وإلى جانب ماسبيرو وأحمد كمال، ضم الجيل الجديد من المشتغلين بالمصريات فلندز بتري،
الذي بدأ عمله في منطقة الأهرام بالجيزة عام ١٨٨٠م، وأدولف إرمان الذي بدأ الاشتغال
بالتدريس في برلين عام ١٨٨١م، وإرنست بادج الذي خلف بيرش في المتحف البريطاني. وفي العام
١٨٨٢م الذي شهد الاحتلال البريطاني وتأسيس «صندوق الكشوف المصرية»، بلغ ماسبيرو السادسة
والثلاثين من عمره، بينما كان أحمد كمال في الحادية والثلاثين، وبتري في السابعة
والعشرين، وإرمان في الثامنة والعشرين، وبادج في الخامسة والعشرين، وفي الحقل السياسي
كان إيفلن بيرنج (لورد كرومر فيما بعد) وأحمد عرابي في الحادية والأربعين، بينما بلغ
الخديو توفيق الثلاثين من عمره.
ومن منظور هذه الدراسة، كان إرمان خارج المسرح في برلين، وكانت غزوات بادج الطائشة
في
مصر قصيرة الأمد، أما بتري فكان يقوم بالتنقيب كل شتاء تقريبًا في مصر لمدة أربعين
عامًا، وأوجد ثورة في الأسلوب العلمي للتنقيب، ودرَّب الكثير من العاملين في حقل
المصريات من المصريين، كما درب عمال الآثار، ولكنه أقل ظهورًا في المركز من ماسبيرو
بالنسبة لهذا الفصل. فقد تولَّى ماسبيرو منصب المدير العام لمصلحة الآثار لما يقرب من
العشرين عامًا، ومن أحمد كمال الذي ناضل بلا كلل لإرساء دعائم الوجود المصري في علم
المصريات، وإقناع أبناء بلاده بأهمية هذا المجال.
وانتهت هذه الحقبة فجأة عام ١٩١٤م، عندما تقاعد كل من ماسبيرو وأحمد كمال، وهرع كتشنر
إلى بلاده ليدير المجهود الحربي البريطاني. واستبدل الإنجليز بعباس الثاني عمه حسين
كامل، ليِّن العريكة، وقطعوا الروابط الاسمية التي كانت تربط مصر بالدولة العثمانية،
وأعلنوا الحماية على مصر، ومات كل من كتشنر وماسبيرو عام ١٩١٦م، ولحق بهما كرومر عام
١٩١٧م، وأحمد كمال عام ١٩٢٣م، بينما عُمِّر بتري حتى عام ١٩٤٢م، ولكنه لم يعد بين طليعة
علماء المصريات، واتجه للتنقيب في فلسطين.
ماسبيرو والمعهد الفرنسي للآثار الشرقية، ومصلحة الآثار حتى ١٨٨٦م
كان ماسبيرو المتميز النابه في الثامنة والعشرين عندما وصل إلى مركز الأستاذية في
فقه اللغة المصرية والآثار في الكوليج دي فرانس. وُلد بباريس، وشق طريقه صعودًا في
سلم التعليم من ليسيه لوي لوجران إلى مدرسة المعلمين العليا، ثم السوربون، فمدرسة
الدراسات العليا. وعندما بلغ الثامنة والعشرين، كان سلفه في إدارة مصلحة الآثار
مارييت — الذي تلقَّى تعليمًا متوسطًا — قد أصبح مساعدًا مؤقتًا في متحف اللوفر،
بينما كان أحمد كمال ما زال يبحث عن عمل يتصل بالآثار.
وأهمل مارييت اقتراحًا تقدم به ماسبيرو لإقامة «مدرسة» فرنسية للآثار بالقاهرة،
خشية أن يؤثِّر تأسيسها على وضعه ومكانته. ولكن عندما كان مارييت على سرير الموت
تأثرًا بمرض السكر في أواخر عام ١٨٨٠م، بعث مسئولو التعليم في فرنسا الاقتراح من
مرقده. وكان ماسبيرو قد أشار إلى المدرسة الفرنسية بأثينا (تأسست ١٨٤٦م)، والمدرسة
الفرنسية بروما (تأسست ١٨٧٥م) كنموذج يحتذى، وحذر من أن المنافسين الأجانب يتجاوزون
الفرنسيين في حقل الآثار بالشرق الأوسط. فقد قام بوتا في الأربعينيات بإثراء اللوفر
بالتماثيل والألواح الأشورية، ولكن نشاط الفرنسيين توقف في العراق، بينما استمر
المتحف البريطاني في إثراء مقتنياته من آثار العراق القديم، وفي فلسطين يتقدم علماء
العبرانية والفينيقية من الإنجليز والألمان، وفي القاهرة قد تحاول ألمانيا أن تدفع
بهنريش بروجش لخلافة مارييت في إدارة مصلحة الآثار. وبإقامة وريث فرنسي في الموقع
تستطيع مدرسة القاهرة «تأكيد التفوق الفرنسي».
٢
جدول ٥-١: الآثاريون في عهد ماسبيرو وأحمد كمال ١٨٨١–١٩١٤م
علماء مصريات غربيون |
علماء مصريات مصريون |
آثاريون آخرون |
علماء آخرون وشخصيات سياسية |
ﻫ. بروجش ١٨٢٧–١٨٩٤م |
|
فرانز ١٨٣١–١٩١٥م |
علي مبارك ١٨٢٣–١٨٩٣م |
إدواردز ١٨٣١–١٨٩٢م |
|
|
نوبار ١٨٢٥–١٨٩٩م |
إ. بروجش ١٨٤٢–١٩٣٠م |
|
بوتِّي؟–١٩٠٣م |
أحمد عرابي ١٨٤١–١٩١١م |
نافيل ١٨٤٤–١٩٢٦م |
|
|
يعقوب أرتين ١٨٤٢–١٩١٤م |
ماسبيرو ١٨٤٦–١٩١٦م |
|
|
محمد عبده ١٨٤٩–١٩٠٥م |
بتري ١٨٥٣–١٩٤٢م |
أحمد نجيب ١٨٤٧م -١٩١٠م |
|
توفيق (الحكم) ١٨٧٩–١٨٩٢م |
إرمان ١٨٥٤–١٩٣٧م |
أحمد كمال ١٨٥١–١٩٢٣م |
|
كرومر (قنصل) ١٨٨٣–١٩٠٧م |
شياباريلِّي ١٨٥٦–١٩٢٨م |
|
هرتز ١٨٦٥–١٩١٩م |
عباس الثاني (حكم) ١٨٩٢–١٩١٤م |
بادج ١٨٥٧–١٩٣٠م |
|
|
كتشنر (قنصل) ١٩١١–١٩١٤م |
دي مورجان ١٨٥٧–١٩٢٤م |
|
علي بهجت ١٨٥٨–١٩٢٤م |
سعد زغلول ١٨٦٠–١٩٢٧م |
لوريه ١٨٥٩–١٩٤٦م |
|
برشم ١٨٦٣–١٩٢١م |
|
بوركارد ١٨٦٣–١٩٣٨م |
|
سميكة ١٨٦٤–١٩٤٤م |
|
دارسي ١٨٦٤–١٩٣٨م |
|
|
|
برستد ١٨٦٥–١٩٣٥م |
|
|
|
ريسنر ١٨٦٧–١٩٤٢م |
|
|
|
لاكار ١٨٧٣–١٩٦٣م |
|
|
|
كارتر ١٨٧٤–١٩٣٩م |
|
بريشيا ١٨٧٦–١٩٤٤م |
|
جانكر ١٨٧٧–١٩٦٢م |
|
|
|
وفي ٢٨ من ديسمبر ١٨٨٠م، أصدر رئيس الوزراء الفرنسي جول فيري قرارًا بإنشاء «بعثة
دائمة باسم المدرسة الفرنسية بالقاهرة». وبعد ذلك التاريخ بعقد من الزمان، أثيرت
مطالب أخرى لإقامة «المدرسة الإنجيلية والآثارية الفرنسية بالقدس». وفي عام ١٨٩٨م
أصبحت المدرسة الفرنسية بالقاهرة، والتي كانت تُعرف أيضًا بالبعثة الآثارية، «المعهد
الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة»، وبدأ المعهد حفائره الأولى في نفس السنة.
ووصل ماسبيرو إلى القاهرة ليصبح أول مدير «للمدرسة الفرنسية»، وذلك قبل وفاة
مارييت ببضعة أسابيع، وجاء بصحبته طالبان من طلاب المصريات، ومعماري يستمد إلهامه
من الفن العربي، ومستعرب. وعندما خلف ماسبيرو مارييت مديرًا عامًّا لمصلحة الآثار
المصرية، تولَّى أحد الطالبَين (أوروبان بوريان) إدارة المدرسة، وفيما بين ١٨٨١ و١٩٣٦م
قدم المعهد الفرنسي للآثار الشرقية لمصلحة الآثار المصرية من تولوا إدارتها فيما
عدا واحدًا فقط هو دي مورجان.
٣ ولعبت مطبعة المعهد التي أنشئت عام ١٨٩٨م دورًا مهمًّا في إبراز الصورة
العلمية للمعهد، وبحلول عام ١٩١٠م، كان مديرو وباحثو المعهد قد وصلوا إلى عشرين من
المتخصصين في المصريات، وثمانية من المستعربين، وستة من المتخصصين في الهلِّينيات أو
البيزنطيات، وجيولوجي واحد، وستة من الفنانين المعاونين.
٤
وخلال مدة السنوات الخمس الأولى من إدارته لمصلحة الآثار، أعاد ماسبيرو تنظيم
المصلحة بالكامل، واستمر في أعمال فتح أهرام الأسرتين الخامسة والسادسة بالجيزة
وسقارة، وقام بنشر متون الأهرام، كما تابع العمل في تنظيف المعابد المصرية
بالصعيد.
ونص قانون الآثار — الصادر في عام ١٨٨٣م — على أن جميع الآثار والمتاحف ملكية عامة
للدولة، وألحق مصلحة الآثار بوزارة الأشغال العمومية. وعلى نقيض ذلك نص قانون
الآثار الصادر في إستانبول المستقلة عام ١٨٨٤م على تبعية مصلحة الآثار ومتاحفها
لوزارة المعارف،
٥ واعتبر الآثار جزءًا من الإرث الوطني. وظلت مصلحة الآثار المصرية تابعة
لوزارة الأشغال العمومية حتى حصلت مصر على الاستقلال المنقوص، مما سمح بانتقال
تبعية مصلحة الآثار لوزارة المعارف عام ١٩٢٩م، وبقيت كذلك حتى انتقلت تبعيتها إلى
وزارة الثقافة والإرشاد القومي عام ١٩٥٨م.
٦
عودة علماء المصريات البريطانيين – بتري وصندوق الكشوف المصرية
اتخذت القوات البريطانية من ثكنات قصر النيل — جنوبي متحف بولاق — عام ١٨٨٢م،
مقرًّا لقيادتها. وكما فعلت قوات بونابرت قبلهم، قام الإنجليز بتسجيل استحواذهم
الرمزي على آثار مصر (انظر الشكل
٣٢). وكان على ماسبيرو أن
يحشد كل مهاراته الدبلوماسية للحفاظ على «الآثار محمية فرنسية».
٧ وغازل البريطانيين بوضع نهاية لاحتكار مارييت للتنقيب، وشجع «صندوق
الكشوف المصرية»، وبتري وآخرين على القيام بالتنقيب، ورتب لهم الاحتفاظ بنصيب سخي
مما يعثرون عليه من آثار، ولم يكن البريطانيون قد عملوا في حقل المصريات منذ أيام
ويلكنسون، وريتشارد فايس، وجون بارنج في الثلاثينيات، فيما عدا حالات استثنائية
محدودة مثل حفائر ألكسندر ريند في طيبة، وبيازي سميث وواينمان ديكسون في الجيزة،
وقام علي الجابري بتقديم نوع من الرابطة الشخصية مع البريطانيين على مدى نصف قرن،
وكان قد بدأ عمله في الحفائر كصبي يحمل السلة مع فايس، ثم أصبح مساعدًا لسميث
وديكسون، ووصفه بتري بأنه «رفيقي الممتاز في كل أعمالي».
٨
وازدهرت أعمال كل من بتري وماسبيرو تحت الاحتلال البريطاني، كل بطريقته الخاصة
الفريدة، وقد اشتركا في قضاء مواسم الشتاء الطويلة في مصر، وإجازات الصيف الطويلة
في بلديهما، وفيما عدا الدراسة، كان الرجلان على طرفَي نقيض. كان بتري يعيش حياة
خشنة في الخيام بين المقابر، ويأكل الطعام المعلب، وكان ماسبيرو يعمل من مكتبه
بالمتحف أو على ظهر باخرة المصلحة، وتلقى تعليمًا راقيًا رفيعًا في أفضل مدارس
فرنسا، بينما فشل بتري في دراسة اللاتينية واليونانية، واضطر أن يعلم نفسه من خلال
جمع العملات، ودراسة الآثار، ومسح المواقع البريطانية القديمة.
وعلى السواحل الشمالية للبحر المتوسط، أصبحت الحفائر أكثر علمية في السنوات
الأخيرة من عمر مارييت، فقد حدثت ثورة فنية في هذا المجال لم يستطع اللحاق بها. ففي
الستينيات، قام فيوريلِّي في بومبي، وروسا في روما بوضع الحفائر على أسس علمية. وقام
النمساويون (كونتزي) في ساموثراس — في بحر إيجة في السبعينيات — والألماني
(كورتيوس) في أوليمبيا، بتسجيل دقيق للطبقات الأرضية أثناء الحفر. ووافق كورتيوس
على أن يترك كل ما عثر عليه في اليونان مستعيضًا عن الحصول على القطع الأثرية
باستعادة ما يتعلق بها من معلومات. وحتى شليمان الذي أزاح الأثرية في طروادة
وميسيناي برعونة تماثل رعونة مارييت، حسَّن من مستواه في الثمانينيات، بمساعدة
فيلهلم دورفيلد المعماري الأولمبي السابق.
٩
واتسم بتري بالنزعة العلمية، فلم يستعر مباشرة مثل تلك النماذج، ولكنه اعتمد في
الحفر على أساس علمي على جهده الخاص. فكان يرسم خرائط الموقع، وسجل مواضع الأغراض
التي يتم العثور عليها، مبرزًا أهمية الأدوات الصغيرة التي تستخدم في الحياة
اليومية، وطور طريقة تحديد عمر الفخار، وأسرع بنشر تقرير عن كل موسم من مواسم
الحفائر. ووضع الأسرتان الأولى والثانية، كما وضع عصر ما قبل التاريخ في مصر، على
الخريطة الأثرية (بالإضافة إلى جهد جاك دي مورجان في هذا المجال). ولعل ثراء الآثار
التاريخية المصرية يفسر تأخر وصول التقدم الانقلابي في آثار عصر ما قبل التاريخ في
أوروبا، إلى مصر. وقام بتري بتدريب عمال من قرية قفط، الذين قاموا بعد ذلك في العمل
معه ومع غيره في جميع أنحاء مصر، وكان يفضل العمل مباشرة مع رجاله بدلًا من
الاعتماد على «ريس» عمال، وبذلك قلل من تسرب القطع الأثرية إلى التجار بمكافأة من
يعثر على القطع بجهده الخاص. وعلى كلٍّ، فهو لم يهتم بتسجيل الطبقات الأرضية إلا
قليلًا، فيما عدا حفائر تل الحصى بفلسطين عام ١٨٩٠م.
١٠
ولم يكن بتري متخصصًا في الدراسات الإنسانية، مدربًا على الكلاسيكيات، بل كان
فنيًّا أثريًّا، ومسَّاحًا، فقد أولى الأغراض المنقولة مثل شقافات الآنية، أهمية
خاصة. على حين كان «الأرستقراطي نافيل يميل إلى قضاء الوقت في طرح أسئلة تاريخية
بنسخ وتفسير النقوش، وبالنسبة له كان يفضل عدم الحديث كثيرًا عن قاعدة العمل في
الحفائر، وعن جمع المعلومات عن الفخاريات وما شابهها، فقد يلائم ذلك متخصص في
العلوم، ولكنه ليس عمل الرجل المتخصص في الإنسانيات.»
١١
وانتقد بتري الطريقة التي عمل بها مارييت، ولجوءه إلى استخدام الديناميت،
واعتبرها عملًا وحشيًّا، كما انتقد عمل معاصره إميل أميلينو الذي شوه مقابر الأسرات
الملكية المبكرة في أبيدوس، وكانت سعادته محدودة بالأعمال الميدانية التي يقوم بها
ماسبيرو، وإدوارد نافيل وإميل بروجش. ورغم ذلك، ظل ماسبيرو ودودًا معه، يحذره من أن
يجلب القطع الثمينة التي يعثر عليها إلى المتحف حتى لا يستولي عليها إميل بروجش،
واقترح عليه أن يحتفظ بها في جيوبه حتى يستطيع تهريبها من الجمارك
١٢
وقد رفض بتري الافتراضات المتفائلة المبكرة القائلة بوجود خط واحد للتطور
الثقافي، مثله في ذلك مثل الكثير من معاصريه. وربط بين التطور الثقافي والتغير
البيولوجي، معزيًا التقدم إلى هجرة مبدعي الثقافة. واتفقت مثل هذه المعتقدات مع
النزعة العسكرية المتشائمة والعنصرية عند كثير من القوميين الأوروبيين في زمانه،
وزادتها اشتعالًا.
١٣
وفضل بتري أن يعمل مستقلًّا من خلال مؤسَّساته الخاصة — حساب البحوث المصري،
«والمدرسة البريطانية للآثار بمصر» التي كانت موجودة عندئذٍ — ولكنه قام بحفائر
لحساب «صندوق الكشوف المصرية» من حين لآخر خلال اثني عشر عامًا، وكان وراء تأسيس
الصندوق عام ١٨٨٢م رجل البر الطبيب الجراح السير إراسمس ويلسون، وريجنالد ستيوارت
بول — قريب إدوارد لين، وخبير النقود (العملات) بالمتحف البريطاني — والأديبة
إميليا إدواردز.
ورغم انبهار إميليا إدواردز منذ طفولتها بألف ليلة وليلة، وكتاب ويلكنسون «قدماء
المصريين»، إلا أنها كونت لها اسمًا في عالم الصحافة وفن الرواية. وفي الثانية
والأربعين من عمرها قامت برحلة إلى مصر — وصفتها في كتابها «ألف ميل صعودًا في
النيل (١٨٧٧م)» — ودفعتها الرحلة إلى دراسة الهيروغليفية، وتوجيه نشاطها كله إلى حقل
المصريات، وكان — حتى ذلك الحين — وقفًا على الرجال، وبرعت إيمليا في الدعاية
للمصريات وجذب الاهتمام إليها، ولولا إدارتها الحكيمة لما استطاع «صندوق الكشوف
المصرية» الاستمرار.
١٤
وكان إفلاس مصر عام ١٨٧٩م قد أدى إلى انقطاع كل المخصصات المالية التي كان مارييت
يعتمد عليها في حفائره، وأشار نافيل إلى أن الألمان ينقبون عن الآثار في أوليمبيا
وما كان باليونان دون أن يعدهم أحد بأخذ قطع أثرية لمتاحفهم. وأنه ربما كان من
الممكن أن يحث المتبرعين البريطانيين على دعم الحفائر بغرض الحصول على المعلومات
وليس القطع الأثرية، وخاصة إذا كانت تلك الحفائر تلقي الضوء على ما جاء بالكتاب
المقدس، وأن الأطراف الشرقية للدلتا التي يذكرها الكتاب المقدس باسم «أرض جوشن»
تمثل أفضل التطلعات لمثل هذه الحفائر.
١٥ وسرعان ما غيرت «جمعية النهوض بالحفائر الأثرية بدلتا النيل» اسمها
ليصبح «صندوق الكشوف المصرية» في أبريل ١٨٨٢م، وأعلنت أن هدفها توثيق حقبة القرون
الأربعة التي عاشها العبرانيون بمصر والتي أدت إلى الخروج. وفي عام ١٩١٩م تغير اسم
الصندوق ليصبح «جمعية الكشوف المصرية».
وانتقد صامويل بيرش، الأخصائي بالمتحف البريطاني، صندوق الكشوف المصرية لأنه يمثل
«دعائم الآثار العاطفي»، ولم يكن مرد ذلك إلى معارضته للأهداف المرتبطة بالكتاب
المقدس، فقد كان بيرش نفسه الرئيس المؤسس «لجمعية علم آثار الكتاب المقدس» عام
١٨٧٠م. وكان وجه الاعتراض — عنده — أن صندوق الكشوف المصرية سوف يثري متحف بولاق
الذي يديره الفرنسيون، ولن ينال المتحف البريطاني شيئًا مما يتم العثور عليه.
١٦ فقد كان بيرش يأخذ على ماسبيرو وبخله في السماح بالحصول على الآثار
المصرية، وقد طلب ماسبيرو من «صندوق الكشوف المصرية» أن يشير في طلبه للترخيص
بالتنقيب أن ذلك يتم «لأغراض علمية محضة»، دون الإشارة إلى الرغبة في الحصول على ما
يتم الكشف عنه من آثار. ولكنه عاد إلى «حث» الحكومة المصرية — التي كانت قد أصبحت
في قبضة الاحتلال البريطاني — على أن تعطي للمكتشفين نصيبًا سخيًّا مما يعثرون عليه
من الآثار على سبيل الهدية.
وفي عام ١٨٨٣م، قام نافيل بالتنقيب في تل المسخوطة لحساب صندوق الكشوف المصرية،
وذكر في تقريره أن «الوفاق الودي مع ماسبيرو لا غبار عليه، ولا يمكن أن تكون الأمور
أفضل من ذلك، والحق أنه مسموح لي بالحفر في أي مكان أريد من الدلتا.»
١٧ وعند نهاية الموسم حاول الخديو ومجلس النظار إعاقة طريق «الهدية»
المقترحة لصندوق الكشوف المصرية، ولكن مناورات ماسبيرو نجحت في تمريرها. وعند نهاية
الموسم سارع نافيل إلى نشر تقريره بعنوان «مدينة بيتوم المخزنية وطريق الخروج
(١٨٨٥م)»، وقد بعث التقرير السرور في نفوس من يرون أن تل المسخوطة هي مدينة بيتوم
التي ورد ذكرها بالكتاب المقدس (وهو استنتاج لم يعد يحظى بالقبول)، وأن جانبًا من
وادي الطميلات هو أرض جوشن. وأصبحت بعثات «صندوق الكشوف المصرية» معلمًا دوريًّا من
معالم المواسم الشتوية للحفائر في مصر بفضل جهود نافيل، وبتري، وغيرهما.
واستمرت صداقة بتري لإميليا إدواردز بعد انفصاله عن أعمال الصندوق وقيامه
بالتنقيب مستقلًّا، وعند وفاتها عام ١٨٩٢م، أوقفت ما يقوم بتمويل كرسي الآثار
بالكلية الجامعية بلندن من أجله، ليصبح بذلك أول كرسي أستاذية للمصريات في
بريطانيا. وبذلك كانت الحفائر البريطانية في مصر، وأول كرسي للمصريات في بريطانيا
مبادرات شخصية، على نقيض ما حدث في بلاد القارة الأوروبية.
المناوشات في حقل المصريات في الطريق إلى فاشودة ١٨٨٦–١٨٩٩م
استقال ماسبيرو من مصلحة الآثار عام ١٨٨٦م، وعاد إلى باريس بسبب الحالة الصحية
لزوجته، وخلفه في منصبه ثلاثة من الفرنسيين لمدة ١٣ عامًا قبل أن يعود إلى منصبه
القديم مرة ثانية. وخلفاؤه هم: أوجين جريبو (١٨٨٦–١٨٩٢م)، وجاك دي مورجان
(١٨٩٢–١٨٩٧م)، وفيكتور لوريه (١٨٩٧–١٨٩٩م) (انظر الجدول
٧
بالملاحق). وخلال تلك السنوات التي غاب فيها ماسبيرو تصاعد التنافس الإمبريالي
الأنجلو-فرنسي حتى بلغ ذروته في أزمة فاشودة بالسودان عام ١٨٩٨م.
كان جريبو (١٨٤٦–١٩١٥م) يتولى إدارة البعثة الأثرية الفرنسية بالقاهرة عام ١٨٨٦م،
عندما استقال ماسبيرو — أستاذه السابق — وعاد إلى باريس. فصمم جريبو أن يدافع عن
الهيمنة الفرنسية في قطاع الآثار بالقاهرة مهما كان الثمن. واصطدم بإرنست بادج —
صنيعة صامويل بيرش — الذي جاء من المتحف البريطاني عام ١٨٨٦م ليشتري الآثار، وليقوم
بالتنقيب في المقابر الصخرية بأسوان لحساب الكولونيل سير فرانسيس جرينفل، سردار
بالجيش المصري، الذي كان من هواة الآثار — مثل خليفته كتشنر.
٢٣
وكان السير إيفلن بيرنج — الذي أصبح لورد كرومر عام ١٨٩٢م — يفضل التنازل لفرنسا
في مسألة الآثار مقابل الحصول منها على تنازلات في أمور أخرى. فاعترض بحزم على
نوايا بادج وأساليبه. واحتد بيرنج ذات مرة قائلًا: «أتمنى ألا تكون هناك آثار في
هذا البلد، فهي تثير المتاعب فيها أكثر مما يحدث في غيرها.»
٢٤ وقام باستدعاء بادج على الفور، وحذره من القيام «بأي مشروع للتنقيب
بواسطة أي ممثل لأمناء المتحف البريطاني … لأن الحفائر التي يقوم بها أي موظف
بريطاني في مصر تؤدي إلى تعقيد العلاقات السياسية، وأن الاحتلال البريطاني لمصر لا
يجب أن يتخذ مبررًا لتسريب الآثار من البلاد سواء كان ذلك إلى بريطانيا أو إلى غيرها.»
٢٥
وقام البعض بتأييد بيرنج، ولكن بادج «بيَّن له أن كل دولة كبرى (والكثير من الدول
الصغرى) في أوروبا لها ممثل في مصر يشتري الآثار لحساب متاحف بلاده، وأن لبريطانيا
الحق أن يكون لها — على الأقل — ممثل يجمع الآثار لحسابها … واضطررت أن أذكره أنني
لست واحدًا من موظفيه، وأنني أنوي الاستمرار في تنفيذ تعليمات أمناء المتحف
البريطاني، وهنا انتهت المقابلة فورًا.»
٢٦
ولكن بادج لجأ إلى الالتفاف حول قرارات جريبو وبيرنج. فقد تحفظ رجال مصلحة الآثار
على مخزن بالأقصر — بأمر من جريبو — كان بادج قد كدس فيه مجموعة من الآثار التي
جمعها. ولكن بادج ورجاله قاموا بنقب حائط المخزن من جهة مبنى تابع لفندق الأقصر
المجاور له، وقاموا بتفريغ المخزن — الذي شددت الحراسة عليه من الخارج. وقام
البريطانيون المتحمسون في الجيش والبوليس وشركة النقل بمساعدة بادج على تهريب
المجموعة خارج مصر.
٢٧ وكان لدى بادج مبرر جاهز: «فهذه الآثار كانت ستهرب من مصر بنفس
الطريقة، ولكن الفرق الوحيد هو اتجاهها إلى أحد المتاحف الأخرى بدلًا من المتحف
البريطاني، أو إلى بعض أصحاب المجموعات الخاصة بأوروبا وأمريكا.»
٢٨
لقد كان «صندوق الكشوف المصرية» وبتري موضع ترحيب ماسبيرو، ولكن جريبو أعلن رفضه
«ترك الآثار المصرية للجمعيات البريطانية، وأن يصبح مجرد خادم مطيع للسياح الإنجليز».
٢٩ واعترض على اقتراح بيرنج السماح للبعثات الخاصة ببيع جانب من الآثار
التي يقومون باكتشافها لتمويل أعمالهم في التنقيب. ورفض اقتراحًا بتعيين مفتش آثار
إنجليزي بالصعيد وآخر فرنسي بالدلتا؛ واعتبره حيلة إنجليزية للسيطرة على المواقع
الأثرية الغنية.
٣٠ ورد على اقتراح تعيين مدير مساعد لمصلحة الآثار، تتحمل راتبه الجالية
البريطانية، ما دام معظم السياح من الإنجليز، رد بأن زوار المتحف المصري من
المصريين يفوقون الزوار الغربيين عددًا، كما أن السياح الأمريكان قد تزيد أعدادهم
على أعداد السياح الإنجليز، وأنه في حالة تعيين مدير مساعد إنجليزي، فهل يطالب
الأمريكان بتعيين آخر بدورهم؟
٣١
وفي العام ١٨٨٨م، أُسِّست بلندن «جمعية المحافظة على آثار مصر القديمة» لتمارس الضغوط
على بيرنج والفرنسيين.
٣٢ وكان بيرنج قد نجح في فرض «اللجنة الاستشارية للآثار» (أو «لجنة
المصريات») على جريبو فرضًا. وفي عام ١٨٨٩م، ضمت اللجنة الكولونيل فرانسيس جرينفل،
وثلاثة آخرين من البريطانيين، وجريبو، وفرنسي آخر، ومثل مصر الأرمينيان يعقوب أرتين
وتيجران، إضافة إلى مصطفى فهمي رئيس مجلس النظار، وأبدى بتري استياءه لأن
الأرمينيَّين سينضمان إلى جريبو في تذليل العقبات التي تعترضه. ولم يكن ذلك هو كل
ما حدث بالفعل؛ ففي ١٨٩٠م أكد تيجران شفهيًّا لباريس أن مصر لن تعيِّن مديرًا
بريطانيًّا للآثار المصرية في مقابل موافقة فرنسا على قرض كانت مصر بحاجة إليه.
٣٣
وقامت «جمعية المحافظة على آثار مصر القديمة»، بحشد الجهود — في لندن — للمطالبة
بتوفير الحماية للمواقع الآثرية بصورة أفضل، وإقامة مبنى جديد يضم آثار متحف بولاق.
ولا شك أن السياح كانوا يقومون بأعمال تخريبية. ففي ١٨٩٠م نشرت مجلة «جرافيك» صورة
سائحات يحفرن على أعمدة المعبد بأزميل (انظر الشكل
٣٣)، وأنحت
المجلة — المعروفة باتجاهها الشوفيني — باللائمة على أولئك الذين يشوهون الآثار «من
ذلك النوع من النساء الذين هم عامة أمريكيات».
٣٤
كان الفيضان قد أغرق متحف بولاق عام ١٨٧٨م، وحتى في الظروف العادية «كان المبنى
يغطيه الضباب الأبيض في الصباح الباكر في فصل الشتاء. ولم يكن من النادر أن ترى
قطرات الماء تجري إلى أسفل على زجاج فاترينات العرض (من الداخل) التي تضم مومياوات
ملوك مصر.»
٣٥ وكان الحريق يثير القلق كالفيضان، فمع ضيق المكان كانت المومياوات
القابلة للاشتعال مكدسة في توابيت فوق بعضها البعض من الأرض إلى السقف.
وعارضت «جمعية المحافظة على آثار مصر القديمة» قرار الحكومة المصرية الصادر عام
١٨٨٧م لنقل المتحف بصفة مؤقتة إلى قصر بالجيزة. ولكن بيرنج أعلن صراحة أنه ليست هناك
أموال لبناء متحف جديد، فانتقل المتحف إلى الجيزة. ولم يتورع دليل كوك السياحي عن
ذكر بناء إسماعيل لقصر الجيزة بتكلفة باهظة «لسكنى حريمه».
٣٦ وكان القصر — على الأقل — بمنجاة من الفيضان، وأقل تعرضًا للحريق، وبه
ساحات للعرض أوسع كثيرًا من مبنى بولاق.
٣٧ وفي ١٢ يناير ١٨٩٠م، افتتح الخديو توفيق متحف الجيزة (انظر الخريطة ٢).
٣٨
وأخيرًا وافق القنصل العام الفرنسي — سرًّا — على ضرورة ترك جريبو — غير
الدبلوماسي — لمنصبه، ولكنه عندما اقترح نافيل اسم دانينوس، المساعد السابق
لمارييت، خلفًا لجريبو، رد القنصل الفرنسي بأن دانينوس كان جزائريًّا وأصبح
«شرقيًّا كما أنه لا يحمل اسمًا فرنسيًّا، ولم أتيقن بعد من ولائه لفرنسا».
٣٩ ولما كانت البعثة الأثرية الفرنسية تخلو من بديل ملائم لجريبو، قدم
الفرنسيون جاك دي مورجان، صنيعة إجزافييه شارم أحد كبار موظفي وزارة التعليم
بفرنسا، ولكن جريبو العنيد رفض الاستقالة من منصبه، مما تطلب من شارم ودي مورجان
والقنصل الفرنسي تنسيق جهودهم للقيام بمناورة انتهت بإبعاد جريبو من منصبه، وعن
مصر. وكان دي مورجان من خريجي مدرسة التعدين الفرنسية
École des mines، وارتحل كثيرًا، وقام بالتنقيب في الهند، والملايو،
والقوقاز، وفارس، ورغم عدم تخصصه في المصريات، سرعان ما «أثبت قدرته على حماية
مصالح المتحف المصري بالقاهرة ومصلحة الآثار عامة، دون أن يسرق أهل البلاد أو
يضطهدهم، أو أن يجعل اسمه ملعونًا في كل مكان من الإسكندرية إلى وادي حلفا.» وتغاضى
دي مورجان عن القيام بحملات مداهمة ليلية لتجار الآثار، كما كان يفعل جريبو «واعتمد
على خبرته السابقة في التعامل مع الشرقيين التي اكتسبها في فارس وغيرها من بلاد
الشرق، فوصل إلى ترتيبات قائمة على الأخذ والعطاء للأهالي الذين يزودونه بالمعلومات
التي تقوده إلى موقع يحقق نتائج جيدة.»
٤٠
وسارع دي مورجان بفتح قاعات عديدة في متحف الجيزة الجديد أمام الزوار، ولكنه كان
أميل إلى الحفائر من العمل بالمتحف، بحكم كونه أصلًا مهندس مناجم، فبنى لنفسه بيتًا
في دهشور، وكشف مصطبة مروروكا في سقارة، واكتشف مجوهرات ملكية من عصور الدولة
الوسطى في دهشور، ونقب في معبد كوم أمبو، وكلف جورج ليجران بالتنقيب في معبد
الكرنك، ويعزى إليه وإلى بتري فضل فتح صفحة عصر ما قبل التاريخ في مصر بالحفائر
التي أجراها في عدة مواقع بالصعيد. وعلى أية حال، جلب دي مورجان على نفسه عداء
البعض، فانتقد ماسبيرو طرقه العلمية في الحفائر، واتهمه بتدمير ستين مكعبًا صخريًّا
بكوم أمبو (كانت خالية من النقوش) لإقامة جسر يقي المعبد فيضان النيل، كما اصطدم دي
مورجان بجورج فوكار — المفتش بمصلحة الآثار — متهمًا إياه بالتجسس لحساب الإنجليز،
وإقامة علاقات غير سوية مع النساء المسلمات، ووصلت أصداء هذا الصدام إلى أثينا
وباريس. فقد كان بول فوكار — والد جورج — مديرًا لمدرسة الآثار الفرنسية بأثينا،
وعضوًا بالمجمع العلمي الفرنسي، وله اتصالات واسعة. فأوحى البعض إلى ناظر الأشغال
العمومية بأن حفائر ما قبل التاريخ التي يقوم بها دي مورجان بحوث جيولوجية لا صلة
لها بالآثار، فأمره بالتوقف عن إنفاق أموال الوزارة على تلك الأعمال.
٤١
كان كرومر، و«صندوق الدين العام»، قد نجحا في كسب المعركة ضد الإفلاس، وبدأ
التخطيط لإقامة متحف جديد. ولكن بعض الفرنسيين اتهموا دي مورجان بالمبالغة في صداقة الإنجليز،
٤٢ ففاض به الكيل، وترك منصبه عام ١٨٩٧م، ليرأس بعثة آثار في فارس، حيث قضى
خمسة عشر عامًا في العمل هناك.
وخشي الفرنسيون أن يسعى الألمان لترقية إميل بروجش مساعد أمين المتحف المصري ليحل
محل دي مورجان، ولكن مخاوفهم لم يكن لها ما يبررها،
٤٣ وتم تعيين فيكتور لوريه مديرًا عامًّا لمصلحة الآثار، وكان تلميذًا
سابقًا لماسبيرو وعضوًا سابقًا بالبعثة الفرنسية للآثار. ويذكر بتري أن لوريه «كان
واقعًا تمامًا تحت تأثير عارف أفندي الموظف الشاب الذي كان يرتدي معطفًا أنيقًا
يزيحه للخلف ليكشف عن بطانته القرمزية البديعة بصورة تترك أثرًا واضحًا على من حوله.»
٤٤ كما كتب بتري أن «لوريه عديم الذوق، مكروه من الجميع: موظفي المتحف،
والمصلحة، والأهالي … فهو رجل محدود الرؤية، فعندما أبلغته أن موقعًا قد نُهب، ردَّ
قائلًا: مستحيل، إن هناك قانونًا يمنع ذلك.»
٤٥ وقد انضم الفرنسيون إلى الأمريكان والبريطانيين وحتى الروس في الضغط من
أجل التخلص منه.
٤٦
وأكد القنصل الفرنسي العام كوجوردو الحاجة الملحة «لاستعادة حقل المصريات هنا،
الذي يعد حقًّا طبيعيًّا لنا بحكم كونه علمًا فرنسي الأصل، وما حقق مارييت من
إنجازات، فقد صنعت تضحيات فرنسا المعرفة بمصر القديمة، من حملة الجنرال بونابرت حتى
إقامة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة.»
٤٧
وطلب كرومر من سايس أن يفاتح ماسبيرو،
٤٨ الذي كانت عودته إلى منصبه السابق مديرًا عامًّا لمصلحة الآثار عام
١٨٩٩م، مبعث ارتياحٍ عام للجميع.
البحث عن موضع قدم في «المصريات»، أحمد كمال وجيله
أدت الصرعات بين القوى الأوروبية وبعضها البعض في ذروة عصر الهيمنة الغربية، إلى
إتاحة الفرصة — أحيانًا — للمصريين. فالوجود الألماني بالقاهرة ممثلًا في هنريش
بروجش، مكن أحمد كمال وعددًا قليلًا من المصريين من دراسة المصريات رغم اعتراض
مارييت. وفي التسعينيات نهج جريبو نهجًا آخر، فقام بترقية أحمد كمال من وظيفة
سكرتير بالمتحف ليصبح أمينًا مساعدًا؛ وذلك حتى لا يفسح الطريق لتعيين بريطاني في
هذه الوظيفة. فقد زعم جريبو أن عدد المصريين الذين يزورون المتحف يعادل عشرة أضعاف
زواره من الأجانب، ونوَّه بعلم أحمد كمال، ومقدرته على مصاحبة زوار المتحف من
المصريين والأوروبيين على السواء.
٤٩
وُلد أحمد كمال بالقاهرة عام ١٨٥١م.
٥٠ جاء والده من أصول كريتية ربما للعمل في خدمة محمد علي. وتعلم بمدرسة
المبتديان ثم المدرسة التجهيزية، وأتاح له تفوقه في اللغة الفرنسية فرصة الالتحاق
بمدرسة اللسان المصري القديم. وأقبل أحمد كمال على دراسة المصريات بشغف كبير. ولكن
رفض مارييت تعيين خريجي المدرسة بمصلحة الآثار دفع أحمد كمال للعمل مدرسًا للغة
الألمانية بالمدارس، والعمل مترجمًا لنظارة المعارف، ثم بمصلحة البريد، ومصلحة
الجمارك.
وكان قد بلغ الثلاثين من عمره عندما استطاع الالتحاق بمصلحة الآثار بتزكية من
رياض باشا رئيس النظار،
٥١ فشغل وظيفة سكرتير مترجم بمتحف بولاق. وبعد ذلك بشهور قليلة، عندما كان
ماسبيرو يقضي إجازة الصيف في باريس، قام أحمد كمال بمساعدة إميل بروجش في تنظيف
التوابيت الضخمة للمومياوات الملكية التي عثرت عليها عائلة عبد الرسول قبل ذلك
بسنوات في تبة فوق الدير البحري، وقد قام بروجش — فيما بعد — بالتقاط صورة لأحمد
كمال بجوار تابوت الملكة نفرتاري (انظر الشكل
٣٤).
وخصص ماسبيرو خمسمائة جنيه مصري لأحمد كمال ليتولى تجهيز مدرسة صغيرة — تلحق
بالمتحف — لتدريس المصريات، وقد تم افتتاحها في فبراير ١٨٨٢م كمدرسة داخلية بها خمسة
تلاميذ. وتولى كمال إدارة المدرسة، وتدريس المصرية القديمة، والفرنسية، والتاريخ،
براتب شهري قدره ثمانية جنيهات. وقام معلمون مصريون بتدريس اللغة العربية، والحساب، والجغرافيا.
٥٢ وفي أبريل ١٨٨٢م، اقترح ناظر الأشغال العمومية إضافة عشرة تلاميذ آخرين
من بينهم أربعة أقباط «من أبناء أعيان الطائفة القبطية الذين يهتمون بالهيروغليفية
لكونها لغة أجدادهم، وما زالوا يحتفظون ببعض تعبيراتها، مما يسهل لهم دراستها»،
٥٣ وسوف يعالج الفصل السابع من هذا الكتاب مسألة الميل القبطي تجاه
«المصريات».
وقد استمرت مدرسة الآثار قائمة بعد الثورة العرابية والاحتلال البريطاني، وتم
تخريج الفصل اليتيم عام ١٨٨٥م. وكان السبيل الوحيد، أمام ماسبيرو لتشغيل الخريجين هو
إغلاق المدرسة، وتخصيص ميزانيتها لتغطية مرتبات المفتشين الجدد. وقبل عودته إلى
باريس عام ١٨٨٦م دبَّر ماسبيرو لأحمد كمال ٣٨ جنيهًا مصريًّا ليشتري بها كتبًا
لاستخدامه الشخصي.
٥٤
ويتضح من حجم الرواتب عند نهاية ١٨٨٥م محدودية حجم مصلحة الآثار، فقد كان المرتب
السنوي للمدير العام ماسبيرو ألف جنيه مصري، بينما كان مرتب مساعدَي أمين المتحف:
إميل بروجش ٤٢٠ جنيهًا سنويًّا، وأوروبان يوريان ٣٠٠ جنيه سنويًّا، وحصل خمسة من
المفتشين المصريين بالدرجة الثانية على ٩٠ جنيهًا سنويًّا لكلٍّ منهم، وخمسة مفتشين
درجة ثالثة (هم خريجو مدرسة المتحف) حصل كل منهم على ٦٠ جنيهًا سنويًّا. وكان راتب
الناظر محمد خورشيد ٢٤٠ جنيهًا، والسكرتير أحمد كمال ٢٤٠ جنيهًا، وأمينا المخزن
(مخزنجية) حصل أولهما على ٧٢ جنيهًا، والآخر ٤٥ جنيهًا سنويًّا.
٥٥
وعندما استقال بوريان عام ١٨٨٥م ليتولى إدارة البعثة الفرنسية للآثار، طلب جريبو
أن تتوفر فيمن يخلفه مؤهلات أخرجت المصريين من المنافسة هي: معرفة الهيروغليفية،
والهيراطيقية، والديموقراطية، والقبطية، واليونانية، واللاتينية (وهي مؤهلات لا
تتوفر حتى لبتري) ولا تتوفر في خريجي مدرسة بروجش، ومدرسة أحمد كمال الذين تعلموا
كل هذه اللغات ما عدا اليونانية واللاتينية، وليس من الغريب أن يحصل على الوظيفة
جورج دارسي، تلميذ جريبو.
٥٦
وعلى كلٍّ، غير جريبو رأيه، وقام بترقية أحمد كمال — عام ١٨٩١م — إلى وظيفة مساعد
أمين ليسد الطريق على الإنجليز.
٥٧ وبعد ذلك بوقت قصير، عندما كان أحمد كمال في الأربعين من عمره، سمع أن
إميل بروجش سيستقيل من وظيفته التي تعد أرقى من الوظيفة التي حصل عليها أحمد كمال،
وأن الأجانب تتجه أنظارهم إلى الحصول على هذه الوظيفة، فقدم أحمد كمال التماسًا إلى
مصطفى فهمي — رئيس مجلس النظار — مطالبًا بالحصول على الوظيفة لأنه «المصري الوحيد
المتخصص في المصريات، وتلميذ بروجش باشا. لقد انتظرت طوال ٢٢ عامًا في خدمة الحكومة
حتى أصبح أمينًا مساعدًا. بالنظر إلى خدمتي، واستحقاقي، والقانون المصري، أتشرف
بالتقدم إليكم بصفة شخصية طالبًا مساعدتي في الحصول على الوظيفة رغم كل المطالب الأجنبية.»
٥٨
قدم أحمد كمال هذا الالتماس بالفرنسية، وأضاف إليه مذكرة قصيرة بالعربية ذكر فيها
أن دارسي الأمين العام المساعد الفرنسي له نفس المؤهلات العلمية، ولكنه لا يعرف
العربية، ومدة خدمته لا تتجاوز ست سنوات بينما تبلغ سنوات خدمة كمال ٢٢ عامًا. وختم
المذكرة بمناشدة وطنية رئيس النظار مساندة المصري بدلًا من الفرنسي أو الإنجليزي.
ولم يترتب على ذلك الالتماس شيء؛ لأن بروجش ظل في وظيفته حتى عام ١٩١٤م. وفي ظل
إدارة دي مورجان خليفة جريبو، كان أحمد كمال محظوظًا لاحتفاظه بوظيفته، فقد قيل إن
جريبو كان يسعى للتخلص منه، ولم يتحدث إليه مدة عام كامل.
٥٩ وبعد عودة ماسبيرو وضع ثقته في أحمد كمال، وأسند إليه أعمال التنقيب
والنشر، ولكنه لم يقم بترقيته، وتخطاه دارسي في الترقية إلى منصب سكرتير عام
المصلحة عام ١٩١٣م. كان أحمد كمال يكبر دارسي وجيمس كيبل الذي أصبح أمينًا عام ١٩١٤م،
باثني عشر عامًا.
٦٠
وهناك خريج آخر من مدرسة بروجش، لمع اسمه، هو أحمد نجيب (١٨٤٧–١٩١٠م). وكانت
ترجمته لكتاب بروجش في نحو اللغة الهيروغليفية، أول كتاب دراسي في هذا المجال
باللغة العربية. وأمام موقف مارييت من خريجي المدرسة، اضطر أن يعمل مدرسًا للتاريخ
بالمدارس الحكومية، وكان لا يزال بتلك الوظيفة عام ١٨٨٢م عندما كتب مقدمة لكتاب أحمد
كمال «تاريخ مصر القديمة». وفي عام ١٨٩٢م فتح التنافس الأنجلو-فرنسي الطريق أمامه
ليشغل إحدى وظيفتَي المفتش العام للآثار (وشغل الوظيفة الثانية فوكار)، وحصل نجيب
على البكوية وتقاعد عام ١٩٠٥م بسبب حالته الصحية، وأصدر لفترة قصيرة مجلة «المنظوم».
٦١
وتتضمن قائمة بأسماء مفتشي الآثار عام ١٨٩٩م اثنين من خريجي مدرسة الآثار
١٨٨١–١٨٨٥م (تلاميذ أحمد كمال) هما: محمد شعبان، الذي خلف أحمد كمال في وظيفة الأمين
المساعد، بعد تقاعده والآخر حسن حسني. وكان علي حبيب — مفتش آثار الدلتا — أقدم
وأفضل المفتشين القدامى الذين عملوا مع مارييت وكان معظمهم من العسكريين السابقين،
وقد تقاعد علي حبيب عام ١٩٠٧م. أما بقية المفتشين فكانوا من صف الضباط بالجيش الذي
تكون بعد ١٨٨٢م، أو صغار الموظفين، بل إن أحدهم كان خادمًا.
٦٢
مارسيل دورنو وتصميم المتحف المصري بالقاهرة
استقر رأي اللجنة التي اختارت — عام ١٨٩٥م — تصميم المتحف المصري الجديد بالقاهرة
على «الفنون الجميلة» الكلاسيكية الجديدة. وكان إسناد مهمة التصميم إلى معماري مصري
أو التفكير في طراز مصري محلي، أمرًا مستبعدًا. كان كرومر في ذروة سلطته، والمتاحف
مؤسَّسات مستوردة، والمعماريون يسيطرون على ميدان التشييد والزخرفة. والعمارة
الإسلامية التقليدية تراجعت، والطراز الإسلامي الحديث كان لا يزال في بداياته.
وجاءت لجنة التحكيم من الفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين. وجاءت غالبية المشاركين
من هذه البلاد الثلاثة: ٢٦ متسابقًا إيطاليًّا، و١٦ فرنسيًّا، و١٥ من جنسيات أخرى
ممن تقدموا لمسابقة تصميم المتحف، ولكن المشروعات الخمسة في التصفية النهائية كانت
جميعها فرنسية.
٧٣
وكان باستطاعة لجنة التحكيم النظر إلى حصاد قرن من الطرز المتنافسة في الغرب؛ بما
فيها الكلاسيكية، والقوطية، وبصيص من الفرعونية والإسلامية.
٧٤ واستمد مصممو المتاحف التي أقيمت في أوروبا، إلهامهم من روما واليونان.
وارتبطت المتاحف بالكلاسيكية الجديدة في أذهان أهل الغرب بتأثير المتاحف الأوروبية
التي أنشئت على هذا الطراز: متحف الفن القديم الذي صممه كارل فردريش شنكل، ومتحف
الفن الحديث الذي صممه فردريش ستولر، في برلين، ومتحف الفنون الزخرفية الذي صممه
ليوفون كلنتز، في ميونخ، والمتحف البريطاني الذي صممه السير روبرت سميرك، بلندن.
تُرى، كيف يستطيع المرء أن يشاهد رخام إيلجن في مكان أفضل من واجهة المتحف البريطاني
ذات الطراز الأيوبي التي تردد منحوتاتها المثلثة أصداء «تقدم الحضارة».
٧٥
على كلٍّ، فقد واجهت سيادة الكلاسيكية الجديدة تحديًا من جانب النزعة الرومانية،
بما في ذلك تناسخ «الفنون الجميلة» بالطراز القوطي الفيكتوري «الوطني»، والعودة
المثالية للطراز القوطي على يد أوجين إيمانويل فيوليه لودوك، وازدهرت صحوة الطراز
القوطي في بناء الكنائس، والكليات في الولايات المتحدة بصفة خاصة، وأعلنت عن نفسها
في متحف العلم الجديد بأكسفورد (١٨٥٥–١٨٥٩م)، وفي متحف الفنون الجميلة ببوسطن
(١٨٧٦م).
وكان باستطاعة من يشتغلون بالطراز الروماني الذين وجدوا في الطراز القوطي طرازًا
طبعًا، أن يحاولوا إحياء الطرازين الفرعوني والإسلامي، ومن سخرية القدر أن الطرازين
الأخيرين جاءا إلى مصر كواردات أوروبية، ولم ينبتا من التربة المحلية. ويبدو أن
«القاعة المصرية» التي أقامها وليم بالوك على الطراز الفرعوني الجديد ببيكاديلِّي،
قد تم تصميمها خصيصًا لأول عرض للآثار المصرية بلندن، على يد بلزوني عام ١٨٢١م.
٧٦ واحتج شامبليون على خطة زخرفة غرف القسم المصري باللوفر بزخارف يونانية
رومانية بدلًا من الفرعونية،
٧٧ ولكن قبضة الكلاسيكية كانت قوية (شأنها شأن الاستشراق) حتى إن أحد
السقوف تمت زخرفتها بعمل فرانسوا إدوارد بيكو «آلهة الحكمة يكشفون مصر القديمة لأثينا».
٧٨
وتخفي الزخارف الخارجية لمتحف برلين الجديد (١٨٥٠م) غزلًا فرعونيًّا مذهلًا،
٧٩ كما أن الزخارف الفرعونية والإسلامية اختلطت دون تمييز في أجنحة المعرض
الدولية، فأشرف مارييت على إقامة نماذج للمعابد المصرية في معارض باريس الدولية في
١٨٦٧م و١٨٧٨م. وأدخل الطراز الفرعوني الجديد على زخرفة واجهة متحف بولاق. ورغم أن
المتحف المصري الذي صممه دورنو على الطراز الكلاسيكي الجديد، كان يشيد بالقاهرة،
فقد أظهر المعماري دورنو — نفسه — مهارته في الجناح الفرعوني — الإسلامي الذي أقيم
عام ١٩٠٠م بمعرض باريس الدولي.
كان المتحف المصري في مقره المؤقت بقصر إسماعيل بالجيزة في التسعينيات، يحمل
زخارف «نصف فرنسية، نصف شرقية» الطراز (انظر الشكل
٣٥). ويذكر
بادج أنه «ليس من الممكن أن تحصل «الآثار المصرية» على مكان منقطع الصلة بها مثل
هذا المكان، فكانت المومياوات الضخمة لرمسيس الثاني وغيره من الملوك العظام، تُعرض
في وسطٍ يدعو للأسى، حيث طُليت حوائط الغرف باللون الأزرق، ذات كرانيش وردية اللون
مذهبة، وزينت السقوف بأطر تحمل رسومًا لكيوبيد وفينوس … إلخ.»
٨٠
وقد دعمت النزعة الكلاسيكية الجديدة في «الفنون الجميلة»، وجودها في الغرب
ومستعمراته عند نهاية القرن. وصاحب ذلك الصعود الإمبريالي الذي ارتبط بكيرزون وملز،
وفردريك لوجارد، ورودس، وكرومر، وكتشنر. فقد أقيم النصب التذكاري المتباهي بالقوة
«فيكتوريا ميموريال» بمدينة كلكتا كأول نصب كلاسيكي في الهند على مدى نصف قرن من
الزمان، إحياءً لذكرى أبطال بريطانيا في الهند في زي كلاسيكي.
٨١ وأقيمت واجهة كلاسيكية (عام ١٩٠٢م) لمتحف متروبوليتان للفنون بنيويورك،
وفي العام (١٩٠٧–١٩٠٩م)، استبدل متحف بوسطن للفنون بواجهته القوطية القديمة، أخرى
على الطراز الكلاسيكي الجديد. وفي إستانبول، وقف متحف الآثار الذي صممه أنطوان
فالوري على الطراز الكلاسيكي الجديد (١٨٩١–١٩٠٧م)، غريبًا إلى جانب كشك شنلي المزين
بالزخارف، في حرم قصر طوب قابي.
٨٢
وحال وضع مصر الخاص في ظل «الحماية المقنعة»، دون إقامة نصب إمبريالية مثل تلك
التي أقيمت بكلكتا أو بنيودلهي. لقد احتلت دار المعتمد البريطاني موقعًا بارزًا على
ضفة النيل، ولكن بناءها كان متواضعًا نسبيًّا. وجاء المتحف المصري (الذي يطل الآن
على ميدان التحرير) وثيق الصلة بالمباني العامة ذات الهيئة الإمبريالية، ولكن تلك
الهيئة لم تكن بريطانية خالصة.
وُلد مارسيل لازار دورنو (١٨٥٨–١٩١١م) في نفس العام الذي أسس فيه سعيد ومارييت
«مصلحة الأنتيكات (الآثار)»، تخرج في مدرسة الفنون الجميلة بباريس، وقضى ١٢ عامًا
في شيلي يعمل معماريًّا في خدمة الحكومة هناك. وفي المرحلة المصرية من حياته قام
بتصميم مبنى المتحف المصري، ومبنى المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة،
والمستشفى الفرنسي، كما صمم جناح مصر في معرض باريس الدولي عام ١٩٠٠م.
٨٣
وفي مطلع القرن العشرين، كانت ثكنات قصر النيل — التي يحتلها الإنجليز — تُنافس
المتحف المصري في اجتذاب الأنظار، ورغم أنها بُنيت في عهد سعيد، فقد كانت ترمز إلى
العصر الاستعماري. وجاء المتحف ليضفي على الحي صفةً أثرية: هناك شارع مارييت باشا
الذي يمر بجوار المتحف حتى ميدان مارييت باشا، وشارع الأنتكخانة المصرية يتجه شرقًا
خلف مبنى المتحف. وفيما وراء المتحف عبر شارع الأنتكخانة، كان المعهد الفرنسي
للآثار الشرقية — الذي صمم دورنو مبناه يقدم خدماته للمشتغلين بالآثار (انظر
الخريطة ٢).
وجاء القوس المركزي للمتحف، والقبة، والأعمدة الأيونية، والأعمدة البارزة من
الحوائط، والأجنحة المتوازنة، والكرانيش، والقاعات التي تلتف حول فناء تضيئه
السماء، جاء ذلك كله ليتفق تمامًا مع تقاليد مدرسة «الفنون الجميلة» (انظر الأشكال
٢ و٥ و٦). وقدمت التصميمات التي اتخذت شكل الجرة مع تواريخ الإنشاء لمسة من طراز
الباروك فوق المدخل. وأنقذت الزخرفة الداخلية ذات الطابع الفرعوني محتويات المتحف
من معاناة الغربة. وجاء القوس الروماني والأعمدة الأيونية للمدخل على شكل بوابة،
بينما تقف حاتحور أو إيزيس حامية حجر العقد، وتقف الآلهة التي ترمز للصعيد في جانب،
وتلك التي ترمز للدلتا في الجانب الآخر من المدخل.
وقد قام الخديو عباس الثاني بوضع حجر الأساس للمتحف في أول أبريل ١٨٩٧م،
٨٤ ولكن حالت بعض الصعوبات دون افتتاح المتحف، حتى تم ذلك في ١٩٠٢م. وبلغت
تكاليف إنشائه ٢٥١ ألف جنيه مصري، وعزى القنصل الفرنسي العام دورنو التأخير في
الافتتاح إلى سلوك الإنجليز. زعم دي مورجان أن الإنجليز انتهزوا فرصة غيابه عن
القاهرة في بعثة أثرية بسيناء لتبرير تدخُّلهم. واتهم دورنو وزارة الأشغال العمومية
بمساندة شركة المقاولات الإيطالية التي أسند إليها البناء. وعندما كتب اسم دورنو
على باب ثانوي، وليس على الواجهة، رفع قضية على الحكومة المصرية مطالبًا بثلاثمائة
جنيه مصري زيادة على أتعابه البالغ قدرها ألف جنيه.
٨٥ وهكذا عكس المتحف مدى اهتمام أوروبا بماضي مصر الفرعوني إلى حد إسقاط
المصريين المحدثين من حسابهم، بقدر ما عكس الصراع الأنجلو-فرنسي طويل الأمد في
المجالين السياسي والآثاري، على ضفاف النيل.
ماسبيرو والوفاق الودي
تنفس علماء المصريات والدبلوماسيون — البريطانيون والفرنسيون على السواء —
الصعداء عندما عاد ماسبيرو إلى القاهرة عام ١٨٩٩م. وعدل ماسبيرو عن خطة سلفه في
النضال من أجل إبعاد البريطانيين عن مصلحة الآثار، فمنحهم تمثيلًا سخيًّا، وأخيرًا
كسب اعترافهم الرسمي بأن للفرنسيين اليد العليا في مجال الآثار في مصر. وقد سجل
نقطة لصالحه عام ١٨٩٩م، عندما لم يبدِ قلقه لوجود ثلاثة من البريطانيين في «لجنة
المصريات» إلى جانبه، وفرنسي آخر، وألماني واحد، وثلاثة من المصريين.
٨٦ ولكن إلى أي مدى يمكن اعتبار الأرمينيين المتمصرين أرتين وتيجران ورئيس
مجلس النظار — الأداة في يد الاحتلال — ممثلين لمصر؟ يظل سؤالًا يبحث عن
إجابة.
وأجرى ماسبيرو فحصًا لأوضاع مصلحة الآثار المضطربة، فوجد أن هناك مفتشَين عامَّين
بمقر المصلحة بالقاهرة هما: جورج ليجران، وأحمد نجيب، وثمانية من المفتشين المصريين
يتصفون بالإهمال لأنهم نادرًا ما يغادرون القاهرة للتفتيش على المناطق التابعة لهم.
فقام ماسبيرو بتعيين مفتشَين عامَّين بريطانيَّين هما: كيبل للدلتا وهوارد كارتر
للصعيد. وفي عام ١٩١١م، عين ماسبيرو خمسة مفتشين: ثلاثة بريطانيين، وفرنسي واحد،
وإيطالي واحد، فتولى بريشيا — مدير المتحف اليوناني الروماني — مسئولية منطقة
الإسكندرية الكبرى، وكامبل إدجار الدلتا، وكيبل منطقة سقارة، وليففر منطقة أسيوط،
وويجول الأقصر.
٨٧ ولكن ظل التوتر الأنجلو-فرنسي قائمًا، يصل أحيانًا إلى درجة الاحتقان،
مثل اصطدام السياح الفرنسيين مع حراس منطقة سقارة التي يشرف عليها كارتر. وحاول
ماسبيرو معالجة الأمر بأن يقدم كارتر اعتذارًا، ولكنه رفض، وفضل الاستقالة.
٨٨
وحظيت حفلة افتتاح النصب التذكاري تخليدًا لمارييت في حديقة المتحف (مارس ١٩٠٤م)
بتقدير دولي كامل.
٨٩ ففي أوروبا كانت بريطانيا وفرنسا تقتربان من إبرام الوفاق الودي الذي
تم بعد أسابيع، وكانت إحدى مواده تؤكد أن يكون مدير عام مصلحة الآثار المصرية
فرنسيًّا. واستمر الود بين الطرفين قائمًا في عهد السير ألدون جورست (١٩٠٧–١٩١١م)
فحصل ماسبيرو على وسام فارس من بريطانيا عام ١٩٠٩م، وعندما استقال كرومر من عمله في
مصر وتولى رئاسة «صندوق الكشوف المصرية» جامل فرنسا بوصفها «أم علم المصريات».
٩٠ وعدلت فرنسا عن ادعائها حق الحصول على المسلة الباقية بمعهد الأقصر،
وتركت بريطانيا ادعاءها حق الحصول على تمثال رمسيس الثاني الضخم بميت رهينة، وكان
محمد علي قد أهداه لكافيجليا، وستون عام ١٨١٨م.
٩١ وأثناء تقاعده، نصح كرومر حكومة بلاده بعدم إقامة معهد بريطاني للآثار
في مصر؛ لأن ذلك قد يستثير عداء الفرنسيين، وكذلك «صندوق الكشوف المصرية».
٩٢
وأدى سقوط عمود ضخم بالكرنك بعد عودة ماسبيرو ببضعة أيام في ١٨٩٩م، إلى تأييد
قراره بالتركيز على صيانة الآثار والنشر العلمي، وترك معظم أعمال التنقيب للبعثات الأجنبية.
٩٣ وكان دي مورجان قد أسند إلى ليجران العمل بالكرنك عام ١٨٩٥م، وما زالت
«إدارة أعمال الكرنك» مستمرة إلى اليوم باسم «المركز الفرنسي المصري لدراسة وترميم
معبد الكرنك»،
٩٤ وسارع ماسبيرو بإصدار «حوليات مصلحة الآثار» التي كان لوريه قد بدأ
إعدادها، كما نفذ خطة بوركارد للتعاون الدولي في إعداد «كتالوج عام» للمتحف المصري.
٩٥
وجاء كتشنر (١٩١١–١٩١٤م) لينهي هذه الفترة من الوفاق في مجال الآثار بمناوراته
العنيفة ضد الآثاريين الفرنسيين. وكان كتشنر يهوى جمع الآثار (على عكس كرومر) فأعاد
مرة أخرى عهد القناصل جامعي الآثار الذي بدأه سولت قبل ذلك بقرن. وفي العام ١٩١٣م
خلق منصب سكرتير عام مصلحة الآثار على أمل أن ينجح في تعيين كيب فيه.
٩٦ وفي ربيع ١٩١٤م أصاب الإرهاق ماسبيرو، فاقترح على كيتشنر اسم من يخلفه
من الفرنسيين.
٩٧
الظهور الأول للأمريكان
لا تظهر أسماء أمريكية على واجهة المتحف المصري بالقاهرة؛ فقد كان إدوارد روبنسون
رائد علم آثار الكتاب المقدس منذ الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، كما أن «الجمعية
الشرقية الأمريكية» يعود تاريخها إلى عام ١٨٤٢م، ولكن الاتجاه نحو قيام الجامعات
الكبرى والمتاحف برعاية علم الآثار جاء بعد الحرب الأهلية الأمريكية، وفي
السبعينيات، انضم أثرياء الصناعة الجدد إلى النخب القديمة المعنية بالديموقراطية في
تأسيس متاحف الفنون الكبرى في بوسطن، ونيويورك، وفيلادلفيا. وقام الأمريكان الذين
حصلوا على درجات الدكتوراه من الجامعات الألمانية باجتذاب حلقات البحث والمعامل
بالكليات الجامعية نحو خلق الجامعة الأمريكية الحديثة.
ونحو نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت بضع جامعات ومتاحف معنية بالشرق الأدنى
القديم وعلم المصريات، واستهلت جامعة بنسلفانيا أعمال التنقيب الأثري في نيبور
(بالعراق الآن) عام ١٨٨٨م، بعد أن كانت قد أجرت استكشافًا مسحيًّا للرافدين في
العام السابق على ذلك العام. وفي عام ١٩٠٧م، قام «متحف بنسلفانيا للآثار
والأنثروبولوجيا» — الذي تأسس عام ١٨٩٠م — بمد أعمال التنقيب الأثري إلى مصر. وقامت
«جمعية أدب وتأويل الكتاب المقدس» — التي تأسست عام ١٨٩٥م — و«المدارس الأمريكية
للبحوث الشرقية»،
١٠٦ بتجميع الموارد من عدة كليات وجامعات. وفي عام ١٩٠٠م تولت الأخيرة
رعاية أعمال البحث في فلسطين.
وكما كانت الحال في فرنسا وألمانيا، سار علم المصريات الأمريكي في طريق ارتاده من
قبل علم الآثار الكلاسيكية، فتولى تشارلز إليوت نورتون — الأستاذ بجامعة هارفارد —
رئاسة «معهد الآثار الأمريكي» لمدة أحد عشر عامًا، وكان المعهد مهتمًّا
بالكلاسيكيات، وتأسس عام ١٨٨٢م، وهو العام الذي شهد افتتاح «المدرسة الأمريكية
للدراسات الكلاسيكية»، ثم أقيمت بروما «المدرسة الأمريكية للعمارة» (١٨٩٤م)،
و«المدرسة الأمريكية للدراسات الكلاسيكية» (١٨٩٥م). وفي عام ١٩١٣م تم اندماج
المدرستين في «الأكاديمية الأمريكية بروما».
١٠٧ وقد استلهم علم المصريات الأمريكي الألمان والبريطانيين أكثر من
استلهامه الفرنسيين، إذ توفي اثنان من بين الأمريكان الثلاثة الذين تتلمذوا على
ماسبيرو وهما في ريعان الشباب،
١٠٨ وبقي الهاوي الثري تشارلز ويلبور (١٨٣٣–١٨٩٦م) على هامش «المصريات»
لعزوفه عن النشر، رغم خبرته، وقضائه موسم الشتاء باستمرار على ظهر دهبيته الفخمة في
النيل. وقد درس ويلبور في برلين وباريس.
١٠٩ ولعبت الجامعات الألمانية دورًا في تكوين الجيل الأول من الأمريكيين
المتخصصين في «المصريات» في ألمانيا في التسعينيات، ثم بدءوا العمل الميداني في
مصر.
ولما كانت بداية «المصريات» متواضعة في الجامعات البريطانية، فقد تأثر المتخصصون
بالمصريات من الأمريكان «بصندوق الكشوف المصرية»، وبتري. وجعل أعضاء الصندوق من
الأمريكان المتحمسين، من رحلة إميليا إدواردز لأمريكا عام ١٨٨٩م، لإلقاء الخطب حول
نشاط الصندوق، رحلة مكللة بالنجاح. وقبل أن تصبح قادرة على إيفاد بعثاتها الأثرية
الخاصة بها، لجأت متاحف بوسطن للفنون الجميلة، والمتروبوليتان للفنون، وجامعة
بنسلفانيا، وبروكلين، إلى تكوين مجموعاتها من الآثار المصرية من خلال مساهماتها
المالية في «صندوق الكشوف المصرية».
١١٠
وقد حصلت سارة يورك ستيفنسون — أول أمينة (١٨٩٠–١٩٠٥م) لقسم مصر والبحر المتوسط
بمتحف جامعة بنسلفانيا للآثار والأنثروبولوجيا — على قطع الآثار المصرية من خلال
بتري وصندوق الكشوف المصرية. وقامت بزيارة مصر عام ١٨٩٨م لدراسة إمكانية إرسال بعثة
أثرية لمتحف الجامعة. وكتبت تقول: «إن البريطانيين هم حلفاؤنا الطبيعيون» في مجال
المصريات، وعرضت اقتراحًا تقدم به يعقوب أرتين لإقامة «محطة علمية لعلماء المصريات
والمستشرقين والمتخصصين في الآثار العربية والمسيحية من الأمريكان والبريطانيين»
يمكنها أن توفر «تمثيلًا ميدانيًّا للعلم الأمريكي … فالأمم الأخرى حريصة على ذلك،
وتناضل بقوة لتنال نصيبًا من هذه الغنيمة العلمية الغنية، ولكن أمريكا ليس لها وجود هنا»،
١١١ ولم يتحقق ذلك إلا عام ١٩٢٤م عندما قام «المعهد الشرقي» بجامعة شيكاغو
بإنشاء قاعدة دائمة أمريكية لعلم المصريات على أن مصر، هي «بيت شيكاغو» بالأقصر.
ولم يتم إنشاء «مركز البحوث الأمريكي بمصر» بالقاهرة إلا في عام ١٩٥١م.
وتولى الخيرون من أصحاب الملايين رعاية البعثات الأثرية الأمريكية التي قامت
بالتنقيب في مصر، وهم: فوب هيرست، وتيودور دافيس، وإكلي برنتون كوكس (الابن)، وجون
روكلفر (الابن)، ومؤسسة روكلفر. وقامت فوب هيرست — زوجة جورج هيرست قطب صناعة
التعدين، ووالدة وليم راندولف هيرست بارون الصحافة — برعاية بعثة جامعة كاليفورنيا
التي قادها ريسنر (١٨٩٩–١٩٠٥م)، وقام تيودور دافيس بتمويل حفائره الخاصة في وادي
الملوك (١٩٠٣–١٩١٢م) بمساعدة خبراء من أمثال الإنجليزي بيرسي نيوبري، وآخرين، وقدم
كوكس التمويل اللازم لبعثات متحف جامعة بنسلفانيا حتى وفاته عام ١٩١٦م، وتولى جون
روكلفر (الابن)، ومؤسسة روكلفر تمويل حفائر برستد، والمعهد الشرقي الذي أسسه بجامعة
شيكاجو.
وبدأ ريسنر التنقيب في مصر عام ١٨٩٩م، ودافيس عام ١٩٠٣م، ولكن الفترة
(١٩٠٥–١٩٠٧م) شهدت انطلاق العمل الميداني الأمريكي على أيدي بعثات من هارفارد —
بوسطن (ريسنر)، ومتحف المتروبوليتان للفنون (ليثجو، ثم لحق به هربرت ونيلوك)، ومتحف
بروكلن (هنري دي مورجان)، ومتحف جامعة بنسلفانيا (دافيد راندول ماكلفر، ثم كلارنس
فيشر). وكان برستد يعمل ميدانيًّا لحساب شيكاغو في المسح الفوتوغرافي للنوبة
(١٩٠٥–١٩٠٧م)، فقد أصر على أن تسجيل النقوش المعرضة للضياع مهمة عاجلة تفوق أعمال
التنقيب من حيث الأهمية. وفي عام ١٩٠٧م — أيضًا — بدأ نورمان وأنَّا دي جاريس ديفز
في تسجيل مقابر طيبة لحساب قسم النقوش بمتحف المتروبوليتان للفنون.
وانتهت أعمال بعثة بروكلين، وبعثة شيكاغو لمسح النوبة عام ١٩٠٧م بعد موسمين من
العمل، ولكن بعثات هارفارد-بوسطن، ومتحف المتروبوليتان للفنون، ومتحف جامعة
بنسلفانيا، استمرت حفائرها حتى الثلاثينيات من القرن العشرين، تخللتها فترات توقف
قليلة. وقد أصبح معسكر هارفارد (ريسنر) بالجيزة، وبيت متحف المتروبوليتان، وبيت
شيكاغو بالأقصر من العلامات المميزة المألوفة في حقل الآثار بين الحربين
العالميتين.
وبرع كل من ليثجو، وبرستد، وريسنر في أحد مجالات المصريات. فقد كان ليثجو أول
أمين لقسم الفن المصري بمتحف بوسطن للفنون الجميلة (١٩٠٢م) ومؤسسًا لقسم الفن
المصري بمتحف المتروبوليتان (١٩٠٦–١٩٢٩م). وتميز برستد كعالم ومعلم وإداري. وكان
كرسي أستاذية المصريات بجامعة شيكاغو الذي شغله عام ١٩٠٥م، أول كرسي للمصريات
بأمريكا، وأصبح المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو الذي أسسه بتمويل من روكفلر، وافتُتح
عام ١٩١٩م، مركز المصريات ودراسات الشرق الأدنى. وجمع ريسنر بين الأستاذية
بهارفارد، وأمانة قسم الفن المصري بمتحف بوسطن للفنون الجميلة، ولكنه اكتسب شهرته
من براعته في التنقيب وتفوقه على بتري في الأساليب الفنية للعمل، ولم يقبل بأن يكون
هدف العمل تجميع الآثار للمتاحف، ولكن التنقيب في جبَّانات كاملة، والحفر في الطبقات
الواحدة تلو الأخرى حسب الترتيب الزمني، مع تسجيل كل خطوة بالرسم والتصوير
الفوتوغرافي ونشر التقارير العلمية التي تتضمن الإيضاحات.
١١٢
وفي مذكرة مشهورة، عرض القنصل العام الأمريكي فردريك بنفيلد — عام ١٩٠٩م — أن
يتحمل نفقات نقل المسلة الباقية بمعبد الأقصر إلى وسط القاهرة؛ لأنه يجب أن تكون
بالقاهرة مسلة كما في لندن، وباريس، ونيويورك، وروما، وإستانبول؛ لأن المسلة
بالأقصر لا يراها إلا عدد قليل من السياح كل شتاء، فإذا نقلت إلى القاهرة «لن
يشاهدها الزوار الأجانب وحدهم، بل سيشاهدها أعداد غفيرة من سكان البلاد كل يوم في
غدوهم ورواحهم»، وقد رفض مجلس النظار العرض استنادًا إلى آراء الآثاريين.
١١٣
أعمال أحمد كمال
«لم يبلغ المصريون بعدُ درجة كافية من الحضارة حتى يهتموا بالحفاظ على
آثارهم القديمة … وليس لديهم شعور — أي درجة من درجات الشعور — بالذنب
ترتبط بهذا الجرم الذي يعد ذنبًا مغفورًا … نقول للمصريين: إننا حكومات
متحضرة، لذلك نهتم بآثاركم القديمة. فإذا تظاهرتم بأنكم أمة متحضرة، فإن
عليكم الاهتمام بها أيضًا.»
من حديث للورد كرومر، جاء في:
William Welch Jr., No Country for a Gentleman
هذه الملاحظات التي ينحى بها كرومر باللائمة على المصريين، تتجاهل نضال أحمد كمال
من أجل جعل علم المصريات للمصريين، في جو استعماري عدواني. حمل أحمد كمال على كاهله
مهمتين: تكوين نفسه تكوينًا علميًّا جادًّا في حقل المصريات، وحث أبناء وطنه على
تعريف أنفسهم في إطار مصر القديمة. وجاءت بحوثه المنشورة بالفرنسية لخدمة المهمة
الأولى، أما ما نشره بالعربية فكان لخدمة المهمة الثانية. وقد أبدى ماسبيرو احترامه
لأحمد كمال بضمه إلى الفريق الدولي الذي تولَّى إعداد «الكتالوج العام» للمتحف
المصري. وقد أنجز أحمد كمال مجلدات عن اللوحات البطلمية والرومانية، وعن منصات
القرابين، ومنحته مصلحة الآثار مكافأة قدرها مرتب شهر (٣٣ جنيهًا بالنسبة له) عندما
نشر المجلد الأول.
١١٤
وقد نشر أحمد كمال تسعة وعشرين مقالًا بالفرنسية بحوليات مصلحة الآثار خلال
سنواتها العشر الأولى؛ أي ما يزيد على ضعف ما قام بنشره زملاؤه المصريون، فلم ينشر
زميله في الدراسة أحمد نجيب سوى أربعة مقالات في بضع سنوات منذ صدور المجلة حتى
تقاعده. كذلك نشر اثنان من تلاميذ أحمد كمال السابقين (خريجي مدرسة الآثار
١٨٨١–١٨٨٥م) أحدهما محمد شعبان، الذي نشر خمس مقالات في عشر سنوات، وما يزيد عليها
قليلًا في السنوات العشر التالية.
١١٥
ومعظم تلك المقالات عبارة عن مذكرات وتقارير قصيرة حول ملاحظات التفتيش على
المواقع الأثرية، وجهود محاربة التنقيب العشوائي، وأحيانًا كان أحمد كمال ينشر
تقريرًا عن متابعة الحفائر، وكان هذا هو كل ما يستطيع عمله في وقت كان فيه الغربيون
يفتحون الأهرام، ويحفرون في مناطق هامة مثل الجيزة، وسقارة، والكرنك ووادي الملوك،
وقد رفض أحمد كمال — من حيث المبدأ — إصدار تصاريح التنقيب لغير المتخصصين في
المصريات، ومن لا يمثلون متحفًا أو مؤسسة علمية. وأقر بأن ذلك يعني استبعاد
المصريين من التنقيب، ولكن هؤلاء كانوا يبحثون عن الكنوز ولا تحركهم «النزعة العلمية».
١١٦
ولم تكن الأعمال العربية التي نشرها أحمد كمال معروفة لزملائه الغربيين. ويبدو
أنه افترض وجود متخصصين، وطلاب، ومهتمين بالمعرفة من بين قراء العربية، غير أن فئة
المتخصصين من القراء كادت أن تكون موجودة.
وكان جانب من أعمال أحمد كمال العربية، ترجمة عن اللغة الفرنسية على طريقة
الطهطاوي ومدرسته. وكان انتقال المتحف إلى الجيزة يعني أن ترجمة عبد الله أبو
السعود لدليل المتحف الذي وضعه مارييت قد أصبحت عديمة الجدوى، وقام كمال بترجمة
الدليل الجديد الذي وضعه دي مورجان إلى العربية في (١٨٩٢–١٨٩٣م)، وبعد ذلك بعقد من
الزمان، عندما انتقل المتحف — مرة أخرى — إلى موقعه الحالي، ترجم أحمد كمال الدليل
الجديد الذي وضعه ماسبيرو، ولم يكن ذلك عملًا هينًا، فقد جاء النص العربي والصور
الملحقة به في ٧٨٨ صفحة، كذلك قام أحمد كمال بترجمة الدليل الذي وضعه بوتِّي للمتحف
اليوناني-الروماني، وجاءت الطبعة العربية في ٦٣٩ صفحة.
١١٧
وبحلول عام ١٩١٥م، كان قد صدر من دليل ماسبيرو أربع طبعات فرنسية، وخمس إنجليزية،
ولكن لم تتكرر طباعته بالعربية،
١١٨ فهل كان ذلك يمثل فجوة في الاهتمام النسبي بالآثار عند الأوروبيين
والمصريين، أو جاء تعبيرًا عن ترتيب الأولويات عند مصلحة الآثار المصرية التي
يديرها الأجانب؟ لقد رأينا من قبل شهادة جريبو عن إقبال المصريين على زيارة المتحف
في جماعات كبيرة، وحذر دليل بايدكر السياح قراءه من زيارة المتحف يوم الثلاثاء؛ لأن
رسم الدخول المنخفض (خمسة قروش) يجلب حشودًا من «الزوار العرب من الطبقات الدنيا»،
وجرب ماسبيرو السماح بالدخول المجاني في فصل الصيف بعيدًا عن الموسم السياحي،
وعندما نتج عند ذلك اندفاع الحشود وقيام البعض بحك أجسامهم بالآثار اعتقادًا منهم
أنها تشفي بعض الأمراض، عدل ماسبيرو عن ذلك، وقرر رسم دخول قدره قرش واحد في موسم الصيف.
١١٩
وألف أحمد كمال كتابًا بالعربية عن عين شمس القديمة قبل أن يتولى وظيفته الأولى
بالمتحف. وعندما تولَّى التدريس بمدرسة الآثار المتواضعة في أوائل الثمانينيات، ألف
كتابين آخرين بالعربية: تاريخ مصر القديم، وقواعد الهيروغليفية. ولسوء الحظ أغلقت
المدرسة في نفس السنة التي صدر فيها الكتاب الأخير. وألف أيضًا كتابًا بالعربية عن
منف، ومجلدًا ضخمًا عن الحرف وغيرها من مظاهر الحياة في مصر القديمة، ودليلًا
مطولًا عن النباتات المصرية. وقد زود كتبه برسوم لمناظر المقابر، والنصوص
الهيروغليفية، وقدم قراءة لها بالحروف العربية، ثم قدم ترجمة عربية للنص، ولعل أحمد
كمال كان يتوقع قراء عربًا يمكن مقارنتهم بالقراء الأنجلو أمريكيين الذين أقبلوا
على كتاب ويلكنسون «عادات وتقاليد قدماء المصريين» الذي شاع لعدة عقود، قبل أن تصبح
الكتابة عن مصر في يد المتخصصين، وتنتشر أعمالها.
١٢٠
ويصف أحمد كمال في أحد كتبه رحلة قام بها مع طلبة دار العلوم إلى الصعيد «لمعالجة
عجز أبناء الوطن» عن تقدير قيمة الآثار، ألف أحمد نجيب كتابًا عن مصر القديمة
بتكليف من نظارة المعارف. وتضمن الكتاب نصًا هيروغليفيًّا لقصة، وقراءة لها بالحروف
العربية، ثم ترجمة عربية للنص أسفل كل سطر من سطور النص. كما كتب أحمد نجيب تقارير
عن أحداث الحفائر التي قام بها دي مورجان.
١٢١
وبعد عام ١٩٠٠م نال أحمد كمال اعترافًا بكفاءته العلمية بعد جهد مضن. فقد أصبح
معروفًا في الأوساط الأوروبية من خلال كتاباته في مجلة حوليات مصلحة الآثار، وعمله
في «الكتالوج العام» للمتحف. وأدى اختياره عضوًا بالمجمع العلمي المصري إلى اتساع
دائرة اتصالاته، وزودوه بأداة جديدة لينشر أعماله.
وساعدته المحاضرات التي كان يلقيها بنادي طلبة المدارس العليا فيما بين
(١٩٠٦ و١٩٠٨م)، والتي كانت تجتذب حضورًا كثيفًا، على أن يبث أفكاره بين الطلاب
وخريجي المدارس العليا. وقد تأسس النادي عام ١٩٠٥م، وكان عدد أعضائه ٢٤٠ عضوًا، ثم
قفز العدد إلى ٧٧٤ عضوًا عام ١٩٠٩م، وهي السنوات التي شهدت علو مد المعارضة ضد
الإنجليز وخاصة ضد المحاكمات التعسفية في دنشواي، ورحيل كرومر، وظهور الأحزاب
السياسية، ووفاة الزعيم الوطني مصطفى كامل، وتأسيس الجامعة المصرية الأهلية.
١٢٢
وفي عام (١٩٠٨–١٩٠٩م)، نال أحمد كمال فرصة تدريس مادة تاريخ مصر القديم بالجامعة
المصرية الجديدة، ولا شك أن ماسبيرو — الذي كان عضوًا بمجلس الجامعة — رشحه
للتدريس، وقامت الجامعة بنشر محاضرات أحمد كمال التي غطت تاريخ مصر القديم حتى
الأسرة الخامسة عشرة.
١٢٣ واستهل أحمد كمال كتابه بالبسملة والصلاة على النبي محمد، وقدم تبريرًا
لنشر الكتاب، وبدأ بالحديث عن عصر ما قبل التاريخ، ولاحظ أن هناك اختلافًا بين
الأوروبيين حول أصل البشر، وما إذا كانوا قد انحدروا من نسل آدم وحواء أم كانوا
ثمرة تطور من الحالة الحيوانية، وما إذا كانت جميع الحضارات ذات أصل واحد.
وقد اهتمت الجامعة بنشر محاضراته؛ لأن «الأمم المتقدمة — كالعرب في عصر
العباسيين، والأوروبيين منذ عصر النهضة، والآن أمريكا واليابان — استفادوا من حكمة
مصر في عصر الجاهلية، وهو موضوع ما زال مجهولًا عندنا.»
١٢٤ وإذا كان الأجانب يأتون زرافات ووحدانًا لمشاهدة الآثار الفرعونية،
فإنه يجب على المصريين أن يقدروا «تراث وطنهم العزيز». وأبدى افتخاره بأن الكهنة
المصريين نظروا إلى اليونان نظرتهم إلى الأطفال، وأن الإغريق أشادوا بمصر باعتبارها
مصدرًا للكتابة، والفلسفة، والقانون، والفنون والحضارة.
١٢٥
وكانت المصادر الثانوية التي استخدمها أحمد كمال تتضمن أعمال بروجش، وليبسيوس،
ومارييت، وشاباس، وماسبيرو، وهيرودوت، ومانيتو، وديودور الصقلي. كما أشار إلى عمل
علي مبارك عند حديث عن النيل، ولكنه أهمل ما ذكره مبارك عن الأهرام نقلًا عن
المصادر العربية.
وقد سار أحمد كمال على نهج الطهطاوي، ومارييت من حيث اتباع التحقيب الزمني
الطويل، فوضع الملك مينا الذي ذكره مانيتو عند العام ٥٦٢٦ بالسنوات الشمسية قبل
الهجرة (٥٠٠٤ق.م.). وفي كتاب تاريخ مصر القديمة الذي نشره أحمد كمال عام
(١٨٨٢–١٨٨٣م) حدد الحوادث بالتقويم الشمسي قبل الهجرة كما في الكتب الدراسية عند
الطهطاوي، ومارييت، ولكن عند نشر كتابه الذي أصدرته الجامعة كان استخدام تواريخ ما
قبل الميلاد شائعًا، فلم يعد أحمد كمال يستخدم تاريخ ما قبل الهجرة.
وقد رتب فصول كتاب محاضراته بالجامعة على أساس موضوعات: النيل، والبيئة على ضفتيه
وفي الدلتا، والدين، والتقسيمات الجغرافية إلى ولايات، والنظام الاجتماعي والسياسي،
واللغة ونظام الكتابة، وشامبليون، وفك رموز الهيروغليفية. أما الفصول التي رتبت على
أساس الحقب الزمنية، فتناولت الأسرات واحدة تلو الأخرى، وحكمًا تلو الآخر، مستقيًا
مادته من الآثار وخراطيش الملوك. وقطع تسلسل تلك الفصول بأخرى لموضوعات مثل:
«التجارة في عصر منف»، و«الفن المصري القديم».
وكان أهم إنجاز قام به أحمد كمال هو إقناع نظارة المعارف بافتتاح قسم للآثار
المصرية القديمة بمدرسة العلمين العليا عام ١٩١٠م، حيث قام بالتدريس مرتين
أسبوعيًّا لسبعة طلاب. أخذهم إلى المتحف المصري، وقادهم في جولة بين آثار الصعيد.
وتخرجت الدفعة الأولى عام ١٩١٢م، والتحقت دفعة جديدة بالقسم.
١٢٦
وعلى جبهة أخرى، قام أحمد كمال وماسبيرو بتشجيع السلطات الإقليمية على إنشاء
متاحف صغيرة بالمديريات. وقد وافق ماسبيرو ولجنة الآثار لأحمد خشبة باشا — أحد
أعيان المديرية — بالتنقيب عن الآثار بجوار أسيوط، وقد ذهب بعض ما تم العثور عليه
من آثار إلى المتحف المصري بالقاهرة، وشجع على الاحتفاظ بما تبقى من الآثار لإنشاء
متحف محلي. وقد أنشأت بلدية طنطا متحفًا بتشجيع من مصلحة الآثار (عام ١٩١٣م)، وقررت
المنيا أن تحذو حذوها.
١٢٧
مصر القديمة في مطلع القرن العشرين – الوعي الوطني
كما رأينا من قبل، اختارت مجلة «السمير الصغير» عام ١٨٩٩م شعارًا لصفحة العنوان
يمثل فلاحة توجه أولادها نحو «نور المعرفة»، الذي يبرز فوق الأهرام وأبي الهول،
بينما الخديو وأربعة من رواد التعليم يشكلون إطارًا لهذا المشهد (انظر الشكل
٧). ورغم أن ذلك يكاد يمثل نظرة المصريين للعالم في ذلك الوقت،
فإنه يبين أن أحمد كمال لم يضع وحده قواعد الانتساب إلى مصر القديمة الذي شاع في
العشرينيات من القرن العشرين.
كان الاقتصار على استخدام طوابع البريد التي حملت الأهرام وأبي الهول على
الخطابات المرسلة من مصر إلى بلاد الغرب في الفترة (١٨٦٧–١٩١٤م)، توحي هناك بارتباط
خدمة البريد، وكذلك مصر بالآثار المصرية (انظر الشكل
٢٢).
وعندما قامت الحكومة المصرية الخاضعة للاحتلال البريطاني — في يناير ١٩١٤م — بإصدار
طوابع بريد متنوعة التصميم، عكست ستة من بين عشرة تصميمات للآثار القديمة. وحملت
أوراق النقد (البنكنوت) التي أصدرها البنك الأهلي المصري فيما بين ١٨٩٩م والحرب
العالمية الأولى مناظر أبو الهول، والأهرام، ومعبد فيلة، بين ما حملته من مناظر أخرى.
١٢٨ ولكن العملات التي كانت تمثل رمز السيادة في العالم الإسلامي، اتسمت
بالتحفظ. فحتى العام ١٩١٤م، ظلت تحمل طغراء السلطان العثماني، ونقوش أخرى بالخط
العربي، مع زخارف نباتية أو هندسية.
وربما كان الخيار الأصلي لتصميمات طوابع البريد وأوراق النقد أوروبيًّا أكثر من
كونه مصريًّا. فقد كان الإيطاليون أول من أسس خدمة البريد بمصر، كما أن حملة الأسهم
من البريطانيين سيطروا على البنك الأهلي المصري، كما انفرد البريطانيون باتخاذ
القرارات الهامة في مصر فيما بين (١٨٨٢ و١٩٢٢م). غير أن هذه الرموز التي طال أمدها،
كان لها أثرها، فما زالت طوابع البريد وأوراق النقد في مصر المستقلة تبرز الرموز
الفرعونية حتى اليوم.
وقد حرص حكام مصر على الظهور بمظهر حماة الآثار الفرعونية، على الأقل منذ صدور
أمر محمد علي عام ١٨٣٥م، وعلى مدى القرن، قاموا بزيارات للمواقع الأثرية ضمن
برامجهم الاحتفالية. فقام الخديو توفيق في مطلع عام ١٨٨٠م عشية توليه الحكم بزيارة
استعراضية للصعيد ضمت موكبًا كبيرًا من ثلاث بواخر وعدد من القوارب المعاونة، وتوقف
لزيارة عواصم الأقاليم وأعيانها على طول الطريق، كما زار معابد دندرة، وإسنا،
وجزيرة فيلة، والأقصر، والكرنك.
١٢٩ وفي عام ١٨٨٦م، حضر احتفالًا بمتحف بولاق بمناسبة عرض مومياء أحد
فراعنة الدولة الوسطى.
١٣٠
وجاءت زيارة توفيق للصعيد ١٨٩٠م على متن باخرة كوك، في صحبة سياح من الأمريكان.
وكانت المحطة الأولى البدرشين لزيارة آثار منف وسقارة. أما محطات الآثار التالية
فشملت دندرة، والكرنك، ووادي الملوك، والرمسيوم، وإسنا، وإدفو، وكوم أمبو، وأسوان،
وفيلة. وقد ناقش مع حاشيته سبل تنمية السياحة من خلال شركة كوك.
١٣١ وفي العام التالي اصطحب توفيق مدير عام مصلحة الآثار جريبو في رحلة
نيلية فيما بين الشلال الأول ووادي حلفا (انظر الشكل
٣٦).
١٣٢
ونظم كوك رحلة مجانية لطلبة دار العلوم ضمت ٥٠ طالبًا على متن الباخرة «عباس»،
لزيارة الصعيد وآثاره، أملًا في أن تحظى الشركة في عهد عباس الثاني بالرعاية
الخديوية، كما كانت الحال في عهد أبيه. وعندما مرت باخرة الطلاب بجوار باخرة جون
كوك، صعد الأخير على متنها وألقى على الطلاب كلمة جاء فيها:
«لقد التقيت الخديو الراحل، ووجدته مستاءً؛ لأن المصريين يتلقون تعليمًا جيدًا،
يؤهلهم لشغل الوظائف الكبرى، ولكنهم مع مرور الزمن لا يقومون بزيارة الآثار
القديمة، وقال لي: إن القليل من المصريين يقومون بالسياحة في بلادهم، بينما نرى
السياح يأتون من أمريكا وأوروبا هذه الآثار … لذلك يجب أن تعرفوا تاريخ أجدادكم
وتمارسوا حياتكم العملية أسوة بهم …»
وخصص كوك أفضل تراجمته — الحاج محمد أبو عليوة — لمرافقة الطلاب في هذه الرحلة.
١٣٣
وقد أشرنا فيما سبق إلى قيام عباس الثاني بوضع حجر الأساس، ثم افتتاح كل من
المتحف اليوناني-الروماني بالإسكندرية، والمتحف المصري بالقاهرة، وقد فعل نفس الشيء
بالنسبة لمتحف الفن العربي. ومنذئذٍ حرص كل حاكم مصري على الظهور بمظهر حامي التراث
الفرعوني والإسلامي.
وعبَّر رجلان نُفيا من مصر عن الحنين للوطن من خلال الإشادة بماضي مصر الفرعوني،
رغم انحدارهما من أصول تركية-شركسية، هما: محمود سامي البارودي، والأمير إبراهيم
حلمي. كان البارودي رئيسًا لمجلس وزراء الثورة العرابية، وقضى سبعة عشر عامًا في
المنفى بسيلان، وعبر في أشعاره عن حنينه لمصر ذاكرًا الجيزة والأهرام وتحديها
للزمن، شاهدة على عظمة بُناتها، ويشهد العالم بخلودها.
١٣٤
أما الأمير إبراهيم حلمي فكان خريج الأكاديمية العسكرية الملكية (وولوتش)، وشارك
الخديو إسماعيل منفاه في إيطاليا، ونشر عام ١٨٨٦م كتابًا بالإنجليزية بعنوان: «أدب
مصر والسودان من العصور القديمة حتى عام ١٨٨٥م»، ورتب قائمة المصادر ترتيبًا
أبجديًّا حسب الموضوع والمؤلف، وشملت تلك القائمة المصادر العربية والمراجع بمختلف
اللغات الأوروبية التي تناولت جميع العصور، وأهدى الكتاب إلى «الخديو إسماعيل»، وقد
جاء بمقدمة الكتاب:
«إن المعرفة المصرية بجميع فروعها كانت ذات قوة جذب ساحرة لكل مؤلف شهير، في كل
عصر من العصور، وسواء كانت مناسبة هذا الافتتان حكمة وردت في التعاليم الهيروغليفية
لكتاب الموتى، أو تتعلق بمقولة تتصل بمسألة اجتماعية أو اقتصادية، فهناك دائمًا
معلومات مثمرة عن خلاصة المعرفة الفرعونية، يقع عليها من يعرف كيفية الوصول إليها.»
١٣٥
كذلك لعب النفي عقابًا على تأييد الثورة العرابية، دورًا في شحذ الشعور بالهوية
المصرية عند محمد المويلحي، فعندما عاد من منفاه، كتب «حديث عيسى بن هشام، أو فترة
من الزمان» نشرها منجمة على صفحات جريدة «مصباح الشرق» التي أسسها مع والده إبراهيم
المويلحي عام ١٨٩٨م. وفي ذلك العمل يصطحب الراوية الخيالي أحد الباشوات من أيام
محمد علي في رحلة في مصر وأوروبا، معلقًا على مظاهر التغير الذي حدث في الحياة
والمجتمع، بما في ذلك الموقف من الآثار،
١٣٦ وقد ظهر العمل في شكل كتاب عام ١٩٠٥م، وأعيد نشره فيما بعد.
وضمَّن المويلحي آراءه هذا العمل التخيلي، فعند وصفه لزيارة الهرم، يطرح العديد
من الآراء: فالأهرام دليل على عظمة حضارة مصر القديمة، وهي رمز للاستعباد والطغيان،
وهي مكان للمرح والرقص الفاحش، وهي، مصدر رزق للبدو الذين يتعيشون على الأهرام
وابتزاز السياح. وعند وصفه لزيارة المتحف المصري — وكان عندئذٍ بالجيزة — يطرح
الفكرة القائلة بأن الآثار تقوم شاهدًا على عظمة مصر الفرعونية، ويبدي أسفه لعدم
وجود كتب بالعربية تحمل هذه الرسالة، ويقدم شخصية أخرى ترى في تلك الآثار أشياء
بالية لا نفع منها سوى بيعها للأجانب، ولا يقبل انتسابًا لغير العرب الكرام، وينتقد
إنفاق الملايين على الحفائر الأثرية وإقامة المتاحف في بولاق والجيزة، والمتحف
الجديد الذي كان لا يزال في مرحلة البناء.
وجاء نفي الشاعر أحمد شوقي فيما بعد، عندما خلع عباس حلمي الثاني من منصبه، وكان
شوقي من حاشيته يلعب دور شاعر القصر. وقد ألقى قصيدة أمام مؤتمر المستشرقين الدولي
بجنيف عام ١٨٩٤م تناول فيها أحداث وادي النيل، مشيدًا بعظمة الفراعنة والبطالمة إلى
جانب مجد الإسلام. ونوه بالوحدانية على يد موسى وعيسى ومحمد، ولكنه أشاد أيضًا
بإيزيس، ووضع الهكسوس، والفرس، والرومان، والصليبيين في مصاف الغاصبين الذين ما
لبثوا أن أزيحوا من البلاد.
١٣٧
ولم تكن أعمال أحمد كمال، وأحمد نجيب هي وحدها في متناول قراء التاريخ، بل كانت
هناك كتب عامة كتبها غير المتخصصين، مثل أحمد حسن الذي كتب تاريخًا عامًّا لمصر حتى
الفتح العربي (١٨٨٨م)، وحسين زكي مؤلف كتاب «تاريخ الشرق القديم» (١٩٨٢م) الذي خصص
مجلدًا لكلٍّ من مصر القديمة، والعراق وبابل، وفارس، وميديا، ومملكة صور.
١٣٨ وإسماعيل سرهنك، مؤلف كتاب «حقائق الأخبار عن دول البحار»،
١٣٩ وهو كتاب في تاريخ العالم يركز على الشئون البحرية خصص المجلد الثاني
لمصر، كان نصيب العصر الفرعوني منه ثماني عشرة صفحة فقط من مينا إلى الإسكندرية،
وتسعة عشر صفحات أخرى من الإسكندر حتى الفتح الإسلامي. واستخدم سرهنك مراجع عربية
وأوروبية من بينها مانيتو، وعبد اللطيف البغدادي، ومارييت، وكذلك أحمد نجيب «الأثر
الجليل».
وقدم ميخائيل شاروبيم (١٨٥٣–١٩٢٠م)
١٤٠ «الكافي في تاريخ مصر القديم والحديث» تفاصيل أكثر مما جاء في سرهنك عن
مصر القديمة، فعالج حكم الأسرات الثلاثين حتى الإسكندر في ١٧٨ صفحة مكتظة الأسطر.
وشاروبيم قبطي قاهري، التحق في سن الرابعة عشرة بقسم المطبوعات الإفرنجية بنظارة
المالية، وعمل قاضيًا بالمحاكم الأهلية، وتقاعد عام ١٩٠٣م. وتناول المجلد الأول من
كتابه مصر القديمة من نوح حتى الفتح العربي، وتناول المجلد الثاني الفترة من الفتح
العربي حتى الغزو العثماني عام ١٥١٧م، والثالث من بداية الحكم العثماني حتى تولية
محمد علي، والأخير من محمد علي حتى وفاة توفيق.
ويشبه المجلد الأول من كتاب شاروبيم كتاب «أنوار توفيق الجليل» للطهطاوي من حيث
الترتيب، والنطاق، والمحتوى: فكلاهما يغطي تاريخ مصر حتى الفتح العربي. ويقدم
شاروبيم في الصفحتين الأوليين معلومات مستقاة من الإنجيل عن آدم، ونوح، والطوفان،
واستقرار حام بن نوح في أفريقيا، ثم مصرائيم بن حام الذي أعطى اسمه لمصر، وهو الاسم
الذي عرفت به في اللغات السامية. وكما فعل الطهطاوي، قام شاروبيم بالربط بين قصص
الإنجيل، ومينا الذي ذكره مانيتو «الذي يقال: إنه مصرائيم الذي ورد ذكره بالتوراة».
١٤١ ويورد شاروبيم ما ذكره ليبسيوس، وهنريش بروجش، ومحمود الفلكي عن عمر
الأهرام والغرض من بنائها،
١٤٢ واستخدامه لعمل الفلكي يعزز جهد العلماء المصريين المحدثين في البحث في
مصر القديمة. ويقدم شاروبيم تواريخ ما قبل الهجرة (مقدرة بالتقويم الشمسي)، ولكنه
يضيف إلى جانبها تواريخ ما قبل الميلاد على عكس ما فعل الطهطاوي. ومثلما فعل
الطهطاوي، تناول شاروبيم الأسرات الثلاثين التي ذكرها مانيتو، ثم الإسكندر،
فالبطالمة، والروم البيزنطيين، ثم الفتح الإسلامي، ويقطع السرد بإيراد مقالات في
موضوعات محددة.
ويورد شاروبيم ما ذكره يوسيفيوس من أن المؤرخين الإغريق لا يذكرون «ما جاء بالكتب
السماوية» عن الخروج، ثم خصص بضع صفحات لموسى، جاعلًا الخروج في عهد مونبتاح (الذي
يخطئ في هجاء اسمه) ابن رمسيس الثاني، وقال: إن رمسيس الثاني يعادل سيزوستريس عند
الإغريق، ولاحظ أن «بعض المؤرخين» يذكرون «داناوس المصري» الذي أسس المستعمرات في
اليونان على أنه شقيق رمسيس الثاني.
١٤٣
وقد تجاوز الطهطاوي في محاولة التوفيق بين الفراعنة الأسطوريين في الفكر التقليدي
العربي، وقائمة مانيتو، والآثار؛ فالغازي الآسيوي مؤسس الأسرة الخامسة عشرة —
سالاتس — «معروف عند العرب بالوليد بن الرقة»، وأبابي أو أيوفيس من الأسرة السادسة
عشرة يعرفه العرب باسم الربان بن الوليد الذي كان يوسف وزيرًا له. واستخدم شاروبيم
علم المصريات في الرجوع إلى معاهدة رمسيس الثاني مع ملك الحيثيين، ونقوش بيانخي
بجبل برقة المودعة بمتحف بولاق وتصف غزوه لمصر.
١٤٤
ويشارك شاروبيم الطهطاوي وافتخاره باعتراف اليونان بريادة مصر للحضارة، ويسير على
نهج الطهطاوي ومؤرخي الغرب في إبراز طغيان الغزاة الفرس، والترحيب بالإسكندر كمحرر.
ويفرد شاروبيم صفحات للفترة من الإسكندر إلى الفتح العربي تعادل ما خصصه
للفراعنة.
وفي مطلع القرن العشرين، كان الوطنيون يأخذون على التعليم الخاضع للإنجليز إهماله
تاريخ مصر القديمة، وعندما سافر سلامة موسى إلى أوروبا بعد إتمامه الدراسة الثانوية
عام ١٩٠٧م، شعر بالحرج لعجزه عن الإجابة عن أسئلة حول مصر القديمة، واتهم موسى
الإنجليز بإقصاء تاريخ مصر القديمة من برامج الدراسة بالمدارس، حتى لا يؤدي تدريسه
في المدارس إلى تغذية الروح الوطنية والمطالبة بالاستقلال.
١٤٥ ورأى مصطفى كامل — مؤسس جريدة «اللواء» والحزب الوطني — في مصر أول بلد
متحضر في التاريخ، كانت لها السبق على الجميع.
١٤٦ وبعد وفاته في ريعان الشباب، خلد المصريون ذكراه بتمثال برونزي يستند
إلى رأس أبي الهول، لا يزال يزين ميدان مصطفى كامل.
أما لطفي السيد الذي ينتمي إلى حزب الأمة، والذي ركز جهوده على الإصلاح التدريجي
وليس الاستقلال الفوري، فقد التمس لرؤيته القومية جذورًا متينة في مصر القديمة،
ودعا إلى زيارة المتاحف والمواقع الأثرية الفرعونية والإسلامية «لأننا في حقيقة
الأمر لا نعرف الكثير عن وطننا وأمجاده بقدر ما يعرف السياح.»
١٤٧ وكتب في هذا السياق:
«لا أطالب كل مصري أن يُظهر قدرة على الملاحظة كشامبليون، ولا معرفة بالآثار
المصرية كماسبيرو، ولا براعة في الآثار مثل كمال بك. فما نحن بحاجة إليه محاضرات
منتظمة، وتعليم مستمر، بالجامعة المصرية وغيرها من المنشآت العلمية، من النوع الذي
ييسر لأبناء مصر سبيل التعرف على الماضي المجيد، ليس بطريقة علمية متعمقة، ولكن على
نحو ما يفعل السائح الأوروبي الذي يزور بلادنا من تحصيل للمعرفة عن تاريخنا وتاريخ أجدادنا.»
١٤٨
وإذا أحصينا الكتب العربية التي نشرت عن مصر القديمة نجد أن هناك كتابين نشرا في
السبعينيات، وثلاثة في الثمانينيات، وستة في التسعينيات، و٢٤ كتابًا فيما بين
١٩٠٠ و١٩١٤م. ويوحي الرقم الأخير بزيادة — وإن كانت متواضعة — في الاهتمام بمصر
الفرعونية، لعله كان مشجعًا لأحمد كمال.
غير أن «علم المصريات للمصريين» — شأنه شأن الاستقلال — بدا محيرًا عشية الحرب
العظمى. فقد أدى رفض مصلحة الآثار المصرية توظيف خريجي قسم الآثار المصرية
بالمعلمين العليا، إلى إغلاق القسم عام ١٩١٣م. ومني مشروع متحف أسيوط بفشل ذريع،
فقد تسربت الآثار التي تم الكشف عنها إلى الأسواق، واضطرت مصلحة الآثار إلى إلغاء
ترخيص التنقيب الذي أعطته لأحمد خشبة باشا. وفي الجامعة المصرية ابتعدت مادة «الشرق
القديم» عن التركيز على مصر الفرعونية. وفي أوائل العشرينيات قام طه حسين بتدريس
التاريخ اليوناني-الروماني مع الاهتمام بمصر في العصرين البطلمي والروماني.
١٤٩
وعند تقاعد أحمد كمال عام ١٩١٤م، لم يكن هناك من يخلفه على الساحة من المصريين،
وكان ولده حسن قد ذهب إلى إنجلترا لدراسة المصريات، ولكنه اتجه إلى دراسة الطب
هناك. ووجد تلميذا أحمد كمال: سليم حسن، ومحمود حمزة (الذي تزوج ابنة كمال) وجدا
نفسيهما يعملان بالتدريس بالمدارس الثانوية، وحاولا الإبقاء على معرفتهما بالمصريات
بالتردد على المتحف والارتباط بأستاذهما أحمد كمال. وحتى شفيق غربال — الذي أصبح
مؤرخًا شهيرًا لمصر الحديثة — عمل مدرسًا بالمدارس الثانوية، وبدا أن المصريات
ستفقد جيلًا آخر من المتخصصين.
١٥٠
وجاءت ضربة أخرى عام ١٩١٦م، عندما هاجم جورج دارسي — سكرتير عام مصلحة الآثار —
مقالًا لأحمد كمال، فلم ينقد ما تناوله من نقاط فحسب، بل شكك في كفاءته في فقه
اللغة المصرية القديمة، وأدت العداوة الشخصية إلى زيادة حدة الصدام، فقد كان دارسي
الذي يصغر أحمد كمال بثلاثة عشر عامًا هو الذي تعرَّض لمنافسة من جانب أحمد كمال في
الترقية قبل ربع قرن من الزمان، ورغم أن دارسي انضم للمجمع العلمي المصري قبل أحمد
كمال بعشر سنوات، وتخطاه في الترقيات بمصلحة الآثار.
هاجم دارسي الدراسة التي قدمها أحمد كمال بالمجمع العلمي المصري، ونشرت بمجلته،
وكانت تعنى بتحليل أصول الرموز الهيروغليفية. ورأى كمال أن الكلمة اليونانية
Aiguptos التي جاء منها اسم مصر يعود أصلها
إلى مدينة قفط بالصعيد
Coptos وليس إلى اسم معبد
بمنف على نحو ما ذهب إليه هنريش بروجش. ويبدو أن وطنية كمال جعلته يبحث لكلمة «مصر»
الاسم العربي لمصر عن جذور هيروغليفية بدلًا من أن ينسب المصطلح إلى جيران بلاده الساميين.
١٥١
وقال دارسي: «إن أحمد كمال قدم عددًا من التأكيدات التي لا يقبل بها متخصص
بالمصريات»، وأن كمال وقع في خطأ لغوي وتاريخي فادح عندما جعل للرموز الهيروغليفية
ما يقابلها من بعض الحروف العربية، وتعديله لترتيبها حسبما أراد، واتهم كمال بإغفال
السياق التاريخي للكلمات الهيروغليفية، والمبالغة في تأثير الساميين — وفيهم
العرب — على مصر القديمة.
١٥٢
وقد تصدى أحمد كمال لدارسي كاتبًا ومحاضرًا بالمجمع العلمي المصري، فقال: «إن
اللهجات المصرية القديمة اختلفت من حيث درجات الصوتيات لبعض الرموز، وأنه اتبع
قواعد فقه اللغة في تغيير المعاني. ودافع عن القائمة الطويلة للكلمات العربية التي
استخلصها من اللغة المصرية، وأعلن أن «اللغة المصرية هي اللغة الأم للعربية، وكذلك العبرية».»
١٥٣ وإذا كانت وطنية أحمد كمال قد أثرت على علمه، فإن بتري لا يخلو من
الذنب من هذه الناحية. ويجب النظر إلى ما فعله دارسي في السياق الإمبريالي لذلك
العصر.
وفي نفس العام — ١٩١٦م — أعلن أحمد كمال انتهاءه من كتابة ١٦ مجلدًا من قاموس
اللغة المصرية وما يقابلها من العربية والفرنسية، الذي يقع في ٢٢ مجلدًا. وقابل حسن
بن أحمد كمال بين العمل الفردي الذي قام به والده، وعمل الفريق الذي قاده إيرمان في
برلين لإعداد قاموس ضخم للغة المصرية. واختفت خطة قاموس كمال بوفاته، ولا يُعرف
مصير ما قام به من عمل يجمع بين العلم والوطنية، وهكذا عندما عطلت الحرب العالمية
الأولى الجهود العادية، كان جيل ماسبيرو، وبتري، وإيرمان، وأحمد كمال قد ارتقى بعلم
المصريات إلى مدى يفوق ما حققه مارييت، وليبسيوس، وبيرش من قبل. وجاء التقدم الذي
تحقق في مجالات علم المتاحف، وفقه اللغة، والنقوش، وتاريخ الفن، والتاريخ،
والأساليب الفنية للتنقيب عن الآثار. ولكن الصورة من المنظور الوطني المصري لم تكن
مشجعة. كان الاهتمام بمصر القديمة ينضح عن النخبة المتعلمة، ولكن كفاح أحمد كمال
لجعل علم المصريات للمصريين مني بالفشل، وشُغل بعد تقاعده بالعمل على إعداد قاموسه.
ولم يكن يعلم أن جهوده ستثمر فجأة بعد نهاية الحرب في إصرار الوطنيين على بسط
سيطرتهم على مصلحة الآثار، وإعداد المصريين المتخصصين في المصريات، وفي الزهو
الوطني بإنجازات قدماء المصريين.
وفي مجال الآثار الإسلامية الأقل تقدمًا، قامت «لجنة حفظ الآثار والفن العربي»
عام ١٩١٤م بوضع خطة للمحافظة على الآثار الإسلامية والقبطية، وعندما حرمت الحرب
اللجنة من رئيسها ماكس هرتز فجأة، برز علي بهجت بجهده الشخصي كرائد للآثار
الإسلامية، وأول مدير مصري لمتحف الفن العربي، ويعالج الفصل السادس هذه
التطورات.