماته عن الآثار المصرية من دليل موراي، ودليل بايدكر، ولفتت رحلة
لتوماس كوك إلى صعيد مصر شارك فيها سلامة موسى، لفتت انتباهه إلى التاريخ الفرعوني لبلاده.
٣١
فنادق القاهرة والإسكندرية
كان زوار مصر من الأوروبيين — حتى ثلاثينيات القرن التاسع عشر — يضطرون للإقامة
في منزل أو فندق متواضع، إذا عجزوا عن العثور على مكان للإقامة ببيت قنصل بلادهم أو
أحد التجار المقيمين بمصر من أبناء بلادهم. وبعد ذلك العقد من الزمان قامت فنادق
يديرها الأوروبيون، لتقدم الإقامة المريحة الملائمة لنزلائها. وكان البريطانيون
الذين يصلون إلى الإسكندرية — في ١٨٤٣م — يقيمون بفندق «أوروبا» (الذي امتلكه هيل ثم
انتقلت ملكيته إلى راي) مقابل أربعين قرشًا في اليوم. وتولى الفرنسيون إدارة «فندق
الشرق» الذي امتلكه كولومب. وكان «فندق أوروبا» لا يزال الاختيار الأول للسائح في
دليل موراي عام ١٨٨٠م، يليه «فندق أبات».
٣٢
وفي القاهرة عام ١٨٣٠م، وجه ريفو السياح إلى الحي الفرنجي إلى جوار شارع الموسكي،
حيث كان هناك بيت ضيافة لرجال الدين الكاثوليك، يستقبل الزوار للإقامة مقابل ما
يتراوح بين سبعة وثمانية قروش في اليوم. وكان هناك خان أوروبي صغير بالقرب منه يحصل
من السائح على ١٢ قرشًا في اليوم. وفي العام ١٨٤٣م حل «فندق الشرق» المتسع الأرجاء
بالأزبكية محل فندق هيل بالحي الفرنجي، واستخدمه المسافرون بالطريق البري من الهند
وإليها مقابل خمسين قرشًا للإقامة الكاملة في اليوم الواحد. وفي عام ١٨٤٦م تحول اسم
الفندق إلى «شبرد» ليحمل اسم رجل الأعمال البريطاني الذي امتلكه.
٣٣
واختار الفرنسيون والطليان الإقامة «بفندق جياردينو» — الذي كان يملكه دوميرج —
بالحي الفرنجي مقابل ثلاثين قرشًا في اليوم.
٣٤ وقد أشاد دليل موراي في ١٨٥٨م وفي ١٨٨٠م بفنادق شبرد، وويليامز، والشرق،
وكانت تقع جميعًا بالأزبكية (انظر الشكل
١٦). وتقاطر
البريطانيون والأمريكيون على «فندق شبرد»، بينما فضل الفرنسيون «فندق الشرق». وبعد
توسع فندق شبرد ليضم ٣٥٠ غرفة، كان لا يزال يحتل قمة قائمة الفنادق عام ١٩٠٨م في
دليل بايدكر. أما أولئك الذين لم يكن يلائمهم وسط حي الأزبكية، فقد فضلوا فندق
«الجزيرة بالاس» الذي يقع بجزيرة بالنيل، أو فندق «مينا هاوس» بالأهرام الذي ظهر
بالدليل لأول مرة عام ١٨٨٩م، وتضمنت قائمة الفنادق بدليل بايدكر عام ١٩٠٨م «فندق
سميراميس» الذي ضم ثلاثمائة غرفة ويقع على النيل بالقرب من دار المعتمد البريطاني.
٣٥
الفرمانات والزي، الأعلام والأسلحة النارية
وتسجل كتب الدليل السياحي التغيرات الأساسية فيما بين العشرينيات والخمسينيات
فيما يتعلق بالفرمانات، والزي، والأعلام والأسلحة النارية بالنسبة للسياح الغربيين.
ففي عام ١٨٣٠م نصح ريفو قراءه بأن يقوم كل منهم بزيارة قنصل بلاده عند وصوله إلى
مصر، حتى يرتب له القنصل مقابلة مع محمد علي باشا ليعطيه فرمانًا يرخص له بالتجول
في البلاد وربما التنقيب عن الآثار: وفي عام ١٨٤٧م توقف تقليد مقابلة الباشا للحصول
على فرمان. وبعد ذلك بوقت طويل، ذكر بايدكر عام ١٩٠٨م، «لا تعد جوازات السفر ضرورية
ويكفي المرء أن يقدم بطاقة الزيارة التي تحمل اسمه ليتمكن — عمليًّا — من إنجاز
أعماله في داخل البلاد.»
٣٦ ولكن الحرب العالمية الأولى ما لبثت أن وضعت نهاية لذلك.
وحتى العقد الأول من القرن التاسع عشر، جرت العادة على أن يرتدي الأوروبيون الزي
المحلي حتى لا يثيرون انتباهًا إليهم غير مطلوب، وربما الشكوك والعداء. وقبل ذلك
كان «الفرنجة» يغامرون بالخروج إلى الشوارع بزيهم الغربي في الإسكندرية وحدها. وكان
ارتداء زي الأتراك يبرز اختلاف الزوار الأوروبيين عن المصريين، ويبرر عدم استخدامهم
العربية التي لا يتخذها الترك لغة للحديث. وقد ارتدى كل من بوركهارت وبلزوني، ولين،
وويلكنسون، وشامبليون، وروسيلِّينى، وبريس دافين، ارتدوا جميعًا العمامة والجلباب
وأطلقوا لحاهم على طريقة الترك. واتخذ بعضهم لنفسه اسمًا عربيًّا.
وفي العام ١٨٣٠م، نصح ريفو قراءه بارتداء الزي المحلي، ولكن سولت انتقد ويلكنسون
—
قبل ذلك بسنوات — لتوقعه تدخل القنصل لحماية من يرتدون زيًّا تركيًّا من الزوار الأوروبيين
٣٧ وفي العام ١٨٣٥م نصح ويلكنسون بارتداء الزي المحلي في القاهرة وواحات
الصحراء الغربية، والبحر الأحمر، ولكنه ذكر عدم وجود ضرورة لذلك بالصعيد، وعلى
الطريق البري (القاهرة-السويس). وفي أواخر الثلاثينيات، كان تمسك اللورد ليندساي
بزيه الأوروبي دليلًا على تحسن وضع الأوروبيين: «لم يعد هناك وجود للشتائم التي
كانت توجه للمسيحيين في السابق … فباستطاعة المسافرين التنقل بالزي الفرنجي بأمان
تام. تُرى، ماذا كان باستطاعة سانديز وليثجواي أن يقولا؟ هل كان باستطاعتهما التنبؤ
في أيامهما، أنه في العام ١٨٣٦م يستطيع بريطانيان أن يسيرا معًا علنًا في القاهرة،
يتقدمهما خادم محلي يفسح لهما الطريق مناديًا بكلمات لا تفرق بين الدواب والبشر؟»
٣٨
وفي عام ١٨٤٧م، أعلن ويلكنسون أن من يرتدي الزي المحلي ولا يتحدث العربية يصبح
مثارًا للسخرية.
٣٩
وفي العام ١٨٣٥م، أوصى ويلكنسون المسافر الأوروبي أن يرفع علم بلاده على (الدهبية)
القارب الذي يبحر به في النيل، حتى يتحاشى مضايقات قوارب الحراسة المسلحة. وتباهى
منديس كوهين بأنه كان أول أمريكي يرفع العلم الأمريكي على صفحة النيل عام ١٨٣٢م.
وشجعت القنصلية البريطانية مواطنيها على تسجيل الأعلام الشخصية المثلثة الشكل لكل
منهم حتى يستطيع كل منهم التعرف على قارب صديقه دون مشقة.
٤٠
وكان المسافر الأوروبي — في أوائل حكم محمد علي — يحمل السلاح ويستأجر فردًا أو
اثنين من «الإنكشارية» لحراسته. وجاءت نصيحة ريفو — عام ١٨٣٠م — تجنب التجول في مصر
دون سلاح، في غير موضعها؛ لأن محمد علي كان قد أقر النظام في ربوع البلاد حتى
النوبة جنوبًا. وفي العام ١٨٤٣م، لم يورد ويلكنسون ذكرًا لضرورة حمل الأسلحة النارية
دفاعًا عن النفس، أما الأمر بالنسبة لسوريا وفلسطين فكان مختلفًا، فأصر دليل موراي
على ضرورة أن يحمل السائح الأوروبي السلاح، وأن يتخذ لنفسه مرافقًا من أبناء
البلاد. وفي عام ١٨٩٥م وصف بايدكر السفر إلى مصر بأنه آمن تمامًا كما هو الحال في
أوروبا، ونصح السياح بعدم الحاجة إلى حمل السلاح إلا إذا كان السائح من هواة الصيد.
٤١
مخالطة أهل الشرق
وحفلت كتب الدليل السياحي بنصائح عامة ذات طابع عنصري، حول ما أسماه بايدكر
«مخالطة أهل الشرق». كان التراجمة يقدمون خدماتهم لزوار مصر منذ أيام هيرودوت الذي
ذكرهم باعتبارهم محرِّفين وجهلة. وفي عام ١٨٣٥م، استخدم ويلكنسون مصطلح «الترجمان»
للوسيط الذي يستخدم في التفاهم مع النخبة الحاكمة التي تتحدث التركية، ورأى عدم
وجود حاجة إليهم، ونصح السائح بأن يستأجر خادمًا أوروبيًّا من مالطا أو خادمًا
مصريًّا من حي الفرنجة بالقاهرة ممن يجيدون الحديث بالفرنسية والإيطالية. وبحلول
عام ١٨٧٣م، لم يجد دليل موراي أن هناك ضرورة لاستخدام اللغة التركية وذكر أنه من
الممكن — لقاء أجر معلوم — استئجار ترجمان يتحدث الإنجليزية أو الفرنسية أو
الإيطالية لترتيب الرحلة إلى الصعيد، فيقوم الترجمان بدوره بتأجير المركب والخدم
وجلب المؤن الضرورية للرحلة.
٤٢
وكان بعض أولئك التراجمة من الجنود الفرنسيين أو الإنجليز السابقين الذين أُسِروا
أو فروا من الخدمة أيام الحروب النابليونية. فقد التقى فرانسوا أوجست رينيه دي
شاتوبريان «مماليك فرنسيين» في خدمة محمد علي، أحدهما كان يدعى إسماعيل رشوان
(واسمه الأصلي بيير جاري) الذي رافق الكونت دي فوربان في جولته عام ١٨١٧م. ومن أشهر
البريطانيين من هؤلاء عثمان أفندي، وهو اسكتلندي، كان في صباه طبالًا أو ممرضًا،
وقع في الأسر عندما قام البريطانيون بغزو مصر ١٨٠٧م (حملة فريزر)، وتم استرقاقه
وتحول إلى الإسلام، ونجح القنصل البريطاني سولت في التدخل لإعتاقه، ولكنه رفض
العودة إلى أسكتلندا. وقد عمل مساعدًا لبوركهارت، ومترجمًا وحارسًا للقنصلية
البريطانية، وتولى تأجير البيوت بالقاهرة، وأدى خدمات لرويرت هاي وغيره.
٤٣
وحذر دليل موراي السياح من الجلبة التيستواجههم عند زيارتهم لأهرام الجيز
ة:
«يشكو الزوار من حشود القرويين الذين يتجمعون حولهم مثل سحابة من الذباب، يلحون
عليهم في قبول خدماتهم المزعجة، مما يسبب للزوار الضيق والانزعاج. ومن واجب
الترجمان الذي يرافق السائح أن يضع حدًا لهذا باختيار عدد معقول من الأدلة، ولا
يسمح لغيرهم بالاقتراب من السياح … ولا يجب أن يعطي لهم شيء أثناء وجود السائح
بالهرم، ويجب مقاومة أي مطالب لهم بحزم.»
٤٤
وهناك رسم هزلي من السبعينيات عن «الحمَّارين والسياح الأجانب» يعبر عن المفهوم
الشائع بين الأوروبيين عن «مخالطة أهل الشرق» (انظر الشكل
١٧).
وقد عكست الصلات بين السياح وأهالي البلاد — غالبًا — حدة التمايز النوعي، فتبين
إحدى اللوحات سائحين — رجل وامرأة — محمولين عبر مخاضة ماء كانت موجودة قبل رفع
مستوى طريق أهرام الجيزة عام ١٨٦٩م (انظر الشكل
٤)، وهناك صورة
فوتوغرافية نادرة تبين نساء العصر الفيكتوري وهن يسحبن من ظهورهن بحبال حول خواصرهن
لصعود الهرم (انظر الشكل
١٩)، وسوف نتناول الرؤية الخيالية
للمرأة الشرقية عند الرجل الغربي فيما بعد. فقد كان أبرز ما جاء برحلة جستاف
فلابير؛ تلك الرحلة التي قضاها مع الراقصة كوجك هانم بإسنا، وليس زيارته للكرنك أو الأهرام.
٤٥
وحذر دليل بايدكر من إعطاء «البقشيش» دون مقابل، عندما راح يعدد الطباع الصبيانية
لبعض «أبناء البلاد»: «يعتبر الشرقي العادي السائح الأوروبي مغفلًا، بل — أحيانًا —
يعتبره مجنونًا؛ فالشرقي لا يقدر قيمة السياحة ومتعتها؛ فالسياح غالبًا ما يدفعون
الكثير من أجل تحقيق متعة وقتية بثمن باهظ، ولا يدركون أن بذور الطمع الذي لا نهاية
لها قد بذرت، لتؤتي أكلها لمن يخلفهم، وتفسد من أخلاق المتلقين أنفسهم. لذلك لا يجب
إعطاء البقشيش إلا في مقابل خدمة …
ويجب أن نتذكر دائمًا أن المصريين يحتلون أكثر الدرجات دنوًا في سلم الحضارة
مقارنة بمعظم أمم الغرب، ويعد الجشع أحد الأسباب الرئيسة لفشلهم، ولكن إذا وضع
السائح عيوبهم في اعتباره، وعاملهم بالكثير من الحزم، لوجد أنهم لا يفتقرون إلى
الإخلاص والأمانة ورقَّة الحاشية.»
٤٦
وفي العام ١٨٣٠م، حذر ريفو السائح من شراء الآثار المزيفة، واتهم فلاحي الصعيد
ويهود القاهرة بترويجها، وبعد ذلك بخمس سنوات جاء بدليل ويلكنسون أن أسعار الآثار
بقرية القرنة (مقابل الأقصر) قد تضاعفت بسبب تزايد عدد السياح الوافدين إلى مصر منذ
العام ١٨١٦م.
٤٧
ومع تعاقب عقود القرن التاسع عشر، استنكرت كتب الدليل السياحي الرق، وطقس
«الدوسة» حيث يمر الشيخ الصوفي بحصانه فوق أجساد مريديه. وذكر ريفو — دون حرج — أن
سعر الجارية السوداء الجميلة في العاشرة من عمرها يتراوح بين ٦٠٠–٨٠٠ قرشًا
بالقاهرة، بينما تبلغ قيمة الجارية الجركسية ستة آلاف قرشًا أو تزيد، وقد اشترى كل
من لين وويلكنسون جارية، وعدَّا ذلك من قبيل الإحسان، وما لبث لين أن تزوج الجارية
التي اشتراها.
٤٨ وذكر دليل موراي لعام ١٨٥٨م، أنه منذ قيام سعيد بإلغاء تجارة الرقيق، لم
يعد سوق العبيد بالقاهرة مكانًا يستحق الزيارة.
٤٩
وأعلن دليل موراي في ١٨٥٨م، ومرة أخرى في ١٨٨٠م، أن: «لا يستطيع الأوروبي مشاهدة
حفل «الدوسة» دون أن يشعر بالفزع والاشمئزاز. وفي تلك المناسبة يمتطي شيخ السجادة
حصانًا … وتجري الطقوس في الأزبكية حيث يرقد على الأرض ما بين ٢٠٠ و٣٠٠ من المريدين
ملتصقين ببعضهم البعض، ويمر الشيخ بحصانه فوقهم … ويقيم هذا الاحتفال البرهان على
التعصب الوحشي الذي لا يصدقه من لم يره رأي العين.»
وفي دليل بايدكر للعام ١٨٣٥م، وصف حفل «الدوسة» بأنه «عادة بربرية» تم إلغاؤها على
يد الخديو توفيق، ولكن يقال إن أتباع «الطريقة العلوانية» يمارسون أحيانًا مضغ جمر
الفحم وابتلاعه، وابتلاع قطع الزجاج المكسور، ويمارسون «الرقص الوحشي».
٥٠
السياح والأوروبيون المقيمون، الجنسيات والأعداد
يذكر ريفو — عام ١٨٣٠م — أن القاهرة افتقرت إلى الصحف والبورصات، والأكاديميات،
ودور العرض المسرحي، وأن الأوروبيين يجتمعون عادة في حديقتين: إحداهما بالقنصلية
الفرنسية، والأخرى في دير قبطي حيث يقيم الكاثوليك صلواتهم، وأكد دليل موراي ذلك
عام ١٨٥٨م، فذكر أن «القاهرة لا تكاد تقدِّم للسياح أماكن عامة للترويح عن أنفسهم»،
٥١ ولكن تدفق السياح الذين يسعون لتجربة حظهم على النيل، سرعان ما غير
ذلك. فقد زاد تعداد الأوروبيين ومن تمتعوا بحمايتهم نحو عشرة أضعاف بالإسكندرية من
٤٨٢٤ عامًا ١٨٤٨م (٥٪ من سكان المدينة) إلى ٤٢٨٨٤ عامًا ١٨٧٨م (نحو ربع سكان المدينة).
٥٢ وفي عام ١٨٧٣م تضمَّن دليل موراي قائمة بالقنصليات، ومكاتب البريد
الأوروبية والمحلية، ومكاتب البرق، والبنوك، والمقاهي، والمطاعم، ومحلات بيع الكتب،
والمصورين، والصيدليات، والأطباء، وأطباء الأسنان، والترزية، وتجار المواد
التموينية، والجواهرجية، والحلاقين، بالقاهرة والإسكندرية. كذلك تضمن الدليل كنائس
الروم الكاثوليك، والإنجيليين، والبرسبتاريين الأسكتلنديين والأمريكان، واللوثريين،
والبروتستانت الفرنسيين، واليونان الأرثوذكس، واليونان الكاثوليك، والموارنة،
والأرمن، والمعابد اليهودية بالمدينتين. وكان دليل ويلكنسون في الأربعينيات قد أوصى
السائح بأن يحضر معه «الأشياء اللازمة لرحلته بمصر» لأنه يصعب الحصول عليها
بالبلاد. وفي العام ١٨٧٣م، كان كل ما يلزم السائح من أغراض متوفرًا بالقاهرة
والإسكندرية، رغم أن الأسعار لم تكن دائمًا مناسبة. وفي دليل بايدكر عام ١٨٩٥م، لم
يجد صاحبه أن هناك ما يدعو للإبقاء على تلك القوائم.
٥٣
وفي العام ١٨٧٣م، قدَّرت إيمليا إدواردز أنه من بين كل «دهبية» راسية بالأقصر، كان
البريطانيون يشغلون ١٢ والأمريكان ٩ والألمان ٢، وشغل الفرنسيون والبلجيك واحدة لكلٍّ.
٥٤ وقد بينَّا في ملاحق هذا الكتاب (الجدول
٢) توزيع
السياح حسب الجنسيات وفق ما أورده مؤلفو كتب الدليل السياحي لمصر، (الجدول
٣) يبين أن الأوروبيين المقيمين بمصر تمتعوا بحماية دولهم، (الجدول
٤) يلخص المادة الواردة في الجداول من
١–
٣. فقد كانت هناك علاقة بين حجم الجالية
المقيمة بمصر من أبناء البلد الأوروبي ومكانها في مجال السياحة. ولم يكن لليونانيين
وجود كسياح، ولكن كانت لهم أكبر جالية في مصر. ولم يصدر سوى دليل سياحي واحد
بالإيطالية، رغم أن الجالية الإيطالية بمصر تحتل الموقع الثاني من حيث الحجم، بينما
فاق البريطانيون — الذين احتلت جاليتهم المركز الثالث من حيث الحجم — غيرهم في عدد
كتب الدليل السياحي، وفي السياح حتى تفوَّق عليهم الأمريكان فيما بعد.
وترجع هذه العلاقة العكسية بين حجم الجاليات الأوروبية المقيمة في مصر، ونصيب
بلادها من حركة السياحة، ترجع إلى سرعة تطور بريطانيا والولايات المتحدة على طريق
الصناعة، وما صاحب ذلك من اتساع حجم الطبقة الوسطى التي توفر لها الرخاء المادي
الذي يتيح لها فرصة السفر والسياحة. أما اليونان وإيطاليا (وخاصة في الجنوب) فقد
كان حظهما من الصناعة قليل، فكانتا مستوردتين للسياح ومصدِّرتين للأيدي
العاملة.
كتب ثيوفيل جوتبيه عام ١٨٤٠م «الإنجليز في كل مكان ما عدا لندن، التي لا تجد فيها
إلا الإيطاليين والبولنديين.»
٥٥ ولعل بعض مَن كان يفتقدهم من سكان لندن توجهوا إلى مصر لقضاء جانب من
فصل الشتاء هناك، وحيث كان السياح البريطانيون منتشرين في كل مكان بأعداد كبيرة.
وربما زاد عدد السياح الأمريكان على عدد البريطانيين في عقد الثمانينيات، عندما
احتل الأمريكان المقدمة في عدد كتب الرحلات التي نشرت عن مصر بالإنجليزية. وعلى كل
فقد كان عدد الأمريكان المقيمين في مصر عام ١٩٠٧م لا يتجاوز ٥٢١ فردًا.
ورغم طول المدى الزمني للروابط الفرنسية — المصرية، نشر البريطانيون من كتب
الرحلات وكتب الدليل السياحي ما فاق ما نشره الفرنسيون، ولم يزد عدد كتب الرحلات
الفرنسية عن مصر على عدد ما نشر بالإنجليزية إلا في الستينيات التي شهدت عصر ديلسبس
ونابليون الثالث وولع الخديو إسماعيل بالثقافة الفرنسية.
لقد تدفق الأمريكان عبر الأطلنطي بعد انتهاء الحرب الأهلية التي شغلتهم طويلًا،
تمامًا كما فعل الإنجليز عندما عبروا القنال الإنجليزي بعد ووترلو.
٥٦ وارتفع عدد كتب الرحلات الأمريكية التي كُتبت عن مصر، ولكن لم يُنشر
دليل سياحي أمريكي لمصر قبل الحرب العالمية الأولى.
٥٧ ويبدو أن السياح الأمريكيين اكتفوا بما كان ينشره موراي وكوك
وبايدكر.
وبدأ الألمان ينشرون العديد من كتب الرحلات عن مصر في عقد الأربعينيات، ورغم أن
الألمان لم يواكبوا العدد المتزايد من كتب الرحلات التي نشرها الأمريكيون بعد الحرب
الأهلية، ولكن كتب الدليل السياحي الألمانية عكست الاهتمام بالعالم الخارجي بعد
توحيد المانيا عام ١٨٧١م.
كتب جورج ستيفنس عام ١٨٩٨م يقول: «حقق البريطانيون والأمريكان الغلبة في هذا
الميدان، ولكن اللافت للنظر بروز الألمان في هذا المجال. فمنذ عشر سنوات كنت تستطيع
القول إنه لم يتوفر لديهم المال ولا الخبرة للسفر إلى أبعد من نابولي، واليوم تراهم
في كل مكان. لقد استمعنا إلى صوت أغنية قادمة من باخرة من بعيد، فإذا هي ألمانية.»
٥٨ ومثَّل دليل بايدكر السياحي عن مصر بالإنجليزية إحدى قنوات التأثير
الألماني.
القراءات والأماكن الموصى بها
لعل ويلكسنون كان حسَن الظن بقرائه عندما اقترح عليهم أن يحملوا معهم مجموعة من
الكتب لهيرودوت وغيره من المؤلفين القدامى (الكلاسيكيين)، وشامبليون، وكتب الرحالة
الذين زاروا مصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكتاب لين عن المصريين
المحدثين، وكتاب ويلكنسون — نفسه — عن قدماء المصريين، وقد أصبح ذكر قائمة القراءات
التي يوصي السائح بقراءتها نموذجًا يحتذى به في كتب الدليل السياحي الصادرة عن
موراي وبايدكر.
وأوصى ويلكنسون السائح أن يحمل معه سدسية (آلة لقياس الأجرام المساوية)، وأفق
صناعي، وكرونومتر (لقياس الزمن)، وسحارة، وبارومتر (لقياس الضغط الجوي)، وترمومتر
(لقياس درجة الحرارة)، ومقياس متري.
٥٩ وتذكِّرنا هذه الوصية بطريقة الرجال الهواة من خارج الجامعات — مثل لايل،
ودارون ولين، وويلكنسون ذاته — في إجراء معظم بحوثهم في العصر الفيكتوري. وقد تضمَّن
دليل ويلكنسون/موراي (من الأربعينيات حتى السبعينيات) قائمةً «بنقاط معينة في حاجة
إلى فحص» تعبيرًا عن فن السفر؛ فالذين أوقفوا حياتهم على القيام برحلات، قاموا بذلك
طلبًا للحقائق أكثر من سعيهم للشهرة أو المنفعة، أو التسلية، أو التعلم أو جمع
الآثار، أو الاستعداد لاحتراف مهنة. وقد أورد كتاب ليوبولد برشتولد «مقال في توجيه
اتجاه وتحديد مجال استطلاع الرحالة الوطنيين» (نشر ١٧٨٩م) أسئلة على الرحالة أن يبحث
عن إجابة لها، بلغ عددها ٢٤٤٣ سؤالًا، ولعله كان آخر كتاب من نوعه.
٦٠
واقترح دليل ويلكنسون/موراي على القارئ التنقيب عن الآثار في عين شمس، وعند أبي
الهول بالجيزة، وفي مدينة سايس بالدلتا، وأن يقوموا بنسخ السقوف الفلكية بوادي
الملوك، وكل الرموز والكتابة الهيروغليفية في مقبرة واحدة، والنقوش على الأعمدة
التسعة والسبعين بمعبد إدفو، وأسماء الملوك وتماثيلهم في «إثيوبيا العليا». وحث
الدليل القراء على البحث عن النقوش المثلثة على الأحجار التي أعيد استخدامها في
مساجد القاهرة، والأقواس المدببة التي ترجع إلى مطلع العصر الإسلامي في أسوان،
وموقع المستعمرة اليونانية في نوكواتيس، وموقع الإسكندرية القديمة، وتبدو هذه
المقترحات بالغة الغرابة الآن؛ لأن السائح، وعالم الآثار يسير كل منهم اليوم في
طريق منفصل عن الآخر، وعند العام ١٨٧٣م، أقر دليل موراي بوضوح أن قائمة توصياته التي
حذفت معظمها بتلك الطبعة كانت تمثل نوعًا من المفارقة التاريخية؛ لأن «مارييت وغيره
قد أجابوا بالفعل عن الكثير مما ورد بقائمة الأسئلة التقليدية، وأن الآثار المصرية
قد وضعها الخديو في متحف وجعل مارييت مسئولًا عنه، كما لم يعد مسموحًا لأي فرد، أن
ينقب عن الآثار في أي مكان يشاء دون الحصول على ترخيص بذلك، كما أصبح تصدير الآثار
للخارج محظورًا.»
٦١ واختفت القائمة تمامًا من طبعة ١٨٨٠م.
من بلد الأوبئة إلى منتجع صحي
كان المرضى من البريطانيين يهربون من الشتاء القارص في بلادهم إلى البحر المتوسط
طلبًا للشفاء، عندما مات كينس بروما في عام ١٨٢١م. وبعد ذلك بأربع سنوات، ترك إدوارد
لين عمله في مجال النقش متجهًا إلى مصر لأسباب صحية. ولكن الأوروبيين — أيضًا —
يذكرون مصر باعتبارها بلاد الطاعون الذي يرد ذكره بالكتاب المقدس، وقد قضى بوركهارت
نحبه بمصر عام ١٨١٧م بسبب الدوسنطاريا، كما أن زوجة سولت، والناشر الذي كان ويلكنسون
يعتزم نشر دليله عنده، ماتا بالطاعون. وقد ذكر كينجليك في كتابه «إيوثن» أن كل من
التقاه بالقاهرة تقريبًا في العام ١٨٣٥م حصده الطاعون.
٦٢ وقضت الكوليرا على ابن صامويل شيبرد الطفل، وعلى زوجة مارييت. «لأسباب
مجهولة» أقيمت المحاجر الصحية في مارسيليا، وليجورن وجنوا والبندقية، كما أقيم
نطاق على الحدود الشرقية لإمبراطورية الهابسيورج لمنع دخول الوباء الذي كان متفشيًا
في الشرق الأوسط. ولم يتم اكتشاف انتقال ميكروب الطاعون عن طريق براغيث الفئران إلا
في العام ١٨٩٨م. وخصص ويلكنسون تسع صفحات من دليله للحديث عن إجراءات الحجر الصحي
بجزيرة مالطا التي استغرقت ما بين ١٩ و٢٤ يومًا يقضيها المسافر إلى أوروبا.
٦٣ وكانت الطرق البحرية المباشرة بين الإسكندرية وإنجلترا تتمتع بميزة
قضاء فترة الحجر الصحي خلال الرحلة.
وعكست المحاجر الصحية الاعتقاد الذي ساد عند الأوروبيين — في القرن السابع عشر —
أن الطاعون مرضٌ معدٍ. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قدم معارضو هذه الفكرة
تحديًا عمليًّا لها، إذ قام كلوت بك — الطبيب الفرنسي الذي تولَّى نظارة مدرسة الطب
في عهد محمد علي — بحقن نفسه بدم أحد ضحايا الطاعون ثلاث مرات ليقيم الدليل على أن
الطاعون غير معد. وفي شمالي أوروبا، ساعدت الثورتان التجارية والصناعية على ترجيح
كفة انعدام العدوى بالطاعون. فقد أشار الدكتور جون باورنج في تقريره عن مصر وكريت
عام ١٨٤٠م إلى ما تتعرض له التجارة من تكلفة طائلة بسبب الحجر الصحي الذي يتعرض له
المسافرون والتجار. وساند أنصار التجارة الحرة بمدرسة مانشستر القائلون بانعدام
العدوى الذين كانوا ينصحون بالتخلص من النفايات بطريقة صحية، وتجديد الهواء،
والاهتمام بالسكن، وتقويم العادات.
وعلى كلٍّ، أدرك الإيطاليون بحكم الخبرة أن الأوبئة تصل بحرًا وتنتشر برًّا، وأقام
الأطباء الإيطاليون محاجر جديدة بالإسكندرية وبلاد الشام في الثلاثينيات، وكانت
فرنسا — التي لها شواطئ على البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي — منقسمة حول هذه
القضية. وكان حلم ديليسبس الكبير بشق القنوات لخدمة التجارة الدولية قد قرَّبه من
أفكار كلوت بك.
وعلى أية حال، اختفى الطاعون من مصر بعد العام ١٨٤٤م بصورة غامضة. ولكن دليل
ويلكنسون/موراي عام ١٨٤٧م، كان لا يزال يذكر بالتفصيل إجراءات الحجر الصحي بجزيرة
مالطا وميناء مارسيليا وفي إيطاليا التي تم إغلاقها بعد ذلك بقليل. وفي دليل موراي
عام ١٨٥٨م ورد ذكر الطاعون باعتباره «وباء سابق».
٦٤
وقبل أن ينحسر الطاعون، لعبت البواخر والخطوط الحديدية دورًا مهمًّا في نقل
الكوليرا من موطنها بالبنغال إلى أقطار بعيدة. وساعدت شبكة الري — التي شهدت توسعًا
في مصر — على نقل هذا الوباء الذي ينتقل عن طريق الماء. وقد حمل الحجاج الوباء معهم
من الحجاز إلى مصر عام ١٨٣١م، وذلك الوباء الذي استمر معهم حتى ١٨٣٧م، ثم انتقل إلى
أوروبا وأمريكا. وقد أصاب وباء الكوليرا مصر ١١ مرة فيما بين ١٨٣١ و١٩٠٢م. وجلب
الحجاج الهنود الوباء معهم إلى مكة ١٨٦٥م، وانتقل إلى الحجاج المصريين الذين أدى
استخدامهم للخط الحديدي السويس-القاهرة-الإسكندرية في رحلة العودة إلى انتشار
الوباء بسرعة في جميع أنحاء البلاد. وقد نجح عالم البكتريولوجي الألماني روبرت كوخ
في تتبُّع ميكروب الكوليرا في مصر خلال وباء ١٨٨٣م واستطاع أن يضع يده عليه بالهند في
العام التالي.
٦٥
وأدى وباء الكوليرا (١٨٣١-١٨٣٢م) إلى تكليف محمد علي للقناصل بتشكيل مجلس للصحة
ومحجر بالإسكندرية تحت إدارة طبيب إيطالي. ودفع وباء (١٨٤٦–١٨٥٠م) الأوروبيين
والعثمانيين والمصريين إلى إرسال مندوبين إلى أول مؤتمر صحي دولي عقد بباريس عام
١٨٥١م، وعقد المؤتمر الدولي الصحي الثاني بإستانبول عام ١٨٦٦م. وتبع ذلك وقوع وباء
كوليرا آخر أدى إلى وضع نظام حجر صحي دولي على الساحل المصري للبحر الأحمر.
٦٦
ورغم العودة الدورية للكوليرا، أدى اختفاء الطاعون إلى تمهيد الطريق لكي تصبح مصر
منتجعًا للأوروبيين؛ ففي العام ١٨٥٩م نشر ريل كتابًا بالألمانية بعنوان «مصر منتجع
للمرضى في فصل الشتاء»، وجاءت لوسي دف جوردون عام ١٨٦٢م لتستشفي في مصر من مرض السل،
لتنشر الدعاية لجوِّ مصر الشتوي الصحي، قبل أن يتغلب عليها المرض بعد ذلك بسبع سنوات.
٦٧
وأوصى دليل موراي عام ١٨٧٣م بزيارة مصر «مرضى السل الرئوي، والربو الشعبي، وحالات
التهاب المفاصل المزمنة، وانتفاخ أمعاء البطن، والإرهاق العصبي، وقصور الدورة
الدموية نتيجة حالة مرضية متقدمة بالقلب … والأمراض السرية بمختلف أنواعها، وتضم الغدة.»
٦٨
وبحلول عام ١٨٥٨م، اجتذبت عيون حلوان الكبريتية الأتراك والأوروبيين الذين ينشدون
الاستشفاء من أمراضهم، وعند نهاية القرن أنشئ فندق مينا هاوس بالهرم وكذلك فنادق
الأقصر وأسوان كمنتجعات صحية بكل منها أطباء وممرضات مقيمون من الأوروبيين.
٦٩
الاتجاه إلى الصعيد – الدهبية، الباخرة، القطار
حققت السياحة في الصعيد تقدمًا على ثلاثة مراحل خلال القرن التاسع عشر، ارتبطت كل
واحدة منها بوسيلة نقل معينة هي: الدهبية، والباخرة، والقطار، وكان الإبحار إلى
الصعيد بالدهبية بطيئًا، مكلفًا، قاصرًا على السياح الأثرياء؛ ففي ١٨٥٨م كان إيجار
الدهبية الكبيرة لثلاثة أو أربعة مسافرين، بمقصورتين، أو ثلاث مقصورات مجهزة،
وحمام، يتراوح بين ٥٠–٧٩ جنيهًا إسترلينيًّا شهريًّا. أما الدهبية المتوسطة الحجم
التي يعمل بها طاقم من عشرة أفراد (من بينهم طباخ وترجمان)، فكانت تحمل شخصين من
السياح إلى الشلال الثاني ذهابًا وإيابًا بتكلفة قدرها ٢٠٠ جنيه لمدة شهرين.
وكانت الرحلة من القاهرة إلى الأقصر والعودة تستغرق أربعين يومًا وتكلف ١١٠ جنيهات،
أما الرحلة إلى أسوان ذهابًا وإيابًا فتستغرق خمسين يومًا، وتكلف ١٥٠ جنيهًا. وكان
جدول زيارة الأقصر يتضمن التوقف لمدة عشرة أيام لزيارة الآثار، ولكن إذا هبت ريح
معاكسة، فقد يؤدي ذلك إلى إطالة زمن الرحلة كثيرًا.
٧٠
وقد أوصى دليل ويلكنسون للعام ١٨٤٣م بضرورة غمر المركب المستأجر بالماء تمامًا ثم
تفريغه قبل القيام بالرحلة لتخليصه من الفئران والحشرات، ونصح السائح بأن يحمل معه
مصيدة فئران حديدية، وقفصًا من الدجاج، وبقسماطًا؛ لأن الخبز لا يتوفر في القرى على
الطريق. وقدم للقارئ نموذجًا لعقد استئجار الدهبية الذي يجب أن يبرم في القنصلية.
٧١
وفي عام ١٨٥٨م، أصبحت الباخرة بديلًا للدهبية، ولكنها لا تقوم برحلة القاهرة-أسوان
والعودة التي تستغرق عشرين يومًا إلا إذا توفر عددٌ كافٍ من السياح الراغبين في
السفر. وكانت التكلفة الإجمالي للرحلة للفرد عشرين جنيهًا، وعشرة جنيهات للخادم
المرافق لسيده. وبحلول عام ١٨٧٣م، أصبحت رحلات البواخر تسير بانتظام طوال الموسم
السياحي. وأدى استخدام البواخر في رحلات الصعيد إلى خفض زمن الرحلة إلى النصف أو
حتى الثلث، وحررت السياح من الخضوع لحركة الرياح، وأدخلت نظام الجداول الزمنية الذي
اقترن بعصر الصناعة.
٧٢
وعند العام ١٩٠٠م، كان القطار قد اختصر زمن الرحلة إلى الصعيد وتكلفتها اختصارًا
كبيرًا. فبعد أن وصل الخط الحديدي إلى المنيا عام ١٨٦٧م وإلى أسيوط عام ١٨٧٤م توقَّف
مدُّ
الخطوط الحديدية جنوبًا مدة عقدين من الزمان، ورغم أن الهدف من الخط هو توفير وسيلة
نقل للسكر المنتَج هناك، فإن السياح كان باستطاعتهم السفر بالقطار حتى أسيوط، حيث
يستأجرون دهبية أو باخرة لإكمال الرحلة جنوبًا، والعودة إلى أسيوط لمتابعة السفر
إلى القاهرة بالقطار، وأدت حملة استرداد السودان بقيادة كتشنر إلى مد الخط الحديدي
إلى أسوان عام ١٨٩٨م، وأصبح باستطاعة السائح أن يتجه بالباخرة من أسوان إلى وادي
حلفا حيث مد كتشنر خطًّا حديديًّا من أبو حمد إلى الخرطوم.
٧٣ وفي عام ١٩٠٨م كانت رحلة القطار بعربات النوم تستغرق ١٤ ساعة من القاهرة
إلى الأقصر، تضاف إليها ست ساعات ونصف للوصول إلى أسوان، وبذلك أمكن ضغط الرحلة
السياحية القاهرة-الأقصر لتستغرق بضعة أيام.
٧٤ وبذلك اختصر القطار زمن الرحلة بالباخرة إلى النصف أو الثلث، تمامًا
كما فعلت الباخرة مع الدهبية من قبل. وانقرضت سياحة الدهبية، أما الباخرة التي عانت
من مشكلة الوقت والتكلفة فقد ظل استخدامها دليلًا على الفخامة والمتعة مقارنة
بالقطار.
وفي نفس الوقت، صحب البرق الكهربي (التلغراف) الخطوط الحديدية في العالم كله،
وتجاوزها أحيانًا إلى أصقاع لا تصل إليها. وقد ربط أول خط دولي للبرق بين بريطانيا
وفرنسا عام ١٨٥١م في وقت معاصر للمعرض الكبير، وفتح خط البرق بين كلكتا وبومباي عام
١٨٥٤م مما ساعد البريطانيين على قمع «التمرد» بعد ذلك بثلاث سنوات، ولكن أخبار
الثورة لم تصل إلى لندن إلا بعد أربعين يومًا. وقد مدت العديد من الكابلات لربط
لندن بالهند عبر الدولة العثمانية وروسيا عام ١٨٦٥م، وذلك قبل عام من مد الكابل
البحري عبر الأطلنطي بنجاح، وخلال أزمة فاشودة عام ١٨٩٨م، كان كتشنر على اتصال دائم
بلندن بفضل خط البرق أم درمان-القاهرة، أما غريمه جان باتست مارشان فقد كان
محرومًا من تلك الميزة معزولًا عن باريس.
٧٥
وفي عام ١٨٨٠م، كانت رحلة الباخرة العادية التي تحمل ما بين ٢٥ و٣٠ سائحًا، معهم
طبيب وترجمان، تتوقف ثلاثة أيام في الأقصر ويوم واحد في أسوان. وفي ١٨٧٣م عقد دليل
موراي مقارنة بين متعة الرحلة بالدهبية والرحلة بالباخرة الأرخص سعرًا، على النحو
التالي:
«باستطاعة من يريدون زيارة مصر في أقصر وقت ممكن … التوجه من لندن إلى الشلال
الثاني والعودة في ستة أسابيع … إن السفر بالقارب الخاص بك يجعلك سيد نفسك؛ لأنه
إلى جانب وجودك وسط مجموعة من الناس الذين لا تعرفهم، فإن عليك أن تفعل كل شيء في
وقت محدد، ولا يُترك لك إلا وقت معلوم من الساعات أو الدقائق لزيارة المواقع
الأثرية. إن الميزة الوحيدة للباخرة هي اقتصاد الوقت والمال … أما كل من لديهم
الوقت والمال فنقول لهم: اختر الدهبية، وإياك والباخرة.»
وكتب جابرييل شارمز: «طالما كنت محشورًا على ظهر باخرة مع مائة من الإنجليز
رجالًا ونساءً، علينا أن نغادر الباخرة معًا في كل مكان نتوقف فيه، ونصعد معًا في
وقت واحد، ولا تتاح لنا رؤية الأثر الذي يعجبنا سوى دقائق معدودات، وشعورنا بأننا
جميعًا نمثل شحنة واحدة، لم يجعلني أشعر بالرضا لحظة واحدة.»
٧٦
وعلى حين عبَّر الدليل السياحي لموراي عن تقديره للرحلة بالباخرة، يفترض دليل
بايدكر عام ١٩٠٨م أن «السائح العادي» قد يستخدم الباخرة أو القطار — أما السياح
الذين لا يحسبون للوقت والمال حسابًا، فإن استئجار الدهبية يبدو ممتعًا. كان توماس
كوك — عندئذٍ — قد توسَّع في سوق النقل السياحي الفاخر بامتلاك سبع بواخر و١٣ دهبية
شراعية، وكانت الدهبية «نيتوكريس» أرقاها من حيث الفخامة تؤجر شهريًّا بمبلغ ٤٠٠
جنيه إسترليني لأربعة أفراد، وبذلك يتكلف الفرد ضعف ما يكلفه السفر في رحلة
بالباخرة: القاهرة-أسوان والعودة لمدة عشرين يومًا، إذ كانت الأجرة للفرد ٥٠ جنيهًا.
٧٧
وقد أدى استخدام الدهبيات والبواخر كأماكن للإقامة، أدى إلى تأخير الطلب على
الفنادق السياحية بالأقصر وأسوان. وأوصت الطبعات الأولى من دليل ويلكنسون السائح
بأن يحمل فراشًا معه، ومقشة ليكنس الأرض عند مقابر الجيزة والإيوان الأول بالكرنك
حتى يجهز مكانًا لفراشه. ولكن اللورد ليندساي لاحظ في ١٨٣٦-١٨٣٧م أن «ما يمنع النساء
الإنجليزيات من قضاء الشتاء في طيبة كما يفعلن الآن في باريس وروما، هو عدم وجود
فندق في مدينة سيزوستريس، ولو أقيم فندق هناك لحقق أرباحًا كبيرة.»
٧٨ وفي عام ١٨٧٧م أقدم توماس كوك على خطوة جديدة فافتتح «فندق الأقصر» —
الذي امتلكته شركته — وذلك بدلًا من تزويد السياح بقسائم للإقامة في الفنادق الأخرى
هناك، وفيما بعد، باعت الشركة الفندق لمديره بانون الذي كوَّن إمبراطورية خاصة به في
مجال الفندقة شملت «جراند هوتيل» و«كتراكت هوتيل» بأسوان، وكذلك فندق «ونتر بالاس بالأقصر».
٧٩
الرسم وقصص الرحالة، والصور، وبطاقات البريد
تفقد السياحة الخارجية نصف متعتها، ما لم تتح للأهل في الوطن فرصة التعرف على ما
حققه السائح في رحلته، فيرمقونه بالإعجاب والحسد معًا. وكان سياح العصر الفيكتوري
من البريطانيين ينقلون تجاربهم إلى الأهل من خلال ما كانوا يرسلونه من خطابات، وكتب
الرحلات، والكتب العلمية، والرسم، والصور الفوتوغرافية، وبطاقات البريد.
لقد دفعت أحلام الاستشراق الرومانسية بالكثير من الرحالة صوب الشرق، كان الكثير
منهم ينشد التخلص من قبح المدن الصناعية في بلادهم، ولكن الثروة والقوة التي حققتها
الثورة الصناعية هي التي أتاحت لشرائح واسعة من الطبقة الوسطى القدرة على السفر.
وكان باستطاعة الارستقراط الذين يبحثون عن «البدو المتوحشين النبلاء» أن يتصوروا أن
الزمن قد عاد بهم إلى الوراء إلى مجتمع يختلف نظامه الفطري عن نظامهم
«الأفضل».
أما زبائن سياحة الشرق، فكانوا ينشدون اقتفاء آثار الأبطال الحقيقيين أو
الخياليين، فنشر جون موراي الثاني أعمال بايرون، ووالتر سكوت، ونشر جون موراي
الثالث كتب الدليل السياحي التي أوردت اقتباسات من تلك الأعمال الرومانسية،
٨٠ «كان كل رجل إنجليزي يحمل دليل موراي ليستقي منه المعلومات، وبايرون
ليتزود منه بشحنة عاطفية، وعن طريقهما يهتدي إلى ما يجب أن يعرفه ويحسه في كل خطوة يخطوها.»
٨١ ورغم أن شيلي لم يتجاوز حدود إيطاليا إلا أننا لا يمكن أن ننسى السطور
التي كتبها عن مصر: «التقيت مسافرًا من بلاد عتيقة … اسمي أوزيما ندياس ملك الملوك،
انظر إلى أعمالي، يا صاحب العظمة، والبأس»، وأضافت زيارات ألكسندر كينجليك، ووليم
ثاكيراي، وأنتوني ترولوب لمصر إضافات إلى أدب الرحلات المصرية، تمامًا كما فعل
الكتاب الفرنسيون: شاتوبريان، وألفونس-ماري-لوي دي لامارتان، وجيرار دي ترفال،
وفلوبير، ويتوفيل جوتييه، وانفرد من بين الكتَّاب الأمريكان: هيرمان ملفيل، ومارك
توين، ورالف والدو إمرسون، بمد نطاق رحلاتهم الأوروبية لتستوعب مصر.
ولما كانت كتب الدليل السياحي، وكتيبات المتخصصين قد توزعت بين وظيفة قصص الرحلات
ذات الطابع الخيالي، ووصف الآثار، فقد تحرر أدب الرحلات — أو أُجبر على التحرر —
ليتخذ لنفسه وجهات جديدة. فقد خرج كتاب ألكسندر كينجليك
(
Euthen) الذي نشر عام ١٨٤٤م على التقليد الوصفي
لكتب الرحلات، حيث عبر عن عدم اهتمامه «بالخرائب» الأثرية التي لا نرى لها وجودًا عنده.
٨٢ وابتدع جيرار دي نرفال الرحلة الشرقية الممتعة مركِّزًا على القاهرة،
متجاهلًا آثار الصعيد، مبررًا ذلك بقوله: «إن عادات المدن الحية أكثر اجتذابًا
للمراقب من خرائب المدن الميتة.»
٨٣ وعبَّر فلوبير عن مخاوف سائح متأخر عندما كتب لصديقه جوتييه: «عليك
بالإسراع، فلم يمر وقت طويل حتى يختفي الشرق من الوجود، ولعلنا نكون آخر المستمتعين به.»
٨٤
وعبَّر وليم ثوكيراي ومارك توين عن لوعة الحاج الورع عند المشاهد التي لا بد أن
يراها، فقد ركبت المجموعة السياحية التي ضمت ثاكيراي القارب البخاري في رحلة نيلية،
وما كادت تبدو لهم الأهرام «حتى حاول بعضنا أن يعبِّر عن انبهاره، ولكن بدأت خدمة
الإفطار فاندفع الجميع نحو القهوة والفطائر … ثم نظرت إلى جاري عساه أن يكون أكثر
تحمسًا مني، ولكن خريج كلية ترنتي بجامعة أكسفورد كان مشغولًا باللحوم الباردة،
والسياسي البريطاني كان مهتمًّا بعناقيد العنب … والحقيقة أن أحدًا منهم لم يتأثر
بمشاهدة منظر الأهرام.»
٨٥ وما يورده ثاكيراي وتوين عن مشهد الأهرام يؤكد أن الاختلاط بالناس
تجاوز الاهتمام بالآثار ذاتها.
أما من كانت لهم موهبة الرسم، فقد حملوا معهم إلى بلادهم لوحات ظلت موضوعًا
للدراسة لزمن طويل، من حيث موضوعها وليس أسلوبها، وتحديد نوعها: الكلاسيكية
الجديدة، والرومانسية، والواقعية، والانطباعية، وما بعد الانطباعية، وغيرها، فقد
جرت أيدي هؤلاء برسم «الشرق». وكان بعضهم لم يزُر أيًّا من بلاده، وبعضهم الآخر — مثل
يوجين ديلاكروا — زار بلادًا كثيرة ليس من بينها مصر. ومن بين رسامي الشرق الذين
استمدوا إلهامهم من مصر: برز البريطانيان دافيد روبرتس، وجون فردريك، والفرنسيان
جيروم، ويوجين فورمانتان. وقد استخدمت ليندا نوكلين منهج إدوارد سعيد في تحليل
الرسم الاستشراقي ولكن جون ماكنزي يحذر من التوسع في إدانة الفنانين المستشرقين.
٨٦
وبعد منتصف القرن التاسع عشر، بدأ التصوير الفوتوغرافي يتحدى الرسم كوسيلة من
وسائل نقل المشاهد التي يراها السائح إلى الوطن. وعندما أعلن لوي داجير في باريس
عام ١٨٣٩م عن طريقته لالتقاط الصور على ألواح نحاسية مكسوَّة بالفضة، وردَت مصر على
الفور في ذهن العلماء: «لو كانت لدينا هذه الطريقة عام ١٧٩٨م، لكنا نضع أيدينا اليوم
على سجلات مصورة دقيقة مما حُرم منه الوسط العلمي العالمي نتيجة طمع العرب وعدوان
بعض السياح … ولاستطعنا أن نصور الملايين من النصوص الهيروغليفية التي تغطي فقط
واجهات المعابد في طيبة ومنف والكرنك التي يحتاج تسجيلها إلى عشرين عامًا ومجموعات
عديدة من الرسامين، وهو عمل يستطيع القيام به الآن رجل واحد … وسوف تتفوق الصور
الجديدة والألوان المحلية على عمل أكثر الفنانين مهارة.»
٨٧
وفي خريف نفس العام (١٨٣٩م) جاء إلى مصر فردريك جروبل فسكوبه وبصحبته رسامه
هوراسفينيه، وانضم فسكوبه إلى السويسري بيير جولي ديلو بتنييه حيث قاما باستخدام
طريقة داجير في التقاط الصور الفوتوغرافية بمصر وفلسطين، ونتج عن ذلك نسخة موجبة
محفورة. ونشر نيقولا ليريبور كتاب «رحلات مصورة بطريقة داجير (١٨٤٠–١٨٤٤م)»، واعتمد
هيكتور — هورو في كتابه «بانوراما مصر والنوبة» (١٨٤١م) على مصورات جولي بطريقة
داجير.
كما أعلن عام ١٨٣٩م — أيضًا — عن الطبع الحراري الذي أنتج عدة نسخ موجبة من ورق
سالب مبلل، أمام «الجمعية الملكية» بلندن. وأوفدت الحكومة الفرنسية — فيما بعد —
ماكسيم دي كامب الذي قام برحلة بصحبة صديقه جوستاف فلوبير لالتقاط صور حرارية نشرها
عام ١٨٥٢م في كتابه «مصر والنوبة وفلسطين وسوريا». وقدَّم المصور الحراري فليكس تينار
كتابه «مصر والنوبة» (١٨٥٤–١٨٥٨م) باعتباره تحية فوتوغرافية لكتاب «وصف مصر».
وأدى اختراع عملية الكولوديون المبلل على الزجاج (عام ١٨٥١م) إلى تشجيع المحترفين
على إنتاج صور فوتوغرافية في متناول القدرة الشرائية لأبناء الطبقة الوسطى، واستخدم
فرانسس فربث هذه الطريقة الجديدة في ثلاث رحلات قام بها إلى الصعيد في أواخر
الخمسينيات. وفي عام ١٨٦٢م، اصطحب ولى عهد إنجلترا — أمير ويلز — معه في رحلته
النيلية المصور فرانسس بيدفورد، وافتتح أنطونيو بيتو استوديو بالأقصر لبيع الصور
للسياح، وبدأت عائلة بونفيل بيع الصور المصرية عام ١٨٧٠م. ولم يرِد بدليل موراي عام
١٨٥٨م أي ذكر لمصورين أو محلات لبيع الكتب بمصر، ولكن طبعة عام ١٨٧٣م تذكر أوتو شوفت
وهيبوليت دي ليل كمصورين بالقاهرة، وتزكِّي شركة باسكال سيبا ومحلين لآخرين لبيع
الكتب باعتبارها أماكن لتوزيع مطبوعات فريت.
وجلبت التسعينيات معها بطاقة البريد التي تباع ببنس واحد بعد أن كانت تباع بشلن
واحد، كما جلبت آلة تصوير كوداك المحمولة باليد وأفلامها الحرارية، وأصبح باستطاعة
أيِّ هاوٍ يحمل تلك الآلة أن يلتقط صورًا، يحمِّضها ويطبعها فيما بعد عودته لبلاده.
٨٨
وقد تعددت استخدامات التصوير الفوتوغرافي — بالطبع — خارج مجال صناعة السياحة.
وقبل نهاية القرن بسنوات، بدأ علماء المصريات والآثار في استخدامه في عملهم، وأصبح
التصوير الفوتوغرافي أداة أساسية للتنقيب العلمي عن الآثار في أوائل القرن
العشرين.
صناعة السياحة، توماس كوك وولده
«السلطان صاحب السيادة الإسمية على مصر، أما السيادة الحقيقية فللُّورد
كرومر، والخديو هو الحاكم الاسمي للبلاد، أما حاكمها الحقيقي في نهاية
الأوبرا الهزلية فهو توماس كوك وولده.»
(اقتباس من ستيفنس، أورده جون بادني في كتابه: توماس
وولده)
جاء مولد جون موراي الثالث، وتوماس كوك (١٨٠٨–١٨٩٢م) في العام ١٨٠٨م، ليجعل من ذلك
العام عامًا ميمونًا بالنسبة لمستقبل السياحة.
٨٩ عاش كوك طفولةً شقيةً صعبة، ولم ينل سوى تعليم عامٍّ محدود. وفي
العام ١٨٤١م، افتتح مطبعة في ليستر لطباعة بعض كتيبات النصائح الخلقية الدينية، وقاد
رحلته الأولى بالقطار لمجموعة من أصحاب ذلك الاتجاه الديني لحضور سباق كان يجرى على
بعد ١١ ميلًا من ليستر. وشهد نفس العام ظهور طبعة برادشو لجداول مواعيد القطارات
وتأسيس شركات سوف يقدر لها أن تنمو لتصبح «شركة خط كونارد»، وشركة الأمير كان
إكسبريس (شركة ويلز فارجو).
٩٠
وحمل كوك عقيدته الإنجيلية المعمدانية معه إلى مجال السياحة محاولًا أن ينظم
رحلات للتهذيب الخلقي تضم عملاء من مختلف الدرجات الدنيا من السلم الاجتماعي قدر
الإمكان، فنظم رحلة لعمال وسط إنجلترا لزيارة «المعرض الكبير» بلندن ١٨٥١م وبعد ذلك
بأربع سنوات عبَرت رحلاته القنال الإنجليزي لزيارة معرض باريس. وفي عام ١٨٦٤م قاد أول
مجموعة سياحية عبر الألب إلى إيطاليا، ونقل مقر نشاطه إلى «فليت ستريت» بلندن. وفي
الستينيات شملت رحلات كوك إلى سويسرا رجال دين، وأطباء، ومصرفيين، وموظفين، وتجارًا،
ورجال صناعة من ذوي الدخول المتوسطة التي تراوحت بين ٣٠٠–٦٠٠ جنيه في العام. وما
كادت الحرب الأهلية الأمريكية تضع أوزارها، حتى شرع توماس كوك يستكشف السوق
السياحية عبر الأطلنطي. وفي العام ١٨٦٩م نظَّم أول رحلة إلى مصر وفلسطين، ضمَّنها مشاهدة
حفلات افتتاح قناة السويس. وتبع بمجموعته من السياح أمير ويلز في رحلته إلى الصعيد،
وذلك في باخرتين قام بتأجيرهما لهذا الغرض. وباستكمال مد السكك الحديدية عبر أمريكا
في نفس العام، ومد الخط الحديدي بومباي — كلكتا بعد ذلك بقليل هيأ الفرصة لكوك
لتنظيم رحلة حول العالم في ٢٢٢ يومًا عام ١٨٧٢-١٨٧٣م، وربما كانت هذه الرحلة مصدر
إلهام للكاتب الفرنسي جول فيرن، الذي كان كتابه «حول العالم في ثمانين يومًا» يُنشر
منجَّمًا على صفحات جريدة «الطان Temps».
كانت الرحلات الطويلة في القرن الثامن عشر قاصرة على الرجال وحدهم، وضمَّت
المجموعات في رحلات توماس كوك العائلات؛ معلنًا نفسه «وصيفة السفر للنساء اللاتي
يفتقرن إلى الحماية». (كانت المجموعة التي ورد ذكرها في القصة القصيرة لأنتوني
ترولوب «أنثى بلا حماية في الأهرامات» قد وصلت قبل أن تصبح خدمات كوك متاحة بعدة سنوات).
٩١ وقد أطلق دليل ويلكنسون تحذيرًا عام ١٨٤٣م «عندما تكون هناك نساء في
الرحلات النيلية، لا بد أن يرتدي المراكبية سراويل طويلة، ويؤمرون بألا يخلعوها عند
النزول في الماء.» وقد صُدمت مجموعة كوك الأولى في الرحلة النيلية عندما شاهدوا
رهبان أحد الأديرة يستحمون في النيل عرايا، وطُلب من النساء أن يمكثن في داخل
الباخرة حتى يتم عبور تلك المنطقة.
٩٢
وبدأ جون ماسون كوك (١٨٣٤–١٨٩٩م) مساعدة أبيه توماس في عمله منذ صباه، ولم يتجاوز
في تعليمه المرحلة الابتدائية، وقد آمن جون بأن يكون العمل بالسياحة من أجلها وحدها
دون أن يتضمن غرضًا دينيًّا، وقد اصطدم بوالده صدامًا عنيفًا، وأجبره على التقاعد
غير الرسمي عام ١٨٧٨م، وأدى ذلك إلى إطلاق يد الشركة في تنظيم رحلات للأثرياء
والأرستقراطيين، والأمراء من أعضاء الأسرة المالكة، الذين كانوا يتندَّرون ويسخرون من
مجموعات كوك التي ضمت محدودي الدخل. وفي العام ١٨٨٥م أقام كوك فرعًا للنشاط في مجال
مربح آخر هو فرع «الحج» لتنظيم رحلات الحج للهنود المسلمين إلى مكة.
وعلى صعيد السياحة البريطانية في إقليم البحر المتوسط، جاءت مصر في المركز الثالث
بعد فرنسا وإيطاليا — قياسًا بعدد طبعات كتب الدليل السياحي — ولكنها سبقت اليونان
وفلسطين وإسبانيا والجزائر. وفي عام ١٨٥٨م كان دليل ويلكنسون/موراي يُطبع للمرة
الرابعة عندما أصدر موراي دليل فلسطين وسوريا. وعند قيام الحرب العالمية الأولى كان
موراي وبايدكر معًا قد أصدرا إحدى عشرة طبعة من كتب الدليل السياحي عن اليونان،
واثنتي عشرة طبعة عن إسبانيا ولم ينشر كوك شيئًا. وأصدرت الشركات الثلاث معًا ١٦
طبعة عن فلسطين قبل الحرب، وهي قليلة قياسًا بمصر التي صدر من كتب الدليل السياحي
عنها ٢٥ طبعة، وعن إيطاليا ١٠٦ طبعة.
٩٣
وحققت رحلات كوك الشتوية في شرقي المتوسط توازنًا مع رحلاته الصيفية إلى أوروبا.
وفي عام ١٨٩٢م، بدأ جون ماسون كوك يزود عملاءه بدليله السياحي للبحر المتوسط بما في
ذلك مصر.
٩٤ وقد ذكرنا — فيما سبق — أن كوك كلَّف بادج عالم المصريات بإعداد دليل
سياحي لمصر، وافتتح كوك مكاتب له في فندق شيبرد بالقاهرة، وفي يافا عام ١٨٧٣م، ولكن
رحلات فلسطين وسوريا كانت لا تزال تتم في مخيمات، وكان الانتقال بالجياد؛ ولذلك
كانت متخلفة كثيرًا عن مصر.
وفي العام ١٨٧٠م — الذي حصل فيه كوك من الخديو إسماعيل على امتياز النقل النيلي —
قام كوك بتشغيل باخرة و١٣٦ دهبية في رحلات الصعيد، وبعد عشرين عامًا أصبح عدد
البواخر ١٥ باخرة، وعدد الدهبيات ٣٠ دهبية.
وفي العام ١٨٨٠م، وقَّع علي مبارك — ناظر الأشغال العمومية — على امتياز قصري يعطي
كوك الانفراد بنقل الركاب بالبواخر على خط القاهرة-أسوان-وادي حلفا في الموسم
السياحي (نوفمبر–مارس)، وبموجب هذا الامتياز التزمت الحكومة بتوفير البحارة
والصيانة لسبع بواخر، والتزم كوك بتقديم ١٥٠ راكبًا من القاهرة إلى أسوان، و٦٠
راكبًا من أسوان إلى وادي حلفا في كل موسم، فإذا لم يوفِّ بذلك تعرَّض للغرامة.
٩٥
وقد برهن امتياز كوك على أنه كان نذيرًا بوقوع الاحتلال البريطاني بعد ذلك
بعامين. فبعد هزيمة عرابي في معركة التل الكبير بسبعة أسابيع، قام جون ماسون كوك
بزيارة موقع المعركة مباركًا للضباط الإنجليز. واعتبارًا من العام ١٨٨٥م، كان يقضي
جانبًا كبيرًا من الشتاء بمصر، وتحوَّل من تأجير البواخر والدهبيات إلى امتلاك أسطوله
الخاص منها، فاشترى أربعًا من بواخر الدرجة الأولى في ١٨٨٦-١٨٨٧م، وفي العام التالي
أنشأ ترسانة للصيانة ببولاق. وأدى ذلك إلى إفلاس شركة النقل النيلي السياحية
المنافسة «هنري جيز» بعد وفاة صاحبها عام ١٨٩٠م بوقت قليل، وضمن كوك في الموسم
السياحي المنتهي في مارس ١٨٩٥م «٧٤٢ سائحًا» حجزوا أماكنهم على بواخره النيلية.
٩٦
وقد أطلق كوك اسم الفرعون «رمسيس» على واحدة من بواخره الجديدة الأربع، أما
الأخريات فسماهن: «توفيق» و«البرنس عباس»، و«البرنس محمد علي»،
٩٧ وفي العام ١٨٩١م نظَّم كوك رحلة نيلية للخديو توفيق من أسيوط إلى الشلال
الثاني ذهابًا وإيابًا. وعند وصوله إلى الأقصر قام توفيق بافتتاح مستشفى الأقصر
الخيري لعلاج أبناء الأقصر الذي أقامته الشركة.
٩٨
وعندما مات توفيق عام ١٨٩٢م، سار بحارة كوك في جنازته، ونعتْه صحيفة الشركة
(الرحالة) «لتحرره من التدخل، وولائه لأعز أصدقائه؛ بريطانيا». وعلَّقت الصحيفة
الآمال على ولده عباس الثاني الذي قضى خمس سنوات بأوروبا، ونُشرت صورة له وأخيه مع
توماس كوك عندما قاما بزيارة إنجلترا عام ١٨٨٦م.
٩٩
وقامت بواخر كوك بنقل شارلز جوردون من نهاية الخط الحديدي عند أسيوط، في رحلته
المصيرية إلى الخرطوم، ونقلت ولسلي في مهمته الفاشلة لنجدة جوردون، ووضعت كل
إمكانات النقل النهري لديها في خدمة حملة كتشنر لاسترداد السودان. وفي العام ١٨٩٨م،
أرهق جون ماسون كوك نفسه في قيادة رحلة القيصر فيلهلم الثاني (حفيد الملكة
فيكتوريا) إلى الأراضي المقدسة. ومات سيد السياحة الذي كان يعمل فوق طاقته بعد
عودته من تلك الرحلة إلى إنجلترا. وقام فرانك وإرنست كوك، ولدا جون كوك، بإدارة
أعمال الشركة التي ظلت بيد العائلة لجيلٍ آخر قبل أن تنتقل ملكيتها عام ١٩٢٨م إلى
شركة عربات النوم الدولية البلجيكية.
ويرى أحد المؤرخين أن «تأثير كوك في مصر كان خيرًا خالصًا، فقد جلب لمصر مجالًا
جديدًا، وأتاح فرصة العمل لعدد كبير من المصريين.» ولا يتفق هذا مع رأي المويلحي في
«حديث عيسى بن هشام» الذي أوردناه في بداية هذا الفصل. ويستخلص بيمبل رؤيته لسياحة
البحر المتوسط في العصرين الفيكتوري والإدواردي: «من المؤسف أن نقر بأن مستوى حسن
النوايا والتفاهم الدولي ما كان ليهبط إلى هذا الحد، وربما ارتفع، لو بقي الإنجليز
في بلادهم يزرعون حدائقهم.»
١٠٠ وسواء كان ما فعله توماس كوك نافعًا أو خبيثًا، فإن صناعة السياحة التي
أقامها كوك بمصر جاءت لتبقى، وليكون لها دور كبير في حياة مصر في القرن العشرين،
حتى إن البطريرك القبطي كيرلس السادس بدأ حياته العملية كاتبًا بشركة كوك.
١٠١
واعتبر أوجست مارييت السياح الأوروبيين الذين تدفقوا على مصر بأعداد متزايدة،
اعتبرهم جمهوره. ويعالج الفصل الثالث إنجاز مارييت في تأسيس مصلحة الأنتكخانة
والمتحف المصري. وبدأ المصريون أيضًا يُبدون اهتمامًا بالحضارة الفرعونية التي خلبت
لب الأوروبيين، ويعالج الفصل أيضًا محاولات الطهطاوي وعلي مبارك وعالم المصريات
الألماني هنريش بروجش لجعل دراسة المصريات وتاريخ مصر القديم متاحة
للمصريين.