الفصل الثالث

علم المصريات في عصر إسماعيل مارييت والطهطاوي وبروجش (١٨٥٠–١٨٨٢م)

«وعلى تلك الأحجار كتابة بخط المعبد القديم الذي لا يستطيع المصري قراءته، ولكن بعض الفرنجة حل ألغازه في القرن «الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي» إلى حد ما.»

(الطهطاوي: أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل)

بعد أقل من عامين من كتابة الطهطاوي لتلك العبارات، قرَّت عينه بمشاهدة افتتاح مدرسة بالقاهرة لتعليم المصريين قراءة اللغة المصرية القديمة (مدرسة اللسان المصري القديم)، وأسندت نظارتها إلى عالم المصريات الألماني المرموق هنريش بروجش. ولكن عداء مارييت للمدرسة كان السبب الرئيسي وراء إغلاقها بعد خمس سنوات من افتتاحها، ولكن بعد أن تمكنت المدرسة من وضع أحمد كمال وزميل أو زميلين بعده، على طريق المصريات.

وخلال تلك السنوات من عهدَي سعيد وإسماعيل، كان مارييت يقيم أركان مصلحة الأنتكخانة والمتحف المصري، ولكن الإشادة به كمؤسس لهما، تُغفل المحاولة التي ارتبطت بمحمد علي والطهطاوي عام ١٨٣٥م، وهي محاولة لم يقدَّر لها النجاح.١ وعلى كلٍّ، فقد كان على مارييت أن يبدأ من جديد عام ١٨٥٨م. ويشكِّل جهد مارييت الإطار الزمني لهذا الفصل، فقد وصل إلى مصر عام ١٨٥٠م، وتوفي بها في يناير ١٨٨١م، قبل وقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني بعام ونصف العام. ويبين الجدول ٣-١ علماء المصريات الأوروبيين في ذلك العصر ومقابلهم من المصريين:
جدول ٣-١: علماء المصريات الناشطون فيما بين ١٨٥٠م و١٨٨٢م
الأوروبيون المصريون الحكام ومدة حكمهم
ويلكنسون ١٧٩٧–١٨٧٥م رفاعة الطهطاوي ١٨٠١–١٨٧٣م عباس الأول ١٨٤٨–١٨٥٤م
ليمانز ١٨٠٩–١٨٩٣م يوسف حككيان ١٨٠٧–١٨٧٥م سعيد ١٨٥٤–١٨٦٣م
دي روجيه ١٨١١–١٨٧٢م محمود الفلكي ١٨١٥–١٨٨٥م
مارييت ١٨٢١–١٨٨١م علي مبارك ١٨٢٣–١٨٩٣م
بروجش ١٨٢٧–١٨٩٤م إسماعيل ١٨٦٣–١٨٧٩م
إميليا إدواردز ١٨٣١–١٨٩٢م
دويمشن ١٨٣٣–١٨٩٤م
إيبرز ١٨٣٧–١٨٩٨م
نافيل ١٨٤٤–١٩٢٦م
جريبو ١٨٤٦–١٩١٥م أحمد نجيب ١٨٤٧–١٩١٠م توفيق ١٨٧٩–١٨٩٢م
ماسبيرو ١٨٤٦–١٩١٦م أحمد كمال ١٨٥١–١٩٢٣م

وخلال تلك السنوات، كانت الأمَّتان القديمتان الجديدتان: اليونان وإيطاليا، قد وضعتا الحفائر الأثرية تحت رقابة الدولة، وقامتا ببناء متاحفهما الوطنية. وعلى نقيض ذلك، كانت مصر الواقعة على الجانب الآخر الإسلامي من البحر المتوسط مهيأة للوقوع في براثن الهيمنة الأوروبية، وكان مارييت — شأنه في ذلك شأن غيره من الموظفين الأوروبيين — يعمل في خدمة حكومة الخديو، وهو أيضًا مواطن مخلص لدولة إمبريالية تسعى باطراد لتقويض دعائم الاستقلال الذاتي الذي تمتعت به مصر.

وفي نفس الوقت، قامت المتاحف الوطنية في باريس، ولندن، وبرلين، ونيويورك، تعبيرًا وتجسيدًا للرأسمالية الصناعية، والقومية، والديمقراطية. وفي مصر — كما في المستعمرات — كان تأسيس مصلحة الآثار (الأنتكخانة) والمتحف أداة للاختراق والسيطرة الأوروبية، وإن كانت هناك أدوات أكثر وضوحًا، لذلك الاختراق والسيطرة تمثلت في السكك الحديدية والبواخر، وقناة السويس، وخطوط البرق، وتجارة القطن، والديون الدولية، والسياحة، والنشاط التبشيري، والامتيازات الأجنبية، والمحاكم المختلطة، والقوة العسكرية الغربية، غير أن المتاحف في البلاد المستعمرة أو شبه المستعمرة مثل مصر لم تكن — بصورة قطعية– «أداة استعمارية». فقد شجع الأوروبيون على إقامتها وزيارتها لدوافع متعددة، وكذلك فعل المصريون.

وقد نضجت الأسواق الدولية التي تقدم ساحات أرحب للعرض مما يتاح في المتاحف، بعد «معرض لندن الكبير» عام ١٨٥١م بعقد من الزمان، فتناقضت أجور السفر نتيجة ابتداع سياحة المجموعات على يد توماس كوك، وتم تمثيل مصر بعصورها الفرعونية والإسلامية والحديثة في كل الأسواق والمعارض الدولية على مدى العقود الستة التالية. ولكن، تُرى، من مثَّل مصر في تلك المعارض التي تعبر عن احتفاء الغرب بالقومية، والإمبريالية، والرأسمالية الصناعية، والنزعة الاستهلاكية، وماذا كان الغرض من تمثيلهم لها، وما ترتب على ذلك من نتائج؟ نظَّم مارييت جناح مصر في معرضين دوليين بباريس، وقام بإرسال المعروضات إلى معارض لندن، وفيينا، وفيلادلفيا وساعد في توجيه الاحتفالات الكبرى الفخمة بافتتاح قناة السويس. وبعد الاحتلال البريطاني لمصر أصبحت مصر تمثل في المعارض والأسواق الدولية من خلال منظمين ووكلاء أوروبيين وشوام ممن يعملون على تسويق «الشرق» للمستهلكين في الغرب.

وحتى منتصف القرن التاسع عشر، كانت الجمعيات العلمية والمتاحف، ودوائر الأثرياء المنتفعين هم الذين يوفرون الرعاية لعلماء المصريات بأوروبا. وفي النصف الثاني من القرن أصبحت «المصريات» تخصصًا أكاديميًّا بفضل ريادة الجامعات الألمانية في هذا المجال. وفي مصر — التي لم تقم بها جامعة على الطراز الغربي إلا بعدما يزيد على نصف القرن — أقام الخديو، وناظر المدارس علي باشا مبارك مدرسة متخصصة في علم المصريات (مدرسة اللسان المصري القديم)، وكتب الطهطاوي كتابًا بالعربية في تاريخ مصر القديم، واهتم علي مبارك في موسوعته «الخطط التوفيقية» بلفت الأنظار إلى المواقع الأثرية الفرعونية. واتخذت جريدة «الأهرام» — كبرى الجرائد العربية حتى اليوم — اسمها وشعارها، وحمل كل طابع بريد صدر فيما بين ١٨٦٧ و١٩١٤م الهرم وبجواره أبي الهول رمزًا لمصر.

وظهرت في مصر جمعيتان علميتان هيمن عليهما الأوروبيون، هما: «المجمع العلمي المصري» الذي تأسس بالإسكندرية عام ١٨٥٩م، و«الجمعية الجغرافية الخديوية» التي تأسست بالقاهرة في ١٨٧٥م لدعم نشاط إسماعيل التوسعي في أفريقيا، وإن كانت الهيمنة الأوروبية في الجمعية الأخيرة أقل وطأة، وقد لعبت الجمعيتان دورًا في تعزيز دور المتحف ومصلحة الآثار في نشر ثمار علم المصريات، وشارك أعضاء الجمعيتين في مؤتمرات الاستشراق والجغرافيا التي بدأت تُعقد في أوروبا — بانتظام — منذ السبعينيات. وكان الكثير من المصريين يصرفون جُلَّ اهتمامهم إلى الثقافة العربية الإسلامية، ولكن رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، ومحمود الفلكي شجعوا مواطنيهم على ولوج باب هذه الجمعيات ذات الطابع العلمي رغم سيطرة الغربيين عليها، لكونها قنوات ضرورية لنشر المعرفة.

النهضة المبتسرة في عهد إسماعيل

بلغت الرعاية الرسمية للنهضة العربية ذروتها في عصر إسماعيل (١٨٦٣–١٨٧٩م)، وقد أدت الكوارث المالية والسياسية والاجتماعية الاقتصادية التي حاقت بمصر في السنوات الأخيرة من حكم إسماعيل إلى خلعه، وجاءت الثورة العرابية والاحتلال البريطاني، فحجبت تلك الأحداث الإنجازات الثقافية التي حققتها نخبة صغيرة. لقد ارتكب إسماعيل العديد من الأخطاء، ولكن إذا وضعنا في اعتبارنا أن الإمبراطوريات الأوروبية كانت تضم إلى حظيرتها بلادًا في كل عام — فيما بين ١٨٧١ و١٩١٤م — تبلغ مساحة كل منها ما يعادل مساحة فرنسا،٢ فإن إلقاء مسئولية الكارثة التي حدثت على عاتق إسماعيل وحده يصبح نوعًا من التضليل.

بدأ سعيد السير على طريق الاستدانة من أوروبا — المحفوف بالمخاطر — شأنه في ذلك شأن الحكام من معاصريه في إستانبول وتونس. وأدى حصار الشمال لموانئ الجنوب في الحرب الأهلية الأمريكية إلى الارتفاع الكبير في أسعار القطن المصري عند بداية عهد إسماعيل؛ مما أدى إلى وجود شعور وهمي بالرخاء. ولما كان إسماعيل شديد الميل للظهور بمظهر الحاكم المستنير الذي يسير على النهج الأوروبي، فقد أراد أن يحقق كل شيء دفعة واحدة: يقيم إمبراطورية أفريقية، ويستكمل مشروع قناة السويس، ويقيم قاهرة على النمط الباريسي، ويبني قصر عابدين وغيره من القصور، ويشق الترع للري، ويمد الخطوط الحديدية، وينظم المدارس الحكومية، ويبسط سيطرته على المحاكم. وبرهن الموظفون الأوروبيون الذين استخدمهم إسماعيل للاستفادة بخبرتهم في المصالح الخاصة بالشرطة (الضبطية)، والبريد، والسكك الحديدية، والبرق، والمحاكم المختلطة، والجيش؛ برهنوا على أنهم كانوا ركائز مهدت الطريق للإمبريالية. وعندما حان موعد سداد الاستحقاقات، لم يجد إسماعيل مفرًّا من بيع حصة مصر في أسهم شركة قناة السويس — التي كلفتها غاليًا — إلى بريطانيا؛ تلك الصفقة التي أوقفت — إلى حينٍ — التدهور نحو الإفلاس.

إن البحث عن جذور النهضة في القرن التاسع عشر في أعمال علماء الأزهر مثل حسن العطار،٣ وربما الجبرتي، يعد تصحيحًا للفكرة الشائعة عن دور الغرب الحركي في إيقاظ الشرق الراكد. ولكن مع تعاقب عقود القرن، لم تزدهر النهضة في الأزهر، ولكنها ازدهرت في المجالات الجديدة أو القديمة التي تم إصلاحها مثل الصحافة، والمدارس الأميرية، ومدارس الإرساليات التبشيرية والبعثات التعليمية التي أوفدت إلى أوروبا، ومكاتب البرق، وقلم الترجمة، والقضاء، والمحاماة، وتجارة التصدير. فالطهطاوي، وعلي مبارك، ومحمود الفلكي كانوا نتاجًا لإصلاحات محمد علي التعليمية، كما كانوا وراء ما تحقق بعد ذلك من تغيير.

إن التحرك الذي قادته بريطانيا في ١٨٤٠-١٨٤١م لِطَيِّ بساط سيطرة محمد علي على الشام، دشن عصر الانكماش الذي استمر طوال عهد عباس الأول، ثم جاء سعيد ليعكس الاتجاه، ويفتح الباب على مصراعيه أمام طلاب الثراء من الأوروبيين، وكان ديليسبس أول من دخل الباب حاملًا مشروع قناة السويس. وجاء المجمع «المجمع العلمي المصري»، ومصلحة الأنتكخانة والمتحف المصري، نتاجًا لتدفق الأوروبيين على مصر، وأصدر إسماعيل أوامره بإقامة المؤسسة الثقافية تلو الأخرى: الكبتخانة الخديوية، والجمعية الجغرافية الخديوية، ودار الأوبرا الخديوية، ومدرسة دار العلوم، وغيرها من المدارس على اختلاف مستوياتها، وقامت محاولة لإصلاح الأزهر، ووجهت بمقاومة من علمائه جعلت إسماعيل، وعلي مبارك يُسقطانه من اعتبارهما في لائحة المدارس التي صدرت عام ١٨٦٧م، والتي كانت حجر الزاوية في النشاط الثقافي في عهده. وحلَّت اللغة العربية محل التركية كلغة رسمية للبلاد، ووصلت الصحافة العربية والأوروبية في مصر إلى درجة من النضج.

وعند نهاية حكم إسماعيل، عبَّرت الصحافة وأعضاء مجلس شورى النواب عن أفكارهم المستقلة. وقام المصلح جمال الدين الأفغاني بالتدريس على هامش الأزهر؛ فالتف حوله الشبان المسلمون من أمثال محمد عبده وسعد زغلول، وكذلك المسيحيون الشوام من الصحافيين. وحملت صحيفة «الجوائب» — التي كان يحررها أحمد فارس الشدياق بإستانبول — إلى مصر أخبار الغليان السياسي في إستانبول الذي أدى إلى صدور الدستور العثماني عام ١٨٧٦م، وقيام التجربة البرلمانية التي امتدت حتى ١٨٧٨م.

وكان الطهطاوي، وعلي مبارك، وأحمد كمال، يمثِّلون أجيالًا مختلفة، ولهم اهتمامهم بعلم المصريات في عهد إسماعيل. فقد تعلَّم من استفادوا بالإصلاح التعليمي في عهد محمد علي؛ تعلَّموا لغة أجنبية واحدة على الأقل؛ لأنها كانت مفتاح الترقي في وظائف الحكومة. وأصبح هؤلاء لا يفكرون في إطار الانتماء الإسلامي فحسب، بل فكروا أيضًا في أمة مصرية تمتد جذورها الفرعونية في أعماق التاريخ.

كان الطهطاوي قد بلغ الثانية والستين من عمره عندما تولَّى إسماعيل الحكم، وكان علي مبارك في الأربعين، بينما كان أحمد كمال تلميذًا في الثانية عشرة من عمره. وكان التعليم المتاح في صبا الطهطاوي هو «الكُتَّاب» والأزهر، ولكن تعيينه واعظًا للبعثة الموفدة إلى باريس عام ١٨٢٦م — كما رأينا — ساعده على أن يضيف إلى ثقافته بعدًا جديدًا مما تعلمه في فرنسا.

وكان والد مبارك — الشيخ الأزهري — يتمنى أن يحذو ولده حذوه، ولكن الصبي علي مبارك فرَّ من أسرته ليلتحق بالمدارس الجديدة بعدما رأى ضابطًا كبيرًا أسمر البشرة مثله، فأدرك أن الوظائف المهمة لم تعد للترك وحدهم. وهكذا شق طريقه في مجال التعليم الحديث: من المرحلة الابتدائية (المبتديان) إلى الثانوية (التجهيزية)، إلى مدرسة المهندسخانة، إلى المدرسة المصرية بباريس؛ فالأكاديمية العسكرية الفرنسية في متز، ثم قضى عامًا في الخدمة بالجيش الفرنسي.٤

اتجهت الحياة العملية لكلٍّ من الطهطاوي وعلي مبارك وجهة مختلفة لبضع سنوات، فقد نفى عباس الأول رفاعة الطهطاوي إلى الخرطوم، وكافأ علي مبارك لقيامه بتقليص نظام التعليم الذي أسهم الطهطاوي في بنائه. وفقد مبارك الحظوة عند سعيد فأرسله للمشاركة في حرب القرم ثم تولَّى مناصب متواضعة تخللتها فترات استيداع قصيرة، بينما أنقذ سعيد رفاعة الطهطاوي وأعاده من منفاه بالخرطوم، وجعله ناظرًا للمدرسة الحربية، ولكن الطهطاوي عانى أيضًا من تقلبات سعيد. وفي عهد إسماعيل لمع نجما علي مبارك والطهطاوي مع اختلاف في الدرجة، فلما كان مبارك صديقًا لإسماعيل منذ أيام الدراسة في باريس، فقد أصبح باشا ووزيرًا (ناظرًا) للأشغال العمومية، والمدارس، والأوقاف، والمواصلات والسكك الحديدية، أما الطهطاوي فلم يتجاوز رتبة البكوية، ولكنه جعل العقد الأخير من عمره منتجًا من خلال إدارته لقلم الترجمة (الذي بعث من جديد)، وتأليفه الكتب الدراسية، والإشراف على تعليم اللغة العربية بالمدارس، وتحرير مجلة «روضة المدارس».

كان رفاعة وعلي مبارك رجلَي النهضة، تحتل «المصريات» عندهما موضع الأهمية وسط العديد من الاهتمامات الأخرى، وقد استطاعا أن يستخدما المدارس لتكوين الجيل الجديد الذي انتمى إليه أحمد كمال ممن أتيحت لهم فرصة التخصص في «المصريات». وقد تعرَّف أحمد كمال على كتب الطهطاوي من خلال دراسته بالمدارس، وكان لمدرسة اللسان المصري القديم الفضل في تخصصه بهذا المجال، وهي المدرسة التي أسسها مبارك في عهد إسماعيل. وعلى عكس هذين الرائدين، تعرَّف أحمد كمال على الغرب من قراءاته ومن الأوروبيين المقيمين في زيارة عابرة. وإذا كانت فرصة اللقاء قد أتيحت للطهطاوي وكمال لكان مثل هذا اللقاء جسرًا يربط قرنًا يبدأ بانتباه الطهطاوي إلى أهمية الآثار في العشرينيات، وإعادة تأسيس مدرسة المصريات المصرية عام ١٩٢٣م، وهو العام الذي شهد وفاة أحمد كمال. وعاش كمال حياته العملية في عهد الاحتلال البريطاني،٥ وهو ما سنتناوله في الفصل الخامس.

إعادة تأسيس مصلحة الآثار (الأنتكخانة)

وُلد مارييت في بولون-سير-مير عام ١٨٢١م، بعد مولد مبارك بعامين، وعندما بلغ الحادية عشر من عمره مات شامبليون. وقام جاك-جوزيف شامبليون فيجي بنشر العمل المتميز وغير المكتمل الذي تركه أخوه الأصغر دون أن يحقق تقدمًا في دراسة فقه اللغة المصرية القديمة، ومات كل من نستورلوت وروسيلِّيني في أعقاب وفاة شامبليون. وقام ليون دوبوا — خليفة شامبليون في اللوفر — بقطع الصور الملونة للآلهة من إحدى البرديات وقام بتأطيرها، مهملًا النص باعتباره نفاية لا لزوم لها. ولكن إيمانويل دي روجيه — الذي أصبح أمينًا للقسم المصري باللوفر عام ١٨٤٩م — ومارييت، استطاعا عند منتصف القرن أن يعيدا الفرنسيين إلى مكانهم في علم «المصريات».٦
حصل مارييت على شهادة الثانوية (البكالوريا) الأدبية، وعمل بالتدريس، والصحافة، ولكن وراثته لأوراق قريبه نستور لوت حولت اتجاهه نحو «المصريات»، فصرف سبع سنوات في كفاح متصل لدراسة القبطية والهيروغليفية بشكل إقليمي منعزل حتى نال وظيفة متواضعة باللوفر عام ١٨٤٩م. ولما كان متحف اللوفر ينظر بعين الحسد إلى مجموعة المخطوطات القبطية التي جلبها — في الثلاثينيات — روبرت كيروزون وهنري تاتام إلى المتحف البريطاني، فقد أوفد مارييت إلى القاهرة عام ١٨٥٠م للبحث عن المخطوطات القبطية القديمة، ولكن البطريرك القبطي كان ما زال يتذكر ما فعله كيروزون وتاتام، فرفض التعاون مع مارييت.٧
فقامر مارييت بما كان معه من مخصصات مالية، كما قامر بمستقبله، بحثًا عن السرابيوم الذي وصفه الرحالة اليوناني إسترابو، فراح يقتفي أثر تماثيل أبي الهول التي عثر عليها في سقارة، والتي شاهدها في الحدائق الأوروبية بالإسكندرية والقاهرة، وقام بالتنقيب في طريق أبي الهول الذي يقود إلى مقبرة عجول أبيس. وبلغ حماس الغرفة الفرنسية بباريس حد الموافقة على المخصصات اللازمة لنقل ما تم العثور عليه من آثار إلى اللوفر قبل أن يحصلوا على موافقة عباس الأول على تصديرها. وقد ثارت ثائرة عباس، وأرسل الحراس إلى سقارة لوقف عمليات التنقيب التي يقوم بها مارييت، ويرجع ذلك إلى تحريض القنصل العام البريطاني شالز موراي، والمبشر الإنجليكاني البارون دي هربر، وهم جميعًا من جامعي الآثار. فكلف مارييت أحد مساعديه بصناعة لوحات قرابين مقلدة لإقناع عباس بتنفيذ أوامره، واستمر في التنقيب سرًّا في الليل. وأخيرًا استطاع أرنو ليموين القنصل الفرنسي العام أن يصل مع الباشا إلى حل وسط، يستطيع مارييت بموجبه أن يرسل إلى اللوفر ٥١٥ قطعة أثرية، ويستمر في التنقيب، وما يتم العثور عليه مستقبلًا يبقى في مصر.٨ وقبل أن تنفد مخصصاته المالية عاد مارييت إلى بلاده، ولكنه كان قد اكتشف معبد الوادي الخاص بخفرع بالقرب من تمثال أبي الهول بالجيزة.
وكافأ اللوفر مارييت على جهوده بترقيته إلى وظيفة أمين مساعد بالمتحف، وكان رئيسه دي روجيه في مطلع الأربعينيات من عمره، مما يعني استحالة وصوله إلى منصب الأمين. كان مارييت يعيش أحلام اليقظة مع مغامراته، وقرر تفضيل دراسة الفن على دراسة فقه اللغة. وفي عام ١٨٥٧م انتهز الفرصة ليقوم بالتنقيب عن الآثار لحساب سعيد باشا الذي تولَّى الحكم خلفًا لعباس الأول؛ وذلك حتى يقوم سعيد بإهدائها إلى الأمير نابليون عند زيارته التي يعتزم القيام بها لمصر. وكان سعيد قد أهدى كل ما بقي لدى الدولة من قطع أثرية إلى الأرشيدوق ماكسمليان — ولي عهد النمسا — عام ١٨٥٥م «وهي مودعة الآن بمتحف التاريخ القديم بفيينا».٩ فقد أقنع ديليسبس، والقنصل الفرنسي العام ريمون ساباتييه سعيدًا بأنه يجب ألا يقل كرمه مع فرنسا عما فعله سلفه مع النمسا. وقام سعيد بتجهيز مارييت بباخرة وفريق من عمال السخرة، مما أسعد مارييت، وجعله يقسم العاملين معه إلى فرق قامت بالحفر في الجيزة، وسقارة، وأبيدوس، وطيبة، وإلفنتين في وقت واحد. ووقعت زيارة الأمير نابليون خلال عمليات التنقيب، ولكن سعيد استمر في متابعة العمل، وأهدى كل ما تم اكتشافه من آثار إلى اللوفر.
وبدعم من الإمبراطور نابليون الثالث، ومساندة من جانب ديليسبس وساباتييه، حث نوبار باشا سعيدًا على تكليف مارييت بإعادة تأسيس مصلحة الآثار المصرية، وتولى كوينج بك — الإلزاسي، سكرتير سعيد ومعلمه السابق — تولَّى أمر التفاصيل. ففي أول يونيو ١٨٥٨م، أصبح مارييت «مأمور الأنتيكات» براتب سنوي قدره ثمانية عشر ألف فرنك (أي ما يوازي ٧٢٠ جنيهًا إسترلينيًّا)،١٠ وذلك قبل عام من قيام ألكسندر كاننجهام بتأسيس الإدارة الخاصة بالآثار في الهند.١١ وقد تنوعت الأسماء التي أُطلقت على مصلحة الآثار المصرية فهي: مصلحة الأنتيكات، ومصلحة الأنتكخانة، ومصلحة الآثار. وأنعم الوالي على مارييت برتبة البكوية من الدرجة الثانية، وأعطاه حق الانفراد بإجراء الحفائر الأثرية، وخصص له باخرة نيلية، ومنحه سلطة تسخير كل ما يحتاج إليه من الأيدي العاملة، وعلق ماسبيرو على ذلك ساخرًا:
«إن هذا بمثابة استحواذ على مصر بحجة خدمة البحث العلمي.»١٢
وقام الفرنسيان بونفري وجابيه بالعمل كمساعدَين لمارييت، وأعار اللوفر الرسام تيودور ديفريا ليقوم بنسخ النقوش، كما عمل لويجي فاسالي مع مارييت زمنًا طويلًا، وبدأ إميل — الأخ الأصغر لهنريش بروجش — حياته العملية في مصلحة الآثار المصرية.١٣ وكون مارييت فرقًا للتنقيب في ستة مواقع مختلفة من الجيزة إلى أسوان. وجاء أول ذكر لهذا النشاط في مجلة المتاحف Journal d’éntrée في يونيو ١٨٥٨م.١٤ وقد اقترح مارييت — في بداية الأمر — قوة عمل تتكون من ٢٣٨٠ رجلًا، يعمل ٢٠٠ منهم بالكرنك، وما بين ٥٠٠ و١٠٠٠ في إدفو، و٧٥٠ في إسنا، و٤٠٠ بالجيزة، ولكنه تلقَّى نصيحة بالاقتصاد في قوة العمل لأن التنقيب عن الآثار يختلف عن حفر القنوات.١٥ وفي وقت من الأوقات كان لديه تفويض بتجنيد سبعة آلاف عامل.١٦
ولعل ضحايا السخرة الذين عملوا في حفائر مارييت ربطوا بين العمل في الآثار، والعمل الذي كان جاريًا في شق قناة السويس. فكلاهما كان شقاءً وبؤسًا مصدره الأوروبيون، وسعيد، وإسماعيل، دون أن يفيد العمال المسخرين شيئًا. وتولى العمال تجميع المسخرين للعمل بين القرى، وتقاضوا رشاوى من الفلاحين الميسورين لإعفائهم من السخرة التي كان الفقراء وحدهم ضحاياها.١٧
وكما فعل بول إميل بوتا وأوستن هنري لايارد في بلاد الرافدين قبل ذلك بسنوات، قام مارييت باستخدام مجموعات عمل كبيرة للتنقيب عن القطع الفنية والنقوش. ولم يكن قد ظهر بعدُ الاهتمام بالجسات الأرضية، وتجميع الملاحظات عن ميدان العمل، وإعداد التقارير العلمية التفصيلية. ولم يكن عمل هنريش شليمان في اصطياد كنوز طروادة وميسيناي في السبعينيات، أفضل من ذلك. وفي عام ١٨٦٤م استخدم مارييت ألف عامل لتنظيف حوائط المعبد حتى تتاح لدى روجيه فرصة إبراز النقوش أمام زائر مرتقب.١٨ وعبَّر فليندر بتري عن شكواه من أن مارييت ترك مساعديه الأوروبيين ورؤساء العمال من المصريين يحفرون لحسابهم لمدة شهور في كل مكان ما عدا الجيزة وسقارة. وتسربت الآثار التي عثر عليها مارييت إلى السوق لأنه كان لا يدفع مكافأة لمن يعثر عليها، وكان رؤساء العمال يجذبون إنتباه مارييت إلى المواقع غير المهمة بوضع قطع فيها مشتراة من السوق.١٩ وفي إيطاليا كان جيسيب فيوريلِّي وبيتروروسا يقومان في الستينيات بحفائر علمية في بومبي وروما، كما قام ألكسندر كونز النمساوي وإرنست كرونيوس الألماني — في السبعينيات — بحفائر في اليونان طوروا فيها أسلوب التنقيب، مما جعل مارييت على درجة كبيرة من التخلف.
وعندما مارس مارييت سلطته، توقفت الحفائر التي كان يقوم بها في مصر أوروبيون آخرون، وتم حظر تصدير الآثار دون ترخيص. وصدرت أوامر دورية إلى موظفي مصلحة الآثار بتطبيق الحظر على التنقيب عن الآثار، ولكن المصريين استمروا في استخراج «السباخ» وبيع الآثار، وحرق حجارة المعابد لإنتاج الجير. ورفض مارييت طلبًا تقدم به فلاح عام ١٨٨٠م للترخيص له باستخدام حجارة الأهرام في بناء بيت.٢٠
وفي عام ١٨٦١م، بلغت ديون سعيد ثمانية ملايين جنيه إسترليني مما اضطره إلى الاختباء في يخته هربًا من الدائنين، وكان قد رهن موارد الدولة مقدمًا، وأحال الكثير من الموظفين إلى الاستيداع أو فصلهم من وظائفهم، وأنقص عدد الجيش إلى ٢٥٠٠ جندي، وباع المعدات العسكرية، فحث مارييت باريس على التغلب على لندن بتقديم قرض جديد لسعيد قائلًا: «إن من يقدم القرض لسعيد سوف يلف الحبل حول رقبته (وكانت تلك كلمات الوالي نفسه)، وبعبارة أخرى، سوف يصبح سيد مصر.»٢١ وانتهز نابليون الثالث الفرصة للضغط على مارييت حتى يحصل من سعيد على مساعدة للبحث عن مصادر لسيرة يوليوس قيصر — التي كان يكتبها — وعلى مخطوطات قبطية من الأديرة المصرية، وتجاهل مارييت الملاحظة التي أبداها نابليون الثالث عندما قال له إن الآثار التي يكدسها في بولاق سوف تكون في وضعٍ أحسن لو حصل عليها اللوفر. ورغم أن الممولين البريطانيين والألمان — وليس الفرنسيين — قدموا القرض لسعيد، عبَّر الأخير عن ارتياحه بمنح مارييت البكوية من الدرجة الأولى، ووعده بدعم مطبوعاته، وتقديم المعونات للمتحف، ومنحه معاشًا، وجعله مفوضًا عامًّا لدى «معرض لندن الدولي» عام ١٨٦٢م.

على الرغم من نجاح مارييت في الحد من تدفق الآثار المصرية على أوروبا، لم يستطع أن يحول دون خسارة مسلتين أخريين. ففي العشرينيات، أهدى محمد علي لكلٍّ من بريطانيا وفرنسا واحدة من المسلتين القائمتين بالإسكندرية، واستبدل الفرنسيون بالمسلة المهداة لهم أخرى أفضل حالًا انتُزعت من معبد الأقصر حصلوا عليها في ١٨٣١-١٨٣٢م، ونصبت بميدان الكونكورد. وحذر ويلكنسون بلاده من الإهانة التي قد تلحق بها إذا حصل الفرنسيون على مسلَّتهم قبلهم، ولكن صديقه روبرت هاي رأى أن المهانة تتحقق بقبول بريطانيا للمسلة المعروضة عليها، في حين أن فرنسا حصلت على مسلة أفضل. وعارض ويلكسنون — فيما بعد — في نقل المسلة إلى لندن على أساس أن الغرض الأصلي لها كان مجهولًا — وسخر ثاكراي من المشروع ككل قائلًا:

«ذهبنا لمشاهدة المسلة الشهيرة التي أهداها محمد علي للحكومة البريطانية التي لم تبدِ قبولها للهدية صراحة … وإذا كانت حكومتنا تتعامل مع الموضوع ببرود، فإن تحمسنا له يعدُّ من قبيل عدم الولاء لحكومتنا. أتمنى أن تقدم حكومتنا للمصريين عمود الطرف الأغرِّ حتى يرقد هذان العملاقان القبيحان في التراب جنبًا إلى جنب.»٢٢

ولم يتم نقل المسلة إلا عام ١٨٧٧م عندما قام الطبيب البريطاني إرازمس ولسون بتمويل عملية النقل، وتم نصب المسلة على كورنيش نهر التيمز في السنة التالية.

وأدى ذلك إلى حفز الأمريكان على الحصول — بدورهم — على مسلة، فأهداهم إسماعيل المسلة الباقية بالإسكندرية تقديرًا لما أداه الضباط الأمريكان السابقون (الذين خدموا في الحرب الأهلية) من خدمات خلال عملهم في جيشه. وأثار ذلك ثائرة مارييت الذي احتج على هذا التفريط الذي لم يترك لمصر سوى خمس مسلات، ورغم أن بمصر الآن «متحفين، أحدهما متحف بولاق، والآخر هو جميع أراضي مصر … زد على ذلك أن هناك مبدأً عالميًّا معمول به في جميع المتاحف، هو أن ما تحصل عليه المتاحف لا تستطيع أبدًا التنازل عنه، وأن على مصر أن تطالب اللوفر بتمثال فينوس دي ميلو، وتطالب المتحف البريطاني بإعادة حجر رشيد إليها، وتطالب متحف نيويورك بأحد آثار مجموعة أبوت؛ لأن شيئًا في الدنيا لا يعادل هذه الهدية من حيث القيمة. فلماذا تعامل مصر معاملة مختلفة؟ … لقد انتهى الزمن الذي استطاع فيه اللورد إيلجن أن يحمل معه لوحات الأجرام السماوية، فمصر لديها أقدم أرشيفات مماثلة للعيان في التاريخ الإنساني، وهي وثائق تشهد بمجدها القديم وهي تعتزم الاحتفاظ بها.»٢٣
وقد صدق مجلس النظار (الوزراء) على المنحة التي قدمها إسماعيل لأمريكا بعد تردد، رغم أن الخديو فقد عرشه قبل أن تقوم الحكومة الأمريكية بنقل المسلة في أواخر ١٨٧٩م. وقد تم نصب المسلة في سنترال بارك بنيويورك في يناير ١٨٨١م، وهو الشهر الذي فارق فيه مارييت الحياة. وقد نجح مارييت — على الأقل — في استصدار قرار من مجلس النظار نص على أنه «من الآن فصاعدًا لا يتم إهداء أثر مصري لأي دولة أو أي مدينة خارج الديار المصرية.»٢٤

المتحف المصري – مارييت في بولاق

على مرِّ قرنٍ من الزمان قامت ثلاث من بلاد البحر المتوسط المتباينة — هي: اليونان، والدولة العثمانية، ومصر — بتأسيس مصالح خاصة بالآثار، وإقامة متاحف أثرية، وكان لشمال غرب أوروبا أثر كبير في تلك الحالات الثلاث، ولكن المتاحف كانت بمثابة المسرح الذي بلور أبناء تلك البلاد هويتهم القومية من خلاله.

وأحرزت اليونان قصب السبق بإقامتها لمتحف أيجينا الوطني عام ١٨٢٩م، حتى قبل أن تنجز القوى الكبرى مهمتها بإجبار الدولة العثمانية على قبول استقلال اليونان، فقد فرضت الدول أوتو الأول البافاري ملكًا على ذلك البلد الصغير المشتت، وجاء أوتو الأول من ميونيخ حيث كانت الكلاسيكية الجديدة في أوجها. وكان مؤسسو مصلحة الآثار اليونانية (١٨٣٣م)، والمتحف الوطني للآثار (١٨٣٤م) من الألمان أيضًا. وقد اتخذ المتحف الوطني للآثار من الهيفايستيون مقرًّا له حتى عام ١٨٧٤م عندما انتقل إلى المبنى الجديد الذي صممه الألمان على الطراز الكلاسيكي الجديد. لقد كان معظم اليونانيين يستمدون هويتهم من بيزنطة والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية بقدر أكبر من ذلك الماضي القديم الذي بعثه أهل غرب أوروبا والأمريكيون. وكان التوافق بين التراثين (الوسيط والقديم) يحتل مركز الجدل في الهوية القومية اليونانية الحديثة.٢٥

لقد تنقَّل متحف الآثار القديمة في كل من إستانبول والقاهرة من مكان لآخر، ولكنهما بدآ بداية ملائمة تمامًا. فلم تكن مجموعة القاهرة التي بدأ تكوينها عام ١٨٣٥م، أو مجموعة إستانبول التي بدأت في كنيسة القديسة إيرين البيزنطية عام ١٨٤٥م، متاحة للجمهور. ولم يعمر المتحف السلطاني العثماني الذي أُسِّس عام ١٨٦٩م طويلًا، وكان مديره بريطانيًّا يدعى جولد؛ فما لبث أن ألغي ليعاد تأسيسه بعد ثلاث سنوات وتُسند إدارته إلى ألماني يدعى ديتير، قام بنقل المجموعة إلى جنلي كشك بطوب قابي سراي؛ ووضع مشروع قانون للآثار، وبدأ فتح المتحف للجمهور يوميًّا عام ١٨٧٥م، وخصص يوم الأربعاء لزيارة النساء.

واستطاع متحفا القاهرة وإستانبول أن ينجوا من الإفلاس في أواخر السبعينيات عام ١٨٨٢م الذي شهد وفاة المدير الأوروبي لكلٍّ منهما، وتفرقت بهما السبل بعد هذا التاريخ. فقد استطاعت الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني أن تسند إدارة الآثار لأحد أبنائها وهو الرسام التركي عثمان حمدي. أما مصر التي وقعت بين براثن الاحتلال البريطاني، فقد استمرت مصلحة الآثار والمتحف فيها في قبضة الفرنسيين.٢٦

قام مارييت بتكديس مجموعة بولاق في المقر القديم لشركة النقل البري التي أنهى الخط الحديدي وجودها. وكان المقر الذي يقع على شاطئ النيل (بالقرب من مبنى التليفزيون ومبنى وزارة الخارجية الآن) مناسب تمامًا لتفريغ القطع الأثرية الثقيلة التي تنقل من الصعيد بالمراكب على صفحة النيل.

وفكر مارييت — في البداية — أن يتخذ من الإسكندرية مقرًّا للمتحف الذي يعتزم بناءه لهذا الغرض مستقبلًا،٢٧ ولكن خط سكك حديد الإسكندرية-القاهرة هبط بزمن الرحلة إلى بضعة ساعات، وجعل من السهل على القادمين بالبحر التوجه إلى العاصمة. وبدأ مارييت يتخير موقعًا بالأزبكية حيث فندق شيبرد وغيره من الفنادق والمحلات والمقاهي التي تجتذب العديد من الأوروبيين.
غير أن وفاة سعيد المفاجئة في يناير ١٨٦٣م وهو في الحادية والأربعين من عمره، أزعجت مارييت، ولكن سرعان ما بعث الطمأنينة في نفسه. وعلى حد تعبير ماسبيرو شعر مارييت بالغبطة عندما وجد في إسماعيل «إنسانًا له تطلعات خيالية مبهرة تفوق تطلعات مارييت نفسه ….٢٨ وفكر في مشروعات أكبر بعدما أسكرته كلمات إسماعيل.» فقد تحدث إسماعيل عن مجمع ضخم يقام بالأزبكية يضم متاحف للآثار اليونانية، والعربية، والفرعونية، فإذا أضيف إليه المجمع العلمي المصري مع تعيين مدير متفرغ له وأمين لمكتبته، وإقامة مكتبة عامة، كل ذلك يحوِّل المجمع «إلى مركز علمي مصري حقيقي». وأدت إقامة حي الإسماعيلية في غضون احتفالات افتتاح قناة السويس، إلى جذب حركة بناء المساكن الحديثة غربًا نحو النيل، وغير مارييت رأيه في الموقع الملائم لإقامة المتحف المصري، فاختار الطرف الجنوبي من الجزيرة٢٩ المواجهة لبولاق ومعسكرات قصر النيل (انظر الخريطة ٢).

وفي الوقت نفسه، هيأ مارييت مبنى بولاق ليكون متواضعًا بصفة مؤقتة، وتم وضع أساس المتحف الجديد في صيف ١٨٦٠م، وكان من المتوقع أن تفرغ من بنائه شركة إيطالية خلال عام ووصلت بالفعل إلى الإسكندرية المشغولات الزخرفية الحديدية الخاصة بالواجهة «ذات الطراز العربي الجميل» قادمة من باريس. وفيما بعد، كتب مارييت:

«لم يعد باستطاعتك أن تميز مقرنا القديم في بولاق؛ ففي وسطه الآن مبنًى كبير على الطراز الفرعوني يضم ١٢ غرفة بنيت وفق خطتي. هذا هو متحفنا المؤقت، لا أستطيع القول إننا سنقيم هناك مثل الملوك، ولكن لدينا على الأقل مجموعتان من صالات العرض انتظارًا للمتحف الفعلي. وقد اتخذت الزخرفة الخارجية والداخلية الطابع المصري القديم، وسوف تتخذ القطع الأثرية مواقعها قريبًا … وسوف يتم افتتاح المنشآت الجديدة في الأول من أكتوبر.»٣٠ وذهب منتقدو مارييت إلى تقدير تكلفة تلك المنشآت بمئات الألوف من الفرنكات، ولكن ماسبيرو يقدرها بستين ألفًا، تحمل مارييت جانبًا منها من جيبه الخاص.٣١
وقام إسماعيل بافتتاح متحف بولاق في ١٦ أكتوبر ١٨٦٣م بحضور أمين المتحف الفرنسي وأحد الشيوخ المقربين إلى نابليون الثالث، ولعله كان أول مبنى يقام في مصر على الطراز الفرعوني، وكان يتكون من مبنيين: أحدهما للمتحف، والآخر لإقامة مارييت، وكانت له حديقة يمرح فيها غزاله الأليف. وفيما بعد أقنع مارييت إسماعيل بإضافة قاعتين أخريين للعرض لإبهار الضيوف الأوروبيين المدعوين لحضور احتفالات قناة السويس.٣٢

وقد رتب مارييت المعروضات على النسق الذي اتبعه روجيه في الجناح المصري باللوفر، مع تخصيص أقسام للديانة والآثار الجنائزية، وأدوات الحياة العادية، والآثار التاريخية. (وقام — فيما بعد — بتخصيص القسم الخامس لعرض آثار يونانية ورومانية، وقبطية). وقد اتبع ليبسيوس نظامًا مشابهًا للعرض في متحف برلين تضمن الآثار التاريخية وأدوات الحياة اليومية، والأساطير. وكان مارييت يفخر بأن مجموعة بولاق — على نقيض المجموعات المصرية في أوروبا — مسجل على كل منها مصدره الأصلي.

وأقر مارييت باعتماده — أحيانًا — الناحية الجمالية في العرض أكثر من اهتمامه بالناحية «العلمية»، ودافع عن نفسه بالقول بأن هدفه من ذلك اجتذاب المصريين لزيارة المتحف (انظر الشكل ٢٠):
«إنني مطالب كأثري — طبعًا — أن أتجنب طريقة العرض التي لا تفيد من الناحية العلمية، ولكن المتحف على النحو الذي نظمت به معروضاته يرضي أولئك الذين أقيم من أجلهم، فهم إذ يترددون عليه تدفعهم الرغبة في المعرفة التي لا تتخذ طابع الدراسة، وإنني أقول دائمًا أن غرس محبة الآثار المصرية (عند الزوار) يعني أن هدفي قد تحقق.»٣٣
واستطرد مارييت شارحًا أن «متحف القاهرة لم ينشأ من أجل السياح وحدهم، فقد قصد الوالي من إنشائه أن يكون متاحًا لأبناء البلاد — حتى يتعلموا تاريخ بلادهم. ولا يعني ذلك الإنقاص من قدر الحضارة التي أدخلتها أسرة محمد علي إلى بلاد النيل، قائلًا أن مصر ما زالت في بداية الطريق وأن الأمر يتطلب وقتًا حتى يستوعب الجمهور المصري الآثار والفنون. ففيما مضى دمرت مصر آثارها، ولكنها تحترم اليوم تلك الآثار، وغدًا ستعشقها.»٣٤
قام عبد الله أبو السعود — تلميذ الطهطاوي — بترجمة دليل المتحف الذي أعده مارييت إلى اللغة العربية، وهو يبدأ بالبسملة والصلاة على النبي، ثم يذكر الهدف من الدليل وهو شرح محتويات المتحف الذي أنشأه مارييت للمصريين حتى يعلموا ما كان عليه أجدادهم.٣٥ ولا تتوفر لدينا معلومات كافية عن مدى استفادة المصريين بالمتحف، فهناك صورة رسمها فنان ألماني تظهر فيها نساء منتقبات مع بناتهن، ونساء أوروبيات في الفناء الأمامي للمتحف (انظر الشكل ٢١).
وقد وضع مارييت الزوار والمصريين في اعتباره عندما أكد أن قدماء المصريين لم يكونوا وثنيين مشركين، بل كانوا يؤمنون «بإله واحد، حي لا يموت، خالق لا مخلوق، لا يرى، ولكنه موجود في أعماق خلقه، فهو خالق كل شيء في الوجود …»٣٦ وكان اعتقادهم بآلهة أقل شأنًا بمثابة تجسيد لقدرات الخالق.
ويظل الموقف الشخصي لكلٍّ من سعيد وإسماعيل تجاه الآثار محيرًا، فقد صحب سعيد مارييت معه على باخرته وسأله عن الموقع الذي يمكن أن يؤدي الحفر فيه إلى العثور على الآثار، لاستيائه لعدم العثور عليها. ولم يزر سعيد المتحف سوى مرة واحدة بصحبة الكونت دي شامبور المطالب الشرعي بالعرش الفرنسي، وقضى الزيارة التي استغرقت ٤٥ دقيقة في خيمة حريرية بفناء المتحف مستغرقًا في التدخين والحديث إلى القنصل الفرنسي، ولم يهتم بمصاحبة الكونت أثناء تفقده للمعروضات.٣٧
ووفقًا لما يذكره ماسبيرو لم يدخل إسماعيل المتحف مع ضيوفه الفرنسيين عند افتتاحه «فهو كشرقي أصيل يخيفه ويفزعه الموت ولذلك يبتعد عن المكان الذي تُعرض فيه المومياوات. وقد ظل بحديقة المتحف — بينما كان المحتفلون بداخله — يتسلى بالفرجة على القردة، وقفزات «فينت» غزالة مارييت»٣٨ وتكشف هذه الطُّرف التي يرويها المستشرقون الكثير عن مارييت وماسبيرو وقرائهما الغربيين، بقدر ما تفعل بالنسبة لسعيد وإسماعيل.

تاريخ الطهطاوي عن مصر قبل الإسلام

اعتمد الطهطاوي على أعمال مارييت اعتمادًا تامًا في حملته لجذب أنظار المصريين نحو مصر القديمة. فقد أعاد إسماعيل رفاعة الطهطاوي إلى موقعه السابق ناظرًا لقلم الترجمة، عشية توليه الحكم، وأسندت إليه فيما بعد مهمة الإشراف على تدريس اللغة العربية بالمدارس، ورئاسة تحرير مجلة «روضة المدارس».

وكان ثلاثة من تلاميذ الطهطاوي (أحدهم عبد الله أبو السعود)، قد ترجموا في ١٨٣٨-١٨٣٩م كتابًا فرنسيًّا عن مصر القديمة، نشر بالعربية تحت عنوان «بداية القدماء وبداية الحكماء» وتولى الطهطاوي مراجعة الترجمة والتقديم لها.٣٩ وعاد أبو السعود إلى الموضوع مرة أخرى في ١٨٦٤-١٨٦٥م بترجمة لكتاب مارييت «نظرة على تاريخ مصر منذ أقدم العصور حتى الفتح الإسلامي»، ونشرت الترجمة العربية بعنوان «كتاب قدماء المصريين»، وقد طلب إسماعيل ترجمة هذا الكتاب — كما يقول أبو السعود — لأن «الخديو يريد أن يوقظنا من سباتنا العميق بدراسة تاريخ أجدادنا، حتى نستعيد مجدهم الغابر، ونهتدي بسنتهم، فنعمل معًا كمصريين أصلاء، ووطنيين حقيقيين من أجل نهضة مصر.»٤٠
وذهب عبد الله أبو السعود إلى أن حب الوطن يعني العمل معًا لتحقيق صالح أبناء الوطن دون النظر إلى الأصل أو العرق. ولم يقبل أبو السعود بالشلال الأول كمعلم لحدود مصر الجنوبية مدافعًا بذلك عن حركة التوسع التي قام بها إسماعيل؛ لأن مهمة تحضير «المتوحشين الوثنيين» في أقصى جنوب حوض النيل تقع على عاتق مصر.٤١ وحملت الصحيفة التي أصدرها عن عبد الله أبو السعود عام ١٨٦٧م — بدعم من إسماعيل — عنوان «وادي النيل» الذي يعكس الوعي المصري الذي جمع بين الاعتزاز بالفراعنة والإمبراطورية السودانية الجديدة. وبالإضافة إلى ذلك، تولَّى أبو السعود التدريس بدار العلوم، والكتابة في «روضة المدارس»، وترجم دليل المتحف الذي وضعه مارييت إلى العربية.
وكتب رفاعة الطهطاوي أول كتاب قدم مسحًا مستفيضًا لتاريخ مصر القديم، نشر بعنوان: «أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل»، ويتناول تاريخ مصر في العصور الفرعونية، واليونانية-الرومانية، والبيزنطية، وصولًا إلى الفتح الإسلامي، وبعد وفاة رفاعة (عام ١٨٧٣م) بعام واحد، قام ابنه علي فهمي رفاعة بنشر العمل الذي لم يكمله والده، وهو كتاب «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز» الذي تناول سيرة النبي محمد حتى البعثة.٤٢
وتمامًا كما فعل في كتابه «تخليص الإبريز» قبل ذلك بثلاثة عقود، صدَّر الطهطاوي كتاب «أنوار توفيق» بمقدمة يدفع بها عن نفسه هجمات المحافظين. وقد أشاد الشيخ مصطفى العروسي — شيخ الأزهر — ببراعة الطهطاوي في الفنون التاريخية، ولكن الشيخ محمد الدمنهوري — أحد علماء الأزهر — امتدح الكتاب لاحتوائه على أمثلة لفضلاء الرجال الذين خدموا الوطن منذ آلاف السنين. وذهب أحمد خيري — السكرتير الخاص للخديو — إلى أن معرفة الأوروبيين للهيروغليفية جعلت بالإمكان أن يتخلص المرء — غير ملوم — من المصادر العربية المليئة بالإسرائيليات. وامتدح علي مبارك الكتاب لاستناده إلى الشواهد المستمدة من علم الآثار الأوروبي والدراسات اللغوية بدلًا من تكرار الحكايات الخيالية القديمة. واستهل الطهطاوي كتابه بآية قرآنية تعظم من شأن العقل الإنساني، وامتدح الخديو «حامي حما الوطن، الذي أعاد لمصر مجدها التليد، وجدد حاضرها الإسلامي».٤٣
وضع الطهطاوي التاريخ الوارد «بالكتب السماوية» جانبًا، وقسم تاريخ البشرية إلى تاريخ عام يعالج كل الأمم، وتاريخ خاص تناول أمة واحدة مثل مصر، والعراق القديم، والأكراد، والفينيقيين، وفارس، والهند، واليونان. ورأى أن مصر ليست كغيرها من الأمم التي يتألق نجمها في عصر من العصور ثم يأفل تمامًا، فقد احتفظت مصر بحيويتها عبر سبعين قرنًا، وكانت في عصر الفراعنة بمثابة الأم لجميع أمم العالم الأخرى، وذاعت شهرتها في عهد الإسكندر والبطالمة والرومان كمصدر للعلم والحكمة. وأصبحت مصر بعد ذلك مركز الحضارة الإسلامية، فهزمت ممالك الفرنجة، واستردت منهم بيت المقدس، وأوقعت ملك فرنسا في الأسر. ولعبت مصر دورًا أساسيًّا في نشر الحضارة في الغرب، وهزمت الغزاة الفرنسيين في بداية القرن الحالي (التاسع عشر)، وهي تستعيد الآن مجدها بفضل أسرة محمد علي .٤٤
وتضمَّن الكتاب نحو ١٢ فصلًا تمهيديًّا تناولت جغرافية مصر، ومصادر مياه النيل، والفيضان، ومقاييس النيل، والزراعة في مصر القديمة، والترع، والبحيرات، والزهور، والنباتات، والمعادن، والمركز الإقليمي لمصر. وتناول في فصل من ثلاث صفحات الآثار مؤكدًا على تفرد الأهرام، والمسلات، وأبي الهول والنقوش الهيروغليفية، والعمود الأثري بالإسكندرية.٤٥ وأشار الطهطاوي إلى المسلة التي حصلت عليها فرنسا من مصر ونقلتها إلى باريس، ورغم انتمائه إلى الصعيد، لم يشر إلى آثاره العظيمة في أكثر من ثلاثة سطور. وأشار إلى الأمر الذي أصدره محمد علي عام ١٨٣٥م لجمع الآثار، ملتمسًا تبريرًا له بإحدى الآيات القرآنية.
وقد مزج الطهطاوي بين ما جاء بالقرآن والكتاب المقدس ولوحة الأسرات التي أعدها مانيتو للبطالمة حكام مصر الذين يتحدثون اليونانية، فاعتبر الملك الأسطوري مينا هو حفيد نوح مصرايم بن سام. وسار الطهطاوي على نهج مارييت من حيث التحديد الزمني للملك مينا بالعام ٥٦٢٦ قبل الهجرة (الموافق للعام ٥٠٠٤ قبل الميلاد)، رغم إشارته إلى أن بعض العلماء الأوروبيين قد يهبطون بهذا التقدير ألفين أو ثلاثة آلاف عام.٤٦
وتتبع الطهطاوي حكم كل ملك من ملوك الثلاثين أسرة التي أوردها مانيتو، ولاحظ أن حل رموز الهيروغليفية على يد الأوروبيين ساعد على قراءة أسماء بناة الأهرام الثلاثة بالجيزة قراءة صحيحة، وإن كان لم يتم التحقق مما إذا كانوا قد عاشوا قبل إبراهيم أو بعده.٤٧ ومن المفترض أن تكون إشارة الطهطاوي إلى هيرودوت، وسترابو، وديودور الصقلي مستقاة من شامبليون، ومارييت، وغيرهما من الأوروبيين المحدثين، واقتفى الطهطاوي أثر مارييت في تأكيد المعلومات من خلال الشواهد الأثرية لدعم أو نفي ما جاء بالمصادر الأدبية اليونانية، وحاد عن مارييت بأسلوبه الأدبي الزخرفي، وبالدروس الأخلاقية التي قدمها استنادًا إلى القرآن، وبالرجوع إلى مصادر عربية كالمسعودي، والمقريزي، وابن عبد الحكم، والسيوطي.
ويعكس كتاب «أنوار توفيق» محدودية المعرفة الأوروبية بتاريخ مصر القديم عندئذٍ، فلم تكن هناك شواهد أثرية متاحة عن الأسرتين الأولى والثانية، والأسرة الخامسة، وأوائل الفترة الوسطى التي أعقبت «الدولة القديمة»، واعتبر الطهطاوي الهكسوس «رعاة الأغنام» عربًا، وكانت معلوماته عن حتشبسوت وآمونحتب الرابع وثورته الدينية ونقله العاصمة إلى تل العمارنة، معلومات محدودة، وتبع مارييت في اعتبار رمسيس الثاني، سيزوستريس اليونانيين، وقبل بروايات هيرودوت الباهتة عن فتوحاته. ولاحظ الطهطاوي أن البعض يرى أن رمسيس — سيزوستريس يعادل هيرميس تريسمجستس وإدريس الذي يرد ذكره في القرآن. وقدم عرضًا للجدل حول تحديد فرعون موسى، مزكيًا مرنيتاح أحد ملوك الأسرة التاسعة عشر.٤٨
ولم يهتم الطهطاوي بتقديم المقابل (بالتقويم الجريجوري) لما أورده من تواريخ قبل الهجرة، فلم تهتم المطبوعات العربية بذكر المقابل للتاريخ الهجري بالتقويم الجريجوري (الميلادي) إلا نحو العام ١٩٠٠م، وقد تبع الطهطاوي نهج مارييت في كتابه «نظرة على تاريخ مصر» في الإشارة إلى تواريخ ما قبل الهجرة بدلًا من قبل الميلاد وأوائل التقويم الميلادي، ولكنه أشار إلى أن حساب السنين قد تم حسب السنوات الشمسية، وبذلك يصبح عام ٢٣١٤م قبل الهجرة موافقًا للعام ٢٣١٤م بالسنوات الشمسية، رغم أن التقويم الهجري تقويم قمري. وقد أضاف محقق طبعة «أنوار توفيق الجليل وتوثيق بني إسماعيل» التي ظهرت في القرن العشرين، المقابل الميلادي للتاريخ الهجري، وأشار إلى أن تداخل سنوات حكم الأسرات التي وردت بقائمة مانيتو زاد من المدى الزمني للعصر الفرعوني ألفي عام.٤٩
وأورد الطهطاوي نصوص بعض نقوش أهرام سقارة مستنتجًا منها أن قدماء المصريين كانوا من الصابئة. ويشير محقق «أنوار توفيق» إلى أن الصابئة قوم من حران بالعراق، اعتنقوا دينًا سابقًا على الإسلام، يقدس الكواكب. ويستخدم المصطلح أيضًا للدلالة على جماعتين في صدر الإسلام إحداهما مسيحية والأخرى وثنية، لا تتوفر عنهما معلومات كافية.٥٠ ولما كان القرآن يعتبر الصابئة شأنهم شأن المسيحيين واليهود «من أهل الكتاب»، فقد كانت نسبة قدماء المصريين إلى الصابئة تقرب الأمور إلى أذهان المسلمين من المصريين المحدثين — وربما الأقباط أيضًا — لتحقيق التواصل مع التراث الفرعوني.
وجاءت نهاية الكتاب بالفتح الإسلامي لمصر عام ١٨ ﻫ/٦٤٠ م لتعكس رؤية المسلمين لرسالة النبي محمد باعتبارها حدًا فاصلًا بين عهدين. غير أن الطهطاوي لم يشعر بالتناقض الذي وقع فيه عندما تبع مارييت في الحديث عن عصرين رئيسيين في مصر ما قبل الإسلام: عصر وثني (جاهلي) انتهى بصدور مرسوم تسودوريوس عام ٢٤١ ﻫ/٣٩١ م بتحريم العبادات الوثنية وإغلاق المعابد؛ والعصر المسيحي (القبطي) الذي استمر ٢٥٩ عامًا حتى وقوع الفتح الإسلامي. وكان هذا مناسبًا لمارييت، ولكنه قد يعني بالنسبة للمسلمين أن العصر المسيحي لم يكن من الجاهلية، وعندما يتحدث الطهطاوي عن «القرون الوسطى» التي تبدأ بالفتح الإسلامي، نجده يتبنى — ربما دون وعي — التقسيم الغربي للعصور إلى ثلاثة: قديم، وسيط، وحديث دون أن يضع في حسبانه المشكلات المتصلة بتطبيق هذا التقسيم على التاريخ الإسلامي.٥١

أتاح نشر كتاب «أنوار توفيق وتوثيق بني إسماعيل» للقارئ العربي مرجعًا في تاريخ مصر الفرعوني، ولكن نصيبه من الكتاب لم يتجاوز الخُمس، فقد خصص الطهطاوي صفحات كثيرة للعصور التالية: الإسكندر، والبطالمة، والرومان حتى عهد تيودوريوس، والبيزنطيين من عهد تيودوريوس حتى الفتح الإسلامي، ثم حول بؤرة اهتمامه إلى الجزيرة العربية ليتحدث عن العرب قبل الإسلام، وبذلك حظي الألف عام من تاريخ مصر اليوناني الروماني والبيزنطي بما يوازي ثلاثة أضعاف ما خصصه الطهطاوي للعصر الفرعوني.

وفي العام ١٨٦٥م، تلقت مطبعة بولاق أمرًا بطباعة خمسمائة نسخة من كتاب الطهطاوي «تاريخ مصر» للمدارس. ولما كان كتاب «أنوار توفيق» قد نشر عام ١٨٦٨م، ربما كان الأمر يخص إعادة طبع كتاب «بداية القدماء». وقد رشح الشيخ محمد عبده كتاب «أنوار توفيق» ككتاب دراسي للشباب المصريين، ولكن لا تتوفر لدينا معلومات عن كيفية تلقيهم للكتاب.٥٢ ولم يعد نشر الكتاب إلا عام ١٩٧٧م.
وفي ظل رئاسة الطهطاوي لتحرير مجلة «روضة المدارس» كان من بين كتابها أربعة — على الأقل — من العلماء المعنيين بنشر التراث الفرعوني بين المصريين المحدثين، هم: الطهطاوي، وعلي مبارك، وعبد الله أبو السعود، وهنريش بروجش. وكان مجلس تحرير المجلة يضم ستة من المصريين إضافة إلى بروجش.٥٣ وكان مبارك وأبو السعود من كتاب المجلة، وتولى علي فهمي رفاعة مساعدة والده في تحريرها. وكانت للطهطاوي خبرة سابقة بالصحافة منذ توليه رئاسة تحرير «الوقائع المصرية». واتخذت «روضة المدارس» من المجلتين الفرنسيتين: «المجلة الموسوعية» و«المجلة الآسيوية» نموذجًا فضفاضًا لها،٥٤ فتنوعت موضوعاتها من الإنسانيات إلى العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية. وكان يطبع منها في البداية ٣٥٠ نسخة زيدت فيما بعد لتصبح ٧٠٠ نسخة.
وبافتتاح «مدرسة اللسان المصري القديم» قبل صدور «روضة المدارس» ببضعة شهور، أتيح لهنريش بروجش أن يشهد مولدها، فنشر بها دراسة في تاريخ النقود مترجمة إلى العربية، ونصوص المحاضرات التي ألقاها بدار العلوم.٥٥ وقام تلميذ له يدعى محمد علي بنشر ترجمة بعض النصوص الهيروغليفية، وقدم الصحفي القبطي ميخائيل عبد السيد دراسة في «عادات قدماء المصريين».٥٦

التنافس في حقل «المصريات» بالقاهرة – الفرنسيون، والألمان، وغيرهم

كان عقد الستينيات بمثابة «عقد فرنسا» تحت سماء مصر بفضل ميل سعيد وإسماعيل إلى الثقافة الفرنسية، وقناة السويس، وإنجازات مارييت، ومكانة نابليون الثالث. ودخلت كلمة «الإمبريالية imperialism» اللغة الإنجليزية في الخمسينيات، وارتبطت غالبًا بالإمبراطورية الفرنسية الثانية.٥٧ فقد أدت مواقف نابليون الثالث في حرب القرم، والمكسيك، والهند الصينية، ومصر إلى الربط بين هذا المصطلح والتوسع فيما وراء البحار. وشهد عقد الستينيات عددًا أكبر من كتب الدليل السياحي لمصر بالفرنسية فاق عدد ما نشر منها بالإنجليزية.٥٨ وكانت الإمبراطورة أوجيني نجمة احتفالات قناة السويس في نوفمبر ١٨٦٩م، فجاء ذلك تعبيرًا عن المكانة التي اكتسبتها فرنسا على ضفاف النيل.
وبعد ذلك الحدث بعشرة شهور، مزقت بروسيا الجيش الفرنسي ومعه الإمبراطورية الثانية في موقعة سيدان، وفتحت بذلك الطريق أمام بسمارك لتوحيد ألمانيا، وقيام الرايخ الثاني بقيادة بروسيا. وأدى الحصار الألماني إلى احتجاز مارييت في باريس لعدة شهور، وعندما استطاع السفر، هرع إلى بولاق ليقف في وجه أي تحد من جانب الألمان لصدارة فرنسا في مجال الآثار هناك.٥٩
ولم يكن البريطانيون يثيرون قلق مارييت في مجال «المصريات»، فقد كانت اللغة الفرنسية أول اللغات الأوروبية التي صاغت مصطلحات هذا الحقل المعرفي الجديد؛ وبدأ مصطلح «مصرياتي Egyptologue» (أي المشتغل بالآثار المصرية) يظهر عام ١٨٢٧م الذي شهد افتتاح شامبليون للقسم المصري باللوفر، ولحق به مصطلح «المصريات Égyptologîe» حوالي عام ١٨٥٠م. ولم يستخدم مصطلح «مصرياتي» بهجائه الفرنسي ككلمة مستعارة في الإنجليزية إلا على يد كاتب إنجليزي عام ١٨٥٦م، وبدأ استخدام الإنجليزية لكلمة «مصريات» (بهجائها الإنجليزي) عام ١٨٥٩م، لينتشر بعد ذلك استخدامها في الستينيات. وقد مثل الإنجليز في هذا المجال — دون أن يحمل اسمًا ما — كل من سولت وويلكنسون وهاي ولين، في مصر في العشرينيات والثلاثينيات. وفي أيام مارييت كان صامويل بيرش أبرز عالم مصريات بريطاني، واحتل مكانه في التكريم بين رواد علم المصريات على واجهة المتحف المصري الذي أقيم عام ١٩٠٢م، إلى جانب شامبليون، وليبسيوس، وروسيلِّيني رغم أنه لم يزر مصر مطلقًا. وكاد البريطانيون من الدبلوماسيين والتجار والممولين أن يكونوا سلبيين. وكان من سوء طالع فرنسا — ومصر — أن ٦٦٪ من البضائع التي تمر عبر قناة السويس — التي رعاها الفرنسيون — في السنة التالية لافتتاح القناة، بضائع بريطانية، وبحلول عام ١٨٨٠م وصلت النسبة إلى ٨٠٪، كما بلغت نسبة وارداتها إلى مصر ٤٤٪.٦٠
وشغلت «المشكلة الألمانية» الفرنسيين الوطنيين بعد عام ١٨٧٠م، ولكن لم يستقر الرأي بينهم على كيفية مواجهة التحدي الألماني، فكان جورج كليمنصو يعتبر التوسع الإمبريالي فيما وراء البحار نوعًا من الإلهاء عن مسألة الحدود الألمانية وإعادة بناء الوطن، وكان جول فيري ومجالس الوزراء الجمهورية من الانتهازيين — في بداية الثمانينيات — والحزب الاستعماري (الذي كان يمثل ائتلافًا من الموانئ، والعسكريين والمعمرين، والمبشرين والجمعية الجغرافية) تمسكوا بالتوسع الخارجي فيما وراء البحار كمقوي ضروري لتفجير طاقة التقدم في فرنسا ذاتها.٦١

واتخذت «الرسالة الحضارية» لفرنسا طابع العجلة من جديد بعد عام ١٨٧٠م مع وجود مارييت في المقدمة، ولا بد أن يكون قد استاء من سماع الشائعة التي رددها الألمان دائمًا من أنهم سيسعون لجعل زميله القديم هنريش بروجش خلفًا له في إدارة مصلحة الآثار والمتحف. فقد كان لدى بروجش خبرة بالعمل في القنصلية البروسية بالقاهرة، كما كان يتولى نظارة «مدرسة اللسان المصري القديم» بالقاهرة، ووفرت كفاءته العلمية لعلم المصريات الألماني مكانة في القاهرة لم تعرفها بلاده منذ أيام ليبسيوس.

وبعد عودة ليبسيوس إلى برلين عام ١٨٤٦م، ما لبث الألمان أن أصبحوا في وضع يسمح لهم بمنافسة الفرنسيين في قيادة علم المصريات. واتخذ ليبسيوس من المتحف المصري ببرلين وجامعة برلين قاعدتين لتكوين وتدريب الجيل الثاني من الألمان المتخصصين في المصريات. وكرمه القيصر فيلهلم الأول بدعوته لتناول الشاي معه، واجتذبت دائرة تألق ليبسيوس المستشرق ماكس مولر، والأخوان جريم، والجغرافي كارل بيتر، والمؤرخ ليوبولدفون رانكه، والفيلسوف فردريش شيلنج، ومؤرخ الرومان تيودور مومسن.٦٢ حتى ماسبيرو أشاد به واعتبروه «معلمنا جميعًا».٦٣
وبينما كان بسمارك يقوم بتوحيد ألمانيا بزعامة بروسيا، وبلغت حلقات الأبحاث والمعامل الألمانية درجة جعلتها موضع حسد العالم، كان مجال المصريات يبني نفسه كتخصص أكاديمي، فأنشئت كراسي الأستاذية في مختلف أنحاء ألمانيا: جامعة جوتنجن (١٨٦٨م، وشغله هنريش بروجش)، وجامعة ستراسبورج (١٨٧٢م، وشغله يوهان دوميشن)، وجامعة هايدلبورج (١٨٧٢م، وشغله أوجست إيسنلور)، وانضمت أسماء بروجش ودوميشن وإيبرس إلى جانب اسم ليبسيوس على اللوحة التي حملت أسماء رواد المصريات على واجهة المتحف المصري بالقاهرة.٦٤ وحمل بروجش هذه الإشراقات الألمانية في مجال المصريات معه إلى القاهرة، وكان يصغر ليبسيوس بسبعة عشر عامًا، ولم يتعامل معه ليبسيوس كأحد حوارييه بل عده منافسًا له، فقد حصل بروجش على الدكتوراه من برلين، ولكنه علم نفسه بنفسه أكثر مما تعلمه من ليبسيوس، وبعد أن قام بروجش بعدة دراسات في باريس، حصل على منحة زمالة بروسية للبحث في مصر، فأجرى حفائر في سقارة بجوار حفائر مارييت لمدة ثمانية شهور، وبعد أن قام ببعثة دبلوماسية في بروسيا، وأسس أول مجلة ألمانية في المصريات عام ١٨٦٣م، عاد إلى القاهرة قنصلًا عامًّا لبروسيا، وأخيرًا أسس كرسي للمصريات بجامعة جوتنجن عام ١٨٦٧م من أجله، ولكنه عاد إلى القاهرة بعد عامين ليتولى نظارة «مدرسة اللسان المصري القديم».٦٥
وشهد عام ١٨٦٤م حادثًا أدى إلى إساءة علاقة مارييت مع الألمان، فقد نسخ دوميشن لوحة الملوك التي اكتشفها عمال مارييت في أبيدوس، وأرسل النسخة إلى ليبسيوس الذي نشرها دون أن ينوِّه بجهد مارييت. واعتبر ذلك ماسًا بالشرف الوطني وسط الصخب الذي أثير حول هذه المسألة، حتى إن دوميشن وصل إلى درجة تحدي مارييت لمبارزته.٦٦
ولكن صداقة ماريت وبروجش ساعدت على تهدئة العاصفة، وفي أواخر يونيو ١٨٧٠م استقلَّا باخرة واحدة من الإسكندرية إلى مارسيليا لقضاء إجازة الصيف. وعندما وصل مارييت إلى باريس في ٦ يوليو، كان لوي أدولف تير يبذل آخر محاولة يائسة لمنع الجمعية الفرنسية من إعلان الحرب على بروسيا، ومع تردد أصداء الحرب الفرنسية — البروسية كان هناك شيخ سوداني يرقبها من بعيد، ويزعم أنه «يعلم جيدًا أن ملك الألمان قد توفرت لديه الموارد التي تجعله قادرًا على سحق الفرنسيين بفضل الكنوز التي عثر عليها الخواجة ليبسيوس في مرو وأرسلها إلى بلاده».٦٧ وحشد أعداء مارييت جهودهم أثناء غيابه بباريس بسبب الحصار، داعين إسماعيل أن يستبدل به بروجش، ولكن بروجش نأى بنفسه عن تلك المؤامرات، ورد عليه مارييت قائلًا:
«إنك بالنسبة لي لست ألمانيًّا، إنك بروجش وحسب، ولست بحاجة لشرح موقفك من تلك الأحداث. لقد أثرت على مشاعري كمواطن فرنسي، ولكنها لم تبدل من مشاعري كإنسان، وخاصة نحوك. إنني أحبك كصديق حق، وقد أحببتك دائمًا بحماس طبيعي لا يقضي عليه شيء ولن يقضي عليه شيء.»٦٨

وبعد ذلك بعامين قام مارييت بتوظيف إميل شقيق بروجش الأصغر مصورًا بمصلحة الآثار، وقدر له أن يخدم بمصلحة الآثار سنوات طوال.

وأدت وفاة دي روجيه عام ١٨٧٣م إلى خلو مكانه في كلية فرنسا ومتحف اللوفر، ولكن مارييت لم يهتم بالسعي لنيل أي من الوظيفتين وتركهما لماسبيرو وفرانسوا شابان وقال إن الواجب يدعوه إلى التمسك بموقعه «في مصر في مواجهة النفوذ الألماني الذي يضغط بمختلف الوسائل».٦٩
وعندما قام جورج بانكروفت «مؤلف تاريخ الولايات المتحدة، ثوكيديدس أمريكا» بزيارة مصر، وجده مارييت منحازًا للألمان إلى حد نكران مساعدة فرنسا للأمريكان في الحصول على الاستقلال.٧٠ وعندما أصبح بانكروفت سفيرًا في برلين — فيما بعد — انضم إلى دائرة ليبسيوس، وكانت تلك الروابط «الأنجلو سكسونية» التي تجذب الأمريكان إلى أبناء عمومتهم الألمان أمرًا طبيعيًّا، فقد انضم بريطانيان هما النحات جوزيف بونومي، والمعماري جيمس وايلد إلى بعثة ليبسيوس … وكان الدبلوماسي البروسي البارون فون بونس — عاشق المصريات — ميالًا للإنجليز ومتزوجًا من إنجليزية، وأصبح سفيرًا لبروسيا في لندن.٧١
ولم يكن واردًا أن يسعى الطليان لإدارة مصلحة الآثار بالقاهرة، لقد كانت اللغة الإيطالية هي الأكثر شيوعًا في البحر المتوسط في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وفي عام ١٨٤٥م كانت أول صحيفة La Spettatore Egiziano (المشهد المصري) أول صحيفة ذات شأن في مصر بعد صحف الحملة الفرنسية التي انتهى أمرها، وصحيفة «الوقائع المصرية»، وقد صدرت ثلاث صحف إيطالية أخرى بمصر في الخمسينيات.٧٢ وفي نفس الوقت الذي صدرت فيه ثلاث صحف فرنسية أيضًا، وحتى الستينيات كان الفرنسيون يعتبرون اللغة الإيطالية هي لغة التجارة والإرساليات التبشيرية في شرق البحر المتوسط.٧٣ وتولت شركة إيطالية إدارة البريد في مصر، وتولى إيطاليان إدارة الخدمة الصحية، والإحصاء. ولكن اعتبارًا من ١٨٦٧م، حلت الفرنسية محل الإيطالية كلغة ثانية على طوابع البريد المصرية، وفي السبعينيات أصبحت الفرنسية لغة المحاكم المختلطة، ولغة «الرقابة الثنائية» الأنجلو-فرنسية على المالية المصرية، وكذلك لغة الطبقات العليا من الأجانب في مصر.
وأضفت أسماء روسيلِّيني، ولوجي فاسالي، وأماديو بيرون مسحة إيطالية على لوحة التكريم بواجهة المتحف المصري بالقاهرة. فقد نشر بيرون قاموسًا للقبطية عام ١٨٣٥م قبل أن يركز جهوده في الدراسات اليونانية. وجاءت وفاة روسيلِّيني المبكرة لتنهي عمله الذي كان واعدًا. وعمل فاسالي (١٨١٢–١٨٨٧م) مساعدًا لمارييت بالمتحف المصري، وكان أكبر منه سنًّا، ولا يصلح لخلافته في منصبه.٧٤ أما النجم الحقيقي الإيطالي في علم المصريات فكان جيسب بوتِّي الذي عين عام ١٨٩٢م مديرًا للمتحف اليوناني-الروماني بالإسكندرية، الذي أصبح مركزًا للثقافة الإيطالية.

علم «المصريات» للمصريين – بروجش ومدرسة اللسان المصري القديم

أراد إسماعيل وعلي مبارك أن يكونا فريقًا من الشباب المصري المتخصص في الآثار المصرية القديمة للعمل إلى جانب الأوروبيين بمصلحة الأنتيكات (الآثار) والمتحف المصري. وعارض مارييت هذه الفكرة خوفًا على منصبه، ولكن التنافس الفرنسي — الألماني في حقل الآثار المصرية أوجد ثغرة في صفوف الأوروبيين هيأ للمصريين فرصة إيجاد موقع لقدمهم في مجال «المصريات». وفي خريف ١٨٦٩م تعاقد علي مبارك مع هنريش بروجش للعمل لمدة خمس سنوات ناظرًا «لمدرسة اللسان المصري القديم» براتب قدره خمسمائة فرنك شهريًّا.٧٥ وتضمنت ميزانية عام ١٨٧١-١٨٧٢م تخصيص ١٠٠٩ جنيهات مصرية لثلاثة أساتذة، و١١٢ جنيهًا مصريًّا للمنح الدراسية للطلاب.٧٦

ورحب إسماعيل بعودة بروجش إلى مصر، وكان ذلك بحضور علي مبارك، حيث تذكرا أيام الدراسة في باريس، وتحدث مبارك عما حققه من تقدم في إعداد موسوعته «الخطط التوفيقية». ولا بد أن يكون بروجش على صلة بالطهطاوي بحكم كونه عضوًا بمجلس تحرير «روضة المدارس» التي تولَّى رفاعة الطهطاوي رئاسة تحريرها ولعلهما تعاونا معًا في «المجمع العلمي المصري».

افتتح بروجش المدرسة في بيت كان مهجورًا، بالقرب من متحف بولاق، وبدأت المدرسة بعشرة طلاب تم اختيارهم من بين طلاب المدارس الأخرى من بين أصحاب أعلى الدرجات في اللغة الفرنسية.٧٧ ومن الغريب أن يتضمن الأمر الخاص باختيار الطلاب شرط أن تكون بشرتهم سمراء كأبناء الصعيد والسودان،٧٨ فهو يعيد إلى الأذهان المحاولة الفاشلة التي قام بها محمد علي لتزويد جيشه بالسودانيين. وعلق بروجش على ميل بشرة بعض الطلاب إلى البياض بأنهم ربما كانت أمهاتهم من التركيات. ورغم أن الفرنسية كانت لغة التدريس بالمدرسة، فقد عيَّن بروجش أخاه إميل لتدريس الألمانية بالمدرسة، وتولى بروجش تدريس اللغة المصرية القديمة، وأرسل البطريرك القبطي من تولَّى تدريس القبطية للطلاب،٧٩ كما تولَّى أحد الأزهريين تدريس اللغة العربية، وكان بروجش يأخذ الطلاب معه في رحلات ميدانية إلى الصعيد من حين لآخر. واصطحب معه — في رحلة علاج إلى أوروبا — طالبَين من طلاب المدرسة بهدف توسيع أفقهما، تاركًا الآخرين يتابعون الجدول المقرر للدراسة. ولما كانت الرطوبة تمثل إحدى سوءات مبنى المدرسة، فقد تم نقلها إلى مجمع المدارس بدرب الجماميز.
ونهج بروجش نهج مارييت والطهطاوي في محاولة جعل العقيدة المصرية القديمة تبدو في صورة مقبولة أمام المسلمين. وعندما اكتشف أن بعض صفات آمون إله طيبة، وبتاح إله منف، وغيرهما من المعبودات تتفق تمامًا مع التسعة والتسعين اسمًا من أسماء الله الحسنى في الإسلام، أكد أن قدماء المصريين عبدوا إلهًا واحدًا، وأن صفات الرب الواحد تكمن تحت سطح التعددية التي تبدو في الديانة المصرية القديمة.٨٠

ولجأ إسماعيل وعلي مبارك إلى ألماني ليتولى إدارة «الكتبخانة الخديوية» التي أقيمت عام ١٨٧٠م، قبل الحرب الفرنسية — البروسية ببضعة شهور، وهي الحرب التي دعمت مكانة الألمان بالقاهرة.

ففي عام ١٨٧٢م، أصبح لودفيج شتيرن — التلميذ السابق لبروجش، ناظرًا للكتبخانة الخديوية. وقد درس شتيرن علم المصريات بجامعة جوتنجن، كما درس اللغات العبرية والعربية، والحبشية وختم حياته العلمية خبيرًا بالسلتية، وأمينًا للمخطوطات بالمكتبة الملكية في برلين.٨١ وأعقب شتيرن أربعة من المستشرقين الألمان في إدارة دار الكتب المصرية (الكتبخانة الخديوية) على التوالي، فأصبحت الدار — بذلك — مركزًا للنفوذ الثقافي الألماني حتى عام ١٩١٤م.
وتسبب تعيين بروجش مفوضًا عامًّا لتمثيل مصر في «معرض فيينا» عام ١٨٧٣م إلى التأثير على طاقة عمله في مدرسة اللسان المصري القديم. وفي ١٨٧٦م، أصبح — مرة أخرى — مفوضًا لمصر في «معرض فيلادلفيا الدولي». وأثر قرار الحكومة المصرية بإدخال تدريس الألمانية ضمن برامج الدراسة بالمدارس المصرية في أعقاب حرب السبعين على طلاب «مدرسة اللسان المصرية القديم» الذي وقع عليهم عبء القيام بتدريس الألمانية بالمدارس بحكم كونهم من أوائل من درسها من المصريين، واقترح أن يختار بروجش خمسة من الطلاب يوفدون إلى بروسيا أو النمسا ليتم إعدادهم لتدريس الألمانية، ولكن الاقتراح لم ينفذ، غير أن أحمد كمال وستة من زملائه طلاب «مدرسة اللسان المصري القديم» عينوا مترجمين ومعاونين بديوان المدارس عام ١٨٧٢م. وأغلقت المدرسة عام ١٨٧٤م أثناء وجود بروجش بالخارج، وتم نقل ما تبقى من طلابها، وكانوا خمسة أفراد، إلى وظائف بمصلحة السكك الحديد ونظارة الجهادية.٨٢
واتخذ من غياب بروجش لتمثيل مصر بمعرض فيينا ذريعة لإغلاق المدرسة،٨٣ ولعل عداء مارييت للمدرسة منذ نشأتها كان من بين أسباب إغلاقها. ويثير تقرير بروجش التساؤل حول مدى التزام مارييت بجذب اهتمام المصريين إلى تاريخهم القديم:
«كان الخديو راضيًا تمامًا عن عملي، كذلك كان وزير التعليم سعيدًا بعملي، مما جعلني موضع حسد نظار المدارس … وشعر صديقي القديم مارييت بالقلق من أن يشمر الخديو عن ساعده ويعين خريجي المدرسة في متحفه، وعبثًا حاولت تبديد مخاوفه، فقد استمرت هواجسه حتى إنه أمر موظفيه بمنع أي مصري من نسخ النقوش الهيروغليفية، وكان مثل هؤلاء يطردون ببساطة من المعبد.»٨٤
وقد قرر مفتش سويسري أن خريجي مدرسة اللسان المصري القديم ضعاف في اللغة والتاريخ، وينقصهم «التوافق العلمي»، وأن ما يناسبهم العمل في الوظائف الدنيا بالمتحف ومصلحة الآثار،٨٥ وجاء رفض مارييت قبولهم للعمل بمصلحته ليقضي على مبرر وجود المدرسة. وبعد ذلك بسنوات، التقى بتري أحد خريجي المدرسة ببنها، كان «يتكلم الإنجليزية بمستوى متوسط»، وكان يعمل سكرتيرًا لمهندس إنجليزي ثم لمدير المديرية التي تقع فيها منف، ولكنه كان عاطلًا عن العمل،٨٦ وقد نجح أحمد كمال وأحمد نجيب في العودة إلى العمل في مجال الآثار المصرية القديمة غير أن مارييت نجح — إلى حين — في إحباط أول محاولة قامت بها الحكومة المصرية لتكوين فريق من المصريين في مجال «المصريات».

مصر القديمة والجمهور المصري

كانت هناك مؤشرات تدل على أن اهتمامًا متواضعًا مطردًا، أخذ يظهر عند المصريين، بتاريخ مصر القديمة، وذلك خارج إطار مصلحة الآثار والمتحف المصري ومدرسة اللسان المصري القديم؛ ففي أغسطس ١٨٦٧م صدرت جريدة «الأهرام» وقد اتخذت من هرمين وأبي الهول شعارًا لها في قمة صفحتها الأولى، وكان محرراها سليم وبشارة تقلا من الشوام المسيحيين المهاجرين إلى مصر ويميلان لفرنسا. وقدمت الأعداد الأولى للجريدة تاريخًا مشوهًا لأهرام الجيزة، فذكرت ما يقال من أنها شيدت لحفظ المعرفة من الفيضان، أو لخزن الغلال، أو مراقبة النجوم، وأنه يقال إن خفرع ابن خوفو الأول وضع حجر الأساس للهرم الأكبر الذي تم بناؤه في عهد خفرع الثاني.٨٧
وفي عام ١٨٦٧م استبدل بالطغراء والزخرفة العربية الإسلامية رسمًا لهرم وأبي الهول على طوابع البريد المصرية التي صدرت قبل ذلك بعام واحد. ولعل الهرم وأبي الهول كانا يعكسان أفكار الأوروبيين عنهما باعتبارهما رمزًا قوميًّا لمصر، ولكن كان الأمر يتطلب موافقة الخديو على هذا الاختيار. وكانت هناك شركة إيطالية للبريد تعمل في مصر قبل تأسيس مصلحة البريد عام ١٨٦٥م التي تولَّى إدارتها موتزي مدير شركة البريد الخاصة القديمة. وكانت الخطابات الواردة من مصر إلى الغرب حاملة الهرم وأبي الهول فيما بين ١٨٦٧ و١٩١٤م تؤكد الصفة القومية لتلك الرموز. وقد حملت تلك الطوابع اسم السلطان العثماني — صاحب السيادة الشرعية — حتى عام ١٩١٤م عندما أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وقطعت بذلك روابطها الإسمية بالدولة العثمانية.٨٨
وحتى جمال الدين الأفغاني — الفارسي المولد — داعية الجامعة الإسلامية استخدم أحيانًا الفخر بمصر القديمة في إثارة المشاعر الوطنية عند المصريين، إذ يقول: «انظروا إلى أهرام مصر، ومعابد منف، وخرائب طيبة، وهياكل سيوة، وقلاع دمياط، كلها تشهد بصلابة آباءكم، وعظمة أجدادكم.»٨٩ وكتب تلميذه الشيخ محمد عبده سلسلة من المقالات عام ١٨٧٦م يربط فيها بين عظمة مصر القديمة ونهضة مصر في عهد الخديو إسماعيل.٩٠
وفي العام ١٨٦٢م، كتب أحد كبار الملاك المصريين ذوي الجذور التركية — الشركسية، نصيحة لولده باللغة العربية، أبدى فيها استياءه من استخدام الزي، والعادات، والطب، والأفكار الغربية. وحبذ ارتداء الزي الوطني التقليدي إلا إذا دعت الخدمة في الحكومة إلى ارتداء الأفندية الزي الغربي، وفضل استخدام التقويم الإسلامي الهجري، ونصح بدراسة اللغات الإسلامية قبل دراسة اللغات الأوروبية. غير أن قائمة حكام مصر التي أوردها لم تبدأ بالفتح الإسلامي، ولكنها تبدأ بالفراعنة.٩١ فحتى هذا الرجل المحافظ الذي ينتمي إلى نخبة كبار الملاك استوعب بالفعل أن مصر القديمة مكون أساسي من مكونات التراث القومي.

علم «المصريات» في المجمع العلمي المصري والجمعية الجغرافية الخديو

بتأسيس «المجمع العلمي المصري» عام ١٨٥٩م، أقام الأوروبيون المقيمون بمصر جمعية علمية على الطراز الغربي على أرض مصر. وكان المجمع على مدى أربعة عقود منبرًا للحديث عن مصر القديمة، واستمر بعدها في ذلك بتركيز أقل.

وكانت مثل هذه المحافل العلمية في أوروبا ذات طابع وطني ودولي معًا. واعتقد فلاسفة القرن الثامن عشر بوجود جامعة أوروبية يطلق عليها «جمهورية الأدب» وهي — عند فولتير «جمهورية عظمى».٩٢ وفي القرن التاسع عشر، ناضلت الأوساط الغربية الاشتراكية والدينية والعلمية من أجل إبقاء جسور الصلات الدولية مفتوحة عبر ساحة القوميات المتصارعة. ونظر دعاة النزعة الدولية إلى مجتمعاتهم — غالبًا — على أنها «غربية» وحسب.

وقد أدى وضع مصر كبلد شبه مستعمر إلى تعقيد الصورة داخل «المجمع العلمي المصري»، فقد كان المجمع تحت رعاية الخديو، ولكن الأجانب يسيطرون عليه سيطرتهم على البلاد، وهنا كان على الأوروبيين أن يتواصلوا مع الجاليات الأوروبية الأخرى أكثر مما يفعل زملاؤهم في أوروبا في الجمعيات ذات الطابع القومي. كان الأعضاء يعملون «للعلم ذاته»، ولكن أنظارهم لم تتحول عن موضع كل فرد في التنافس الأنجلو-فرنسي، أو الفرنسي-الألماني، وغيرها من المنافسات الأوروبية التي ازدحمت بها الساحة.

وراء تلك المنافسات الأوروبية، قبعت موضوعات الإمبريالية والعنصرية. فقد أدى افتتاح قناة السويس إلى تدفق الأوروبيين على مصر، ونتج عن ذلك تزايد أعداد كنائسهم، ومدارسهم، ومستشفياتهم وصحفهم، ونواديهم، وجمعياتهم الخيرية. وقد جرب الأوروبيون الأقل التزامًا باتجاه جالياتهم — حدود نزعتهم الدولية في المجمع العلمي المصري، ومصلحة الآثار، والمتحف المصري، والكتبخانة الخديوية، والجمعية الجغرافية الخديوية، والمصالح الحكومية الأخرى، ولكن خطوط المثالب القومية والأوروبية — المصرية لم تكن بعيدة تمامًا عن السطح.

لقد نظر مؤسسو «المجمع العلمي المصري» عام ١٨٥٩م إلى المجمع الذي أسسه نابليون بمصر (على نسق المجمع العلمي الفرنسي بباريس) كإطار مرجعي لهم، وبدرجة أقل وضوحًا إلى «الجمعية المصرية» التي أُسِّست عام ١٨٣٦م. كان المجمع العلمي الفرنسي يضم عددًا من الأكاديميات بكل منها عدد محدد من المقاعد. وكان الالتحاق به يتم بالانتخاب، غالبًا عند خلو مقعد لوفاة شاغله. وكانت غالبية أعضاء «الجمعية المصرية» من البريطانيين، ولكن عضويتها كانت مفتوحة على الأقل للغربيين. وكان جومار — الذي بلغ الثالثة والثمانين من عمره — هو الصلة الوحيدة بين «المجمع العلمي المصري» الذي اختفى من القاهرة عام ١٨٠١م، و«المجمع المصري» الجديد.٩٣
فقد كتب من باريس موافقته على قبول العضوية الفخرية. وفي عام ١٨٦١م أصبح رئيسًا فخريًّا للمجمع. ولعل لينان دي بلفون كان الوحيد من بين أعضاء «الجمعية المصرية» السابقين، الذي انضم إلى المجمع الجديد.٩٤

ورغم رعاية الحكومة المصرية للمجمع العلمي الثاني، ونزعته الدولية، فإن قائمة العضوية تكشف عن تفرد الفرنسيين وتهميش الوجود المصري لعدة عقود من الزمان. واحتل الأمير نابليون رأس قائمة الأعضاء الفخريين عام ١٨٥٩م. وتعاقب على الرئاسة الشرفية للمجمع أربعة من الفرنسيين يليهم الأرمني المتمصر (يعقوب أرتين) فيما بين ١٨٦١ و١٩١٧م، كما تولَّى الفرنسيون الرئاسة الفعلية ومنصب نائب الرئيس طوال الأعوام الثلاثين الأولى من عمر المجمع، وكانت الفرنسية هي لغة التعامل والعمل بالمجمع، مع قبول الإنجليزية، والإيطالية والألمانية.

ويشير الجدول رقم ٥ (انظر الملاحق) إلى أنه في عام ١٨٥٩م، بلغت نسبة العضوية الشرفية للفرنسيين ٦٠٪، ونسبتهم بين الأعضاء المقيمين ٤٣٪، والمراسلين من خارج الشرق الأوسط ٣٨٪. وجاء بعدهم الإيطاليون — عشية توحيد إيطاليا — بمسافة كبيرة. وشغل أنطونيو كولو تشي — طبيب العائلة الخديوية — مركز نائب الرئيس لخمس سنوات، وتولى الرئاسة لمدة عشر سنوات. وكان اختيار كونج بك — سكرتير سعيد ومعلمه السابق الألزاسي المولد — أول رئيس للمجمع تأكيد لرعاية الوالي له. فقد زار سعيد المجمع، وامتدحه لأنه «بعث المعرفة على ضفاف النيل التي يكمن فيها سر عظمة مصرنا القديمة، مهد الآداب والعلوم والفنون».٩٥ وكان مارييت أحد أول نائبين للرئيس، أما الآخر فكان بريطانيًّا.

واتخذ المجمع مقره الأول بالإسكندرية، الميناء الرئيسي للبلاد، حيث تقيم جاليات أوروبية كبيرة، وكان الثغر قد تطور في عهد محمد علي، وأعادت قناة السويس البحر المتوسط إلى المجرى الرئيسي للتجارة الدولية. ويسر خط القاهرة-الإسكندرية الحديدي لرجل يقيم بالقاهرة مثل مارييت أن يصبح من الأعضاء المقيمين. وكان وراء اختيار الإسكندرية مقرًّا للمجمع — بالطبع — ذكريات مكتبة الإسكندرية القديمة ومتحفها.

وأعلن المجمع أن عضويته متاحة للجميع بغض النظر عن الأصل العرقي والاجتماعي — دون أن يشمل ذلك النوع — كما أنه مفتوح لكل الحقول المعرفية. وتعهد المجمع بتقديم النصائح العلمية للحكومة فيما يتعلق بالمحاصيل، والماشية، والأمراض التي تصيب الإنسان، شأنه في ذلك شأن المجمع الأول، والسان سيمونيين الذين أرادوا استعمار مصر في الثلاثينيات.٩٦ وعقد المجمع اجتماعًا شهريًّا من الخريف إلى الربيع، وهو الوقت الذي يسافر فيه الأثرياء من الأجانب المقيمين في البلاد لقضاء الصيف في أوروبا.
واستطاع المجمع أن ينجو بنفسه خلال الأزمة المالية والسياسية التي عانتها مصر فيما بين ١٨٧٥ و١٨٨٢م، بصعوبة بالغة. وفي عام ١٨٨٠م عدل المجمع لائحته، وانتقل إلى القاهرة في موقعه الحالي بالطرف الشمالي من شارع القصر العيني في مواجهة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكان يضم خمسين عضوًا من المقيمين ونحو المائة من الأعضاء الفخريين، وعدد غير محدود من الأعضاء المراسلين. وجأر مارييت — رئيس المجمع عندئذٍ — بالشكوى لأن إفلاس الدولة حرم المجمع من الإعانة السنوية التي كانت تبلغ ١٥٠٠ فرنك منذ عام ١٨٧٥م. وبمجرد استقرار الاحتلال البريطاني في مصر قام نائب الرئيس إدوارد روجرز — الذي كان موظفًا بالحكومة المصرية — بحثِّ المستشار المالي أوكلاند كالفن على مضاعفة قيمة الإعانة السنوية.٩٧
ولكن ماذا عن الأعضاء المصريين؟ كان من بين الأعضاء المقيمين المؤسسين سبعة من المصريين (١٤٪) منهم نوبار باشا الذي أصبح — فيما بعد — رئيسًا للوزراء، ومحمود الفلكي، ورفاعة الطهطاوي.٩٨ وكان محمود الفلكي هو العضو المصري الوحيد بمجلس الإدارة المكون من ١٨ عضوًا، وخدم الطهطاوي في لجنة النشر مع عضوين آخرَين من الأوروبيين، وهو الموقع الذي خلفه فيه محمود الفلكي، وانضم علي مبارك إلى المجمع فيما بعد، ولكنه لم يلعب دورًا فعالًا.٩٩
ومن الغريب أن «الرجل الأمريكي المقيم بالقاهرة الذي يرد ذكره في كل كتاب عن المدينة» في الستينيات، لم ينتم إلى المجمع.١٠٠ أما يوسف حككيان فقد كان فريدًا بصحبة الأعضاء الغربيين «بالجمعية المصرية»، مغتربًا عن مصر، البلد الذي تبناه، وكان حريصًا على كشف مستوره أمام أصدقائه الأوروبيين. وعندما وقع «التمرد» في الهند (ثورة ١٨٥٩م)، كتب حككيان إلى صديق بريطاني: «لا بد أن تعملوا على نزع سلاح الهنود، وتجبروا الأهالي على العمل في مد الخطوط الحديدية، وإقامة خطوط البرق، وشق القنوات المحلية في كل اتجاه، واملئوا الأنهار بالبواخر، إنني لا أقبل أن يكون أبناء البلاد جنودًا، عليكم حشد مائة ألف جندي بريطاني بالجبال على أهبة الاستعداد للتحرك بالقطارات إلى الوادي كما تنهمر السيول من الجبال …»١٠١ وقد صادق حككيان مارييت عندما كان ينقب عن الآثار في منف، وقام بتقديم إدوارد نافي، وبروجش لفردنان ديلسبس، وتبادل الرسائل مع السير شارلز لايل عن الجيولوجيا، وأرسل إلى لوسي دف جوردون قاموسًا عربيًّا، والتقى أمير ويلز عند زيارته لمصر، وحتى المستكشف هنري ستانلي استعان بحكيان للاستعلام عن أحوال أسرة امرأة يونانية كان يأمل الزواج بها. وقد لعب قريبه يعقوب أرتين — فيما بعد — دورًا مشابهًا، وكذلك فعل مرقص سميكة.

وقد بدأ تركيز المجمع العلمي المصري على مصر القديمة منذ كان مارييت نائبًا للرئيس بقراءة تقارير الآثار في الموسم الأول، وتولى مارييت رئاسة المجمع لمدة سبع من سنواته الإحدى والعشرين الأولى، وكان رئيسًا فخريًّا لمدة أحد عشر عامًا أخرى، واستخدم مارييت المجمع للإعلان عن الكشوف الأثرية التي تقوم بها مصلحة الآثار، وحذا حذوه من خلفوه في إدارة المصلحة. وقد ألقى بروجش بحثًا بالمجمع كما ألقى ليبسيوس ثلاثة بحوث، وتولى رئاسة المجمع واحد من غير العاملين في مجال المصريات، خلفًا لمارييت بعد وفاته لفترة قصيرة، ثم تولَّى ماسبيرو الرئاسة حتى عودته لفرنسا عام ١٨٨٦م.

وكانت اثنتان من الأوراق الخمسة التي ألقاها محمود الفلكي بالمجمع تتصل بالمصريات، إحداهما عن أحد الفروع القديمة للنيل، والأخرى عن الإسكندرية القديمة، وتولى محمود الفلكي مهام نائب الرئيس لمدة اثني عشر عامًا. وقد حصل محمود الفلكي على فرصة متأخرة للدراسة بفرنسا عندما رشحه تلميذه السابق بالمهندسخانة، علي مبارك لعباس الأول لدراسة الفلك. ومكث محمود الفلكي بأوروبا تسع سنوات، وعاد إلى مصر في نفس السنة التي شهدت تأسيس المجمع العلمي المصري. وأبحاث الفلكي التي نشرها بالفرنسية مبعثرة في عدد من المجلات الأوروبية، ومن بينها بحث عن التقويم عند العرب قبل الإسلام، والموازين والمكاييل في مصر الإسلامية، وحفائر وخريطة الإسكندرية القديمة، والجدول الزمني للهرم وعلاقته بالشعرى اليمانية. وتولى نظارة المعارف في الوزارة التي شارك فيها عرابي عام ١٨٨٢م، ولكنه نجا بنفسه سياسيًّا عند وقوع الاحتلال البريطاني، وعاد لتولي نفس المنصب في وزارة نوبار ١٨٨٤–١٨٨٥م، ومات خلالها في مكتبه. وامتدح أرتين — رئيس المجمع — محمود الفلكي إلى جانب مارييت، وماسبيرو وجورج شفاينفورت باعتبارهم من أعضاء المجمع الذين يستحقون خلافة مونج وجاك ليبير، وكلود برتوليه أعضاء المجمع الذي أقامه نابليون في مصر.١٠٢ وبعد وفاة الفلكي لم يقم المصريون بالمساهمة في الحديث عن المصريات بالمجمع حتى تم انتخاب أحمد كمال عام ١٩٠٤م.
وتم تهميش «المصريات» بصورة أكبر في الجمعية العلمية الرئيسية في ذلك العصر، وهي «الجمعية الجغرافية الخديوية»، غير أن هذه الجمعية جديرة بالذكر لكونها كانت تمثل ملمحًا بارزًا من المشهد الثقافي، وتلعب دور المنبر الأصغر لعلم المصريات. وقد أسسها إسماعيل عام ١٨٧٥م لإضفاء الشرعية على توسعه في أفريقيا، وبث الدعاية له. وكان أول رئيس لها المستكشف الألماني جورج شفاينفورت عالم التاريخ الطبيعي. وقد تولَّى أيضًا رئاسة المجمع العلمي المصري، وكتب فصلًا عن «أصول الأوضاع الحالية للمصريين» نشر بدليل بايدكر.١٠٣
وقد اختلف الأعضاء الأُول للجمعية الجغرافية الخديوية عن المجمع العلمي المصري في أمرين: غلبة الإيطاليين، والوجود الأمريكي لأول مرة. وكما يتضح من الجدول رقم ٥ (بالملاحق) فقد فاق عدد الإيطاليين عدد الفرنسيين الذين احتلوا المركز الثاني بين المؤسسين، واحتكر إيطاليان رئاسة الجمعية لفترة طويلة، فتولى الرئاسة الدكتور أونوفريو أباتي (١٨٩٠–١٩١٥م)، وفردريكو بونولا (١٨٨١–١٩١٢م)، فقد كان المستشارون الإيطاليون أصحاب حظوة عند الأسرة الحاكمة طوال تاريخها، وكان أباتي طبيب الأسرة الحاكمة منذ عهد سعيد، وكان أيضًا واحدًا من نائبي رئيس المجمع العلمي المصري من ١٨٨٢م حتى ١٩١٠م.١٠٤
وإذا كان المجمع العلمي قد خلا من الأمريكان، فإن الضباط الأمريكيين الذين خدموا في جيش إسماعيل كان لهم حضور بارز في السنوات الثماني الأولى من عمر الجمعية. فقد ساعد هؤلاء الضباط في اكتشاف السودان ورسم خريطته، وأصبح الجنرال تشارلز ستون رئيسًا لأركان الجيش المصري. وقد أجبرت الأزمة المالية إسماعيل على الاستغناء عن الضباط الأمريكان، ولكن ستون استمر موجودًا، ورأس الجمعية الجغرافية من ١٨٧٩م حتى ١٨٨٣م، ولم يعد إلى بلاده إلا عندما أبلغته سلطات الاحتلال البريطاني أنه لم يعد له مكان بالجيش المصري.١٠٥

وكان عدد المصريين ٢٥ عضوًا من بين مؤسسي الجمعية البالغ عددهم ١٤٠ عضوًا. ويشير فهرس مجلة المجمع العلمي المصري (١٨٨١–١٨٨٧م) إلى أن المصريين قدموا أربعة بحوث من مجمل ما قدم من البحوث التي بلغ عددها ٣٢ بحثًا. وحضر محمود الفلكي المؤتمر الجغرافي الدولي بفيينا عام ١٨٨١م، وكان نائبًا لرئيس الجمعية الجغرافية مرتين، وتولى رئاستها خلفًا للجنرال ستون.

وقد بدأت «الجمعية الجغرافية الخديوية» بمجموعة من الهواة مع القليل من المتخصصين في مختلف المجالات الأخرى، شأنها في ذلك شأن الجمعيات الجغرافية التي نشأت بالغرب. وكانت تُلقى بها أحيانًا بحوثًا في الآثار، فقد تحدث بروجش أمامها عن اللغة النوبية، وعن المحاجر الفرعونية بوادي الحمامات. وقد منحت الجمعية عضويتها الشرفية لمارييت قبل وفاته بشهور، كما منحتها لديلسبس وآخرين.١٠٦ وتضمَّن فهرس مجلة الجمعية الجغرافية الخديوية (١٨٨٨–١٨٩٣م) قائمة بخمسة بحوث عن مصر في العصر الفرعوني، والعصر البطلمي ضمن البحوث التي شملتها القائمة وعددها ٣٢ بحثًا.١٠٧
وعلى عكس المجمع العلمي المصري الذي كان عملًا أوروبيًّا، كان تأسيس الجمعية الجغرافية الخديوية «وجمعية المعارف» — التي أنشئت بمباركة من إسماعيل — نابعًا من مبادرات محلية، ولم تكن معنية بالآثار والمصريات. واعتمدت «جمعية المعارف» على اشتراكات الأعضاء، واشترت مطبعة، ونشرت كتب التراث العربي والإسلامي، وقد انهارت الجمعية عندما حصل إسماعيل على فرمان توريث العرش لأبنائه، وعندما فر بعض أفراد الأسرة والحاشية إلى إستانبول ممن كانوا يدعمونها ماديًّا.١٠٨

تمثيل مصر في المعارض الدولية، روائع الفراعنة

كون الكثير من الغربيين انطباعهم المباشر عن مصر من خلال المعارض الدولية التي أقيمت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولعب مارييت وهنريش بروجش الدور الرئيسي في تنظيم المعروضات المصرية في عدد من تلك المعارض التي كان الغرض من إقامتها خدمة التقدم الصناعي، والرأسمالية، وتنمية النزعة الاستهلاكية. وكان «معرض لندن الكبير للصناعات الدولية» الذي عقد عام ١٨٥١م الأول في ذلك المجال الذي اختار له الإنجليز والفرنسيون اسم «المعارض الدولية»، وسماه الأمريكان «الأسواق الدولية» وكانت تلك المعارض مفتوحة أمام الجمهور العريض الذي يتجاوز حدود الجمعيات العلمية والمتاحف؛ ولذلك جمعت تلك المعارض بين مجالات مختلفة، فهي تتضمن بعضًا من صفات المتحف، والسوق، كما تتضمن حديقة للملاهي، كذلك لعبت تلك المعارض دورًا تمهيديًّا للسياحة الخارجية.

وكانت «الجمعية الملكية للفنون» في بريطانيا تعرِض المصنوعات في معارض محلية منذ العام ١٧٥٦م، كذلك يرجع تاريخ المعارض المحلية الفرنسية إلى العام ١٧٩٧م. واتجه الأمير ألبرت — رئيس الجمعية الملكية للفنون — وهنري كول، الكاتب والموظف الحكومي، إلى التحرك نحو الساحة الدولية بإقامة «معرض لندن الكبير» عام ١٨٥١م. كان شأن مدرسة مانشستر للعمل الحر مرتفعًا، وتمت تغطية معظم تكاليف المعرض من التبرعات والشركات الخاصة، ورسوم الدخول. وخشي المحافظون من سوء تصرف جمهور العامة، ولكن الطبقة العاملة، أو من كانوا يسمون «أهل الشلن» حضروا المعرض في جماعات التزمت الهدوء. وأقيم حفلا الافتتاح والختام بقصر «جوزيف باكستون كريستال بالاس» المقام من الصلب والزجاج، وحضرت الملكة فيكتوريا في مقصورتها الخاصة عند نهاية المحور الرئيسي للمعرض لتتلقى التقدير الإمبراطوري الرمزي عند الجناح الهندي الذي اختير له موقع إستراتيجي عند ملتقى المحاور، وانتشرت المعروضات البريطانية في مختلف أرجاء المعرض، وكان لكل دولة غربية أخرى جناحها الخاص بها. وتردد على المعرض ستة ملايين زائر على مدى ١٤٠ يومًا، وعندما نقل المعرض إلى سيدينام بقيت معروضات كريستال بالاس حتى احتراق المبنى عام ١٩٣٦م. وتفيض كتب التاريخ في وصف الزينات التي شهدتها سيدينام في الأجنحة اليونانية، والرومانية، والبومبية، والبيزنطية، والرومانسيكية، والقوطية، وفنون عصر النهضة، والصينية، والمغربية، والمصرية.١٠٩
وقد أرسلت تونس و«تركيا» — وهوما اصطلح الأوروبيون على إطلاقه على الدولة العثمانية — مفوضًا عن كل منها للمعرض الكبير،١١٠ وحضر شاه فارس المعرض بنفسه، ولم يكن الجناح المصري رسميًّا؛ لأن الدولة العثمانية اعترضت على المشاركة المصرية المستقلة، كما أن عباس الأول لم يكن في موضع يجعله مضطرًا إلى إبهار الغرب بالآثار والفنون المصرية كدليل على التقدم. واختار الدليل الرسمي للمعرض فاتحة له التحنيط والنماذج الإثنولوجية مع صورة «القائمين بالتحنيط من المصريين». واحتوى الجناح المصري على مطبوعات بولاق، وملابس، وسروج، ومحاصيل غذائية، وشرائح من «المرمر الشرقي» وذكر الدليل أن «الطبيعة حبت مصر بالزراعة والتجارة وليس الصناعة، في إطار تقسيم منطقي للعمل».١١١ وبرزت الآثار الفرعونية وحدها مع انتقال المعروضات إلى سيدينام، فهناك طريق للأسود يقود إلى واجهة معبد على الطراز البطلمي، كتب عليه بالهيروغليفية: «في العام السابع عشر من حكم فيكتوريا، ملكة الأمواج (البحار) أقيم هذا القصر الذي زود بألف تمثال، وألف من النباتات، وغيرها، ليكون بمثابة كتاب يطلع عليه أهل جميع البلاد.»١١٢ وأقام جوزيف بونومي نسخة من التمثال المزدوج بأبي سمبل توسط الجناح المصري (انظر الشكلين ٢٤ و٢٥).
وجاءت الاستجابة الفرنسية لتحدي «المعرض الكبير» في عهد نابليون الثالث عندما أقيم «المعرض الدولي» في شامب دي مارس عام ١٨٥٥م، حيث قام السان سيموني فردريك لوبلاي بتقديم مشروع سوسيولوجي لعرض المصنوعات البشرية. ألقت وفاة الأمير ألبرت بظلالها على معرض لندن الدولي الثاني الذي أقيم عام ١٨٦٢م، عندما أرسلت كل من مصر واليابان معروضاتها رسميًّا لأول مرة، ولما كان مارييت مفوضًا رسميًّا من قبل سعيد بذلك المعرض، فقد أرسل إلى لندن قطعًا أثرية من المجموعة التي كونها ببولاق من أجل المتحف الذي لم يكن قد افتُتح بعد، ورافق مارييت سعيدًا في زيارته لباريس، وأقام معه بقصر التويلري، ثم صحبه إلى لندن لمشاهدة المعرض.١١٣
وحقق معرض باريس الدولي عام ١٨٦٧م، انتصارًا لكلٍّ من نابليون الثالث، ورائد التجديد الحضري البارون هاوسمان، والخديو إسماعيل، ومارييت، وفي تلك المرة أقام لوبلاي دائرة عرض خارجية بالمبنى الرئيسي خصصت للآلات، وأخرى داخلية تستعرض تطور التقدم الحضاري من العصر الحجري حتى ذلك الوقت، وجمع القسم «الشرقي» بين الجناح المصري، وحرملك باي تونس، والحمامات التركية، والكشك العثماني، وبيت الشاي الصيني، في مكان واحد.١١٤

ولما كان إسماعيل حريصًا على ذيوع لقب الخديو الجديد الذي حصل عليه، وتأكيد استقلاله عن إستانبول، فقد أوكل إلى مارييت مهمة تقديم معروضات تحقق الإبهار، فخصص قسمًا محددًا من الجناح المصري لكلٍّ من مصر القديمة والوسيطة، والحديثة، كما عرض ديليسبس ما أحرزه العمل في قناة السويس من تقدم متسارع. وصمم مارييت القسم الفرعوني على طراز مقصورة الإمبراطور تراجان بجزيرة فيلة، مع إضفاء لمسات عليه من الدولة القديمة والدولة الحديثة وعصر البطالمة. وقام طريق أبي الهول ليقود الزائر إلى ذلك القسم الذي توسطه تمثال خفرع الشهير المصنوع من الديوريت والتمثال الخشبي «شيخ البلد» من متحف بولاق.

وزين السلاملك الإسلامي، أو حجرة استقبال الرجال بمشكاوات يعلوها هلال ذهبي، ووضعت به تماثيل نصفية لإسماعيل. وقدم محمود الفلكي لوحات الخرائط الخاصة بالإسكندرية قديمًا وحديثًا، وخرائط بينت الجيولوجيا والصناعة والتجارة والري، كما تضمن الجناح المطبوعات العربية والتركية التي صدرت من مطبعة بولاق تعبيرًا عن التنوير والصحوة الثقافية في ظل الأسرة الحاكمة. أما القسم الثالث فاتخذ شكل الوكالة ذات المشربيات التي تميز بيوت القاهرة. ووضعت عشر لوحات مصورة لمناظر لرجال ونساء يعملون بالزراعة والصناعة. واحتوى قسم السويس الفرعوني الحديث على نموذج مجسم للبرزخ ولوحات للخرائط مبين عليها مدن القناة.

ولكن، ما الذي كان معبرًا عن الحقيقة، وما الذي كان شكليًّا؟ ضمت الوكالة بعض الحرفيين وزوج من الجمال، وآخر من الحمير. وشارك الخديو إسماعيل وديليسبس في العرض، فقد وقف ديليسبس في القسم الخاص بالسويس، واستقبل الخديو إسماعيل نابليون الثالث وأوجيني في السلاملك.

واعتذرت الإمبراطورة عن عدم قبول دهبية فخمة حملت اسم «بنت النيل»، هدية من إسماعيل، وانتهى بها المطاف إلى أن تهدى للأمير نابليون، ورغم أن الكاتب الرومانسي تيوفيل جويتييه حضر افتتاح قناة السويس فيما بعد، إلا أنه أعلن أن زيارته للجناح المصري كانت رحلته الحقيقية إلى مصر. وفي باريس، شاهد جوتييه فتح إحدى المومياوات، كما شاهد خمسمائة جمجمة انتزعت من المومياوات ورتبت زمنيًّا حسب النظرية الأنثروبولوجية الشائعة عندئذٍ!

وعندما أبدت الإمبراطورة أوجيني ميلها إلى أخذ مجوهرات إحدى الملكات الفرعونيات وبعض التماثيل الفرعونية، أحالها إسماعيل إلى مارييت، فعرضت عليه إدارة المطبعة الإمبراطورية الفرنسية أو المكتبة الوطنية، أو مقعد بمجلس الشيوخ، أو إدارة اللوفر أو أن يلعب دورًا في مساعدة زوجها في كتابة سيرة قيصر. ولكن مارييت رفض صراحة أن يعطيها أي من آثار مجموعة بولاق، مضحيًا بما قدمته له من عروض مؤقتة. وقد عاد إسماعيل وديليسبس، ومارييت، وعلي مبارك من باريس بأفكار حول تنظيم احتفالات افتتاح قناة السويس التي أقيمت بعد ذلك بعامين.

وكانت احتفالات قناة السويس التي أقامها إسماعيل وديليسبس، ومارييت، وعلي مبارك في خريف عام ١٨٦٩م، بمثابة رد مصري على المعارض الكبرى، فقد حشدت الاحتفالات موارد الدولة والموارد الخاصة من أجل إبهار العالم، تضمن إقامة أجنحة مؤقتة، وجذب مجموعة من النجوم الدولية. وأعد مارييت دليلًا بهذه المناسبة، وصحب ملوك وأمراء أوروبا — بنفسه — في جولتهم بصعيد مصر. كما اقترح الإطار لما أصبح يعرف فيما بعد بأوبرا عايدة لفردي، فرسم الحوادث منذ عهد رمسيس الثالث، وصمم الملابس على ضوء المناظر التي جاءت بالمقابر الفرعونية، ورسم بنفسه، بالألوان المائية، الستائر الخلفية للعرض الدولي الأول بدار الأوبرا بالقاهرة في ديسمبر ١٨٧١م.١١٥

وفي عام ١٨٧٣م، أقامت فيينا أول معرض دولي في البلاد المتحدثة بالألمانية، فاختار إسماعيل هنريش بروجش — الذي عمل مساعدًا لمارييت في باريس ١٨٦٧م — مفوضًا عامًّا لمصر في ذلك المعرض، وكان مارييت مرتاحًا تمامًا وهو يرافق أوجستا — إمبراطورة الهبسبورج — في زيارتها للجناح المصري، بعدما احتاط للأمر، فلم يرسل إلى فيينا سوى نماذج مقلدة للآثار والقليل من القطع ذات القيمة المحدودة، ولكن انتشار وباء الكوليرا أدى إلى إلحاق الفشل بذلك المعرض الدولي.

وعبر الولع بالمعارض المحيط الأطلنطي، فأقيم معرض مئوية فيلادلفيا عام ١٨٧٦م، وتولى الأنثروبولوجيون من معهد سميثونيان تنظيم معروضات المبنى الرئيسي على أساس عرقي، فوضعوا في المركز الأول الأنجلو سكسون (الإنجليز والأمريكان)، واللاتين (وخاصة فرنسا)، والتيوتون. وظهر الأمريكان السود بصورة مهينة يؤدون دورهم في الجنوب. وقامت حشود من الأوغاد البيض بمضايقة الزوار الأتراك، والمصريين والإسبان، واليابانيين، والصينيين.١١٦ ورغم معاناة الأزمة المالية، حرصت مصر، وتونس والدولة العثمانية على المشاركة في المعرض، ونظم بروجش الجناح المصري تحت شعار «من أقدم الشعوب إلى أحدثها». وكان للجناح المصري واجهة معبد فرعوني، وقدمت مطبوعات بولاق — مرة أخرى — الدليل على التقدم الحديث.
وجاء معرض باريس الدولي عام ١٨٧٨م استمرارًا لدائرة من المعارض الفرنسية على مدى أحد عشر عامًا، بلغت ذروتها عام ١٩٠٠م. وفي محاولة لنسيان كابوس الحرب البروسية الفرنسية، وكوميونة باريس، والانقلاب الذي دبره الرئيس ماكماهون عام ١٨٧٧م، قامت فرنسا بإنشاء بناء ضخم في شامب دي مارس، على مساحة ٤٤ إكر. وقامت الأجنحة مختلفة الطرز بجوار بعضها البعض على «طريق الأمم Avenue des Nations» لمسافة تقرب من نصف الميل، وبلغ عدد زوار المعرض ١٣ مليونًا.١١٧
وكاد إسماعيل أن ينسحب — تقريبًا — من المعرض بسبب الحرب التركية — الروسية التي أرهقت ميزانيته المتداعية أصلًا، وتبددت أحلام مارييت في إقامة أقسام مصر القديمة والوسيطة والحديثة، ولكن ديليسبس وشركة قناة السويس شاركا بجناح على الطراز الفرعوني الحديث، واقتصر وجود مصر على مساحة محدودة بسراي تروكاديرو، فتم عرض مستنسخات من مناظر مقابر بني حسن، ورأس خفرع ونموذج لبيوت الحرفيين القديمة، وواجهة منزل بالمشربيات، وبعض الخزف، والسيوف والدروع التي صنعت على أنها تمثل العصور الوسطى، وقدمت المجوهرات، والسجاد، والمطرزات على أنها تمثل العصر الحديث. وجاء بدليل المتحف «يمكن القول إن البلاد تخلو تمامًا من الصناعة»،١١٨ وعكست الخرائط التي علقت بالجناح ضم مصر للأراضي السودانية عند خط الاستواء، في وقت كانت فيه مصر ذاتها على وشك التعرض للغزو الغربي.

تقديم «المصريات»، المؤتمر الدولي للمستشرقين

ساعدت الثورة التي حدثت في مجال النقل والمواصلات، على جعل إقامة المعارض الدولية، والرحلات السياحية التي نظمها كوك، أمرًا ممكنًا. ولكنها أطلقت — أيضًا — حركة المؤتمرات الدولية التي بلغت النضج في السبعينيات، وكان المتطلب الآخر لنجاح تلك الحركة هو وجود شبكة من المنظمات الوطنية — وهي هنا الجمعيات الآسيوية، والشرقية، والجغرافية — وقد ظهرت تلك المنظمات منذ العشرينيات. وبحلول عام ١٨٧٠م كانت الجمعيات الاستشراقية قد تم تأسيسها جميعًا؛ فقد أنشئت الجمعيات الجغرافية القومية، والجمعيات الآسيوية بباريس (عام ١٨٢٢م)، وفي بريطانيا العظمى وأيرلندا (عام ١٨٢٣م)، وفي أمريكا (عام ١٨٤٢م)، وفي ألمانيا (عام ١٨٤٥م). وبوجود مصلحة الآثار، والمتحف المصري والمجمع المصري والجمعية الجغرافية الخديوية، أصبح إسماعيل مستعدًا — أو على الأقل الأوروبيون في مصر — للمشاركة في حركة المؤتمرات الدولية.

وتبلورت فكرة عقد مؤتمر دولي للمستشرقين في الجمعية الإثنوجرافية بباريس،١١٩ وشهدت تلك المدينة عقد أول مؤتمر عام ١٨٧٣م، وشكلت «المصريات» قسمًا مهمًّا من اجتماعات المؤتمر لمدة قرن من الزمان من تأسيسه، وإن كان الشائع في القرن العشرين الفصل بين «المصريات» والاستشراق ولكن مؤسَّسات مثل «الجمعية الشرقية الأمريكية» و«المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة»، و«المعهد الشرقي بجامعة شيكاجو» أبقت على التداخل بين المجالين. وفي عام ١٩٧٣م انفصل علماء المصريات عن «المؤتمر الدولي للمستشرقين» الذي اضطر لمجاراة الظروف المتغيرة، فحول اسمه إلى «المؤتمر الدولي للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية».
وقد ظهرت كلمة «مستشرق» بمعنى المتخصص في اللغات والآداب الشرقية ظهرت في اللغة الإنجليزية عام ١٧٨١م، ولم تظهر كلمة «مصرياتي» حتى عام ١٨٥٩م، ولم يشع استخدامها إلا في السبعينيات عندما بدأت «المصريات» تقف على أقدامها كتخصص مستقل.١٢٠

وبدأ الأوروبيون المشتغلون بالآثار المصرية في مصر يغيرون من عادات لباسهم حوالي منتصف القرن التاسع عشر، فقد كان الرواد من المستشرقين الآثاريين: شامبليون، وروسيلِّيني، وويلكنسون، ولين، وبريس دافين يطلقون لحاهم، ويرتدون الملابس التركية. وكان ذلك المظهر مفيدًا وموفرًا للأمن في أيامهم، رغم أنهم عندما كانوا يعرضون هذا الزي في بلادهم تبرز دائمًا تساؤلات حول الهوية، والتخفي، وادعاء الخبرة بالثقافات الأجنبية. وعندما أصبحت «المصريات» تخصصًا محددًا، وزاد قدوم الغربيين إلى مصر، ولم يعد علماء المصريات من أمثال ماسبيرو وبتري يظهرون بالزي «الشرقي». ولم يكن المشتغلون بالمصريات بحاجة إلى اللغة العربية حتى يثبتوا كفاءتهم. غير أن المستشرقين الذين اختبروا أنفسهم بالاندماج مؤقتًا داخل المجتمع «الآخر» الذي ما زال موجودًا، استمروا في التخفي في الزي المحلي لفترة أطول.

وثمة ملاحظة لا تبعث على الارتياح بالنسبة لمسألة التعريف: فالمصريات كانت ولا تزال تعني دراسة مصر القديمة، والمصطلح يعني بوضوح استبعاد مصر الإسلامية ومصر الحديثة من دائرة الدراسة، وهناك فكرة غربية أخرى تؤكد الاستمرارية في تاريخ مصر وتعارض الانقطاع، وهي بدورها لا تبعث على الارتياح، فهي تفترض أن جوهر الفلاح المصري لم يتغير منذ العصور القديمة. فهذه الفرضية تصب في فكرة الشرق الراكد غير المتغير الذي يعد نقيض الغرب الحركي المتغير. ويبدو أن هذا ما كان يعنيه أحد المستشرقين عندما التقط صورة لفلاح مسترخي الرأس ليؤكد التشابه بينه وبين مومياء تم اكتشافها في طيبة (انظر الشكل ٢٥).
وتضمنت أعمال «مؤتمر المستشرقين الدولي الأول» الذي عقد بباريس عام ١٨٧٣م سبعة أوراق بحثية في المصريات، وواحدة في الدراسات القبطية؛ وكان من بين الثمانية أصحاب تلك الأوراق سبعة من الفرنسيين منهم ماسبيرو وشاباس، أما الثامن فكان صامويل بيرش. وكانت القوات الألمانية ما زالت تحتل الأراضي الفرنسية حتى ١٦ سبتمبر ١٨٧٣م؛ ولذلك لم يكن منظمو المؤتمر في حالة مزاجية تسمح لهم بدعوة الألمان للمشاركة. ورغم ذلك سدد ٣٥ ألمانيًّا اشتراك المؤتمر (لم يحضر المؤتمر كل المشتركين الذين بلغ عددهم ١٠٦٤ مشتركًا)، واشترك ليبسيوس في المناقشات وهو جالس بين صفوف الحضور. وكان الخديو إسماعيل، ومحمود الفلكي، ويعقوب أرتين وستة آخرون من المصريين، ضمن قائمة المشتركين من مصر الذين بلغ عددهم عشرين مشتركًا، وكان من بين الأحد عشر الآخرين مارييت، وهنريش بروجش، وألبرت دانينوس. ويلفت النظر أن اسم شفاينفورت ورد كممثل للجمعية الجغرافية التي لم تكن قد تأسست بعد.١٢١
ويختلف الباحثون حول رد فعل المصريين على تمثيل بلادهم في المعارض الدولية و«مؤتمر المستشرقين الدولي» فيذهب تيموثي ميتشل — الذي استخدم مدخلًا صعيديًّا أو ما بعد الحداثة — إلى تأكيد عدم ارتياح المصريين وإحساسهم بالحرج، بينما يرى كارتر فيندلي أن رد فعل المصريين والعثمانيين كان إيجابيًّا وباهتًا. ويستقي كل من ميتشل وفيندلي أدلتهما من مؤتمر المستشرقين الدولي الذي عقد في ستوكهلم وكريستيانا (أوسلو الآن) والمعرض الدولي بباريس عام ١٨٨٩م الذي يقع في الفترة التي يعالجها الفصل السادس من هذا الكتاب.١٢٢
وكان باحث ياباني نشيط، شارك في مؤتمر المستشرقين الدولي قد دحض الفكرة القائلة بأن المستشرقين الغربيين وحدهم هم القادرون على مناقشة «الشرقيات»، وأشاد الجنرال نزار أغا — السفير الفارسي — بالمستشرقين لاكتشافهم أن لغة الفردوسي ودارا وكسرى تنتمي إلى عائلة اللغات الأوروبية، قائلًا: «بفضل تقدم فقه اللغة المقارن أصبح باستطاعة الفرس اليوم أن يفصحوا عما كانوا يوقنون به من قبل، وهو أنهم ينتمون إلى نفس العنصر الذي ينتمي إليه الأوروبيون، وأنهم أشقاء الأمة النبيلة التي افتتحت هذا العام الأعمال الدولية الكبيرة العظيمة لمؤتمر المستشرقين.»١٢٣
وقد تولَّى صامويل بيرش — عالم المصريات — رئاسة مؤتمر المستشرقين الدولي الثاني الذي عقد بلندن عام ١٨٧٤م (انظر الجدول ٦ بالملاحق، وانظر أيضًا الشكل ٢٦)، ومزج في كلمته بين الزهو الإمبريالي ودولية العلم عند حديثه عن لندن قائلًا:

«إنها متميزة لتوسعها ولانكبابها على دراسة الشرق الذي تربطها به آلاف الروابط: المصالح التجارية، ونشر الحضارة، وأعمال التبشير، وواجب حكم البلاد الشرقية التابعة لها ذات اللغات المتعددة والمواقع المتباينة في الشرق …

والمستشرقون أيضًا جميعهم رجال ينتمون إلى عائلة واحدة … طلاب علم، تختفي وتُنسى عندهم كل أنواع التمييز على أساس العرق والدين والجنسية. وحتى النقد لا يجب أن يكون أو أن يصبح ذاتيًّا، طالما كان غرض العلم توسيع آفاق العقل، والتماس الحقيقة التي يصعب الوصول إليها في معظم الأحوال، ولا لوم إن أخطأ الطريق إليها.»١٢٤
وقد عكست أقسام المؤتمر التصنيف السائد على أساس لغوي عرقي، فإلى جانب قسمي الآثار والإثنولوجي، هناك الأقسام السامية، والحامية، والطورانية، والآرية. وأعلن بيرش أن «قسم الحامية سوف يمثل التقدم الذي أحرزه علم المصريات منذ تم اكتشاف طريقة حل وقراءة اللغة التصويرية لمصر القديمة عام ١٨١٧م».١٢٥ ويعني هذا التاريخ اعترافًا بجهد توماس يانج، وإغفالًا لشامبليون، ولكن لم يكن هناك فرنسي بين الحضور حتى يعلن احتجاجه على ذلك. واستحوذ ليبسيوس وخمسة من الألمان الآخرين، على قسم المصريات، تمامًا كما فعل الفرنسيون في الدورة الأولى للمؤتمر في العام السابق. وكان بروجش يمثل مصر رسميًّا بالمؤتمر، بينما كان بيرش لا يزال عالم المصريات البريطاني الوحيد بالمؤتمر وقد دعا زملاءه السبعة إلى ورشة عمل بمنزله.١٢٦ وانتقل مؤتمر المستشرقين الدولي الثالث إلى سان بطرسبورج عام ١٨٧٦م، ومثل مصر فيه مارييت كعضو مراسل في اللجنة التنظيمية للمؤتمر، وفي المؤتمر الرابع الذي عقد في فلورنسا عام ١٨٧٨م انتهى التنافس الفرنسي — الألماني، وتولى مارييت رئاسة «قسم المصريات واللغات الأفريقية» الذي اختص بمصر وحدها من الناحية العلمية. وكان أصحاب الأوراق البحثية التي ألقيت هم ألماني، وسويسري (نافي)، وإيطاليان (أحدهما أرنستوشيا باريللي)، ولم يكن بينهم مصري أو أوروبي مقيم بمصر.١٢٧

هكذا وفر «مؤتمر المستشرقين الدولي» — منذ بدايته حتى الاحتلال البريطاني في عام ١٨٨٢م — منبرًا مهمًّا لتخصص المصريات حديث النشأة. فإلى جانب كبار المتخصصين من أمثال ماسبيرو، وبيرش، وليبسيوس، وبروجش الذين وضعوا أصوله، غامر القليل من الهواة بتقديم أوراق بحثية، وكان التنافس الفرنسي — الألماني ماثلًا على مسرح المؤتمر وخارجه، بينما افتقر المصريون إلى من يوصل صوتهم إلى قسم المصريات بالمؤتمر، فلم يكن قد ظهر بعد متخصص مصري في ذلك العلم.

نذر العاصفة، إسماعيل ومارييت في السبعينيات

حقق إسماعيل ومارييت انتصارات في أول الأمر، ثم منيا بالنكبات فيما بعد. كيف يستطيع شخص واحد أن يكتشف السرابيوم ويؤسس مصلحة الآثار والمتحف المصري، ويرتب العروض المصرية في المعارض الدولية، ويضع ترتيبات احتفالات افتتاح قناة السويس؟ كانت المآسي في حياة الرجل تترى، أزهقت الكوليرا روح زوجته، ومات ستة من بين أولاده العشرة في حياته، وعانى من مرض السكر عدة سنوات حتى قضى نحبه.١٢٨
ولم يكن مارييت يحظى بالأمان في وظيفته، فكما قال أحد الفرنسيين: «مارييت بك جزء من الأسرة الخديوية في السراء والضراء، في نفس مستوى ناظر الإسطبلات وكبير الأغوات. كان عالم مصريات يقف في طريق يحتاج إلى منجم منظم استعراضات بارع، وجد نفسه في موقع بين الأحمق والطبيب.»١٢٩ وبعد وفاة مارييت، فقدت مصلحة الآثار وضعها الخاص تحت جناح الخديو، ففي عام ١٨٨٣م أصبحت تابعة لنظارة الأشغال العمومية.
وكان خصوم مارييت يرددون — همسًا — أن مارييت عميل للرقيب الفرنسي، يبيع الآثار سرًّا، وأنه كان يكدس الآثار في بولاق ليزيد من ثروته الشخصية. وتأثر إسماعيل بذلك، فانتزع الباخرة من مارييت وألغى صلاحياته في تسخير العمال.١٣٠ وفي عام ١٨٦٧م كانت لديه مخصصات مالية لا تكفي إلا لاستئجار بضع مئات من العمال.
وفي عام ١٨٧٣م، لم يكن هناك مال يكفي للحفائر، والمطبوعات وتوسعات المتحف، وتأخر صرف راتبه زمنًا طويلًا، إضافة إلى فقده للباخرة، فألف كتابًا حقق رواجًا، عنوانه «رحلة في صعيد مصر» يقع في مجلدين (١٨٧٨–١٨٨٠م) استخدم عائده في سداد ديونه — وفي عام ١٨٧٨م قام وزير الأشغال الفرنسي بوزارة نوبار بتوفير ألف جنيه لينفقها مارييت على أهم الحفائر التي كان بحاجة لاستكمالها، وقدمت له وزارة التعليم العام الفرنسية معونة قدرها عشرة آلاف فرنك.١٣١

كانت أحلام مارييت في النشر عظيمة مثل حفائره الأولى بمصلحة الآثار، ولكنها جميعًا تحطمت على صخرة التمويل والوقت. فالحفائر وأعمال المتحف، والأسفار، والتخطيط للمعارض الدولية، والمغامرات الدبلوماسية، كل ذلك لم يترك له وقتًا كافيًا للعمل العلمي. وحرمته وفاة ديفريا المبكرة من العون الذي كان في أمس الحاجة إليه لطباعة النقوش.

وأعلنت الحكومة عن عطاءات في مارس ١٨٧٣م لتشييد متحف كبير بالجيزة، متجاهلة نذر الإفلاس التي لاحت في الأفق. وكان من المقرر أن يتم البناء في أول أكتوبر بتكلفة قدرها ١٨٦ ألف فرنك. وخصصت أكاديمية النقوش والفنون بباريس جائزة قدرها عشرين ألف فرنك لتصميم واجهة المتحف. ولكن بعد إعلان حقيقة الحالة المالية لمصر في صيف ذلك العام خلال معرض فيينا، اختفى مشروع المتحف المقترح مثلما اختفت مدرسة اللسان المصري القديم من الوجود.١٣٢
ووفقًا لما يذكره كرومر: «بلغت الفوضى المالية وبؤس الناس الذروة في صيف وخريف عام ١٨٧٨م.»١٣٣ وقامت بريطانيا وفرنسا بتجريد إسماعيل من أملاك عائلته، وأجبرته على تعيين نوبار رئيسًا للوزراء مع تولي بريطاني وزارة المالية وفرنسي وزارة الأشغال العمومية، وغمر الفيضان متحف بولاق ومقر إقامة مارييت في أكتوبر ١٨٧٨م مما أدى إلى دمار الكتب والمخطوطات والآثار. ولم يتحقق اقتراح نقل المتحف إلى مدرسة البنات — التي لم يكتمل بناؤها — بمجمع وزارة الأشغال العمومية، وهو — على ما يبدو — المكان الذي حصل عليه المجمع العلمي المصري عام ١٨٨٠م.

وفي صيف ١٨٧٩م، أجبرت بريطانيا وفرنسا السلطان عبد الحميد الثاني على خلع إسماعيل وتولية ولده توفيق حكم مصر. وبذل مارييت جهودًا في إصلاح وتنظيف المتحف الذي أعيد افتتاحه عام ١٨٨٠م. ولم يكن قد بلغ الستين عندما مات في يناير ١٨٨١م بسبب السكر، وذلك قبل عام ونصف العام من قيام ثورة عرابي، ووقوع الاحتلال البريطاني. وشهدت سنى عمره الأخيرة بعض النقاط المضيئة، فقد انتخب عام ١٨٧٨م عضوًا بأكاديمية النقوش والفنون الجميلة بباريس، ومنح رتبة الباشوية في ٥ يونيو ١٨٧٩م قبل خلع إسماعيل ببضعة أسابيع، وأخبره الأخوان بروجش — وهو على سرير الموت — بنصوص الأهرام العجيبة التي عثر عليها بهرم أوناس بسقارة.

انتهى عصر إسماعيل ومارييت الذي كان متوهجًا. وبعد العام الذي شهد الثورة العرابية والغزو البريطاني، جاء كرومر وماسبيرو وإلى جانبهما بتري — صاحب الفكر المستقل — ليضعوا مسارًا جديدًا للآثار المصرية في ظل الحكم الاستعماري. ودخل التنافس الأنجلو-فرنسي في مصر مرحلة جديدة، دافعت فيه فرنسا عن وجودها في ميدان الآثار وفي غيره من الميادين … ومع غياب الطهطاوي أخذ أحمد كمال وبعض زملائه على عاتقهم خوض المعركة لتأسيس علم مصريات مصري.

١  Mohamed Saleh and Hourig Sourouzian, The Egyptian Museum Cairo: Official Catalogue (Cairo, 1987), 9.
وعلى كلٍّ، أشار هذا الكتالوج إلى الجهود الأسبق.
٢  Michael Adas, Machines as the Measure of Men: Science, Technology and Ideologies of Western Dominance (Ithaca, N.Y. 1989); see also F. Robert Hunter, Egypt under the Khedives: From Household to Modern Bureaucracy (Pittsburgh, 1984):
انظر أيضًا: عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، ط ٢ (القاهرة ١٩٤٨م).
٣  Peter Gran, Islamic Roots of Capitalism: Egypt 1760–1840 (Austin, Tex., 1979).
٤  حول رفاعة الطهطاوي، انظر: صالح مجدي، حلية الزمن في مناقب خادم الوطن: سيرة رفاعة بك رافع الطهطاوي، تحقيق جمال الدين الشيال (القاهرة ١٩٥٨م)؛ أحمد بدوي؛ رفاعة رافع الطهطاوي، ط ٢، (القاهرة ١٩٥٩م). وحول على مبارك، راجع سيرته الذاتية في موسوعته: الخطط التوفيقية الجديدة، ٢٠ مجلدًا (القاهرة ١٣٠٥ﻫ / ١٨٨٦-١٨٨٧م)، ٩: ٣٧–٦١. وانظر أيضًا: Anouar Louca, Voyageurs et écrivains وكذلك: Gilbert Delanoue, Moralistes et Politiques Musulmans dan l’Egypte.
٥  حول سيرة أحمد كمال، راجع: المقتطف، العدد ٦٣ (نوفمبر ١٩٢٣م)، ص٢٧٣-٢٧٧؛ وتوفيق حبيب، «تاريخ الكشف عن الآثار المصرية وأعمال المرحوم أحمد كمال باشا»، الهلال، ٣٢ (نوفمبر ١٩٢٣م)، ص١٣٥-١٤١؛ وزكي فهمي، صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير الرجال في مصر، مجلدان، (القاهرة ١٩٢٦م)، ﺟ ١، ٣٣١-٣٣٦.
٦  On L’Hôte, Rosellini, Dubois and de Rougé, see Who Was Who, 3: 253-254, 362-63, 130-31, 365-66.
٧  Elisabeth David, Mariette Pacha 1821–1881 (Paris, 1994); Edouard Mariette, Mariette Pacha (Paris, 1904); Auguste Mariette Pach, Le Sérapeum de Memphis (Paris, 1882); On Curzon and Tattam, See Who Was Who, 3: 113, 410-11.
٨  دار الوثائق القديمة، محافظ الأبحاث، ١١٨ ب آثار، وتتضمن رسائل من لوموين إلى إسطفان بك بهذا الشأن فيما بين ١٨٥١ و١٨٥٢م.
٩  Gaston Maspero, Guide du visiteur au Musée du Caire, 4th ed., (Cairo, 1915), x; Abou-Ghazi, “Egyptian Museum” ASAE 67 (1991), 9.
١٠  دار الوثائق، محافظ الأبحاث، ١١٨ ب، آثار، رسائل متنوعة من مارييت.
١١  Bernard S. Cohen, Colonialism and Froms of Knowledge: The British in India (Princeton, 1966), 9.
١٢  Maspero, “Mariette”, xcvi.
١٣  Maspero, “Mariette”, xcvi.
١٤  May Trad, “Journal d’entrée et catalogue général”, ASAE 70 (1984-85), 253–57.
١٥  دار الوثائق، محافظ الأبحاث، ١١٨ ب، آثار، من مارييت إلى كونج بك في ١٨ أبريل ١٨٥٨م.
١٦  Who Was Who 3: 276.
١٧  W. M. F. Petrie, Seventy Years in Archaeology, (London, 1931), 46.
١٨  Maspero, “Mariette”, cxliv.
١٩  Petrie, Seventy Years, 52-53.
٢٠  Garnot, Mélanges, 1-2.
٢١  Maritte, Oeuvres, cxxxi; For this paragraph see cxxiii–cxxxi; and Landes, Bankers, 108-9.
٢٢  William Makepeace Thackeray, The Paris Sketch Book of M. A. Titmarsh: The Irish Sketchbook and Notes of a Journey From Cornhill to Grand Cairo (New York, n.d.), 714; Jason Thompson, Sir John Gardner Wilkinson and His Circle (Austin, Tex. 1992), 192-93.
٢٣  حرصت على إيراد هذا الاقتباس، مخالفًا بذلك العرف الأكاديمي، وقد تاهت البطاقة التي كتبته عليها بين أوراقي فلم أستطع تحديد مصدرها، ولعله من وثائق الخارجية الفرنسية بأرشيف نانت.
٢٤  دار الوثائق القومية، محفوظات مجلس الوزراء، نظارة الأشغال، مصلحة الآثار ١ / ٤: متاحف ١٨٧٩–١٩١٤م، ملف الحكومات الأجنبية والآثار المصرية، طلب دولة أمريكا لمسلة، ٢٠ أكتوبر ١٨٧٩م، ويحتوي على مراسلات متبادلة بين شريف باشا — رئيس مجلس النظار — والقنصل الأمريكي العام فارمان.
٢٥  Maria Avgouli, “The First Greek Museums and National Identity”, in Museums and the Making of “Ourselves”: The Role of Objects in the National Identity, ed., Flora E. S. Kaplan (London, 1994).
٢٦  استمر عثمان حمدي مديرًا لمتحف إستانبول حتى وفاته عام ١٩١٠م، انظر: Tülay Ergil, Museums of Istanbul (Istanbul, 1993).
٢٧  دائرة الوثائق القومية، محافظ الأبحاث، ١١٨ ب آثار، خطابات من مارييت إلى كونج في أبريل ١٨٥٨م.
٢٨  هذا الاقتباس والاقتباسان التاليان له من: Maspero, “Mariette”, cxxiv, cxxv.
٢٩  Maspero, “Mariette”, cxcii.
٣٠  فيما يتعلق بمتحف بولاق عامة راجع: Auguste Mariette Bey, Notice des Principaux monuments exposés dans les galeries provisoires du musée d’antiquités égyptiennes de S. A. le Vice-Roi à Boulaq, 1st–5th eds., (Alexandria/Cairo 1864–74).
٣١  Maspero, “Mariette”, cxxxix.
٣٢  F. de Saulcy. “Musée du Cairo”, Revue archéologique, n.s. (May 1864) 9: 313–22; Maspero, “Mariette”, cxxxix-cxl.
٣٣  Mariette, Notice, 1868, 10-11.
٣٤  Mariette, Notice, 1868, 10.
٣٥  أوجست مارييت بك، وصف نخبة الآثار القديمة المصرية الموضوعة في أنتكخانة التحف العلمية المصرية (القاهرة ١٢٨٦ﻫ / ١٨٦٩م).
٣٦  Mariette, Notice, 1868, 20-21.
٣٧  Maspero, “Mariette”, cxxvii-cxxviii.
٣٨  Maspero, “Mariette”, cxl.
٣٩  بداية القدماء وبداية الحكماء، ترجمة مصطفى الظواربي، ومحمد عبد الرازق، وعبد الله أبو السعود (بولاق ١٢٥٤ﻫ / ١٨٣٨م)؛ أبو الفتوح رضوان، تاريخ مطبعة بولاق (القاهرة ١٩٥٣م) ٤٦٨، يورد ذكر تاريخ المصريين أو تاريخ قدماء المصريين بين كتب الطهطاوي (١٨٣٩م)؛ عايدة إبراهيم نصير: كتب عربية منشورة في مصر في القرن التاسع عشر (القاهرة ١٩٩٠م) ٢٥٢.
٤٠  مقتبس من كتاب: Arthur Rhoné, L’Égypte à petites journées: Le Caire d’autrefois newed. (Paris, 1910), 3.
٤١  يقدم الشيال عناوين مختلفة لهذه الترجمات، انظر: Shayyal, History, 41–43.
٤٢  رفاعة الطهطاوي، أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل، في الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي، تحقيق محمد عمارة، المجلد ٣، تاريخ مصر والعرب قبل الإسلام (بيروت ١٩٧٤م).
٤٣  Youssef M. Choueiri, Arab History and the Nation-State: A Study in Modern Arab Historiography 1820–1880 (London, 1989), 9–11.
٤٤  الطهطاوي، أنوار توفيق، ١٤-١٥، ١٨-١٩.
٤٥  الطهطاوي، أنوار توفيق، ٣٣–٧٠، والفصل الخاص بالآثار ٦٣–٦٦.
٤٦  الطهطاوي، أنوار توفيق، ٧٠.
٤٧  الطهطاوي، أنوار توفيق، ٦٤، ٧٤.
٤٨  الطهطاوي، أنوار توفيق، ٧٣، ٧٤، ٨٠، ٩٠، ٩٤، ٩٥، ١٠٠–١٠٥، ١١٠–١١٣.
٤٩  الطهطاوي، أنوار توفيق، ٧٣.
٥٠  ت. فهد، مادة «لصابئة» دائرة المعارف الإسلامية، ٨: ٦٧٥–٧٨.
٥١  الطهطاوي، أنوار توفيق، ٢٠–٢١.
٥٢  خليل صابات، تاريخ الطباعة في الشرق العربي، ط ٢ (القاهرة، ١٩٦٦م).
٥٣  محمد عبد الغني حسن، وعبد العزيز الدسوقي، روضة المدارس، نشأتها واتجاهاتها الأدبية والعلمية، (القاهرة ١٩٧٥م) ٤٤-٤٥.
٥٤  Louca, Voyageurs, 73.
٥٥  حسن، والدسوقي، روضة المدارس، ٢١٩-٢٢٠، ٣٦٣–٣٦٥.
٥٦  حسن، والدسوقي، روضة المدارس، ٢٢٢، ٢٢٧، ٣٦٣–٣٦٥، ٣٨١.
٥٧  Oxford English Dictionary, 2nd ed. (1989); Grand Larousse de la langue française (Paris, 1971–1978).
٥٨  انظر الجدول رقم (١) بالملاحق.
٥٩  Maspero, “Mariette”, cixxx–xlxxxii.
٦٠  D. A. Farnie, East and West of Suez 1854–1956. (Oxford, 1969), 751-52; A. G. Hopkins, “The Victorians and Africa: Reconsideration of the Occupation of Egypt, 1882”, Journal of African History, 27 (1986), 379.
فيما يتعلق بمصطلح «المصريات» راجع: Dectionnaire de la langue française (Paris, 1988), vol. 5: 97.
٦١  Cristopher M. Andrew and A. S. Kanya-Forstner, The Climax of French Imperial Expansion 1914–1924 (Stanford, 1981); Mathew Burrows, “‘Mission civilisatrice’: French Cultural Policy in the Middle East 1860–1914”, Historical Journal 29 (1986), 109–35.
٦٢  George Ebers, Richard Lepsius, A Biography, trans. Z. D. Underhill (New York, 1887), 275-76; Suzanne L. Marchand, Down from Olympus: Archaeology and Philhellenism in Germany 1750–1970 (Princeton, N.J., 1996) 49, 108.
٦٣  Ebers, Lepsius, 300.
٦٤  حول تواريخ كراسي الأستاذية، انظر تحت أسماء هؤلاء موسوعة Who Was Who 3.
٦٥  Louis Keimer, “Le Musée égyptologique de Berlin” Cahiers d’histoire égyptienne, ser. 3, fasc. 1 (Nov. 1950), 30–36.
٦٦  Maspero, “Mariette”, cxlvi–cli.
٦٧  Ebers, Lepsius, 157.
٦٨  Maspero, “Mariette”, clxxxii.
٦٩  Maspero, “Mariette”, cxc.
٧٠  Mariette, Mariette, 117–119.
٧١  On Bonomi Wild, and Bunson, see Who Was Who 3, 53-54, 442, 73.
٧٢  Angelo Sammarco, Gli Italiani in Egitto (Alexandria 1937) 151–53.
٧٣  Jean-Jacques Luthi, Le Français en Egypte (Beirut, 1981).
٧٤  L’Egittologo Luigi Vassalli (1812–1887), Disegni e documenti nei Civici Istituti Culturali Milanesi (Milan, 1994).
٧٥  دار الوثائق القومية، فهرست بطاقات الدار، درج ١ آثار، أمر صادر إلى ديوان المالية، دفتر ١٩٣٩م، رقم ١٤٠، ص١٤٥ بتاريخ ١٥ صفر ١٢٨٩ﻫ، وأفضل مصدر ثانوي هو كتاب أحمد عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم في مصر من نهاية حكم محمد علي إلى أوائل حكم توفيق ١٨٤٨–١٨٨٢م، ٣ أجزاء، (القاهرة، ١٩٤٥م).
٧٦  Amal Hilal, “Les premiers égyptologues égyptiens et la réforme”, in Entre réforme sociale et mouvement nationall: Identité et modernisation en Égypte (1882–1962) ed. Alain Roussillon (Cairo, 1995).
٧٧  أحمد عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم، ٢: ٥٧٠-٥٧١ يذكر أسماء الطلاب الذين برز من بينهم أحمد كمال وأحمد نجيب.
٧٨  ورد في أحمد عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم، ٢: ٥٦٩.
٧٩  يذكر أحمد عزت عبد الكريم أن ميخائيل جرجس كان يدرس الحبشية بالمدرسة، تاريخ التعليم، ٢: ٥٦٩.
٨٠  Brugsch, Leben, 299.
٨١  Who Was Who 3, 404.
٨٢  أحمد عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم، ٢: ٥٧٢، ويذكر أن أمين سامي أخطأ في كتابه «التعليم في مصر» (القاهرة ١٩١٧م) عندما ذكر أن المدرسة استمرت حتى ديسمبر ١٨٧٦م.
٨٣  أحمد عزت عبد الكريم، ٢: ٥٧٢؛ Maspero, “Mariette”, clxxvi, clxxxvi.
٨٤  Brugsch, Leben, 282.
٨٥  J. Heyworth-Dunne, Introduction to the History of Education in Modern Egypt (London, 1968), 355.
٨٦  Petrie, Seventy Years, 64.
٨٧  يونان لبيب رزق، الأهرام ديوان الحياة المعاصرة، ١٢–١٨ أغسطس ١٩٩٣م. وإبراهيم عبده، جريدة الأهرام، تاريخ وفن ١٨٧٥–١٩٦٤م (القاهرة ١٩٦٤م).
٨٨  حول طوابع البريد، انظر مادة Egypt في: Scott 2000 Standard Postage Stamp Catalogue, Countries of the World, vol. 2: Countries C-F (Sidney, Ohio, 2000).
٨٩  Charles Wendell, The Evolution of the Egyptian National Image From Its Origins to Ahmed Lutfi al-Sayyid, (Berkley, Calif., 1972), 169.
٩٠  Angelo Sammarco, Histoire de l’Égypte modern depuis Mohammed Ali jusqua’à l’occupation britannique 1801–1882 (Cairo, 1937), 324.
٩١  مخطوط «إرشاد الولد»، لكاشف زاده محمد عقيل بهارالي، ويحمل أيضًا اسم محمد عقيل بن محمد كاشف، دار الكتب المصرية.
٩٢  David C. Gordon, Images of the West: Third World Perspectives (n.p. 1989), 15.
٩٣  كان جومار في الحادية والعشرين من عمره عام ١٧٩٨م، ولم يكن عضوًا بالمجمع العلمي المصري، ولكنه كان وثيق الصلة به، انظر: J. E. Gorby, “Travaux de premier Institut d’Égypte (1798–1801)”, Bulletin de la Société Française d’égypto logie, 66 (March, 1973), 36.
٩٤  Jacques Ellul, Index des Communications et mémoires publiés par l’Institut d’Egypte (1859–1952), (Cairo: IFAO, 1952).
٩٥  Bulletin de l’Institut d’Egypte, I (1859), 2.
٩٦  Livre d’or de l’Institut égyptien 1859–1899 (Cairo, 1899), 3.
٩٧  دار الوثائق القومية، محافظ الأبحاث، ١٣٢ ب، المجمع العلمي المصري.
٩٨  وكان الآخرون: يوسف حزان حاخام الإسكندرية، والطبيب شافعي بك، ومحمد علي، وعبد الله أفندي سعيد مأمور مصلحة التجارة بالإسكندرية.
٩٩  Bulletin de l’institut, ser. 2, 5 (1884-85), 167.
١٠٠  المتحف البريطاني، أوراق حككيان، ٣٧، ٤٦٣ وغيرها.
١٠١  المتحف البريطاني، أوراق حككيان ٣٤، ٤٦٣، ١٦، ٦٧.
١٠٢  Livre d’or, 9; On al-Falaki see Pascal Crozet, “La Trajectoire d’un scientifique égyptien au XIXe siècle: Mahmoud al-Falaki (1815–1885), in Entre Réforme Sociale, ed. Roussillon, 285–310.
١٠٣  Donald M. Reid, “The Egyptian Geographical Society: From Laymen’s Society to Indigenous Professional Association” Poetics Today 14 (1993) 539–72.
١٠٤  On Abbate and Bonola, see L. A. Balboni, Gl’Italiani nella Civiltà Egiziana del secolo XIX, 3 vols. (Alexandria, 1906) 3: 28–30, 30–34.
١٠٥  David Shavit, The United States in the Middle East: A Historical Dictionary (New York, 1988), 337.
١٠٦  Bulletin de la Société Khédivial géographique, 8 (May 1880), 34.
١٠٧  Bulletin de la Société Khédivial géographique, 6 (Nov. 1879) 5; 8 (May 1880), 34; 12 (July 1893), 847–49.
١٠٨  عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، مجلدان، (القاهرة ١٤٨)، ١: ٢٤٢-٢٤٣.
١٠٩  هناك العديد من الكتب حول هذا المعرض وغيره من المعارض الدولية نشرت بالإنجليزية والفرنسية، ولكن فيما يخص مشاركة مصر راجع:
Timothy Mitchell, Colonising Egypt (Cambridge, 1988); Zeynep Çelik, Displaying the Orient, Architecture of Islam at Nineteenth-Century World’s Fairs (Berkeley, Calif. 1992); Owen Jones and Joseph Bonomi, Description of the Egyptian Court (London, 1854).
١١٠  History and Description of the Great Exhibition, 1: 46.
١١١  History and Description of the Great Exhibtion, 3: 150, 147–52, 257.
١١٢  Nicholas Warner, ed., An Egyptian Panorama: Reports From the 19th Century British Press (Cairo, 1994), 190.
١١٣  David, Mariette, 144–46.
١١٤  Auguste Mariette, Description du parc égyptien: Exposition universelle de 1867, (Paris, 1867); Charles Edmond, L’Égypte à l’exposition universelle de 1867 (Paris, 1867); Mitchell, Colonising, 17.
١١٥  فيما يتعلق بأوبرا عايدة، انظر: David, Mariette, 201–4.
١١٦  Robert Rydel, All the World’s a Fair: Visions of Empire at American International Expositions 1876–1916 (Chicago, 1984), 9–32; Ibrahim el-Mouelhy, “L’Égypte à l’exposition de Philadelphie (1876)” Cahiers d’histoire égyptienne 1 (1948), 316–26.
١١٧  Auguste Mariette-Bey, Exposition Universelle de Paris 1879: La Galerie de l’Égypte ancienne (Paris, 1878); Louca, Voyageurs, 190–92.
١١٨  Mitchell, Colonising Egypt, 8-9.
١١٩  K. Vollers, “Le IXme congrès international des Orientalistes tenu à Londres du 5 au 12 Septembre 1892”, Bulletin d’Institut égyptien, ser. 3, 3 (November 1892), 193.
١٢٠  Oxford English Dictionary, 2nd ed., (1989) vol. 10: 931, vol. 5: 97.
١٢١  Mémoires du Congrès international des Orientalistes, 1 re Session, 3 vols. (Paris, 1873) 1: 114-115, 3: cvii, cxxxvii, 42-43.
١٢٢  Louca, Voyageurs, 181–208; Mitchell, Colonising, 1-2, 180-81; Findley “Ottoman Occidentalist” American History Review 103 (1998): 15–49.
١٢٣  Mémoire du Congrès international, 2: 315, 111 ff..
١٢٤  Samuel Birch, “Inaugural Address”, International Congress 2 London.
١٢٥  Birch, “Inaugural Address”, 13.
١٢٦  كان الشخص الثامن نرويجي يدعى جينس ليبلين Jens Lieblein.
١٢٧  Saint Petersburg, Travaux, 2: vi.
١٢٨  انظر شجرة العائلة في David, Mariette, 274.
١٢٩  David, Mariette 233-34.
١٣٠  Maspero, “Mariette”, xcliii.
١٣١  Maspero, “Mariette”, ccii, ccxiii.
١٣٢  Maspero, Mariette, cxccvi–vii.
١٣٣  Cromer, Modern Egypt (New York, 1908), 28.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥