الفصل السادس
الفن الإسلامي والآثار والاستشراق لجنة حفظ الآثار وعلي بهجت
«لم تبلغ أي أمة الدرجة العالية التي بلغها العرب في العمائر الحجرية، وبراعتهم في
البناء لا يعادلها سوى عدم اهتمامهم بالحفاظ على ما قاموا ببنائه … فبمجرد أن ينتهي
بناء مسجد أو قصر، يتركونه (دون صيانة) حتى ينهار … والأتراك هم أقل الأمم على وجه
الأرض احتفالًا بالفن، لقد بنى محمد علي، وعباس باشا، وسعيد باشا، وإسماعيل باشا
جدرانًا أكثر مما فعل جميع من سبقوهم، ولكن أي نوع من الجدران تلك، يا سبحان الله! لو
كان أحدهم قد ألهم فكرة إقامة قصر على الطراز العربي! … لوجد حوله أخيرًا كل أنواع
الحفر على الخشب البديعة الصنع، والسقوف ذات الزخارف الملونة والتصميم المتقن،
والمشربيات الرقيقة الأنيقة التي تحاكي أرق الخيوط. ولكنهم أهدروا هذه الكنوز التي كان
يمكن جمعها بأقل جهد ممكن … ولكنهم الأتراك … حاقت بهم لعنة إله الفنون!»
Gabriel Charmes, Cinq Mois au Caire et dans la Basse-Égypte
عبر الصحافي الفرنسي جابرييل شارم عن آرائه تلك عام ١٨٨٠م، قبيل تأسيس «لجنة حفظ
آثار
الفن العربي»، والاحتلال البريطاني لمصر، ويبدو أن تلك الآراء قد فصلت على قياس إدوارد
سعيد. فشارم يعظم من شأن الفن «العربي»، بينما ينتقد صناعه انتقادًا مرًّا، ويصب
اللعنات على الأتراك لتهافت الذوق الفني عندهم، ويهاجم أسرة محمد علي التي تحكم مصر
لإهمالها الحفاظ على الموروث التاريخي.
١ فالتدخل الأوروبي وحده كفيل بإنقاذ الموقف. فبالنسبة لشارم يسير الاستشراق،
والإمبريالية والحفاظ على التراث التاريخي معًا، يدًا بيد.
ويبدو أن هذا الفصل الذي خصصناه لدراسة التواصل الأوروبي — المصري في لجنة ومتحف
الفن
العربي، يدعم نظرية إدوارد سعيد، ولكن الأدلة التي يقدمها تبدو أقرب إلى مؤرخين من
أمثال: جون ماكنزي ومارك كرينسون، الذين يرون الحاجة إلى معالجة أكثر انفتاحًا للتواصل
بين الاستشراق والشرق، تقوم على أسس تاريخية.
٢ فالإمبريالية في مصر لم تكن وحدانية الطابع، والأوروبيون من أعضاء «لجنة
حفظ آثار الفن العربي» لم يكونوا — ببساطة — أدوات في خدمة النزعات الإمبريالية
لبلادهم. فقد جاءت الشخصيات الرئيسية في اللجنة فيما بين ١٨٨١ و١٩١٤م من بلاد ليس لها
في
مصر سوى تطلعات إمبريالية متواضعة، ونعني بذلك الألماني يوليوس فرانتز، والنمساوي-المجري
ماكس هرنز.
وعلى الجانب المصري كان علي بهجت يماثل أحمد كمال، ولكن في مجال الآثار الإسلامية
ومتحف الفن العربي، وكان عليه أن يناضل — مثل كمال — معركة الصعود بتكوين نفسه كمتخصص
في الآثار الإسلامية في ظل سطوة الإمبريالية الغربية. وقد انضم علي بهجت في شبابه إلى
جمعية سرية، وكاد يفقد وظيفته نتيجة اصطدامه بمستشار المعارف البريطاني دوجلاس دانلوب.
غير أنه تعلَّم من الأوروبيين — مثلما فعل كمال — وعمل بجد واجتهاد لينال اعتراف الأوساط
العلمية الدولية.
وعلاقة علي بهجت بيعقوب أرتين تعكس التركيبة التي تجمع بين الأصل العرقي، والعقيدة
الدينية، والوعي الوطني في الشرق الأوسط الحديث، فعلي بهجت مصري مسلم من أصول تركية،
بدأ حياته العلمية في متحف الفن العربي برعاية أرتين، الأرمني المتمصر الكاثوليكي،
وصديقه ورئيسه الوزير حسين فخري. وقد يرفض الوطنيون أرتين وفخري باعتبارهما من
المتعاونين مع الإمبريالية، ولكنهما أنقذا علي بهجت من طغيان دانلوب، ووجهاه نحو مستقبل
لامع في الفن والآثار الإسلامية.
وعمل علي بهجت تحت رئاسة ماكس هرتز النمساوي-المجري رئيس لجنة حفظ آثار الفن
العربي، وأمين متحف الفن العربي، الذي انتهت مدة خدمته فجأة عند وقوع الحرب العالمية
الأولى؛ لأنه أصبح عدوًّا — في أعين الإنجليز — بحكم كونه من رعايا دولة معادية
لبريطانيا. وكان بهجت قد بدأ بالفعل حفائره في الفسطاط — أول حاضرة عربية — إسلامية
لمصر — تلك الحفائر التي ستجعل من بهجت رائدًا للآثار الإسلامية، وبرحيل هرتز أصبح بهجت
مرشحًا ليكون أول مصري يدير متحف الفن العربي.
وتمثل منشورات «لجنة حفظ الفن العربي»، التي لم يهتم أحد بالرجوع إليها عند دراسة
تاريخ مصر الثقافي، تمثل مصدرًا أساسيًّا لهذا الفصل. فقد احتفظ أوروبيون من أعضاء
اللجنة بمحاضر تغطي الكثير من تاريخها، ولكن الأمر يتطلب قراءة فاحصة للتعرف على وجهات
نظر المصريين من الأعضاء.
وكان اختيار المصطلح في هذا الفصل محيرًا، تُرى، هل من الأفضل استخدام مصطلح «الفن
العربي» الذي شاع منذ البداية، أو استخدام مصطلح «الفن الإسلامي» الذي لا يعرف سواه
اليوم؟ في أواخر القرن التاسع عشر، آثر ستانلي لين بول استخدام مصطلح «فن السراقنة» على
استخدام مصطلح «الفن العربي»، ومصطلح «المحمدي» على مصطلح «الموري»، وهي جميعًا مصطلحات
بائدة اليوم. ولما كان تمييز مارشال هودجسون بين «الإسلامي» و«المتأسلم» لم ينل حظًّا
من الشيوع، فلا يبقى أمامنا سوى الاختيار بين «الفن الإسلامي» و«الفن العربي». واستخدام
مصطلح «الفن العربي» يتضمن مخاطرة الاعتقاد بأن العرب، والترك، والفرس، والبربر،
والعناصر الزنجية، واستخدام المصطلح — أيضًا — يتنافى مع واقع الدولة العثمانية متعددة
اللغات والأعراق، وولاية مصر التابعة لها، والدول الإسلامية السابقة عليها. وعلى كلٍّ،
يثير مصطلح «الفن الإسلامي» اليوم نفس النوع من التساؤلات التي حيرت هودجسون من قبل
مثل: هل يستطيع المعماري أو الحرفي المسيحي أن ينتج فنًّا إسلاميًّا؟ لقد فضل هذا
الكتاب عدم الاتساق العرضي على الاتساق السطحي الذي يغلف هذه الإشكالية. وسوف نستخدم
مصطلح «الفن العربي» أحيانًا عندما نتكلم عن المنظور الأوروبي المبكر لهذا الفن، ومصطلح
«الفن الإسلامي» عندما نتناول ما يعكس المنظور الحالي.
٣
إرهاصات حفظ الآثار — القاهرة على طريقة هاوسمان
لو قُدر لإدمي فرانسوا جومار أن يزور القاهرة بعد ستين عامًا من رسمه لخريطتها
بتكليف من بونابرت، لما وجد صعوبة في التعرف على المدينة. وكتب آرثر رونيه عام ١٨٦٣م
الذي شهد تولية إسماعيل الحكم: «مدينة القاهرة ما زالت على حالها؛ فعلى الأقل
استمرت آثارها في الوقوع — بهدوء — في وهدة الخراب على طريقة الشرق الأبدية، وعلى
الأقل لم تبذل أي محاولة على طريق الأعمال التي يقال لها [تحسين] أو [ترميم]».
٤
ظلت طبوغرافية وسكان القاهرة على حالهما في حكم محمد علي، على نقيض ما شهده ميناء
الإسكندرية من ازدهار، ورغم التغيرات بعيدة المدى التي حدثت في عهده. قام محمد علي
بردم بركة الأزبكية وأزال المصاطب التي تعوق المرور، وعمل على كنس الشوارع وإزالة
النفايات، ووسع شارع الموسكي وزاد من طوله، وبدأ شق شارع محمد علي لربط الأزبكية
بالقلعة. وأهمل عباس الأول فكرة شق الطرق، وأضاف ضاحية العباسية العسكرية، وسمح
لشركة بريطانية ببناء الخط الحديدي الذي يربط القاهرة بالإسكندرية. وبدأ العمل في
حفر قناة السويس في عهد سعيد — وحملت اسمه مدينة بورسعيد — غير أنه لم يدخل تغييرًا
جذريًّا على القاهرة.
٥
وتم تغيير ذلك كله على يد إسماعيل، الذي أدى اهتمامه بالتجديد الحضري إلى تغير
وجه القاهرة، ووضع أسس إقامة «لجنة حفظ الآثار» ومتحف الفن العربي. وراحت إميليا
إدواردز تتحسر — عام ١٨٨٢م — على القاهرة القديمة، «قبل عشرين عامًا. كانت قاهرة
الخلفاء لا تزال كما هي، فيما عدا عاديات الزمن بمآذنها الجميلة ومساجدها المنمقة،
وأسبلتها العامة، وبواباتها العريقة، رغم أنها كانت تتجه ببطء نحو التداعي في بلد
لا يبذل فيه أي جهد لوقف تقدم ذلك التداعي، غير أنها كانت تبدو بديعة في حالتها
البائسة كما كانت في أيام عزها.»
٦
قام مخطط المدن البارون جورج هاوسمان بمرافقة الخديو إسماعيل عند تفقده باريس
الجديدة أثناء المعرض الدولي عام ١٨٦٧م.
٧ وكان علي مبارك بصحبة إسماعيل في تلك الجولة، ودفع إسماعيل مبارك إلى
تقليد عمل هاوسمان بالقاهرة لتناظر باريس نابليون الثالث. وقد ربطت بين إسماعيل
ومبارك زمالة دراسة قديمة عندما كانا معًا في البعثة الدراسية بباريس في
الأربعينيات، فقاما بإقحام محمود الفلكي الذي درس — أيضًا — بباريس في الخطة، فكلف
بوضع مخطط لتجديد القاهرة. وتضمن المخطط ميادين محورية تتفرع منها طرق شعاعية،
وحدائق عامة، مع إنارة الشوارع بالغاز، ومدها بالمياه، وإقامة جسر عبر النيل، وطريق
يربط القاهرة بالأهرام، وحتى دار للأوبرا على نسق لاسكالا في ميلانو. وعندما استضاف
إسماعيل كبار الشخصيات الأوروبية لحضور حفلات قناة السويس عام ١٨٦٩م، كان باستطاعته
أن يطلعهم — على الأقل — على ما ستكون عليه القاهرة التي خطط لها أن تعكس صورة باريس.
٨
وتضمن حي الإسماعيلية الذي يقع بين الأزبكية والنيل طرقًا متفرعة من ميادين
محورية، وكان ميدان قصر عابدين ذو الطراز الكلاسيكي الجديد، واحدًا من تلك
الميادين. وتدهورت المدينة القديمة المكتظة بالسكان — التي أصبحت تعرف بقاهرة
«العصور الوسطى»، أو «بالإسلامية» أو «بالفاطمية» — عندما تبع علية القوم الخديو في
هجرته إلى الأحياء الحديثة. وكانت طرقها الضيقة غير المنتظمة تعج بالمشاة والدواب،
ولكن العربات ذات العجلات عادت إلى طرقها في القرن التاسع عشر، لأول مرة منذ عهد
الرومان. وكان محمد علي أول من استخدم عربة ركوب أوروبية الطراز، في مدينة القاهرة،
وبحلول عام ١٨٧٥م كانت هناك تسعمائة عربة ركوب بالمدينة، وضعف هذا العدد من عربات
نقل البضائع.
٩ وهنا تم شق الطرق عبر المدينة القديمة لتيسير حركة العربات فيذكر آرثر
رونيه:
«يعد شارع محمد علي أحد (المنشآت) الكبرى بالقاهرة وموضع الفخر والاعتزاز. لقد
خرج كالطلقة من الأزبكية دون أن يدري أين يذهب، ووجد نفسه بعد كيلومترين يصب عند
الميدان الذي يحتل جانبًا منه مسجد السلطان حسن الذي لم يستطع تفاديه. وخلال مسيرته
جرف في طريقه تلًّا مليئًا بالبيوت والمساجد … ولاستكمال هذا الطريق بعد تفاديه
مسجد السلطان حسن، اقتطع ركنًا هائلًا من جامع الأمير قوصون (١٣٢٩م)، أحد أكبر وأجمل
المساجد.»
١٠
وأدان جابرييل شارم الأسرة الحاكمة لإهدارها الناحية الجمالية: «إن ما أخذه
إسماعيل باشا على وجه الخصوص — من الفنون يمثل تركيبة غير مستساغة من أكثر الأساليب
الأوروبية ابتذالًا، وأكثر الأساليب التركية بشاعة.»
١١ وكان الأوروبيون من زوار القاهرة لا يبحثون عن باريس، ولكن عما استقر
في مخيلتهم عن «ألف ليلة وليلة». وعبر لين بول عن حنينه لإنجلترا المفقودة، وأمله
في القاهرة التي ما زالت تنتمي إلى العصور الوسطى، ولكنه أضاف:
«إن من حق الفنانين وعشاق القديم، الذين يهتمون مثلي بالماضي أكثر من اهتمامهم
بالمستقبل، أن يشعروا بالأسى لتلك التغيرات التي تتم في مصر بتأثير الأوروبيين،
ولكن … هذه التغيرات لا يمكن تفاديها، وتعد محاولة سد الطريق في وجه تلاشي النظام
القديم في القاهرة مضيعة للوقت، تمامًا كما لو كنا نحاول تبديد انتصار الديمقراطية
المعيبة في إنجلترا.»
١٢
وحتى عندما حاول إسماعيل أن يبعث السرور في نفوس الأوروبيين بترميم الآثار، لم
يحقق نجاحًا، وفي ذلك تقول إميليا إدواردز:
«هناك طريقتان تتبعان في الترميم: أولهما أن يهدم البناء القديم ثم يعاد بناءه
على أساس تقليد الأسلوب الإيطالي القوطي، والأخرى أن يهدم جزئيًّا، وتنزع الزخارف
الخشبية المحفورة من السقوف، وينزع البلاط القيشاني الجميل من الحوائط، ثم يوضع
مكانها الأسمنت والجص، وإحاطة الأخير بشرائح من الجرانيت المصقول أو الرخام. وفي
كلتا الحالتين يباع البلاط للسياح وتجار الآثار، وتتحول الزخارف الخشبية المحفورة
إلى وقود للعمال … وقد تم ترميم مسجدَي السيدة زينب والحسين حسب الطريقة الأولى،
وتقدم مساجد قيصون، والمؤيد، واليوسفي، وأزبك، كنماذج للطريقة الثانية.»
١٣
وكان شارم أقسى في انتقاده:
«ربما كان التدمير الخالص والبسيط أفضل مائة مرة! لأننا نستطيع أن نرى الرخام
النادر بمسجد السلطان حسن يغطى بطلاء زائف يمثل الرخام … فقد قام وزراء إسماعيل
بطلاء الآثار الرئيسية للفن العربي بهذا الطلاء البشع لاستقبال ضيوف احتفالات قناة
السويس. اللهم اغفر لهم، فهم لا يدرون ما يفعلون.»
١٤
حفظ المواقع التاريخية في أوروبا، وتقدير الفن العربي
كان ثمة اتجاهان في أوروبا، مهدا الطريق لقيام لجنة القاهرة ومتحف الفن العربي،
هما: حركة الحفاظ على المواقع التاريخية، وزيادة تقدير الفن «العربي». فقد أطلقت
التغيرات التي خلفتها الثورتان الفرنسية والصناعية، شعورًا قويًّا بالحنين إلى
الماضي، تمثل في الدعوة إلى الحفاظ على المواقع الأثرية. وسعى فرانسوا جيزو — وزير
لوي فيليب — إلى التماس الشرعية لملكية يوليو بدعم مزيج من ذكريات الثورة،
ونابليون، والنظام الملكي القديم. وعينت الحكومة الفرنسية مفتشًا للآثار التاريخية
عام ١٨٣٠م، وأنشأت عام ١٨٣٧م «لجنة الآثار التاريخية». وقد كانت جهود فيكتور هوجو
وراء إقامة هذه اللجنة، وخدم الروائي بروسبير ميريميه كبيرًا للمفتشين باللجنة.
وخاض أوجين إيمانويل فيوليه لودوك — كبير المعماريين باللجنة — معركة لإحياء الطراز
القوطي في العمارة ضد دعاة النزعة الكلاسيكية الجديدة الذين اتخذوا من «مدرسة
الفنون الجميلة»، ومجلس مباني الدولة موقعًا لهم. وكانت فلسفة فيوليه لودوك ترمي
إلى انتزاع الإضافات المتأخرة الغربية من الأثر، وأن يتم — عند الضرورة — إعادة
بناء أجزاء منه مطابقة للنمط الأصلي.
وبحلول الخمسينيات، اضطر هاوسمان نفسه أن يقدم بعض التنازلات إزاء المواقع
الأثرية عند إعادة تخطيط باريس.
١٥ وفي عام ١٨٨٧م، صدر أول قانون فرنسي يجيز نزع ملكية المنشآت الخاصة ذات
الطبيعة التاريخية.
ولم تعرف بريطانيا التي تبنت حرية العمل، لجنة مماثلة للجنة الفرنسية للآثار
التاريخية، ولكن قام وليام مورس وبعض أتباع جون راسكين بتشكيل «جمعية الآثار
القديمة» عام ١٨٧٧م. ودعا راسكين إلى ترميم الآثار وإبقائها على حالتها الراهنة،
متأثرًا في ذلك بفيوليه لودوك. وفي العام ١٨٨٢م أنشأت بريطانيا «تفتيش الآثار
القديمة» برئاسة اللفتنانت جنرال بت ريفرز،
١٦ وذلك بعد فرنسا بنصف قرن من الزمان. وتبع ذلك صدور قانون ضعيف لحفظ
المواقع التاريخية عام ١٨٣٣م، ولم يصدر قانون حازم لهذا الغرض إلا عام ١٩٣١م. وقد
استوردت القاهرة اللجنة متأثرة في ذلك بالنموذج الفرنسي، مثلما كانت الحال بالنسبة
للكثير من المؤسَّسات، ولم يكن هناك بديل بريطاني في الأفق بعد.
١٧
كانت الإشارات الضمنية عن الكتاب المقدس، والكلاسيكيات والفراعنة في الفن الغربي،
جزء من سعي الغرب إلى الماضي الذي يدور في مخيلته. فالأفكار الفنية التي صور بها
العرب أو الترك أو الفرس، أبرزت — على النقيض — «الآخر الشرقي» الذي يكن مختلف صنوف
العداء، كما يعد غريبًا. فقد أضاف الرحالة المبشرون الكاثوليك إلى جولاتهم الدينية
في القرنين السابع عشر والثامن عشر، زيارة الخرائب الفرعونية والكلاسيكية، ولكنهم
نفروا من زيارة المساجد، واعتبروها معاقل شاذة للتعصب والهرطقة، وحتى لو أرادوا
زيارة المساجد لم يكن مسموحًا — عندئذٍ — لغير المسلمين بدخولها. وقد شذ عن ذلك
القنصل الفرنسي بينوا دي ماليه والفنان لوي فرنسوا كاساس اللذان أبديا تقديرهما
لمساجد القاهرة، وهو أمر مألوف في القرن الثامن عشر. فقد كتب دي ماليه: «إن المرء
لا يستطيع أن يبدي إعجابًا كافيًا بجمال تلك القباب، وعظمتها، ونسبها الهندسية،
وشموخها، والفخامة المدهشة لبعضها. والزخارف الداخلية التي تزينها لا تقل جدارة
بالاهتمام، بعضها يتخذ طابع الإفريز (الكرانيش)، والبعض الآخر يمثل زهورًا متداخلة،
وبعضها من الخشب المعشق …»
١٨ وعلى كلٍّ، حذف دي ماليه من لوحاته المباني الإسلامية، وعبر عن ذوق
كلاسيكي متحفظ، عندما اقترح نقل عمود بومبي من الإسكندرية إلى باريس، وليس مسلة
كليوباترا المغطاة بالنقوش الهيروغليفية التي قام برسمها. وكانت الأخيرة هي التي
جذبت اهتمام خلفائه في القرن التاسع عشر.
وبين كتاب دينون «رحلة إلى مصر» (١٨٠٢م) المساجد مظللة على البعد.
١٩ وتضمن «وصف مصر» لوحات تفصيلية عن مسجد السلطان حسن، وغيره من المساجد،
ولكن النص لم يحتو إلا على القليل عن العمارة الإسلامية. ويشكو شارم من أن «رفاق
بونابرت» شغفوا بالخرائب الكلاسيكية والفرعونية، ولكنهم «ذكروا القليل عن قيمة آثار
القاهرة التي وردت باللوحات … وعندما صوروا مسجد السلطان حسن، نسوا شيئًا واحدًا:
الإفريز العظيم الذي يتوج هذا الصرح.»
٢٠ ويأتي غياب القاهرة الإسلامية من لوحة الغلاف لوصف مصر مؤكدًا لهذه
النقطة.
ومع مرور عقود القرن التاسع عشر، كان ثمة نوعان — على الأقل — من الاستشراق سعيًا
وراء فهم جوهر الثقافة الإسلامية. وأحد هذين النوعين كان إدوارد وليم أستاذًا فيه،
يقوم على فهم المجتمع الإسلامي من خلال النصوص العربية مثل القرآن، وألف ليلة
وليلة، والنوع الآخر يتمثل في الرسم والتصوير الفوتوغرافي، ورسم العمارة والشوارع،
والطبيعة، والأشخاص (وتصور غالبًا «نماذج» عرقية). وكانت كلمة «مستشرق» عند
الفرنسيين تجمع بين الرسام والعالم. ورغم أن لين استخدم النصوص الأدبية لفهم جوهر
المجتمع الإسلامي والمصري، فقد قدم الكثير من الرسومات. ويعتمد كتابه «عادات
وتقاليد المصريين المحدثين» على وسيلة استشراقية ثالثة هي التحقيق الشفاهي
والملاحظات الإثنوغرافية.
٢١
وقد اكتسبت «ألف ليلة وليلة» شعبية في الغرب بفضل ترجمتها الفرنسية التي قام بها
أنطوان جالاند (١٧٠٤–١٧١٧م)، وما تلا ذلك من ترجمتها عن الفرنسية إلى الإنجليزية،
ورجع كل من إدوارد وليم لين، وريتشارد بيرتون إلى النص العربي عند قيامها بتقديم
ترجمات منافسة للترجمة القديمة (نشرت في ١٨٣٨–١٨٤١م و١٨٨٥م على التوالي)، وقد قام لين
بحذف الفقرات التي تناولت مشاهد جنسية صريحة، أما بيرتون فقد أبقى عليها. وقام
ستانلي لين بول فيما بعد بفصل ملاحظات عمه العظيم لين التي كتبها باستفاضة في حواشي
ترجمته لألف ليلة وليلة عن نص الترجمة، وأعاد نشرها بعنوان: «المجتمع العربي في
العصور الوسطى: دراسات من ألف ليلة وليلة» (١٨٨٣م). وفي مجال الحديث عن التجارب
الشخصية في القاهرة، أعلن لين بول أن إدوارد وليم لين «لم يقع في أي مفارقات
تاريخية: لأن المجتمع العربي الذي تحرك فيه صلاح الدين، وبيبرس، وبرقوق، وقايتباي …
بقي غالبًا على حاله دون تغيير حتى عصر محمد علي، عندما قضى السيد لين سنوات طويلة
من العلاقات الحميمة مع سكان القاهرة … إن استمرارية التقاليد الاجتماعية العربية
لم تنقطع عمليًّا في الغالب منذ بداية الخلافة حتى القرن الحالي …»
٢٢ ومع وجود علماء يروجون لفكرة جمود الزمن في الشرق، ندر أن نجد سائحًا
يكتب خطابًا لأسرته عن القاهرة المعاصرة دون أن يتمثل «ألف ليلة وليلة».
ولعل تقدير الأوروبيين للفن الإسلامي والعمارة الإسلامية لم يزدهر إلا عندما
أرخوا لها، واعتبروها من «العصور الوسطى» وقد صنف «وصف مصر» الآثار الإسلامية على
أنها «حديثة» فوضعها ضمن «الدولة الحديثة» وليس «القديمة». وجاء ابتداع مصطلح
«أوروبا العصور الوسطى» في القرن التاسع عشر ليفترض قياسًا على ذلك «إسلام العصور
الوسطى»، وبذلك لم تعد «الآثار العربية (أو الإسلامية)» تبدو متناقضة.
٢٣
لم يحظَ المستشرقون الفنانون من أمثال أوجين ديلاكروا، وجان ليوجيروم، وهنري
ماتيس، بالاهتمام إلا في وقت متأخر، ولكن ما يهمنا هنا هم الفنانون الذين جاء
تناولهم للعمارة الإسلامية بالقاهرة موثقًا بصورة قوية. فابتداء من الثلاثينيات
قدمت الكتب التي حفلت بالرسومات توثيقًا تفصيليًّا للفن «العربي» الذي أغفله «وصف
مصر»، وكان لكتاب باسكال كوست «العمارة العربية أو آثار القاهرة» (باريس ١٨٣٩م) فضل
الريادة في هذا المجال، تخرج كوست في «مدرسة الفنون الجميلة»، والتحق بخدمة محمد
علي عام ١٨١٧م بتوصية من جومار، وأصبح فيما بعد كبير المعماريين في حكومة الباشا،
فحصل على أمر من محمد علي يصرح له بدخول وقياس ورسم مساجد القاهرة دون أن يعترض
طريقه أحد.
٢٤ وقد زين صفحة غلاف الكتاب برسم لمنظر طبيعي للقاهرة على ضفة النيل، وهو
ما تجاهله «وصف مصر» (انظر الشكلين رقم
١ ورقم
٣٧).
وتبع ذلك صدور كتاب روبرت هاي «تصاوير القاهرة» (١٨٤٠م)، ثم كتاب دافيد روبرتس
الشهير «مصر والنوبة» (٣ مجلدات، ١٨٤٦–١٨٤٩م) وأتاحت السنوات التي قضاها جون فردريك
لويس بالقاهرة في الأربعينيات فرصة مواتية له لتسجيل مناظر الشوارع والأحوال
الداخلية للقاهرة. وأسهم الفرنسيون بعمل بريس دافين «الفن العربي استنادًا إلى آثار
القاهرة» (٣ مجلدات، ١٨٧٧م) وفيما يتعلق بالآثار الإسلامية خارج مصر تأتي دراسة أوين
جونز للحمراء بالأندلس (١٨٤٢–١٨٤٥م) التي كان لها تأثيرها الخاص. وأدى ارتفاع أسعار
تلك الكتب وضخامة حجمها إلى قصر اقتنائها على المكتبات والأثرياء. وفي منتصف القرن،
انضمت الفوتوغرافيا إلى الرسم في تسجيل صور الفن الإسلامي والعمارة الإسلامية
وبحلول عام ١٨٩٠م حملت «مناظر الشلن» وبطاقة البريد التي تباع ببنس واحد صور مواقع
القاهرة الإسلامية إلى دائرة أوسع من المتلقين.
٢٥
وحتى محبي الفن الإسلامي من أمثال شارم، ولين بول، ويوليوس فرانتز كشفوا عن
تحاملهم على الحضارة الإسلامية التي كانت فادحة العيوب، فيعترف فرانتز بأن «إعجابنا
بتناسق وذوق الزخارف التي لا تدانيها أي مدرسة في العمارة، لا يتوازن مع شعور بعدم
الارتياح من الناحية الجمالية … إن السبب الرئيسي الذي جعل الفن العربي يعجز عن
الوصول إلى مستوى رفيع من التطويع الفني — على نحو ما نرى في الزخارف — يجب أن
نلتمسه في الانهيار المبكر لإمبراطورية الخلافة العظيمة، وفي الظروف السياسية التي
أعقبت انهيارها، واتسمت بالاضطراب، وإلى الاتجاه الذي يتميز به الشرق الذي يفضل
التمسك بالأشكال القديمة، وعدم الميل إلى تغيير ما تم إنجازه من قبل. ولكن الكثير
من الأرابيسك قد يكون مثيرًا، ومهما كان تأثيره على الفن الصناعي، فما زلنا نفتقد
فيه تصوير الكائنات الحية التي تتطلب ذكاءً وحماسًا فعالًا.»
٢٦
وتسبب إعجاب الأوروبيين بالآثار الإسلامية — كما كانت الحال بالنسبة للآثار
الفرعونية — إلى إسراع وتيرة دمارها. ويشكو شارم من أن «هواة الفن العربي المفرطين
في الحماس» يفقدون مساجد القاهرة مشكاواتها الزجاجية، ومنابرها المطعمة بالعاج.
واستنكر لين بول ما يفعله «السياح الهمج بحكم طبيعتهم وعملهم، الذين لا يتوانون عن
تدمير كل شيء ليأخذوا معهم تذكارًا لرحلتهم إلى البرابرة من أهلهم.»
٢٧
الإمبريالية ومولد لجنة حفظ الآثار العربية
أشاد جبرييل شارم بإفلاس إسماعيل — الذي كان كارثة عند المصريين — لأن ذلك
الإفلاس يعوق إنجاز مشروعات التجديد الحضري التي تؤدي إلى تدمير الآثار ذات القيمة
الفنية العالية. ورأى شارم أن السيطرة الأوروبية وحدها هي التي تستطيع الحفاظ على
آثار القاهرة، وأن البلد الذي يهمل آثاره لا يستحق الاستقلال، ورأى أنه:
«من الواضح أن مصر تسعى لتفادي الصدمات التي تهدد الشرق، وواجبه الأول (يقصد
توفيق) أن يربط القوة الجديدة لأسرة محمد علي بالتراث الوطني العظيم المديد …
فاليونان يبذلون أقصى الجهد حتى يجعلونا نصدق أنهم من سلالة بركليز وفيدياس، فلماذا
لا يحاول المصريون إقناع العالم بأنهم من سلالة صلاح الدين وقايتاي، والسلطان حسن؟
لقد فعلت الأكروبولس الشيء الكثير لتحقيق استقلال اليونان، أكثر مما فعلته الأشياء
الأخرى … فبفضل كنارس واللورد بايرون كان من حق تلك المملكة الهلِّينية الصغيرة أن
تحظى برعاية أوروبا، فلماذا لا تجلب مساجد القاهرة نفس هذه الخدمة لمصر؟ وعندما يتم
ترميم تلك المساجد يصعب إنكار حق بلد، قادر على الحفاظ على تلك الأعمال، في الاستقلال.»
٢٨
ولما كان شارم وطنيًّا فرنسيًّا، لم يكن انفراد بريطانيا باحتلال مصر هو ما يعنيه
بالطبع، فقد احتل البريطانيون مصر، بعد احتلال فرنسا لتونس عام ١٨٨١م ببضعة شهور.
وعبر زافييه شارم — الضابط الفرنسي الكبير، شقيق جابرييل — عن رؤية استشراقية
إمبريالية فرنسية، كغازي ووريث للحضارة «العربية»، قائلًا:
«لقد أنقذنا أوروبا من الغزو العربي … ونحن البون نجتاح البلاد العربية و … نحطم
دولها التي وصفت بأنها دول «بربرية»، حيث فقدت الحضارة العربية صلاحيتها بأكثر
الأعمال الفوضية وحشية. ولكن يجب أن يلي عملنا العسكري بناء سياسي، وإداري وعلمي.
ولما كنا ورثة العرب، فإن علينا أن نبحث في تاريخهم عن أعمالهم العظيمة التي تستحق
البقاء، وعلينا أن نستعيد فنهم الذي طواه النسيان، وكذلك اكتشافاتهم الأدبية والعلمية.»
٢٩
وتعود أصول لجنة حفظ الآثار ومتحف الفن العربي إلى أمر صدر وسط انشغال إسماعيل
بأعمال التجديد الحضري عام ١٨٦٩م. وكانت الفكرة من اقتراح أوجست سالزمان، وهو معماري
من رعايا النمسا والمجر، كان يعمل بنظارة الأوقاف، وقام يوليوس فرانتز — وهو ألماني
يعمل بنفس الجهة — طلب منه أن يجمع قطعًا أثرية لإقامة متحف في جامع الظاهر بيبرس
الذي كان يعاني الخراب.
٣٠ غير أن هذا الأمر لم ينفذ، وحث القنصل البريطاني إدوارد روجرز مؤتمر
المستشرقين الدولي (عام ١٨٧٤م)، على إقامة لجنة لترميم وتسجيل الآثار والأعمال
الفنية الشرقية، ولكن لين بول أثار تحفظات عملية: فمثل هذا العمل لا تستطيع
الاضطلاع به إلا الحكومات، وقد فشل مرسوم بشأن برنامج مماثل في بريطانيا. أضف إلى
ذلك أن إسماعيل «المذنب الرئيسي في قضية هدم آثار الفن العربي، قد يتساءل: أليست
الطرق الباريسية، والفيلات الإيطالية التي زرعت في أرض مصر التاريخية أجمل من مساجد
الخربة والبيوت المهدمة؟ وهل باستطاعتنا — حتى لو كنا ملائكة — أن نجيب على مثل هذا السؤال؟»
٣١
ولم يأت توقيت إصدار الأمر الخاص بإقامة لجنة حفظ الآثار في ١٨ ديسمبر ١٨٨١م،
مفاجئًا. فقد كان توفيق محاصرًا من العرابيين الذين تحدوا احتكار الأتراك الشراكسة
للسلطة، والتدخل الأوروبي معًا. وكان توفيق يبذل جهد اليائس لحشد التأييد الأوروبي
لعرشه، فلعل التجمع الصغير لهواة الفن الإسلامي يجعل كفة الميزان تميل لصالحه. وقد
كتب شارم: «ما أعجب فكرة هيمنة ورقابة أوروبا على المالية المصرية بشكل مباشر، التي
امتدت إلى كل شيء غيرها — بصورة مباشرة أو غير مباشرة — وحتى إلى الفن.»
٣٢
قدم كتاب «القاهرة» للين بول وصفًا تفصيليًّا لعمارة المدينة القديمة، وأبدى
تقديره «للنتائج البديعة التي حققها النفوذ البريطاني الذي مارسه اللورد كرومر»،
ويرى أنه «قد يكون وراء ذلك غرض وطني خفي، ولكني مقتنع أنه لا توجد أمة أخرى تصلح
لتعليم مصر كيف تمضي على الطريق، سوى الأمة التي زرعت مستعمراتها في كل مكان على
وجه الأرض، وبينت بحكمها الفريد للهند النتائج العظيمة التي يستطيع تحقيقها حكم
الإنجليز للملل والنحل الأجنبية.»
٣٣
وتضمن تشكيل اللجنة الذي أصدره توفيق ثلاثة من خبراء الفن الإسلامي هم: إدوارد
روجرز — الذي كان عندئذٍ مستشارًا بالحكومة المصرية — والمعماري الفرنسي إمبرواز
بودري (الذي أشاد شارم بفيلته التي أقامها على الطراز العربي بالقاهرة)، والمعماري
الألماني يوليوس فرانتز الذي كان يعمل بنظارة الأوقاف (انظر الجدول
٦-١). كان هناك مستشرقون بريطانيون وفرنسيون وألمان يجمعون بين
المعرفة النصية والبصرية، وكانت بلادهم تقترب من مرحلة حرجة في التعامل مع عرابي.
وفي يناير ١٨٨٢م انضم جول بورجوان إلى اللجنة، وفي نوفمبر من نفس العام، أضيف إليها
بيرجران، كبير مهندسي مصلحة التنظيم (التي تختص بالشوارع والمباني)، وبذلك ارتفع
عدد الفرنسيين من أعضاء اللجنة إلا ثلاثة، وأصبحت الفرنسية — لغة الدبلوماسية
والمجتمع المتفرنج في مصر — هي اللغة المستخدمة في أعمال اللجنة.
٣٤
جدول ٦-١: المهتمون بالفنون والآثار الإسلامية والاستشراق
الأوروبيون في اللجنة |
مستشرقون آخرون – علماء وفنانون |
المصريون في اللجنة |
|
ب. كوست ١٧٨٧–١٨٧٩م |
|
|
دافيد روبرتس ١٧٩٦–١٨٦٤م |
|
|
ربورت هاي ١٧٩٩–١٨٦٣م |
|
|
إدوارد لين ١٨٠١–١٨٧٦م |
|
|
بريس دافين ١٨٠٧–١٨٧٩م |
|
إدوارد روجرز توفي ١٨٨٤م |
|
علي مبارك ١٨٢٣–١٨٩٣م |
يوليوس فرانتز ١٨٣١–١٩١٥م |
|
|
إمبرواز بودري ١٨٣٨–١٩٠٦م |
|
|
جول بورجوان ١٨٣٨–١٩٠٧م |
|
|
|
|
يعقوب أرتين ١٨٤٢–١٩١٤م |
|
|
حسين فخري ١٨٤٣–١٩١٠م |
هاري فارنول ١٨٥٢–١٩٢٩م |
|
|
ستانلي لين بول ١٨٥٤–١٩٣١م |
|
|
ماكس هرتز ١٨٥٦–١٩١٩م |
|
مصطفى فهمي ١٨٥٦–١٩٢٥م |
|
|
علي بهجت ١٨٥٨–١٩٢٤م |
|
|
أحمد زكي ١٨٦٠–١٩٣٤م |
ماكس فان برشم ١٨٦٣–١٩٢١م |
|
مرقص سميكة ١٨٦٤–١٩٤٤م |
قام بورجوان بالتدريس بمدرسة الفنون الجميلة بباريس، وألف كتابين عن التصميم
المعماري العربي. كما كان زميلًا «بالمدرسة الفرنسية» الجديدة. ورأى أن الفن
الإسلامي يمثل إنتاج «الأجناس السامية»، وأن «الساميين» يتضمنون «جنسًا عربيًّا».
وكان الشرق عنده ثابتًا لا يتطور «لا يجب أن نتوقع أن نجد في تاريخ فن الشرق مراحل
مختلفة، مماثلة لتلك التي يتميز بها فن الغرب»، وشرح فيوليه لودوك في مقدمته لكتاب
بورجوان «الفنون العربية»، كيف أن العوامل الدينية والعرقية عند السكان الذين تمتزج
أعراقهم، أدت إلى التجريد الهندسي للفن العربي.
٣٥
وعمل إدوارد روجرز — البريطاني الوحيد باللجنة — قنصلًا بالشام ومصر، قبل أن يصبح
موظفًا بالتعليم والمالية في خدمة الحكومة المصرية، وكان يجمع الآثار والعملات.
ورغم أن يوليوس فرانتز تعلَّم جزئيًّا في النمسا ودفن بها بعد وفاته، فقد نشأ في
عائلة ألمانية شمالية بروتستانتية، واحتفظ بجنسيته الألمانية حتى وفاته. وبحكم كونه
كبير المعماريين بنظارة الأوقاف وعضويته للجنة، أشرف على الإصلاحات التي تمت في
الآثار وبدأ يجمع القطع الأثرية لمتحف الفن العربي. وعلى مدى ١٢ عامًا بعد تقاعده
عام ١٨٨٨م، واصل فرانتز قضاء الشتاء بمصر، وحضور اجتماعات اللجنة.
٣٦
ولم تستطع اللجنة أن تجتمع سوى مرة واحدة في الأول من فبراير ١٨٨٢م قبل ثلاثة أيام
من إسقاط وزارة شريف على يد العرابيين، وتولى محمود سامي البارودي رئاسة مجلس
الوزراء الذي دخله عرابي وزيرًا للحربية،
٣٧ وحظي الحفاظ على الآثار باهتمام كبير، حتى أثناء تلك الظروف الحرجة،
فقد شارك في اجتماع اللجنة وزيران من بين الوزراء السبعة الذين تشكلت منهم الوزارة:
فتولى رئاسة اللجنة مصطفى فهمي ناظر الخارجية، ومحمود سامي البارودي ناظر الحربية
عندئذٍ، بصفته عضوًا. ويشير أحد المصادر إلى أن التوصيات التي اتخذتها اللجنة بإصلاح
المباني الأثرية، جاءت بناء على اقتراح البارودي الذي كان لديه «اهتمام مستنير»
بالحفاظ على الآثار، غير أن ذلك لم يرد بمضبطة اجتماع اللجنة.
واختير روجرز سكرتيرًا للجنة، ويعقوب صبري — الموظف بالأوقاف — سكرتيرًا مساعدًا،
وفرانتز مسئولًا عن الأرشيف. وليس من الغريب أن اللجنة لم تجتمع مرة أخرى حتى
ديسمبر ١٨٨٢م بعدما انتهت الثورة العرابية، واستقر الاحتلال البريطاني، وعاد
الأوروبيون إلى مصر التي لفَّها صمت الصدمة.
اللجنة في عهد الاحتلال البريطاني
عقد الاجتماع الثاني للجنة في ١٨ ديسمبر ١٨٨٢م، قبل أسبوع واحد من رحيل عرابي
ورفاقه إلى المنفى بجزيرة سيلان. ووجد الأوروبيون من أنصار الحفاظ على الآثار في
الاحتلال البريطاني وسطًا ملائمًا للعمل، رغم العسر المالي الذي عانت منه اللجنة
حتى أواخر التسعينيات. ولما كانت اللجنة تابعة لنظارة الأوقاف، فقد رأس محمد زكي
ناظر الأوقاف اجتماع ديسمبر، وكان زكي قد ترك منصبه باستقالة وزارة شريف في فبراير،
وعاد إليه في أغسطس مع تولَّى شريف الوزارة بالإسكندرية في حماية المدافع البريطانية.
وغاب عن ذلك الاجتماع محمود سامي البارودي الذي كان مسجونًا مع عرابي بانتظار
الترحيل إلى المنفى، كما غاب عنه مصطفى فهمي ومحمود الفلكي، ولعلهما كانا يمران
بفترة احتجاب، ولكنهما ظلا عضوين باللجنة، وعادا إلى الوزارة قبل أقل من عام. أما
ناظر الأشغال العمومية علي مبارك فكان قد تخلى عن عرابي في الصيف، واختار الوقوف
إلى جانب الخديو توفيق بالإسكندرية في الوقت المناسب لينال نصيبه من وزارة شريف
التي شكلت في أغسطس. وصدر أمر جديد في نوفمبر بضمه، وبيير جران، ويعقوب أرتين إلى
عضوية اللجنة.
٣٨
ورغم أن عدد المصريين من أعضاء اللجنة زاد على عدد الأوروبيين فيما عدا فترة
قصيرة نحو عام ١٨٩٠م، فقد سيطر الأوروبيون تمامًا على عمل اللجنة كما سيطرت «الحماية
البريطانية المقنعة» على مصر، فكان روجرز صاحب اليد العليا في اللجنة الفرعية
الأولى التي تولت حصر الآثار التي يجب الحفاظ عليها، حسبما رآه الغربيون من
الناحيتين الجمالية والأثرية. ورغم اعتقاد المستشرقين بأن جوهر الفن الإسلامي لا
يرتبط بزمن محدد، يتعارض مع نظريات التطور، تم إيضاح الأسلوب الفني بدقة للعهود
الطولونية، والفاطمية، والأيوبية، والمماليكية البحرية والبرجية، والعثمانية. وتولى
فرانتز إدارة أمور اللجنة الفرعية الثانية بمعاونة بورجوان، (وهي التي عرفت — فيما
بعد — بالقسم الفني)، التي اختصت بإصلاح المباني الأثرية وجمع الآثار لمتحف الفن
العربي، فكانت بذلك القلب النابض للجنة الأصلية.
فرض بيرنج على مصر نوعًا من التضييق المالي الصارم، معطيًا الأولوية المطلقة
لخدمة الدين العام المستحق للدائنين من الأوروبيين، وتغطية تكلفة الاحتلال. ففي
العام ١٨٨٥م، أنفقت «لجنة حفظ آثار الفن العربي» ٣٦٥١ جنيهًا من ميزانيتها البالغ
قدرها ٣٨٨٩ جنيهًا على إصلاح أربعين من المباني الأثرية أما باقي الميزانية فخصص
لتغطية الرواتب، وشراء مستلزمات المتحف، وأثاث المكاتب. وتحملت نظارة الأوقاف — في
بداية الأمر — ميزانية اللجنة بكاملها. وبحلول عام ١٨٩٦م، تحسنت ميزانية الحكومة،
وأصبح بيرنج (وكان عندئذٍ اللورد كرومر) مستعدًا لأخذ نفقات أخرى في الاعتبار، فوافق
على ما جاء بتقرير ستانلي لين بول — العضو الفخري باللجنة منذ عام ١٨٩٠م — من
التوصية بأن يقوم «صندوق الدين العام» بتخصيص عشرين ألفًا من الجنيهات المصرية
للجنة، وجعل كرومر من تقرير لين بول ملحقًا لتقريره السنوي.
٣٩
وعندما بلغت اللجنة العام الخامس والعشرين من عمرها (١٩٠٦م) كانت قد أنفقت ما
جملته ٢٠٥٫٥٠٠ جنيه مصري، شملت ١٦٦ ألفًا من الأوقاف، و٣٩ ألفًا من الميزانية
العامة للدولة، و٥٠٠ جنيه من بطريركية الأقباط (بعد ما دخلت المباني التاريخية
القبطية في اختصاص اللجنة)، منها ٢٩ ألفًا للمرتبات والباقي لإصلاح المباني التاريخية.
٤٠ واستمرت ميزانية اللجنة بمستوى محترم حتى الحرب العالمية الأولى التي
فرضت ضغط الإنفاق الحكومي عامة.
وفيما يتعلق بفلسفة اللجنة الخاصة بالحفاظ على المباني التاريخية، اقترح كاتب
بريطاني مجهول (عام ١٨٨٢م) أنه عند التعامل مع آثار القاهرة «كل ما يمكن عمله الآن
هو المحافظة عليها بوضعها الحالي لأطول فترة ممكنة بالاستعانة بكل الوسائل العلمية،
لإصلاح الأجزاء التي تحتاج إلى ذلك، وعدم التسرع في الترميم، ونسخ زخارفها، وعمل
نماذج لها، وشدها بالدعامات، وعمل مسح لها وهي لا تزال قائمة، وبذلك يتم المحافظة
على تصاميمها وزخارفها …»
٤١
وفي العام ١٨٩٥م، كانت اللجنة تعالج الآثار معاملة مختلفة حسب الفترة التي تنتمي
إليها. فالآثار «المبكرة والفريدة» مثل مساجد ابن طولون والفاطميين، تم تثبيتها على
حالتها الراهنة — ولعل ذلك جاء تلبية لراسكين — بينما تم إجراء إصلاحات أساسية
للمباني المماليكية والعثمانية العديدة،
٤٢ وفقًا لما ذهب إليه فيوليه لودوك. وعلى كلٍّ، تم فيما بعد تفكيك بقايا
مسجد الصالح طلائع الذي ينتمي إلى العصر الفاطمي، وأزيلت مئذنته التي ترجع إلى
العصر العثماني، وتمت إعادة بنائه بالكامل وفق الطراز الفاطمي.
٤٣
وسواء تم الحفاظ على الآثار بحالتها الراهنة حسب الشق الأول من سياسة اللجنة، أو
أعيد بناؤها وفق الشق الثاني، فقد تم عزل المباني الأثرية وحدها، فتمت إزالة
الدكاكين والمساكن التي أقيمت — عشوائيًّا — حولها، فقد كانت تلك المنشآت — في نظر
الأوروبيين — تحجب تلك المباني الأثرية عن النظر. وبذلك تحول حفظة الآثار إلى
هادمين لغيرها من المنشآت التي ليست لها قيمة أثرية. واعترضت اللجنة — بالطبع — على
إقامة أي مباني تتعدى على تلك الآثار المعزولة. وأتيحت للسياح فرصة الرؤية التامة
للآثار وتصويرها فوتوغرافيًّا، ولكن على حساب النسيج الحي الذي كانت تلك الآثار
محاطة به، فلم يدخل في الحسبان الحفاظ على الأحياء التاريخية أو الاهتمام بالمناطق
المجاورة للأثر سواء في مصر أو في الغرب.
وأدى تركيز اللجنة على المساجد والأضرحة إلى ترك المنازل الأثرية دون حماية،
ونزلت اللجنة — أحيانًا — عن موقفها إزاء خطط الهدم التي قامت بها مصلحة التنظيم
لشق الشوارع وإقامة المباني العامة، ولكن ضم بيير جران — مدير عام المصلحة — إلى
عضوية اللجنة أتاح لها فرصة سماع رأيها في تلك الخطط.
وحمل رجل الأعمال جورج بانجالو معه إلى بلاده صلاحيات اللجنة ورؤيتها للأمور. وما
كان بلزوني — جامع الآثار الفرعونية المغامر الذي عمل لحساب المتحف البريطاني في
العقود الأولى من القرن — ليعترض على ما فعله جورج بانجالو، ولكن سياسة كرومر
المالية الصارمة حالت دون اشتراك مصر في معرض كولومبيا عام ١٨٩٣م بمدينة شيكاجو،
وأدى ذلك إلى فتح الباب أمام بنجالو لإقامة «شوارع القاهرة» بالمعرض كمشروع
استثماري خاص. فقام بالتعاقد مع ٢٥٠ من المصريين — من المشتغلين بالرقص الشرقي
والحمَّارين إلى المؤذنين — ليلعبوا دور سكان «شوارع القاهرة» في المعرض، وجاب أنحاء
القاهرة الحقيقية بحثًا عن التراث المعماري حتى يضفي نوعًا من الأصالة على النموذج
الذي يسعى لإقامته بالمعرض، وكتب عن ذلك:
«كان تجار الآثار يخربون القاهرة القديمة خلال العقود الثلاثة الماضية لحساب
السياح والفنانين والمتاحف. والآن جاء دوري للانضمام إلى أولئك المخربين … ورغم ما
أشعر به من خجل عندما أقول ذلك، مضيت في هذا العمل بهمة تفوق همة الوندال …
وفي الكثير من الحالات كان من الضروري أن أقوم بدفع مبالغ مالية مقدمًا في مقابل
انتزاع المشربيات من النوافذ والشرفات، وكذلك الأبواب لتستبدل بها نوافذ وشرفات
وأبواب جديدة حديثة الطراز. وفي حالات أخرى كنت أشتري المبنى بكامله ثم أنتزع منه
مشربياته، وأبيعه من جديد. وهكذا في حوالي تسعة شهور تم انتزاع كل المشغولات
الخشبية مما يزيد على ١٥ منزلًا، كما أسهم ما يزيد على ٥٠ منزلًا أخرى بمشربياته
وأبوابه، وغيرها.»
٤٤
وتعاقد ماكس هرتز — حامي حمى التراث الإسلامي المعماري في مصر — مع ذلك الذي وصف
نفسه «بالوندال» ليكون مستشارًا له في تصميم مشروعه «شوارع القاهرة»، ولم تعترض
اللجنة على ذلك على أساس أن هرتز قدم استشارته في غير أوقات العمل الرسمية، ولعل
هرتز أقنع اللجنة بأنه لا ولاية لها على المباني غير المسجلة في قائمتها، وأن تلك
المباني تتداعى بالفعل، وأن إعادة تجميع المشغولات الخشبية التي تنتزع منها في معرض
كولومبيا يحفظها من الدمار الفوري.
تكوين علي بهجت
عند تأسيس اللجنة عام ١٨٨١م، كان علي بهجت قد بلغ الثالثة والعشرين من عمره، وبدأ
يعمل مدرسًا للغة الفرنسية بالمدارس. جاء علي بهجت من قرية باها العجوز التي تقع على
مسافة بضعة أميال من بني سويف حاضرة المديرية، وكان ينتمي إلى إحدى عائلات الأعيان
شأنه في ذلك شأن علي مبارك، ومحمد عبده، وأحمد لطفي السيد، ولكنه اختلف عنهم في
انحداره من أصل تركي، فقد كان جده لأبيه — علي أغا — يتولى منصبًا بالشرقية في عهد
محمد علي، وحصل على ضيعة بقرية بها العجوز كمعاش له بعد تقاعده، حيث كان مسقط رأس
ابنه محمود بك علي (والد بهجت) الذي كان موظفًا بمصلحة الدومين (الأراضي الأميرية)
وتزوج من ابنة موظف تركي من قرية مجاورة. ويذهب مترجمو بهجت إلى أن العائلات
التركية في الأقاليم نفرت من مخالطة جيرانها من المصريين، وأن بهجت أحب الوحدة، ولم
يتواصل اجتماعيًّا إلا نادرًا، وكان يتسم بالحدة والصرامة.
٤٥
وكانت المدارس الحكومية — أيام إسماعيل — تفتح أمام خريجها طريق الدخول في زمرة
النخبة في الجيل التالي. وشق بهجت طريقه في تلك المدارس: المبتديان بالناصرية،
المدرسة التجهيزية، المهندسخانة، ومدرسة الألسن. وتركت الدروس العربية التي تلقَّاها
على الشيخ حسونة النواوي — الذي أصبح شيخًا للأزهر فيما بعد — أثرًا كبيرًا في نفسه
شأنه في ذلك شأن صديقه أحمد لطفي السيد.
٤٦ ولم يكن بهجت متميزًا في دراسته، ولكن إتقانه للغات الأوروبية خدمه
كثيرًا. فقد تخرج في مدرسة الألسن وقد أجاد العربية والفرنسية والألمانية والتركية،
مما يسر له التنافس مع الشوام الذين احتكروا العمل كمترجمين في عهد إسماعيل وفي عهد
الاحتلال البريطاني.
وبدأ علي بهجت عمله مدرسًا للغة الفرنسية بالمدرسة التجهيزية في ٩ أكتوبر ١٨٨١م،
بعد نجاح عرابي في إسقاط وزارة رياض بشهر واحد، وقبل تأسيس لجنة حفظ الآثار بعشرة
أسابيع، وكان راتبه خمسة جنيهات شهريًّا. وبعد ذلك بخمس سنوات، أصبح مفتشًا للغة
الفرنسية بالمدارس الابتدائية التابعة للأوقاف، ثم تولَّى تدريس الفرنسية بمدرسة
الخديوية الثانوية، وعند بداية القرن العشرين كان راتبه قد أصبح ٢٨ جنيهًا عندما
أصبح كبير المترجمين بنظارة المعارف. وفي عام ١٩٠١م ترك خدمة المعارف بعد خدمة عشرين
عامًا أهلته للحصول على معاش، وتفرغ للعمل بلجنة حفظ آثار الفن العربي.
٤٧
وقبل ذلك بحوالي العامين — في يناير ١٩٠٠م — انضم علي بهجت إلى اللجنة إلى جانب
أعضائها الأوروبيين التسعة، والمصريين الاثني عشر وكان من بين المصريين ثمانية من
المسلمين وقبطيان وأرمينيان. جاء أربعة من الأعضاء المسلمين من نظارة الأوقاف،
واثنان من النظار (رئيس مجلس النظار مصطفى فهمي الذي كان حضوره اجتماعات اللجنة
نادرًا، وحسين فخري)، وواحد من كل من مصلحة السكك الحديدية، ونظارة الداخلية. وكان
أحد الأقباط موظفًا سابقًا بالمالية، والآخر موظفًا بنظارة الحقانية (العدل). أما
الأرمينيان فهما تيجران باشا ناظر الخارجية السابق، ويعقوب أرتين وكيل المعارف.
وكان أعضاء اللجنة من الأوروبيين: ماسبيرو مدير عام الآثار، وبول كازانوفا المستشرق
بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية، وفرنسي آخر على الأقل، وألمانيان، وإنجليزي واحد،
وإيطالي واحد، وهرتز النمساوي-المجري. ويتضح مسار حياة علي بهجت العملية بعد
التحاقه باللجنة من إلقاء نظرة فاحصة على العلاقات بين المصريين والأوروبيين
باللجنة ومتحف الفن العربي.
علي مبارك وحفظة الآثار من الأوروبيين
كان علي مبارك أول من اصطدم بالأوروبيين من أعضاء اللجنة، ورغم انضمامه إلى توفيق
ضد عرابي، ثم مشايعته للاحتلال البريطاني، ينظر المصريون إليه اليوم كبطل وطني
للإصلاح الثقافي. وقد اختلف مبارك مع الأوروبيين من أعضاء اللجنة في اجتماعها الأول
(ديسمبر ١٨٨٢م)، سواء كان ذلك بدافع وطني، أو بنظرة مهندس ضاق ذرعًا بحفظة الآثار
الذين يعارضون رؤيته للتقدم، فهو — على أية حال — كان وراء مشروع التجديد الحضري
الذي رعاه إسماعيل، وهو الذي شق شارع محمد علي، فاجتاح في طريقه مئات المنازل في
منطقة مكتظة بالمباني. وجاء تكوين اللجنة ليضع حدودًا لحركته. (انظر الشكل
٣٨).
كان أعضاء بعينهم من الأوروبيين يتحكمون في اللجنة من خلال تركيبة معينة تجمع بين
الأهداف السياسية، والخبرة، والعمل الجاد. أما المصريون من الأعضاء، فكان معظمهم
أقل اهتمامًا بعمل اللجنة، وربما كان مرد ذلك إلى انشغالهم بأمور أخرى لها الأولوية
عندهم، أو لضيقهم بالهيمنة الأجنبية، أو ضعف لغتهم الفرنسية، أو افتقارهم إلى
الخبرة الفنية. وأدى ذلك إلى تقوية ما أكده الأوروبيون من أن مصر ليست مهيأة للحفاظ
على آثارها. وعلى الصعيد الشعبي كانت اللجنة تواجه بالكراهية والمقاومة لهدمها
الدكاكين والمنشآت التي أحاطت بالمباني الأثرية، وإن كان ذلك يحتاج إلى المزيد من الدراسة.
٤٨
ولكن المصريين لم يهملوا الآثار على نحو ما اعتقد شارم، ولين بول فقد توقف
الجبرتي أمام تخريب الحملة الفرنسية لقلعة القاهرة، فسجل النتائج السلبية التي
ترتبت على هدمهم لبعض مبانيها مثل قصر السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي وبعض
الجوامع والزوايا، وتغييرهم لمعالم جامع الملك الناصر محمد بن قلاوون، واعتبر
الجبرتي تصرفهم هذا تصرف أعداء الدين.
٤٩
كان معظم المصريين يرتبطون دينيًّا بالمباني الأثرية دون أن تعنيهم القيمة
التاريخية أو الفنية لتلك المباني؛ فالناس على اختلاف مراكزهم الاجتماعية يقدرون
الأزهر، وجامع السيدة زينب، والإمام الشافعي، والسيد أحمد البدوي (بطنطا). فالإيمان
بالقرآن ورسالته، وبالنصوص الدينية الأخرى يكشف عن مدى الارتباط بطراز معماري معين
أو زخرفة في مبنى مجدد مهما كان قديمًا أو جميلًا من وجهة نظر الغربيين. فمعظم
المصريين يعتبرون المساجد مراكز للعبادة أو الدراسة، وشعروا بالامتعاض من اتجاه
الآثار إلى الاهتمام بإبراز جمالها وتاريخها أو حمايتها كأثر من أجل توفير المتعة
للسياح والعلماء.
وقد شهدت المساجد — على مر القرون — أعمال هدم، وتوسيع، وإعادة بناء … فلماذا
يجمد وضع المبنى، بعدما تجاوز الزمن والغرض والطراز الذي كان يمثله في الأصل؟
فالقلل، والنسيج، والمشربيات، وأعمال الزخرفة، والحلي التي توضع اليوم في متحف الفن
العربي كانت تستخدم في الحياة اليومية للأغنياء والفقراء، والآن بعدما اجتاح مصر
الطراز الغربي في العمارة، والأثاث، واللباس، يأتي الأوروبيون بسطوتهم وبتأثرهم
بالتطور الصناعي والسياسي في بلادهم، ليتدخلوا للحفاظ على «الفن العربي» الذي
اعتبروه جميلًا، وأصيلًا، و«تقليديًّا». لعل «الحفاظ» — في حد ذاته — يحتاج إلى
إيضاح.
لقد وافق علي مبارك على ما ذهب إليه المستشرقون من أن القاهرة قد تداعت في العصر
العثماني، فأشار إلى الخرائب وأكوام النفايات الضارة بالصحة، «حتى أرسل الله محمد
علي باشا» ليصلح من شأنها.
٥٠ ولكن مبارك عارض المستشرقين عندما أشاد بالمباني ذات الطراز الغربي
التي أقامتها أسرة محمد علي، باعتبارها علامة على الحضارة والتقدم.
ففي «الخطط التوفيقية الجديدة»، لم يقم مبارك باستخدام «الاحداثات الدالة، أو ما
كان يسمى بالذاكرة البصرية … فالقاهرة عنده كانت مدينة مواقع، جرى فيها تواصل
اجتماعي، وكانت الذاكرة الجمعية فيها فاعلة، فهي ليست مجرد مدينة مواقع أو مناظر.»
٥١
وإذا أمعنا النظر فيما بين سطور مضابط اللجنة، نستشف نوعًا من المقاومة من جانب
مبارك أولًا، ثم من جانب المصريين، في مواجهة الهيمنة الأوروبية؛ ففي اجتماع ديسمبر
١٨٨٢م، اقترح مبارك إزالة السبيل القائم بالقرب من باب زويلة لإعاقته حركة مرور
العربات ودواب الحمل، وردَّ الأوروبيون بأن عمل اللجنة هو المحافظة لا الهدم. وتشير
المضابط إلى أن مبارك لم يحضر سوى اجتماع واحد أو اثنين بعد ذلك، ولا نجد بالمضابط
ما يشير إلى تعليقات أخرى أبداها في الاجتماع، ثم استقال من اللجنة بحجة تزايد
أعباءه الوزارية. وبعد ذلك بسنوات عندما أصبح ناظرًا للمعارف، رفض طلب اللجنة نقل
متحف الفن العربي إلى الغرف الخالية بمبنى النظارة، وربما كان ذلك يشفي غليله.
٥٢
كان علي مبارك مستنيرًا، مهتمًّا بالماضي الإسلامي لبلاده. فقد تناولت «الخطط
التوفيقية الجديدة» تاريخ البلاد وآثارها بتفصيل مستفيض، فعبَّر مبارك عن الحنين إلى
المجد الإسلامي الغابر، وتحسر على الفسطاط، وهو ينظر إليها من فوق مئذنة مسجد عمرو
بن العاص.
٥٣
ولا تدين «الخطط التوفيقية» للمصادر العربية وحدها، ولكنها تدين أيضًا لوصف مصر
والعديد من الكتب الأوروبية في القرن التاسع عشر. فقد تعلَّم مبارك في باريس، وترجم
كتاب «تاريخ العرب» لسيديلو عن الفرنسية، واتفق مع ما توصل إليه مؤلف الكتاب —
المتخصص في العصور الوسطى — من استنتاجات حول تدهور أحوال العرب تحت الحكم
العثماني، مشيدًا بأسرة محمد علي لانخراطها في عصر الحضارة والتقدم.
٥٤ كذلك قدم علي مبارك «المستشرق البريطاني» في كتاب الروائي «علم الدين»
بصورة إيجابية.
كان هناك — أو أصبح هناك — مصريون يهتمون بحفظ الآثار الخاصة بالفن الإسلامي،
ولكن كان عليهم أن يحاربوا على عدة جبهات في وقت واحد. فإذا كانوا يريدون الاحتراف،
فعليهم أن يتتلمذوا على أيدي المعلمين الأوروبيين، فعدم المراعاة الكافية
للأوروبيين على الصعيد المهني، والإذعان لهيمنتهم السياسية، بسبب النوازع الوطنية
أو الاعتداد بالذات، قد يؤدي إلى تدمير الحياة العلمية للمصري. كذلك لم يكن يسهل
عليهم إقناع إخوانهم المصريين أن الحفاظ على ما صنفه الأوروبيون كتحفة من الفن
والعمارة الإسلامية، يجب أن تكون له الأولوية على الحاجات الأخرى الملحة.
وقد يصوغ الأوروبيون المدائح البليغة في تحف الفن الإسلامي والعمارة الإسلامية،
في بلد خاضع لاستعمارهم، ولكن سيطرتهم على ذلك المجال تعود إلى ما يعانون من القبح
الناجم عن الصناعة في بلادهم الأصلية. فلا يعرف أحد كيف يمكن الحفاظ على القديم
وتحقيق التحديث في الوقت نفسه. فعندما اندفع الخديو إسماعيل ومبارك نحو التحديث على
الطراز الأوروبي، رفضا السماح للحنين إلى الماضي أن يقف في طريقهما. وانتصر المهندس
على الآثاري في شخصية مبارك ذات الجوانب المتعددة، عندما قال: «هل نحن بحاجة إلى كل
هذه الآثار مجتمعة؟ ألا يكفي الاحتفاظ بعينة منها؟» فقد كان باب زويلة يُستخدم من
قبل لشنق المجرمين، «ونحن لا نريد الحفاظ على هذه الذكريات، بل علينا تحطيمها كما
حطم الفرنسيون سجن الباستيل.»
٥٥
وتلتزم مضابط اللجنة الصمت بالنسبة لحسين فهمي وكيل نظارة الأوقاف. فلا ندري ما
كان يدور بخلده وهو يستمع إلى المشادة التي وقعت بين مبارك والأوروبيين. كان حسين
فهمي زميلًا لعلي مبارك وإسماعيل في باريس، حيث درس الإدارة المدنية والهندسية.
وعند عودته إلى مصر أسندت إليه مهمة تصميم عمارة مسجد الرفاعي بتكليف من أم الخديو
إسماعيل (الوالدة باشا)، فجاء التصميم خليطًا من الطرز الأوروبية والإسلامية. وقام
أيضًا بتصميم المباني الحكومية الأخرى، وعبر فهمي عن حبه للفن الإسلامي عام ١٩٠٣م،
عندما أعادت الكتبخانة الخديوية تجليد المخطوطات القديمة، واستغنت عن الأغلفة
القديمة، قام حسين فهمي بشرائها ليعرضها في منزله «الذي كان أقرب ما يكون إلى متحف
للفن العربي».
٥٦
التمثيل الوطني الأوروبي في اللجنة
جمعت بين أفراد تلك الحلقة الصغيرة من الأوروبيين بالقاهرة، الذين أحبوا الفن
الإسلامي، رابطة كوزموبوليتانية، غير أنهم لم ينسوا جنسياتهم، ومكانة بلادهم بين
غيرها من بلاد أوروبا في مصر، من النواحي السياسية، والاجتماعية، والثقافية.
كانت الفرنسية لغة العمل باللجنة، ومصلحة الآثار المصرية، والمتحف المصري،
والمحاكم المختلطة، والطبقة العليا في المجتمع. ورغم ذلك كانت اليد العليا في
اللجنة والكتبخانة الخديوية للألمان حتى عام ١٩١٤م؛ فالوجود النمساوي-المجري،
والألماني بنظارة الأوقاف يعود إلى أيام إسماعيل، عندما قام نمساوي-مجري بحشد
الضغوط لتنفيذ الأمر الذي كان قد صدر عام ١٨٦٩م لحماية الآثار العربية، وإقامة متحف
للفن العربي. وعندما تأسست اللجنة بعد ذلك باثني عشر عامًا، كان فرانتز ما زال
موجودًا ليتولى مسئوليتها. وقد نجح هو وماكس هرتز في توجيه اللجنة ومتحف الفن
العربي لمدة ٣٣ عامًا. وجاء الجمع بين الكتبخانة ومتحف الفن العربي في مبنى واحد
عام ١٩٠٣م ليدعم المعقل الثقافي الألماني في مصر.
كان ماكس هرتز مجريًّا يهوديًّا، جاء إلى مصر عام ١٨٨١م معلمًا خاصًّا لأبناء أحد
أصحاب الفنادق الأوروبيين (كانت إمبراطورية النمسا والمجر قد بسطت حمايتها على بعض
اليهود السكندريين قبل عدة عقود من السنين). وما لبث فرانتز أن ألحق هرتز بخدمة
الأوقاف واللجنة، ليعمل معه كمساعد معماري. وورث هرتز الوظيفتين بعد تقاعد فرانتز
عام ١٨٨٨م. وظل متحف الفن العربي بعيدًا عن اختصاصه لأربع سنوات حتى أضافه هرتز إلى
مسئولياته بصفة رسمية عام ١٨٩٢م. وأدى انكباب فرانتز وهرتز على الاشتغال يوميًّا
بالعمارة الإسلامية والفن الإسلامي والمتحف، إلى مساعدتهما على اكتساب خبرة، كان
معظم أعضاء اللجنة يفتقرون إليها، ولما كانت اللجنة تجتمع خمس أو ست مرات سنويًّا،
فقد قبلت — عادة — بآرائهما المهنية.
٥٧
وكان اثنان من بين المستشرقين الألمان الخمسة الذين تعاقبوا على إدارة الكتبخانة
الخديوية فيما بين ١٨٧٠ و١٩١٤م، عضوين باللجنة وهما: كارل فولورز، وبرنهارد موريتز.
كذلك كان دي مول — ممثل ألمانيا بصندوق الدين العام — عضوًا باللجنة، وضمت اللجنة —
بالإضافة إلى هرتز — نمساويًّا — مجريًّا آخر، هو الكونت تشارلز الوسكي، الذي كان
يقيم بإحدى فيلات بودري ذات الطراز العربي.
وأدى تفوق الألمانية كلغة وسيطة في حقل الاستشراق — بما في ذلك الفن الإسلامي —
إلى إضفاء أهمية ثقافية على الوجود الألماني-النمساوي-المجري باللجنة
والكتبخانة الخديوية. ولكن كانت الأهمية السياسية لذلك الوجود محدودة، حتى عندما
سعى الألمان للاحتفاظ بمواقعهم في الكتبخانة والمتحف المصري في السنوات السابقة على
الحرب العالمية الأولى، بعدما وافق الإنجليز — عام ١٩٠٤م — على أن يكون مدير عام
مصلحة الآثار فرنسيًّا، وعدوا الألمان بأن يكون مدير الكتبخانة ألمانيًّا، وقد
أثارت تلك الاتفاقات غضب المصريين الذين لم يكن باستطاعتهم الاعتراض عليها، كما
أنها تمت من وراء ظهورهم. وعندما انتهت مدة عمل بونهارد موريتز مدير الكتبخانة عام
١٩١١م، تدخل القيصر فيلهلم الثاني شخصيًّا للحفاظ على التمثيل الألماني في المؤسَّسات
الثقافية المصرية. ولكن البريطانيين رفضوا المرشح الألماني لخلافة مورتيز في منصبه،
وهو الدكتور كورت بروفر، الذي كان سكرتيرًا شرقيًّا للقنصلية الألمانية بالقاهرة،
وخشي البريطانيون أن يضعه هذا المنصب «في اتصال يومي مباشر مع المثقفين من شباب
المصريين». وفشلت جهود الحكومة المصرية لتعيين أحمد زكي — سكرتير مجلس النظار —
مديرًا للكتبخانة. وفي عام ١٩١٣م، تولَّى المنصب مستشرق ألماني هو الدكتور آرثر شاد،
الذي تم إبعاده عن مصر عند قيام الحرب العالمية الأولى، وقام بروفر وشاد بالخدمة مع
المخابرات الألمانية في فلسطين، مستفيدين في ذلك من قدراتهما اللغوية.
٥٨
تعلَّم نفر قليل من المصريين اللغة الألمانية، على عكس الأتراك في مركز الدولة
العثمانية. وكان من بين القلة الذين تعلموا الألمانية علي بهجت، وعباس الثاني،
وأحمد كمال. فقد درس عباس بمدرسة تريزيانوم بفيينا، واختار أنطونيو لاسياك — الذي
وُلد نمساويًّا مجريًّا رغم كونه وطنيًّا إيطاليًّا — ليعمل مهندسًا معماريًّا
بقصره. كان توسع النمسا والمجر على حساب الدولة العثمانية في البلقان يجعلها موضع
بغض المسلمين، ولكن الروابط العسكرية والسياسية والثقافية الألمانية مع إستانبول
والأناضول والهلال الخصيب، زودت بعضها البعض بعوامل القوة. وكان خط سكك حديد برلين
— بغداد رمزًا لهذا التحالف، وعندما قام القيصر فيلهلم الثاني بزيارة السلطان عبد
الحميد الثاني (١٨٩٨م) أخذ معه إلى برلين من إستانبول والقدس، كمية كبيرة من الآثار
التي شغلت مساحة كبيرة من مبنى المتحف الإمبراطوري الجديد ببرلين.
٥٩
وكان التنافس الأنجلو-فرنسي في مصلحة الآثار والمعارف يطل برأسه — أحيانًا — في
لجنة حفظ الآثار العربية. ففي سياق ترويجه لتأسيس اللجنة، ذكر شارم: «يحق لفرنسا أن
تفخر لاكتشافها مصر الحديثة، واسترجاعها لمصر القديمة الذي يمهد الطريق لمصر
المستقبل: فهل تترك للآخرين إبراز مصر العربية، وجعلها معروفة للعالم؟»
٦٠
ولم يتوانَ لين بول عن إبراز خشيته من الفرنسيين كتابة: «إن أصدقاءنا الفرنسيين
الذين يعيِّروننا بعادة كتابة أسمائنا على الآثار (بينما معظم الأسماء الكبيرة
البارزة أسماء فرنسية)، هم أكبر المخربين للقاهرة، فأين ذهبت الأبواب البرونزية
المفقودة من المساجد، وغيرها من كنوز الفن العربي … التي لم نعد نراها؟ إنها في
باريس، وإذا سألنا عن ذلك الهمجي الذي اقتلع مربعًا كبيرًا من الفسيفساء بجامع
برسباي بالقرافة الشرقية، سيدهشنا البواب عندما يجيبنا: إنه مارييت المستنير، الذي
ينحي باللائمة على السياح الإنجليز، والذي قام بتخريب الفسيفساء ليرسل شيئًا منها
إلى معرض باريس.»
٦١
ويبدو أن كرومر لم يساوره القلق إزاء النفوذ الفرنسي في اللجنة التي تعاقب على
عضويتها مديرو مصلحة الآثار المصرية، وباحثو المعهد الفرنسي للآثار الشرقية. فلم
يزد عدد البريطانيين باللجنة على عدد الفرنسيين إلا في الثلاثينيات من القرن
العشرين، عندما كان التمصير قد بدأ.
وقد أزاحت وفاة روجرز عام ١٨٨٥م، العضو البريطاني الوحيد باللجنة. ولكن ما لبث
المستشار البريطاني لنظارة الأشغال العمومية (سكوت مونكريف، ثم وليم جارستن)،
والمستشار البريطاني للمالية (إدجار فنسنت)، أن قاما بملء هذه الفجوة. ورغم أنهما
لم يكونا على درجة من العناية بالفن الإسلامي مثل روجرز، فإن وجودهما باللجنة أقام
جسرًا متينًا بين اللجنة ودار المعتمد البريطاني. وكان انضمام المعماري سومرز كلارك
إلى اللجنة، عندما اتسعت مسئولياتها لتشمل الآثار القبطية في التسعينيات، يمثل
إضافة واضحة. وانضم كذلك (عام ١٩١٠م) هاري فارنول من «صندوق الدين العام، وما لبث أن
أصبح صاحب الصوت القيادي البريطاني في اللجنة.»
٦٢
ولم يكن لإيطاليا صوت باللجنة حتى انضمام المعماري ألفونسو ما نيشالو إليها عام
١٨٩٧م، وأصبح بوتِّي أمين المتحف اليوناني-الروماني عضوًا مراسلًا.
٦٣ أما اليونان التي اتجهت إليها أنظار النخبة السياسية في الغرب، فلم تكن
ممثلة في ميداني المصريات، والدراسات الشرقية، على حد سواء.
متحف الفن العربي
انتقل متحف الفن العربي — خلال عقدين من الزمان — من مكان لآخر، فأقيم بمسجد
الحاكم بأمر الله، بالقرب من أحد أبواب القاهرة الفاطمية الشمالية. وكان المسجد
خربًا في مطلع الثمانينيات، عندما قامت نظارة الأوقاف، ولجنة حفظ الآثار بإزالة
الركام، وسوت أرض الصحن، ورمم القسم الأوسط من المصلى لإقامة المتحف وكان من المقرر
إقامة مدرسة للفنون في الصحن.
٦٤
وقام فرانتز بحشد مجموعة من آثار التراث الفني الإسلامي، وقدم روجرز ويعقوب أرتين
المشورة حول كيفية ترتيبها. وفي العام ١٨٨٣م، أضافت اللجنة مبنى مؤقت في صحن المسجد
لاستيعاب الآثار التي تدفقت على المتحف، وافتُتح المتحف عام ١٨٨٤م، ولم يعيَّن سوى
حارس. وعندما تبيَّن للجنة أنه «لا يرتدي زيًّا مناسبًا، ولا يتَّسم بحسن السلوك، وغير
قادر على الشرح لزوار المتحف»، قررت اللجنة البحث عن «أفندي متعلم، تتوفر لديه
القدرات المطلوبة، ويجيد التحدث بالفرنسية».
٦٥ وحتى عام ١٨٩٥م، لم يكن هناك سوى نسختين من مخطوطتين من كتالوج المتحف.
ففي ذلك التاريخ قام هرتز بطبع دليل فرنسي لمقتنيات المتحف، وقام ستانلي لين بول
بترجمته إلى الإنجليزية.
٦٦ وقد تم تنسيق المتحف على أساس المواد التي صنعت منها المعروضات:
الزجاج، والمعادن، والخزف، والخشب، إلخ. وقد ملأت المعروضات ثماني غرف، وممرًّا
وملحقين.
وكان هذا المتحف المؤقت لا تقع عليه عيون السياح تقريبًا في وقت كانت فيه
المجموعات الإسلامية بمتاحف الغرب أفضل قليلًا. فعندما أسس متاحف بولاق، استطاع
مارييت أن يستلهم الأفكار الخاصة بالتنسيق من متاحف باريس ولندن وبرلين وتورينو،
ولكن مجموعات الفن الإسلامي كانت تتحسس طريقها في أوروبا ومصر على السواء بعد جيل
كامل.
فقد ذهبت الآثار الإسلامية التي عرضت بمعرض كرستال بالاس عام ١٨٥١م، إلى متحف الفن
الزخرفي، الذي أصبح — فيما بعد — متحف ساوث كنجستون، ثم متحف فيكتوريا وألبرت. كما
أن الآثار الإسلامية التي عرضت بمتحف باريس ١٨٦٧م — أيضًا — أثرت مقتنيات باريس من
تلك الآثار. وفي أعقاب الاحتلال البريطاني، أوفد متحف ساوث كنجستون، ستانلي لين بول
إلى مصر لشراء قطع أثرية مما كان معروضًا بالسوق عندئذٍ. وفي العام ١٨٩١م، احتوى
المتحف السلطاني للآثار في مبناه الجديد بحديقة قصر طوب قابي، على قسم للآثار الإسلامية.
٦٧ وأقام فردريش سار قسمًا إسلاميًّا بمتحف الدولة ببرلين عام
١٩٠٤م.
وبحلول عام ١٨٩٨م بدأ العمل في بناء المتحف المصري الجديد، بعدما استطاع كرومر
إقناع «صندوق الدين العام» بتخصيص ٤٥ ألف جنيه مصري لإقامة بناء يضم الكتبخانة
الخديوية ومتحف الفن العربي معًا. ولما كانت واجهة المتحف اليوناني-الروماني
بالإسكندرية قد صممت على شكل معبد دوري، فلماذا لا تتخذ واجهة مبنى الكتبخانة ومتحف
الفن العربي طابعًا إسلاميًّا جديدًا، وخاصة أن الكتبخانة تضم مجموعات رائعة من أهم
المخطوطات العربية والإسلامية في العالم؟
قام ألفونسو مانيشالو — المعماري الإيطالي الذي انضم للجنة عام ١٨٩٧م — بتصميم
المبنى (انظر الشكل
٣٩) الذي استلهم العمارة المماليكية مع
بعض الملامح الأندلسية، ورغم هذا التصميم والزخارف الإسلامية، وكان المبنى يتفق مع
الأفكار الغربية المتصلة بالمكتبات العامة والمتاحف، واحتل المتحف الدور الأرضي،
بينما احتلت الكتبخانة — التي كان لها مدخلًا مستقلًّا — الدور العلوي.
٦٨
وكان موقع المبنى مناسبًا أيضًا، بشارع محمد علي بباب الخلق عند التقاء القاهرة
القديمة بالقاهرة الحديثة (انظر الخريطة ٢). وعلى بعد بضعة مربعات شرقًا يقع جامع
المؤيد وباب زويلة. الذي يحرس مدخل القاهرة الفاطمية، وإلى الغرب وقف قصر عابدين
والمدينة الحديثة. ويقع المبنى عند تقاطع شارع محمد علي مع شارع الخليج متخذًا
موقعًا وسطًا بينهما. وعلى نقيض المتحف المصري الذي كُتبت لوحة تأسيسه باللاتينية،
لم تحمل لوحة تأسيس مبنى المتحف والكتبخانة سوى اسم عباس الثاني بالعربية
وحدها.
وفي ٢٨ ديسمبر ١٩٠٣م، قام الخديو عباس الثاني بافتتاح «هذا المبنى البديع ذي
الطراز العربي»، بحضور اللورد كرومر، وقناصل الدول، والنظار، والشيخ حسونة النواوي
شيخ الأزهر السابق والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وشيخَي الطريقة البكرية
والطريقة الساداتية.
٦٩ وأصبح المتحف بحاجة إلى دليل جديد، طبعه هرتز عام ١٩٠٦م.
أصبح من الواضح بعد الافتتاح أن محاولة تدبير ميزانية سنوية للمتحف من إيرادات
أراضي الوقف المخصصة له قد باءت بالفشل. فقد كان من المتوقع أن تصل الإيرادات إلى
٢٠٩٣ جنيهًا سنويًّا، ولكن كان متوسط إيراد أراضي الوقف فيما بين ١٩٠٠ و١٩٠٤م لا
يتجاوز ١١٦٠ جنيهًا سنويًّا. واضطرت الحكومة أن تخصص للمتحف ميزانية سنوية قدرها
٢٠٣٥ جنيهًا من الموازنة العامة، مع زيادتها مرة واحدة لتغطية العجز المتراكم.
٧٠
وعندما كان المتحف لا يزال في مكانه القديم في التسعينيات، أعرب لين بول عن تشككه
من أن يكون واحدًا من بين كل مائة سائح قد سمع بوجوده. وأولئك الذين عرفوا طريقهم
إليه كانوا يظنونه المتحف الفرعوني.
٧١ ولكن متحف الفن العربي لم يستطع منافسة المتحف المصري رغم موقعه
المتميز — كعلامة ثقافية بارزة سواء في عيون الغربيين أو المصريين، وتكلف بناء
المتحف المصري الجديد عام ١٩٠٢م أربعة أضعاف ما تكلفه مبنى الكتبخانة ومتحف الفن
العربي. وما زال المتحف المصري اليوم علامة ثقافية بارزة في ميدان القاهرة المركزي،
رغم تطاول فندق هيلتون ومبنى جامعة الدول العربية ومبنى المجمع عليه، بينما يقع
متحف الفن العربي في مكان لا يقطعه السياح إلا نادرًا. وحدد دليل بايدكر السياحي
للعام ١٩٠٨م قيمة كل من المتحفين من وجهة نظر صناعة السياحة، فخصص الدليل ٢٤ صفحة
للمتحف المصري وخريطة مطوية لطابقيه، ولم ينل متحف الفن العربي سوى صفحتين ونصف الصفحة.
٧٢ وفي العام ١٩١٣م بلغ عدد زوار المتحف المصري ٢٩.٨٧٩ زائرًا، ويمثل هذا
العدد ستة أضعاف زوار متحف الفن العربي البالغ عددهم ٥١٦٦ زائرًا.
٧٣
العمارة الإسلامية الجديدة
وجاء تصميم مانيشالو لمبنى متحف الفن العربي والكتبخانة، والتصميم المعدل الذي
وضعه هرتز لاستكمال مسجد الرفاعي، ولمبنى نظارة الأوقاف الجديد، جاء ليضع أعضاء
اللجنة قرب مركز إحياء العمارة «العربية» أو الإسلامية بالقاهرة. وكلمة «إحياء»
تفترض وجود تدهور سابق عليها، فعند منتصف القرن التاسع عشر، عزفت مصر عن اتباع
الطرز المماليكية والعثمانية في تشييد المباني الرئيسية. وكان مسجد محمد علي
بالقلعة من حيث الطراز المعماري نقلًا حرفيًّا للمساجد السلطانية بإستانبول، في تحد
رمزي للسلطان الذي ناصبه محمد علي العداء. ولكن حتى عندما كان بناء المسجد يسير على
قدم وساق في الثلاثينيات، كان الطهطاوي يسبح بحمد العمارة الباريسية «المتحضرة»
باعتبارها نموذجًا يُحتذى.
٧٤ وعبر لين عن حزنه لما ترتب على إغارة العمارة الأوروبية على القاهرة من
نتائج وخيمة. ففي عهد سعيد وإسماعيل، أقبل أثرياء المصريين والأجانب على إقامة
المباني أوروبية الطراز، واحتكر الإيطاليون صناعة البناء والزخرفة في مصر.
٧٥
ولم يكن إحياء العمارة الإسلامية سوى طراز أوروبي مستورد آخر، يمثل — بدرجة أقل —
نهضة معمارية ذات طابع محلي. فقد كانت المنافسة في الغرب — في القرن التاسع عشر —
قائمة على قدم وساق بين إحياء الطراز القوطي والروماني واليوناني، والكلاسيكية
الجديدة التي تستلهم أفكارها من عصر النهضة، وأولئك الذين لم يقبلوا بأيٍّ من تلك
الخيارات، اتجهوا نحو «الشرق العريق». فصمم جون ناش الجناح الملكي في برايتون
(١٨١٥–١٨٢٣م) متأثرًا بالعمارة المغولية بشكل كان ملفتًا للنظر، ولكن أول مبنى بلندن
استلهم العمارة الإسلامية كان البهو الملكي
Royal
Panopticon (عام ١٨٥٣م). وتأثر أوين جونز بدراسته لقصر الحمراء
بالأندلس عند تصميمه الزخارف الداخلية للمعرض الكبير بكرستال بالاس (١٨١٥م)، كما
تأثر بالقصر الإسلامي الذي أعيد بناؤه في سندام، وساعد كتابه «قواعد الزخرفة»
(١٨٥٦م) على نشر التصاميم الإسلامية، وأصبحت الأجنحة ذات الطراز المعماري الإسلامي
الجديد شائعة بجميع المعارض الدولية، ومن بينها جناح «شوارع القاهرة» بمعرض
كولومبيا-شيكاجو سالف الذكر.
٧٦
وفي باريس، تمسكت «مدرسة الفنون الجميلة»، ومجلس المباني الحكومية بالأفكار
الكلاسيكية وأفكار عصر النهضة كمثال للجمال الكوني، في مواجهة اتجاه إحياء الطراز
القوطي الذي دعا إليه فيوليه لودوك «ولجنة الآثار التاريخية»،
٧٧ وتنبأ شارم عام ١٨٨١م بأنه «سيأتي الوقت الذي يضيق فيه شباب المعماريين
ذرعًا بالطرز اليونانية والرومانية التي كررها السابقون عليهم، وقتلوها بحثًا،
وأصبحوا على علم بنتائجها قبل مغادرتهم باريس، ويأتون إلى مصر ليقفوا على اتجاه لا
يزال غفلًا.»
٧٨
وكان باسكال كوست قد مزج في العشرينيات الزخارف الإسلامية والفنون الجميلة في
المباني ذات الطابع الإيطالي التي صممها لمحمد علي. كما صمم كوست مسجدًا مستلهمًا
الآثار المماليكية، ولكن تلك التصاميم لم تعرف طريقها إلى التنفيذ.
٧٩ وكان جيمس وايلد — صهر أوين جونز — قد جاء إلى مصر ضمن بعثة الآثار
المصرية التي قادها ليبسيوس، ثم بقي في مصر لدراسة العمارة الإسلامية، وكلف بوضع
تصميم لكنيسة القديس مرقص الإنجيلية بالإسكندرية. وقد مزج بين الزخارف البيزنطية
والإسلامية لتأكيد التراث المسيحي العريق للمدينة، وليوحي للمسلمين بنزعة التسامح
الديني عند بريطانيا. وعندما عاد وايلد إلى لندن عمل مستشارًا لمتحف ساوث كنجستون
في الزخرفة الإسلامية.
٨٠
وفي الستينيات وضع يوليوس فرانتز تصميم قصر إسماعيل بالجزيرة بمساعدة كوريل
دلروسو على طراز انتقائي إسلامي جديد. وقام ألماني آخر هو كارل فون ديبتس باستكمال
ملحق القصر وواجهته من الحديد الزهر التي اتخذت شكل الأقواس الأندلسية. وقام
المعماري النمساوي فرانتيسيك شمورانتز ببناء قصر بالإسماعيلية على عجل ليكون جاهزًا
عند افتتاح قناة السويس. وعندما عاد إلى فيينا قام بتنسيق الأغراض التي جمعها من
القاهرة للجناح المصري الذي قام بتصميمه للمعرض الدولي عام ١٨٧٣م، وفيما يتعلق
بالعمارة المحلية في مصر، أشاد بالفيلا التي أقامها أمبرواز بودري لنفسه بالقاهرة
على الطراز «العربي» وعند انتهاء القرن بدأ آخرون يحذون حذوه في العمارة المحلية.
٨١
بدأت ضاحية مصر الجديدة عام ١٩٠٦م، وكانت حلمًا استعماريًّا شرقيًّا للبارون
البلجيكي إمبان. وقام جاسبي — المعماري البلجيكي — بتصميم «شارع عباس»، وفندق
«هليوبولس بالاس» الذي يعد علامة على الضاحية. وكما حدث في الكثير من المباني
العامة التي شيدت على الطراز الإسلامي الجديد، استخدمت العناصر الإسلامية في
الزخرفة، ولكن النوافذ والشرفات الخارجية، وقاعات الاجتماعات كانت جميعًا غريبة
الطراز، واتسمت النزعة الانتقائية في مصر الجديدة بالتمرد؛ فالحدائق الخارجية اتخذت
طابعًا أندلسيًّا بينما استلهمت البواكي والأعمدة العمارة الإيطالية أو الفرنسية.
٨٢
وإذا كانت الأقواس الأندلسية تفتقر إلى الأصالة في القاهرة، فما هي البدائل ذات
الجذور المحلية التي يرتكز عليها إحياء العمارة الإسلامية؟ كان الطراز العثماني
مستبعدًا عند سعيد وإسماعيل اللذان تركا مسافة بينهما وإستانبول. ولم يكن هناك سوى
جامع ابن طولون ممثلًا للطراز الإسلامي السابق على العصر الفاطمي، وكانت هناك بضعة
آثار فاطمية لا تزال قائمة، ولكن المنشآت المماليكية المبهرة كانت ماثلة في كل
مكان. ورغم أن المماليك لم يكونوا في الأصل عربًا أو مصريين، فإن إحياء العمارة
المماليكية كان ملائمًا تمامًا للنهضة العربية — المصرية، بعد قرون قضتها مصر كمجرد
ولاية من ولايات الدولة العثمانية. وكان الطراز المماليكي في أوروبا واحدًا من بين
عدة نماذج استشراقية، ولكنه أصبح في مصر بمثابة العودة للجذور المحلية، تمامًا مثل
إحياء الطراز القوطي في العهد الفيكتوري بإنجلترا.
كلف عباس الثاني ماكس هرتز ليضع خطة جديدة (عام ١٩٠٥م) لاستكمال مسجد الرفاعي
قبالة جامع السلطان حسن المماليكي الطراز. وكان حسين فهمي — كما ذكرنا من قبل — قد
وضع التصميم الأصلي للمسجد، وبدأ بناءه عام ١٨٦٩م. وقد انهارت القبة أثناء عملية
البناء، ثم توقف العمل بسبب إفلاس إسماعيل. وقد ألقى رونيه باللوم على خليل أغا
وعده مسئولًا عن سقوط القبة لعدم استجابته لتحذيرات المهندس المعماري. وقد تعاون
هرتز مع كارلو فرجيليو سيلفاني في وضع تصميم مماليكي جديد لاستكمال بناء المسجد.
٨٣
وعمل في خدمة القصر بمصر، معماريون أوروبيون آخرون من المهتمين بالعمارة
الإسلامية. وفي عام ١٩١٠م، انضم أنطونيو لاشياك — كبير المعماريين بالقصور الخديوية
— إلى لجنة حفظ الآثار، وكان يعمل بالطراز الإسلامي الجديد، وغيره من الطرز
المعمارية الأخرى.
وبعد قمع ثورة الهند عام ١٨٥٧م، فضل البريطانيون الطراز المعماري «الهندو- عربي»
ليعطوا انطباعًا بتوطيد أقدامهم في البلاد مثلما فعل المغول الغزاة من قبل. أما في
مصر، فكان الاحتلال حديث العهد محاطًا بمنافسات شديدة من القوى الأوروبية الأخرى،
ولا يجد متسعًا لمحاولة تقديم بيان مماثل من خلال العمارة. وكانت هناك سياسة
معمارية أخرى في الهند تفرض على الأمراء استخدام الطراز الهندو-إسلامي في مبانيهم
لأنهم كانوا يريدون تأكيد حداثتهم من خلال بناء قصور على الطراز الكلاسيكي الجديد.
٨٤ أما في مصر، فقد أقام إسماعيل قصر عابدين على الطراز الكلاسيكي الجديد،
وعبر عباس الثاني عن حداثته ببناء قصر المنتزه بالإسكندرية على الطراز الفلورنسي
الجديد. وعلى كلٍّ، أخذ الطراز الإسلامي الجديد يروج بين الطبقة العليا من المصريين
في العقد الأول من القرن العشرين. وعندما توفي علي بهجت كان يعيش في فيلا على
الطراز «العربي» بالمطرية.
٨٥
كان أحمد زكي — الموظف بالقصر الخديو وعضو لجنة حفظ الآثار — محبًا للكتب وعالمًا
في الأدب العربي، وقد اعتبر الطراز المعماري الإسلامي الجديد الذي ابتدعه
الأوروبيون فاشلًا من الناحية الفنية. واختلف أحمد زكي مع هرتز حول الجهود التي
بذلتها اللجنة و«مدرسة الفنون الجميلة» — التي أقامها الأمير يوسف كمال — لإحياء
الفن «العربي».
٨٦ وكانت المدرسة قد فتحت عام ١٩٠٨م، وتولى إدارتها المثال جيلوم لابلان،
يعاونه بعض مدرسي الرسم والعمارة من الأوروبيين، واستهجن لابلان الاتجاه نحو
استعارة الطرز المعمارية الأوروبية، وعمل على إحياء الفن العربي، الذي قضى عليه
العثمانيون — على حد قوله — على مدى أربعة قرون مضت، وتولى الأمير يوسف كمال
الإنفاق على المدرسة مدة عقدين من الزمان، وكانت الدراسة مجانية كما أوفد الأمير
المثال محمود مختار إلى باريس لإكمال دراسته، وقد انضم الأمير يوسف كمال إلى عضوية
«لجنة حفظ الآثار» لفترة قصيرة.
٨٧
وعند نهاية القرن برز المعماريون المصريون من خلف الظلال، وبدءوا يكلفون بأعمال
كبرى. تُرى، هل كان تركيزهم على الطراز المماليكي الجديد بحثًا عن الأصالة التي تضرب
جذورها في أعماق مصر؟ أم كان نوعًا من الكلاسيكية الجديدة المصرية؟ أم كانوا مجرد
مقلدين للنماذج المعمارية التي أقامها الأوروبيون بالقاهرة والإسكندرية؟ ربما كانوا
يجمعون بين ذلك كله، فلم تتم دراستهم إلا قليلًا. وبعد الحرب العالمية الأولى،
ستصبح العمارة الفرعونية الجديدة — التي كان للأوروبيين فضل ريادتها أيضًا — مشابهة
في غموضها.
مواقع المقاومة، موظفو الأوقاف والقصر
حضر كلٌّ من الأوروبيين الخمسة — بالقسم الفني للجنة — الاجتماعات بمتوسط ١٩ مرة
فيما بين ١٨٩٤ و١٨٩٥م، بينما لم يحضر كل من المصريين الأربعة بنفس القسم اجتماعات
اللجنة إلا خمس مرات خلال نفس الفترة،
٨٨ وربما كان ذلك نوعًا من المقاومة السلبية، أو خشية مواجهة الخبراء
الأوروبيين، أو بسبب قلة الاهتمام، أو نتيجة ضغط العمل، كلها أسباب ربما أسهمت معًا
في الحد من مواظبة المصريين من الأعضاء على حضور اجتماعات اللجنة. لقد عبر المصريون
الآخرون من أعضاء اللجنة — غالبًا من موظفي الأوقاف وممن لهم صلات بالقصر — عن
مقاومتهم الضمنية للهيمنة الأوروبية على اللجنة، وذلك في السنوات التي أعقبت ترك
علي مبارك لها. ولما كانت مضابط الاجتماعات بيد الأوروبيين، يحتاج الباحث إلى قراءة
ما بين السطور ليستشف تلك المعارضة المقنعة.
لقد قام محمد علي بوضع يده على الكثير من الأوقاف المحسوبة على دور العبادة، مما
أدى إلى الإسراع في تداعي العديد من الأوقاف في اختصاص إدارة حكومية، ارتقى بها
إسماعيل إلى مستوى الوزارة (النظارة)، وفي العام ١٨٨٤م، هبط بها توفيق إلى مستوى
«المصلحة» لينأى بها عن مجلس النظار (الذي كانت قبضة الإنجليز عليه قوية)، وليجعلها
تابعة له مباشرة: وأتاح ذلك لتوفيق، وعباس الثاني — من بعده — موارد مالية بعيدة عن
تدخل الإنجليز، استخدمت لأغراض الرعاية. وبذلك كان كبار موظفي الأوقاف من رجال
القصر، وليس من قبيل الصدفة أن رؤساء الوزارة (فيما بعد): حسين رشدي، وعدلي يكن،
وأحمد زيور، وإسماعيل صدقي، تولَّى كل منهم منصب مدير عام مصلحة الأوقاف، فلم يكن
كرومر يتدخل في شئون الأوقاف أو الأزهر خشية رد الفعل الديني. وأعاد كتشنر الأوقاف
إلى مستوى الوزارة عام ١٩١٣م، ولكنه فشل في مسعاه لكف يد القصر عن التحكم في ميزانيتها.
٨٩
وكانت رئاسة اللجنة لناظر الأوقاف، كما كان أربعة من بين الأحد عشر عضوًا
الأصليين موظفين بالأوقاف (هرتز وثلاثة من المصريين). وظهر نسق للتصويت باللجنة،
استطاع من خلاله الأوروبيون، والعضوان الأرمينيان، وعضو مسلم واحد، التغلب على
المقاومين، وتحقيق استقلالية اللجنة عن الأوقاف. وفي عام ١٨٩٠م تجاوزت اللجنة
اعتراضات الخديو، وأنشأت مكتب فني خاص لإصلاح الآثار. ولكن مهندس الأوقاف صابر
صبري، وإسماعيل الفلكي، وقفا إلى جانب ناظر الأوقاف على رضا في التصويت على إلغاء
المكتب الجديد، غير أن الأوروبيين الأربعة، ويعقوب أرتين، وحسين فخري ناظر الأشغال
العمومية هزموا اقتراح الإلغاء.
٩٠ ولعب فخري وأرتين نفس الدور — في مناسبات عدة — لمناصرة التكتل
الأوروبي باللجنة. ورغم أن فخري وأرتين أحسَّا بالألفة في الوسط الفرانكفوني
باللجنة، والجمعية الجغرافية الخديوية، والمجمع العلمي المصري، بشكل يفوق الدوائر
الناطقة بالإنجليزية، فقد توصلا إلى تفاهم براجماتي مع المحتلين
البريطانيين.
واتبعت «معارضة الأوقاف» المهزومة أسلوب المباغتة، فعندما كان الأوروبيون يقضون
إجازة الصيف ببلادهم عام ١٨٩٣م، دعا صبري والفلكي إلى اجتماع عاجل للقسم الفني،
وأضافوا إلى القسم أربعة من المهندسين المصريين بحجة متابعة الأعمال العادية خلال
الصيف. وفي العام ١٨٩٧م، احتج صبري وعضوان آخران على تنظيف الآثار الحجرية باستخدام
محلول البوتاسيوم واقترحوا بدلًا من ذلك إتباع أسلوب الحك الشديد (السنفرة) لتنظيف
تلك الآثار، ولكن غالبية أعضاء اللجنة خذلتهم، واتخذت قرارًا بمنع «كشط أو حك أي
حجر». وقام القسم الفني — أيضًا — بتأنيب صبري لقيامه بإدخال تعديلات على تقرير عن
الإصلاحات بعدما وقع عليه الأعضاء.
٩١
وهُزمت نفس الأقلية عندما أدخل فخري والأوروبيون من أعضاء اللجنة الآثار القبطية
تحت حماية اللجنة عام ١٨٩٦م، ووافق البطريرك على المساهمة في إصلاح الآثار القبطية،
وألا تذهب أي من أموال الأوقاف إلى الكنائس، وصوَّت الأوروبيون الخمسة والأرمينيان
وحسين فخري إلى جانب ضم اثنين من الأقباط إلى عضوية اللجنة، وتغلَّبوا بذلك على فيظي
— رئيس اللجنة — وصابر صبري، وإسماعيل الفلكي الذين رأوا ضم واحد فقط. ولكن لم تتم
الموافقة على تغيير اسم اللجنة لتصبح «لجنة حفظ آثار الفن العربي والقبطي».
٩٢ وسيعود الفصل السابع من هذا الكتاب إلى تناول دور الأرمن والأقباط خاصة
في اللجنة والحياة الوطنية.
علي بهجت، والوطنية، والمستشرقون
لولا اصطدام علي بهجت بدوجلاس دانلوب — الأسكتلندي الصارم الذي أدار نظارة
المعارف لحساب كرومر — لظل حتى تقاعده موظفًا مجهولًا بالمعارف. فقد حدث ذات مرة في
أواخر التسعينيات أن أعد بهجت ووكيل النظارة أرتين يعقوب خطابًا لناظر المعارف حسين
فخري لتوقيعه، فتورط حسين فخري في الخطأ عندما وقع الخطاب دون الرجوع إلى دانلوب
مستشار المعارف، فاضطره الأخير أن يسحب توقيعه — فيما بعد — فكتب علي بهجت مقالًا
بدون توقيع نشرته جريدة «المؤيد» المعارضة للاحتلال، هاجم فيه دانلوب ودافع عن فخري
وأرتين. واكتشف دانلوب فعلة بهجت، وكاد يدمر مستقبله لولا تدارك فخري وأرتين للأمر،
فاتخذا — عن طريق لجنة حفظ الآثار — قرارًا بنقل بهجت إلى مصلحة الآثار، بعيدًا عن
متناول دانلوب.
٩٣
وتعكس هذه الحادثة حقيقة وضع الوزير في إطار جدلية الإمبريالية/الوطنية؛ فالوزراء
لا يملكون رفض «نصيحة» المستشار البريطاني، كما كان الخديو عباس حلمي الثاني لا
يملك تجاهل ممثل بريطانيا صاحب اللقب المتواضع «القنصل العام». وكان دانلوب وكرومر
— ولا يزالان — عدوين لدودين في نظر الوطنيين المصريين.
كانت «المؤيد» التي يصدرها الشيخ علي يوسف بمثابة المتحدث غير الرسمي بلسان عباس
الثاني، الذي شجع الطلبة والمهنيين على معارضة الاحتلال. وفي العام ١٨٩٦م، انضم علي
بهجت، ولطفي السيد، وعبد العزيز فهمي، وطلعت حرب، وأربعة آخرون إلى جمعية سرية
لتحرير مصر. وأصبح طلعت حرب مشهورًا باعتباره مؤسس بنك مصر وشركاته، وأصبح عبد
العزيز فهمي قانونيًّا بارزًا، وأصبح لطفي السيد رئيس تحرير «الجريدة» مديرًا
للجامعة المصرية، ووزيرًا، وموجهًا لجيل كامل من المصلحين. واشتم عباس وجود الجمعية
فطلب من صفيه مصطفى كامل أن يحضر لطفي السيد إلى القصر، وكانت ثمرة هذا الاجتماع،
أن أرسل عباس (في ١٨٩٧م) لطفي السيد إلى سويسرا للإقامة لمدة عام ليتأهل للحصول على
جنسيتها، عندئذٍ يعود إلى مصر لإصدار جريدة معادية للاحتلال تحت حماية الامتيازات
الأجنبية. وحمل لطفي السيد معه بعض الكتب من علي بهجت لتوصيلها إلى عالِمَين في
سويسرا: المستشرق ماكس فان بيرشم، وعالم المصريات إدوارد نافيل. وحضر لطفي السيد
بعض محاضرات جامعة جنيف، كما ساعد بيرشم في أبحاثه.
٩٤ ولكن مشروع عباس لم يقدر له النجاح، فقد وصل الشيخ محمد عبده — الذي
كان على علاقة سيئة بالخديو — إلى جنيف وأصبح صديقًا حميمًا للطفي السيد، فقطع
الخديو معونته المالية للطفي السيد عندما بلغته أنباء تلك العلاقة. وعاد لطفي السيد
إلى مصر تاركًا لمصطفى كامل مهمة بدء مرحلة من الصحافة المعارضة للاحتلال عام ١٩٠٠م
من خلال جريدة «اللواء».
كتب علي بهجت مقالات نشرت بمجلة «الموسوعات» فيما بين ١٨٩٨ و١٩٠١م، وقعها أحيانًا
باسمه، وأحيانًا أخرى بالاسم المستعار «آثاري»،
٩٥ ورشحه يعقوب أرتين للمعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة لمساعدة
الباحثين في اللغة العربية، والتقى علي بهجت وماكس فان بيرشم في ذلك المعهد، الذي
شجعه على خوض غمار الدراسات الشرقية، وعلم المتاحف، والآثار الإسلامية.
واستطاع فخري وأرتين أن ينقذا بهجت من دانلوب بفضل علاقتهما الوثيقة بالدوائر
الفرانكفونية والمؤسَّسات الثقافية بمصر. فقد وُلد حسين فخري لأسرة من النخبة
«التركية» التي خدمت محمد علي، كان والده — جعفر صادق — قائدًا عسكريًّا شركسيًّا،
وكان حسين فخري أصغر من أرتين — وكيل الوزراء الأرمني — بعام واحد. وقد درس القانون
بفرنسا لمدة أحد عشر عامًا وعمل بالنيابة هناك، وعاد إلى مصر عام ١٨٧٤م قبل أن يؤسس
نوبار وإسماعيل المحاكم المختلطة بوقت قصير، وأعطى تأسيسها الأفضلية المطلقة لمن
خبروا القانون الفرنسي، وأصبح حسين فخري ناظرًا للحقانية (وزيرًا للعدل) وهو في
السادسة والثلاثين، ثم رئيسًا للنظار في سن الأربعين، رغم أن وزارته لم تدُم سوى
ثلاثة أيام؛ لأن عباس الثاني كلفه برئاستها دون استشارة كرومر. ولعل إجهاض وزارته
أعطاه «شهرة لا يستحقها كوطني».
٩٦ ولكنه عاد بعد عام واحد عضوًا بوزارة مصطفى فهمي، فظل ناظرًا للمعارف
والأشغال العمومية لمدة ١٢ عامًا.
ولعب حسين فخري دور الرئيس التركي لأرتين — المثقف والعالم والمترجم — في لجنة
حفظ الآثار، والمجمع العلمي المصري، والجمعية الجغرافية. وخلال السنوات الطوال التي
شغل فيها منصب نائب رئيس المجمع والفترة القصيرة التي تولَّى فيها رئاسته، لم يقم
فخري بإلقاء بحث واحد، بينما قدم أرتين فيضًا من التقارير، والترجمات، والأوراق البحثية.
٩٧
وقد قام فخري وأرتين بإلحاق علي بهجت بلجنة حفظ الآثار في بداية عام ١٩٠٠م،
ولكنهما لم يتمكنا من إلحاقه بوظيفة بمصلحة الآثار إلا بعد عامين. وحاولا تعيينه
أمينًا لمتحف الفن العربي، ولكن هرتز حصل على هذه الوظيفة في يناير ١٩٠٢م (مع
استمراره في العمل كبيرًا للمعماريين والأوقاف وباللجنة)، وحصل بهجت على وظيفة أمين
مساعد للمتحف براتب قدره ٢٥جنيهًا شهريًّا، وقدر له أن يعمل ١٢ عامًا تحت رئاسة هرتز.
٩٨
كان فخري شركسيًّا، وأرتين أرمينيًّا، وبهجت تركي الأصل، وربما نظر الوطنيون إلى
الأولَين نظرتهم إلى المتعاونين مع الاحتلال، وإلى بهجت نظرتهم إلى المهني البعيد عن
السياسة. فمن كان مثله كأحمد كمال وإسماعيل الفلكي، وأحمد شفيق، وأحمد زكي، خالطوا
الأوروبيين في المجمع العلمي المصري والجمعية الجغرافية، والجامعة المصرية عندما
كان الاحتلال في عنفوانه والإمبريالية في ذروة هيمنتها. فإذا كانوا لم يبلغوا من
الوطنية ما بلغه مصطفى كامل، وما بلغه — فيما بعد — سعد زغلول، فإن أحمد كمال وعلي
بهجت تحدوا ادعاء الأوروبيين بأنهم وحدهم أهل العلم والمعرفة والكفاءة في الإدارة،
وبذلك وضع أحمد كمال وعلي بهجت الأسس الثقافية التي بنى عليها الوطنيون فيما بعد.
وقد خطا بهجت خطواته الأولى على طريق الآثار الإسلامية عام ١٨٨٧م، عندما ترجم
الأعمال الأولى للجنة حفظ الآثار إلى اللغة العربية، ويبدو أن أرتين كان وراء
تكليفه بهذا العمل. وفي عام ١٨٩٤م ترجم إلى العربية تقريرًا كتبه أرتين عن التعليم،
ويبدو أن تزكية أرتين له لدى المعهد الفرنسي للآثار الشرقية كانت تهدف إلى إعطائه
قدرًا من «التدريب العلمي» لباحث واعد لم تتح له فرصة الدراسة بأوروبا.
٩٩
كان ماكس فان بيرشم — الذي التقاه بهجت بالمعهد الفرنسي — مؤسس علم النقوش
الإسلامية، وُلد لأسرة كلفينية ثرية بجنيف، وحصل على الدكتوراه في الاستشراق من
جامعة ليبزج، وفي العام ١٨٨٧م جاء إلى مصر في رحلة سياحية مع والدته. وبعد خمس أعوام
من تلك الزيارة دعا إلى تنظيم حملة دولية لكتابة موسوعة للنقوش العربية تضاهي ما
فعله أوجست بوخ لليونان وتيودور مومسن للاتين. وحشد بيرشم كبار المستشرقين الذين
عكفوا على النصوص الأدبية المتاحة بالمكتبات الأوروبية. ورد على مقولة إرنست رينان
المثبطة. «النقش ليس نصًّا»، بقوله: «إن دراسة الأثر دراسة جيدة أفضل من خير
النصوص»، وأشاد به ماسبيرو:
«كنت أظن حتى الآن مدرسة الاستعراب أخطأت الطريق برفضها أن ترى في العربية ما هو
أكثر من النحو والأدب، يدرسانهما داخل مقصورة «مغلقة». ولكن دراساتك بالقاهرة توضح
ما يمكن عمله في مجال الآثار، وما يمكن أن يترتب على ما لا يزال باقيًا من تلك
الآثار من تحديد لحقيقة الشرق الإسلامي.»
١٠٠
بدأ بيرشم عمله في الآثار كمستعرب يعمل في بعثات تركز على آثار ما قبل الإسلام.
١٠١ وفي العام ١٨٩٥م أصبح عضوًا مراسلًا بلجنة حفظ الآثار، ودعمت أكاديمية
النقوش والآداب بفرنسا مشروعه لإعداد موسوعة للنقوش العربية من خلال المعهد الفرنسي
للآثار الشرقية بالقاهرة. ونشر المجلد الأول من «أعمال جمع النقوش العربية» عام
١٩٠٣م. وبعد ذلك بأربع سنوات، جعلته لجنة حفظ الآثار عضوًا فخريًّا، ولم يكن صدر من
مجموعة النقوش العربية سوى القليل عندما شب أوار الحرب العالمية الأولى، وتفرقت
السبل بالفريق العلمي الدولي الذي جمعه بيرشم. وبعد وفاة بيرشم عام ١٩٢١م، نشر
جاستون فبيت ملحقًا بالمادة المصرية، وأسهم في العمل الأقل طموحًا من مشروع بيرشم،
والذي وقع في ١٦ مجلدًا «تقرير زمني عن النقوش العربية» (القاهرة ١٩٣١–١٩٥٤م)، ويعمل
برنارد أوكين مع مركز البحوث الأمريكي بالقاهرة الآن على نشر جميع النقوش العربية
بالقاهرة السابقة على العام ١٨٠٠م.
كان فان بيرشم فخورًا بحياد جنيف ونزعتها الدولية، ولما كان أقل شبهة من زملائه
البريطانيين والفرنسيين والألمان من حيث التورط في أغراض إمبريالية، فقد اتسعت
دائرة أصدقائه متجاوزة كل الانقسامات والخلافات. كان صديقًا لخليل أدهم مدير عام
متاحف إستانبول، وكانت علاقته بعلي بهجت حميمة، حتى إنه اعتبره مساويًا له: «إنني
مدين بالكثير لصديقي الذي تعاون معي علي أفندي بهجت، فقد قضى أيامًا كثيرة في الكشف
عن نقوش القاهرة وقراءتها معي. ووجدت في إخلاصه الدائم، ودقته وخبرته الأثرية،
بالإضافة إلى امتلاكه المتميز لناصية لغته الوطنية، خير عون لي خلال قيامي بالبحث.»
١٠٢
وفي عام ١٨٩٨م، ألقى علي بهجت أول بحث له أمام المجمع العلمي المصري، وكان في
الأربعين من عمره، بفضل مساعدة أرتين وفخر له، للارتقاء من مجال الترجمة إلى البحث،
إلى عضوية لجنة الاستشراق. وجمعت ورقة البحث التي قدمها بهجت بين التراث النابليوني
والماضي العربي الإسلامي في تاريخ المجمع. فقد عثر في أرشيف محكمة رشيد على عقد
زواج الجنرال مينو الذي اعتنق الإسلام وتزوج من امرأة مصرية. وبعد عامين من تقديم
بهجت لبحثه اختاره المجمع عضوًا. وفي الفترة من ١٩٠٧م حتى ١٩٢٢م كان عضوًا بلجنة
النشر إلى جانب ثلاثة من الأوروبيين. وعندما أصبح نائبًا لرئيس المجمع عام ١٩٢٣م،
وكان قد قدم عشرة بحوث هناك، وكان من بين موضوعاتها: الحسابات العربية الخاصة
بالأهرام، وتراجم المكتشفين العرب، وتاريخ وجغرافية مصر في عصر المماليك، وتقرير عن
حفائره في الفسطاط.
١٠٣
وشارك الأعضاء الآخرون بلجنة حفظ الآثار أرتين وعلي بهجت اهتمامهما بالفن
الإسلامي، وكان من هؤلاء صابر صبري، وأحمد زكي، وبوغوص نوبار. وربما كان فخري
وأرتين وراء انضمام بهجت إلى الجمعية الجغرافية التي احتكر الإيطاليون رئاستها لعدة
سنوات قبل الحرب العالمية الأولى.
١٠٤
كان النشاط بإحدى تلك المؤسَّسات الثقافية يستدعي الانضمام إلى غيرها؛ ففي عام
١٩٠٨م، انضم علي بهجت إلى مجلس الجامعة المصرية الأهلية التي كان كرومر قد عارض
مشروعها حتى لا تصبح مركزًا لتفريخ الوطنيين، ولكن خلفه السير ألدون جورست كان قد
توصل إلى تفاهم مع عباس الثاني الذي أسند إلى عمه أحمد فؤاد مهمة إقامة وإدارة الجامعة،
١٠٥ وكان من أعضاء مجلس الجامعة ماسبيرو، ويعقوب أرتين، وأحمد زكي، والوزير
حسين رشدي.
وحضر علي بهجت اجتماعات مجلس الجامعة بانتظام حتى العام ١٩٢٢م، عندما استقال
لأسباب صحية، وعمل سكرتيرًا للمجلس فيما ١٩١٩–١٩٢٢م، وكان المجلس يضم — في عام ١٩١٩م
— رئيس مجلس الوزراء حسين رشدي، وأربعة ممن أصبحوا رؤساء مجلس وزراء فيما بعد (سعد
زغلول، عبد الخالق ثروت، إسماعيل صدقي، محمد محمود)، وأحمد لطفي السيد، وعبد العزيز
فهمي، ومحمود فهمي المهندس بالأوقاف، وفوكار مدير المعهد الفرنسي للآثار الشرقية.
وقد حضر سعد زغلول — مراقب الجامعة — اجتماع المجلس المنعقد في مارس ١٩١٩م، قبل
اعتقاله بثلاثة أيام ونفيه من البلاد، الذي أدى إلى انطلاق الثورة في جميع أنحاء
البلاد ضد الوجود البريطاني. وتولى بهجت القيام بعمل «مراقب الجامعة» أثناء غياب
سعد زغلول بالمنفى.
١٠٦
وأخيرًا، انضم علي بهجت إلى جماعة «أصدقاء الفنون الجميلة»، وأصبح عضوًا بمجلس
الكتبخانة (دار الكتب المصرية)، وقام بترجمة تقرير الكتبخانة عن العام ١٩٠٨م، إلى
اللغة العربية. فهل مارس الحديث بالألمانية مع مديري الكتبخانة من الألمان، أو مع
هرتز — رئيسه باللجنة ومتحف الفن العربي؟ لقد أثبت بهجت قدرته على الحديث
بالألمانية بطلاقة عندما قام بعرض بعض مقتنيات متحف الفن العربي في أول معرض للفن
الإسلامي، أقيم بمدينة ميونخ عام ١٩١٠م.
١٠٧
تمثيل مصر في المؤتمرات الدولية للمستشرقين
كان المجمع العلمي المصري، عند علي بهجت، بمثابة نقطة انطلاق إلى دوائر الاستشراق
بالخارج؛ ففي العام ١٨٩٩م قرأ ورقة بالمؤتمر الدولي الثاني عشر للمستشرقين المنعقد
في روما، كانت عن القلقشندي وكتابه: «صبح الأعشى في صناعة الإنشا»، الذي نشر في
القاهرة — فيما بعد — (١٩١٤–١٩٢٨م). وعلق فان بيرشم على البحث — في الجلسة — متحدثًا
عن أهمية الموضوع، وعن الآمال المعلقة على صاحبه. وكان بهجت في صحبة أقطاب
الاستشراق بذلك المؤتمر: إجناتز جولد تزهر، وماكس مولر، وإدجار جرانفيل، وإذا عبر
القاعة التي ألقى فيها بحثه، وجد نفسه في صحبة علماء المصريات من أمثال: إرمان،
ونافيل، وشيا باريللي، وبرستد، ولعله استمع إلى تقرير بوتِّي عن حفائر المتحف
اليوناني-الروماني بالإسكندرية.
١٠٨
كانت تلك أول مشاركة من جانب علي بهجت في القضية التي تبناها المستشرقون وعلماء
عصر النهضة من العرب، وهي دراسة، وإحياء، ونشر المخطوطات العربية. وفيما بعد، اختار
بهجت تاريخ البلاذري، الذي يتناول الفتوح الإسلامية الأولى، لتتولى طباعته «جمعية
نشر الكتب العربية»، وحقق المخطوط الفاطمي «ديوان قانون الرسايل».
١٠٩
لقد تناول أنور لوقا، وتيموثي ميتشل، وكارتر فيندلي، المؤتمر الدولي للمستشرقين
باعتباره مكانًا لتواصل المستشرقين والمسلمين.
١١٠ فيذهب ميتشل إلى أن «الشرقيين» الذين شاركوا في مؤتمرات المستشرقين،
قضوا على الانقسام بين الموضوعي والذاتي. فهل باستطاعة الشرقي أن يكون مستشرقًا؟
وما مكان العالم «الشرقي» في جمهورية العلم، العالمية نظريًّا، التي يسيطر عليها
الغرب من الناحية الفعلية؟
لم يكن بهجت أول عربي يقدم بحثًا في مؤتمر المستشرقين الدولي، فقد أرسل إيليا
القدسي — الشامي المسيحي — بحثًا من دمشق إلى المؤتمر السادس للمستشرقين الذي عقد
في ليدن عام ١٨٨٣م، كانت عن «طوائف الحرف في دمشق». ووصلت ورقته بعد انفضاض اجتماعات
المؤتمر، ولكن المستشرق السويدي كارلو لاندبرج — القنصل العام السابق بالإسكندرية —
امتدح طريقة القدسي في عرض مادته التي ليست في متناول الباحثين الأوروبيين، ونشر
الورقة بنصها العربي ضمن أعمال المؤتمر. وأراد لاندبرج بذلك أن يبين «للشرقيين من
خلال نشر تلك الورقة رغبتنا في أن نراهم يشغلون أنفسهم قليلًا بالعلم من أجل
العلم». ولكنه ذكر العرب الذين ينوون المشاركة بأوراقهم في المستقبل بضرورة
الاهتمام التام بضبط النحو العربي.
١١١
أرسلت مصر — في بداية الأمر — إلى المؤتمر السابع للمستشرقين الذي عقد في فيينا
عام ١٨٨٦م، المتخصصين في اللغة العربية، وفيهم الأزهريون الذين قاموا بالتدريس
بدار العلوم. ونشرت الورقة التي قدمها حفني ناصف عن اللهجات العربية ضمن أعمال المؤتمر.
١١٢
وحضر الشيح حمزة فتح الله المؤتمر الثامن (عام ١٨٨٩م) الذي قسم جلساته بين ستوكهلم
وكريستيانا، وتولى عبد الله فكري باشا — ناظر المعارف السابق، ومعلم أبناء الخديو
— رئاسة الوفد المصري. وتولى ولده محمد أمين فكري — الذي تعلَّم في باريس — أعمال
السكرتارية والترجمة. وامتدت مهمة الوفد إلى زيارة لندن والمعرض الدولي بباريس، بعد
انتهاء أعمال المؤتمر. وتوفي عبد الله فكري — بعد عودته — دون أن يكمل تقريره عن
المهمة، فلم يتجاوز ما كتبه ١٢ صفحة، أكملها ولده محمد أمين فكري ليصل بصفحات
التقرير إلى ٨٠٠ صفحة.
١١٣
وكان لاندبرج قد حث الخديو توفيق على إرسال الوفد، وبذل جهده — كمضيف — لجعل
أعضاء الوفد يحسون بمعاملة الزملاء، وألقى عبد الله فكري قصيدة عربية عند مقابلته
لملك السويد، ورد عليه لاندبرج بالعربية مادحًا الخديو توفيق. وقام أمين فكري
بإهداء ملك السويد كتابًا عربيًّا عن جغرافية مصر يمثل مختصرًا لخطط مبارك التي
عاونه في جمع مادتها.
١١٤ والتقى الوفد من المستشرقين جولد تزهر — الذي درس بالأزهر — وكان يتحدث
العربية بطلاقة. وترأس المندوب العثماني أحمد مدحت أحد الاجتماعات، وترجم للمصريين،
كذلك كان هناك وفد فارسي أيضًا. وكان الخدم في حفل الاستقبال يرتدون الزي المصري،
وعزفت موسيقى أوبرا عايدة التي اعتبرها عبد الله فكري اختيارًا مناسبًا
للمؤتمر.
خصص أمين فكري ٢٥ صفحة من كتابه لدحض مذكرة المستشرقين التي تدعو إلى استخدام
العامية في الكتابة بدلًا من الفصحى. وقد قرأ المصريون أوراقهم بالعربية في قسم
اللغات الإسلامية والسامية بالمؤتمر، ولكنهم ظلوا يلتزمون الصمت في الجلسات التي لم
يحضرها أحد ممن يعرفون العربية من الأوروبيين للقيام بالترجمة. وكان أمين فكري يرى
أن تقدم جميع أوراق المؤتمر بلغة الشعوب التي يقوم المستشرقون بدراستها وليس
باللغات الأوروبية.
١١٥
وعلى كلٍّ، رأى البعض في إلقاء الشرقيين لأوراقهم بلُغتهم، خطأً كبيرًا. وتململ
أحد علماء أوكسفورد قائلًا: «لم أسمع شيئًا جديرًا بأن يصدر عن رجل متزن، سوى …
التقعر في نطق الكلمات على نحو ما يفعل طلاب الأزهر بالقاهرة، إن مثل هذه
الاستعراضات في المؤتمرات تنقص من قدرها.»
١١٦
وألقى أحمد شوقي قصيدة أمام المؤتمر الدولي التاسع للمستشرقين المنعقد بلندن عام
١٨٩٢م، وكان سعد زغلول من بين الحضور، وكان فولرز يمثل الكتبخانة الخديوية في
المؤتمر، وقدم — بعد عودته — تقريرًا عن أعمال المؤتمر للمجمع العلمي المصري،
١١٧ ولكن أحمد زكي (١٨٦٧–١٩٣٤م)، الذي كان في الخامسة والعشرين من عمره، بزَّ
غيره من المصريين، وكان ذلك شأنه في المؤتمرات القليلة التالية. تخرَّج أحمد زكي في
مدرسة الإدارة العليا بالقاهرة، وكان رجل القصر، عمل سكرتيرًا لمجلس النظار لفترة
طويلة، واكتسب لقب «شيخ العروبة» لتفقهه في اللغة العربية، وآدابها.، وأغنت مكتبته
الخاصة التي تركها دار الكتب المصرية، ولكن الكتابات الغربية لم تعطه الاهتمام
الكافي. ففي مؤتمر لندن للمستشرقين تحدث عن العهد الذي أعطاه النبي محمد للمسيحيين
في سيناء، وقال بتزويره، وألقى تقريرًا عن المخطوطات العربية بمكتبة الإسكوريال،
وترجم القصيدة التي ألقاها الشيخ حمزة فتح الله إلى الفرنسية. وقد اختير زكي، وزميل
فارسي، وآخر هندي ضمن لجنة الستة عشر، التي أنيط بها تقرير مكان عقد المؤتمر التالي،
١١٨ مما ينفي مقولة تهميش «الشرقيين» في تلك المؤتمرات، وقد كتب أحمد زكي
كتابًا عن المؤتمر وزيارته للندن، وحضر المؤتمر العاشر بجنيف (١٨٩٤م) والثالث عشر
بهامبورج (١٩٠٢م)، والسادس عشر بأثينا (١٩١٢م).
وفي العام ١٩٠٥م، عبر مؤتمر المستشرقين الدولي البحر المتوسط إلى الجزائر حيث عقد
المؤتمر الرابع عشر، واختار المفتي الشيخ محمد عبده العلماء من المشايخ الذين مثَّلوا
مصر بالمؤتمر، كان أشهرهم الشيخ عبد العزيز جاويش الذي لم يلبث أن لمع نجمه في
الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل.
١١٩
وعقد المؤتمر دورته السادسة عشر في أثينا عام ١٩١٢م، وبعد ذلك أدت الحرب العالمية
الأولى إلى تعطيل اجتماعاته لمدة ستة عشر عامًا، وشارك يعقوب أرتين في المؤتمر الذي
عقد في باريس ١٨٧٣م، كما كان ممن حضروا مؤتمر أثينا، وألقى أحمد شوقي قصيدة، مرة
أخرى، وأشاد الأمير أحمد فؤاد — مدير الجامعة المصرية — بالمنافع التي عادت على
البلاد العربية على يد المستشرقين.
١٢٠ وتحدث أحمد زكي عن تحمُّس المسلمين الأوائل لعلوم وفلسفة الإغريق، وامتدح
الصحوة الثقافية القائمة في اليونان ومصر، وتولى جولدتزهر وكريستيان سنوك هرجرونجي
رئاسة الجلسات التي قدم فيها أحمد زكي ثلاثة ورقات، وكان من بين المستمعين إليه:
لوي ماسنيون، وأوجست فيشر، ودافيد مرجليوث، وهنري لامن. وألقى حفني ناصف ورقة عن
ماريا القبطية زوجة الرسول، وتحدث الشيخ أحمد الإسكندراني عن الأدب الحديث المكتوب
بالعامية المصرية.
١٢١
وهكذا، على نقيض المصريات التي سيطر فيها الأوروبيون وحدهم على أعمال مؤتمر
المستشرقين الدولي في مجالها طوال الأربعين عامًا السابقة على الحرب العالمية
الأولى، كان لعلماء الدراسات العربية — الإسلامية من المصريين حضور إلى جانب
المستشرقين من أمثال: ألفريد فون كريمر، وجولتزهر، وإجناسيو جيدي، ومايكل دي جوجيه،
وسنوك هرجرونجي، وكارل بيكر، ولوي ماسنيون، وقدموا أوراقهم البحثية في المؤتمرات
الدولية للمستشرقين منذ الثمانينيات حتى الحرب العالمية الأولى، وكان بعض
المستشرقين إمبرياليين فاجرين، لم يرحبوا بمشاركة «الشرقيين» في المؤتمرات التي
كانت اجتماعاتها تحت سيطرة الغربيين، ولكن الأمور لم تسر في اتجاه واحد، فلو شعر
أحمد زكي بالإهمال والإقصاء لما داوم على حضور تلك المؤتمرات.
تمثيل مصر، «شوارع القاهرة» في المعارض الدولية
كان من بين الرسائل التي أراد معرض باريس الدولي (١٨٨٩م) توصيلها، هي انتصار
الإمبريالية الغربية على باقي بلاد العالم. وبالنسبة لمصر، أغلق الاحتلال البريطاني
الباب في وجه تمثيل مصر بالمعرض، فقد أدى التضييق في الإنفاق المالي الذي مارسه
بيرنج إلى منع ماسبيرو من مواصلة التقليد الذي اتبعه مارييت من عرض الآثار المصرية
بالمعارض الدولية. وكانت شركة قناة السويس قد تحملت نفقات معرض باريس عام ١٨٧٨م
بدلًا من إسماعيل، ولكن في عام ١٨٨٩م كانت شركة قناة بناما التي أقامها ديلسبس تعاني
الانهيار، والفضيحة.
وقام رجل أعمال فرنسي مقيم بمصر، هو البارون ديلور دي جليو بتنظيم جناح خاص بمعرض
باريس (١٨٨٩م)،
١٢٢ باسم «شارع القاهرة» وأقام به نموذجًا مصغرًا لمئذنة جامع قايتباي،
واستخدم في إقامة الشارع الكثير من المواد الزخرفية التي انتزعت من البيوت
القاهرية، وتضمن العرض التجار والحرفيين، واثنتين من الراقصات، وخمسين حمارًا
أثاروا الصخب بدوابهم التي كانت أجرة ركوبها فرنكًا واحدًا: وتم إدخال تعديلات على
«شارع القاهرة» على يد مستثمرين آخرين بمعرض شيكاجو عام ١٨٩٣م، ومعرض باريس عام
١٩٠٠م.
وكتب بعض المصريين ممن زاروا معرض باريس الدولي عام ١٨٨٩م من أعضاء وفد عبد الله
فكري إلى المؤتمر الدولي للمستشرقين المنعقد في ستوكهلم، فقدم أمين فكري وصفًا
تفصيليًّا للمعرض. كانت شركة توماس كوك ممثلة هناك، وتولت ترتيب كل إجراءات سفر
الوفد؛ ولذلك خصص أمين فكري الشركة ومؤسسها بسرد سيرتهما بشيء من التفصيل.
١٢٣
ورأى فكري أن «شارع القاهرة» واقعي من عدة جوانب. فرغم أن المسجد كان مجرد واجهة
لمقهى به عدد من الراقصات المصريات والسودانيات، والمنشدين من أرباب الطرق الصوفية،
وجه فكري اللوم إلى الأوروبيين لإفراطهم في الإعجاب بالراقصات والإنشاد الصوفي في
مثل هذا الوسط، وأبدى إعجابه بالتاجر القاهري مصطفى الديب، الذي كان يبيع العطور
وغيرها من المشغولات التي تباع بخان الخليلي،
١٢٤ فقد غامر ذلك التاجر بالمشاركة في المعرض، وحقق أرباحًا مجزية. ورأى
فكري أن المعروضات المصرية «بقصر الصناعات المتنوعة» كانت بائسة، وأنحى باللائمة على
الحكومة ورجال الأعمال المصريين لتضييعهم تلك الفرصة الجيدة.
وفي معرض شيكاجو الدولي عام ١٨٩٣م، أقيمت بوابة معبد ضخمة ومسلة كمدخل لما يفترض
أن يكون «شارع القاهرة» الإسلامية. وقد أخذ الفكرة الأساسية من معرض باريس الدولي
١٨٨٩م، رجل أعمال بلجيكي يوناني الأصل، استأجر عضو لجنة حفظ الآثار، ماكس هرتز ليعمل
مستشارًا له في انتزاع المشغولات الخشبية والمشربيات من بيوت القاهرة، وتصميم جناح
المعرض، وفي شيكاجو، كان من المفروض أن يدخل الزوار إلى «البلاد العجيبة التي تسبق
حضارتها التاريخ، التي تستولي أعمالها وعجائبها على مخيلاتنا … هنا تجد أنواع البشر
والحيوانات التي يراها الإنسان في القاهرة الكبرى، هنا تجد المصريين، والعرب،
والسودانيين، والأفارقة، والبرابرة، والجمال، والحمير …»
١٢٥
وفي أوروبا، ترددت ألمانيا في إقامة معرض دولي في برلين عام ١٨٩٦م، أو عام ١٩٠٠م،
ولكن الفرنسيين الذين فاقوهم خبرة سارعوا إلى الإعلان عن معرض باريس الدولي عام
١٩٠٠م، واستقر رأي ألمانيا على المشاركة في معرض بجناح يلفت الأنظار، ويثير المخاوف
معًا، واكتفت بمنافسة فرنسا في الميادين الصناعية والعسكرية بمواقع أخرى، وألقت
كوابيس قضية دريفوس، وانتصار بريطانيا في فاشودة، وتعاظم قوة ألمانيا، بظلالها على
المعرض الدولي بباريس، فغصت أجنحة المستعمرات الفرنسية في الهند الصينية، وكمبوديا،
والسنغال، وتونس، والجزائر بالمئات من الحرفيين من أبناء تلك البلاد الذي فاق عددهم
ما قد يوجد في البلاد المستقلة.
١٢٦
ولما كان كرومر يقف ضد مشاركة الحكومة المصرية بالمعارض، قام رجل أعمال شامي
متمصر هو فيليب بولاد بالاشتراك مع أبناء عمومته والتاجر المصري مصطفى الديب،
بإقامة جناح خاص بالمعرض باسم مصر،
١٢٧ قام بتصميمه المعماري مارسيل دورنو، مهندس المتحف المصري الجديد الذي
كان يبنى بالقاهرة، واشتمل التصميم على قسم بالطراز الفرعوني، ووكالة إسلامية، ملحق
بها سبيل، ونموذج لمعبد دندرة بالخارج، ومسرح بالداخل للموسيقى والرقص.
ورأى أحمد زكي أن عمارة مصر وآثارها قد مثلت تمثيلًا مناسبًا، ولكن المنتجات
الزراعية والقطنية بالوكالة لم تكن تعكس تقدم مصر الصناعي والتجاري والعلمي، وأبدى
امتعاضه من الشيخ الذي ارتدى ملابس شيخ الأزهر وراح يكتب لزوار الجناح أسماءهم
بالعربية. وأراد حذف الرقص الشرقي من «باليه عنتر» التي كانت تُعرض بالجناح. كذلك
انتقد أحمد زكي غياب الأصالة بالجناح العثماني.
١٢٨
وزار محمد المويلحي المعرض ضمن حاشية عباس الثاني، وكتب عنه عام ١٩٢٧م في وصف
ألحقه بالطبعات المتأخرة من «حديث عيسى بن هشام»، واختار للفصل «الافتراء على
الوطن» عنوانًا، قدم فيه آراء متناقضة تجعل تحديد رأيه الشخصي من الصعوبة بمكان،
وأبدى استياءه من الراقصات، والشخص الذي يمثل الشيخ الأزهري، وشيخ الكتاب الذي يضرب
التلاميذ بجريد النخل، ومنظر الفتاة التي ليس لها ذراعان وتغزل بقدميها. ورأى أحمد
زكي أن عجز مصر عن تمثيل نفسها في المعارض، أتاح للمستشرقين الأوروبيين أن يشوهوا
صورتها بالتعاون مع نكرات المصريين. حتى برج إيفل — الذي كان علامة بارزة للمعرض —
اعتبره يحاكي في خيلائه برج بابل، وقد زجت فضيحة قناة بناما بإيفل نفسه في
السجن.
اختلطت ردود أفعال أمين فكري، وأحمد زكي، ومحمد المويلحي تجاه تمثيل مصر في
المعارض الدولية، فقد مال فكري وزكي إلى الإعجاب بها على عكس المويلحي، ولكن أحدًا
منهم لم يرض عن وقوع بلاده والقدرة على تمثيلها في مثل تلك المعارض، في أيدٍ أجنبية،
كما أن علي بهجت شاركهم ذلك من منظور آخر، عندما اكتشف جانبًا صغيرًا يعبر عن
استقلال مصر الثقافي عشية نشوب الحرب العالمية الأولى.
علي بهجت وكشف الفسطاط ونشوب الحرب
«فتح عمرو بن العاص مصر، وأسس الفسطاط تحت راية الإسلام، واكتشف علي بهجت الفسطاط
تحت راية العلم.»
Mustafa Abd El-Razeq, “Ali Bey Bahgat 1854–1924”, Bulletin de l’Institut égyptien.
كان علي بهجت في الرابعة والخمسين من عمره، عندما بدأ حفائره بالفسطاط عام ١٩١٢م،
تلك الحفائر التي جعلت منه رائد علم الآثار الإسلامية. فقد كان هرتز مشغولًا
بالأعمال المعمارية، ولعله أطلق يد بهجت في إدارة متحف الفن العربي. ولعب بهجت دور
قناة الاتصال بين لجنة حفظ الآثار والمصريين الذين لا يعرفون لغة أوروبية، فترجم
دليل هرتز لمتحف الفن العربي إلى اللغة العربية (عام ١٩٠٩م)، وفي العام ١٩١٢م وصل بما
تم طبعه من أعمال اللجنة باللغة العربية إلى العام ١٩٠٩م، وللأسف ليس لدينا معلومات
عن المصريين الذين استخدموا تلك الطبعات العربية المترجمة سواء بالنسبة لدليل
المتحف أو أعمال «لجنة حفظ آثار الفن العربي».
وفي عام ١٩١٢م — أيضًا — حصل بهجت على إجازة لمدة شهرين لمصاحبة طالب إلى باريس
لدراسة التاريخ وعلم الآثار، تمهيدًا للعمل بالمتحف.
١٢٩ وكان قد زار أوروبا من قبل، ولكن الخبرة المباشرة بأوروبا كانت عنده —
كما كانت عند أحمد كمال — محدودة، وجاءت في مرحلة متأخرة نسبيًّا من العمر.
ويكشف التقرير الذي قدمه بهجت في مايو ١٩١٠م عن رحلة قصيرة قام بها بالصعيد عن
حدود فكرته — وكذلك اللجنة — عن علم الآثار في ذلك الوقت، فقد ذهب بهجت إلى هناك
ليشتري أغراضًا للعرض بالمتحف من تجار الآثار بالأقصر وسوهاج، فاكتشف أن الوقت لم
يكن مناسبًا؛ لأن الموسم السياحي قضى على ما كان عند التجار من قطع أثرية، اشتراها
السياح، وحملوها معهم إلى بلادهم، وأن التجار ينتظرون أن يزوِّدهم الفلاحون الذين
يحفرون من أجل «السباخ» بما يعثرون عليه من آثار، عندما يعودون إلى العمل. واقترح
بهجت أن يعود إلى هناك — مرة أخرى — في شهر نوفمبر بعدما ينتهي الفلاحون من جمع
السباخ، وقبل وصول السياح إلى الصعيد.
١٣٠
وفي يوليو ١٩١٢م، حانت فرصة مهمة حولت انتباهه إلى أمور أخرى. فقد نقلت الحكومة
إلى اللجنة مهمة الإشراف على الفسطاط — العاصمة العربية الإسلامية الأولى لولاية
مصر — التي كان الأوروبيون يطلقون عليها «القاهرة القديمة»، وأحيانًا يطلقون عليها
«القاهرة القبطية» وإن افتقر المصطلح الأخير إلى الارتياح. وربما كانت الحفائر
الألمانية في سامراء بالعراق التي بدأها فردريش سار، وتابعها إرنست هرتز فيلد لحساب
متحف برلين (١٩١١–١٩١٣م)، قد دفعت إلى تحريك العمل بالفسطاط.
١٣١ فالعمل المتوازي في مشروع خط سكك حديد بغداد، والصلات العسكرية
الألمانية بتركيا، والحفائر في العراق، تم تجميعه في سياق إمبريالي غربي. كما أن
الحفائر التي جرت في المواقع الإسلامية في سمرقند على يد الروس (منذ ١٨٨٥م) وقلعة
بني حمد بالجزائر على يد الفرنسيين (١٨٩٨م)، وربما أيضًا مدينة الزهراء على يد
الإسبان (١٩١٠م)، كانت جميعًا تمثل نغمات حادة لمعزوفة التوسع الإمبريالي الأوروبي.
١٣٢
والشيء المميز في الفسطاط هو أن من تولَّى حفائرها مصري مسلم فقد أسندت اللجنة تلك
المهمة إلى علي أفندي.
وكانت الفسطاط قد هجرت منذ القرن الحادي عشر، وأدى قربها من القاهرة إلى تحويل
موقعها — بمرور الزمن — إلى كومة من النفايات، تجلب منها الأحجار للبناء، ويصنع
عندها الفخار وغيره من الصناعات، ومكانًا للنهب. وقام جامعو السباخ بتقليب الموقع
خلال القرن التاسع عشر، ولكن خلوه من الخرائب الفرعونية تحت آكامه، أنقذه من الوقوع
ضحية الاهتمام التدميري للباحثين عن الآثار الفرعونية في القرن التاسع عشر.
١٣٣
وعلى كلٍّ، لم يزود بهجت على باعتماد مالي مناسب للحفائر التي كلف بها. وكل ما
كان يستطيع عمله هو إحكام الرقابة على الأفراد والشركات الذين كانوا يحفرون في
الفسطاط منذ وقت طويل لجمع السباخ. وأشار بهجت إلى ما حققه هذا النظام من فوائد
للجميع: فقد حصل متحف الفن العربي على قطع أثرية (معظمها قطع من الفخار المطلي أو
غير المطلي)، والأحجار ذات النقوش الهيروغليفية ذهبت إلى المتحف المصري، وحققت
شركات السماد مكاسب، واستفاد الفلاحون بالسباخ، وغنمت الدولة تسوية الأرض التي يمكن
استخدامها في أغراض أخرى.
١٣٤ ويبين ذلك كيف أن مفهوم بهجت للآثار كان آخذًا في الاتساع حتى بمعايير
اليوم. فقد أصبح لا ينشد جمع القطع الأثرية وحدها، بل يبحث عن بقايا المباني
والشوارع التي تساعد على إعادة تركيب الشكل الطبوغرافي للمدينة القديمة. واستمر
بهجت في العمل بالفسطاط في العشرينيات، عندما ووجه بهجوم من الأجانب جعل لجنة حفظ
الآثار تكلف عالمَين فرنسيَّين بكتابة التقارير التي يتم نشرها عن النتائج التي توصلت
إليها حفائره.
وفي الوقت الذي هزت فيه الحرب أوروبا، ترددت أصداؤها في لجنة حفظ الآثار ومتحف
الفن العربي. فقد فقد هرتز منصبه باللجنة والأوقاف والمتحف، لكونه من رعايا
الأعداء، وغادر البلاد، واحتفظ بحقه في المعاش، وقدَّر هاري فارنول خدماته للجنة
والأوقاف على مدى ٣٣ عامًا، وأعلن أسفه لأن «ظروفًا خارجية حرمت اللجنة من خدمات
هذا المعماري والآثاري المتميز»، وتمنى مرقص سميكة أن يتمكن هرتز من استكمال الطبعة
الثالثة من كتالوج المتحف، وقدم اقتراحًا — ربما كان سابقًا لأوانه — أن يصبح هرتز
عضوًا مراسلًا باللجنة. وقد لجأ هرتز إلى سويسرا وتوفي في مدينة زيورخ عام ١٩١٩م عن
عمر يناهز الثالثة والستين.
١٣٥
وكان من النتائج — غير المتوقعة — التي ترتبت على الحرب العالمية الأولى تولَّى
المصريين إدارة متحف الفن العربي ودار الكتب المصرية (الكتبخانة)، فتولى علي بهجت
إدارة المتحف، وأحمد لطفي السيد إدارة دار الكتب خلفًا للمستشرق الألماني آرثر
شاد.
وقفت إيطاليا موقف المتفرج بعض الوقت، ثم انضمت عام ١٩١٥م إلى الحلفاء. وبذلك
استطاع أخيل باتريكولو — مساعد هرتز الإيطالي الجنسية — أن يحتفظ بوظيفته. وكان
باتريكولو يؤكد دائمًا أن الجمع بين الحفاظ على عمارة الآثار وإدارة المتاحف غير
معروف في أوروبا؛ فالمحافظة على الآثار مهمة الخبير المعماري، وإدارة المتاحف تقع
في اختصاص الآثاري.
١٣٦ وأصبح باتريكولو كبير المعماريين باللجنة خلفًا لهرتز (رغم أنه لم يحمل
اللقب في بداية الأمر، كما لم ينل مقعد هرتز باللجنة)، ولكنه لم يرغب في إدارة
المتحف. وأدى ذلك إلى إفساح الطريق أمام علي بهجت ليصبح مديرًا لمتحف الفن العربي
بعد طول انتظار، وكان عندئذٍ — في السادسة والخمسين من عمره — وكان نجاح علي بهجت
وأحمد كمال في وقت علا فيه مد الإمبريالية، نجاحًا صعب المنال، تختلط فيه حلاوة
النجاح بمرارة الكفاح من أجل تحقيقه. وعندما توفي علي بهجت عام ١٩٢٤م، شارك
الأوروبيون باللجنة نقاده في الخارج إثارة الشكوك حول كفاءته ونزاهته. ولم يكن هناك
بديل مصري يستطيع أن يحل محله عند وفاته، فعاد متحف الفن العربي مرة أخرى إلى
السيطرة الأوروبية؛ من خلال المستشرق الفرنسي جاستون فييت الذي تولَّى إدارته خلفًا
لبهجت. وفي عام ١٩٣٣م أدخل كريزويل في مناهج الجامعة المصرية برنامجًا للدراسات
العليا في الآثار الإسلامية. وكان لفييت وكريزويل — اللذان قبِل كل منهما الآخر على
مضض — حضورٌ فعال في لجنة آثار الفن العربي حتى مطلع الخمسينيات من القرن العشرين،
رغم تناقص التمثيل الأوروبي باللجنة، وقدر لأمناء المتحف المساعدين من المصريين —
الذين تدربوا على يد فييت والذين تخرجوا في الجامعة من خلال برنامج كريزويل الخاص
بالدراسات العليا في الآثار الإسلامية — قدر لهم أن يقضوا معظم سنوات خدمتهم تحت
رئاسة الأوروبيين، تمامًا كما حدث لبهجت من قبل، وترك لعبد الناصر مهمة تحقيق
الاستقلال السياسي الوطني، والسيطرة الوطنية على المتاحف والآثار والمؤسَّسات
التعليمية، في نفس الوقت. ومع ذلك، ظلت القضايا القديمة متضمنة في أطروحات جديدة —
الاستعمار الجديد، والهيمنة الثقافية، وما بعد الحداثة، وما بعد الكولونيالية، وما
بعد الاستشراق — برزت في محاولة لإحكام القبضة من جديد.
١٣٧