الفصل السابع
أحفاد الفراعنة مرقص سميكة والتاريخ القبطي
يذكر مرقص سميكة (١٨٦٤–١٩٤٤م) أنه زار الأنبا كيرلس الخامس — بطريرك الأقباط — ذات
يوم
من أيام شتاء عام ١٩٠٨م، فوجده يُشرف بنفسه على صَهر الآنية الفضية القديمة التي تملكها
الكنيسة لإعادة تشغيلها، وكانت جميعها تحمل نقوشًا قبطية وعربية تعود إلى القرنين
الرابع عشر والخامس عشر. كان سميكة — عندئذٍ — نائبًا لرئيس المجلس الملِّي للأقباط،
فعرض
على البطريرك أن يدفع ١٨٠ جنيهًا هي قيمة الفضة بعد الصهر على أن يتم الحفاظ على تلك
الآنية الفضية في مخزن كبداية نحو إقامة متحف. فوافق البطريرك، وبذلك بدأت نواة المتحف
القبطي.
١
هذا التحول الذي أصاب تلك الأواني القديمة من كونها لا تساوي إلا قيمة وزنها من
الفضة، فأصبحت قطعًا أثرية لا تقدر بثمن، يعكس تحولًا دراميًّا في الطريقة التي نظر بها
الأقباط إلى ماضيهم، وحددوا هويتهم الحديثة. كان مرقص سميكة ومَن على شاكلته من الأقباط،
نتاجًا للإصلاح الاجتماعي، بقدر ما كانوا دعاة له، ولم ينشدوا الهروب من الحاضر إلى
الماضي البائد، فقد سعى المعارضون للأكليروس القبطي من أبناء الطائفة إلى إصلاح
أحوالها، والإعلاء من شأن الهوية القبطية والوطنية، في وجه معارضة رجال الكنيسة، تمامًا
كما حدث في فرنسا في القرن الثامن عشر واليونان في القرن التاسع عشر، وكان مرقص سميكة
يتصدر الجهة المطالبة بالإصلاح حتى أدرك ضرورة الميل إلى المهادنة حتى يفوز بموافقة
البطريرك على إقامة المتحف القبطي.
وكان شأن مرقص سميكة مع الآثار القبطية كشأن أحمد كمال مع الآثار الفرعونية، وعلي
بهجت مع الآثار الإسلامية، رائدًا يناضل من أجل إشعال الحماس لآثار وتاريخ فترة حيوية
من التاريخ، ومظهر من مظاهر الماضي الوطني. ورغم أنه كان يصغر كمال بخمسة عشر عامًا،
وبهجت بست سنوات فقد شاركهما الوعي الذي تميز به ذلك الجيل، فقد تعلَّم ثلاثتهم في
المدارس التي أوجدها الإصلاح، كما تعلموا اللغات الأوروبية التي ساعدتهم على تنمية
اهتمامهم بالآثار، وأكملوا تعليمهم قبل وقوع الاحتلال البريطاني، وعاشوا معظم حياتهم
العملية خلال السنوات الأربعين التي شهدت عنفوان الاحتلال (١٨٨٢–١٩٢٢م). وإذا كان كمال
قد مات عام ١٩٢٣م، وبهجت عام ١٩٢٤م، فقد عمر مرقص سميكة حتى العام ١٩٤٤م.
ويلقي هذا الفصل الضوء على الحياة العملية لمرقص سميكة، لدوره الأساسي في علم الآثار
القبطية، ولأن مذكراته الشخصية غير المنشورة التي لم تستخدم من قبل تعد مصدرًا غنيًّا
لدراسة هذا الموضوع، أما المصادر الأخرى، فتشمل مجلتَي «لجنة حفظ آثار الفن العربي»،
و«جمعية الآثار القبطية»، وهما مجلتان معروفتان للمتخصصين في الفن، والعمارة، والدراسات
الدينية، ولكنهما لم تستخدما من قبل لدراسة تاريخ مصر الحديث، كذلك ساعدتني المقابلات
الشخصية على دراسة مرامي ومسيرة الدراسات القبطية قبل العام ١٩١٤م.
٢
الأقباط حتى العام ١٨٥٤م
يُجِلُّ الأقباط القديس مرقص الذي جلب المسيحية إلى الإسكندرية في القرن الأول،
ويعتبرونه المؤسس لكنيستهم. ومع انتشار المسيحية حول البحر المتوسط في القرنين
الرابع والخامس، أقيمت مجامع دورية للتفريق بين المعتقد الصحيح (الأرثوذكس)
والهرطقة. وأدت الخلافات المسيحية في مجمع مقدونيا عام ٤٥١ للميلاد إلى انفصال
الكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية وروما عن الكنيسة القبطية. وأدى اضطهاد
الإمبراطورية البيزنطية للأقباط إلى تمهيد الطريق للفتح الإسلامي لمصر خلال
(٦٤٠–٦٤٢). وبعد بضعة قرون من الحكم الإسلامي، أصبح الإسلام دين الأغلبية، ورجحت
كفة اللغة العربية على حساب القبطية كلغة للحديث والتعامل اليومي، وتراجع استخدام
القبطية لغةً للحديث إلى مناطق منعزلة بالصعيد، ثم ما لبثت أن اختفت تمامًا.
وفي العام ١٨٠٠م، كانت أغلبية الأقباط تسكن الصعيد، وخاصة في مديريتَي المنيا
وأسيوط، وكان معظمهم من الفلاحين، شأنهم في ذلك شأن مواطنيهم المسلمين. واشتغل
أقباط الحواضر بالحرف اليدوية، والوظائف الكتابية في المالية والضرائب، مع اشتغال
القليل منهم بالأنشطة التجارية التي اجتذبت — أصلًا — اليونان الأرثوذكس والأرمن
المسيحيين.
وكانت التجارب السلبية التي عاناها الأقباط مع اليونان الأرثوذكس أيام الحكم
البيزنطي، والروم الكاثوليك القادمين من غرب أوروبا أيام الحروب الصليبية، حيث لقوا
منهما الاحتقار والاتهام بالهرطقة، كانت وراء مشاعر الشك العميق في إخوانهم
المسيحيين القادمين من الشمال. فلم يؤيد الحملة الفرنسية إلا نفر قليل من الأقباط.
ومن بين هؤلاء يعقوب حنا — أحد جُباة الضرائب بالصعيد — الذي حول ولاءه من المماليك
إلى الفرنسيين، وأصبح الجنرال ديزيه لا يستطيع الاستغناء عن خدماته في حملة الصعيد.
وبعد رحيل بونابرت إلى فرنسا، قام الجنرال كليبر بتزويد يعقوب حنا بحرس من الجنود
الفرنسيين مكون من ثلاثين جنديًّا، وجعل منه قائدًا لفيلق يضم ثمانمائة رجلًا من
الأقباط. ولم يكن أمام يعقوب حنا مفر من الهرب عندما غادر الفرنسيون البلاد، ومات
على ظهر سفينة بريطانية وهو في طريقه إلى أوروبا.
٣
وعندما تولَّى محمد علي حكم مصر، لم يتمسك بالقيود التقليدية المفروضة على غير
المسلمين من حيث الملبس، وركوب الخيل، غير أنه لم يحقق نجاحًا كبيرًا في التخفيف من
اعتماد الحكومة على الأقباط ككتبة وجباة ضرائب.
وغلبت على مسيحيي الغرب — في القرن التاسع عشر — فكرتان عن الأقباط: فهم لا
يرونهم إلا هراطقة أحيانًا، وأحيانًا أخرى يُبدون قبولًا بهم كإخوان في المسيحية.
وأحس الغربيون — الذين التمسوا في مصر أرض الإنجيل، ومهد الآباء الأول للكنيسة —
بخيبة الأمل في الأقباط من أهل مصر، تمامًا كإحساس عشاق التراث الهلِّيني الذين
التمسوا في اليونان المحدثين، أبطال العصر القديم. فقد عكس دليل نلسون السياحي في
التسعينيات التعصب الأوروبي الدفين تجاه الأقباط: «الأقباط أكثر الرجال قبحًا، وهم
أيضًا على درجة عالية من القذارة، وعاداتهم تثير بالغ الاشمئزاز.»
٤ وكان إدوارد لين بول على نفس الدرجة من التطرف: «إن التعصب من أبرز
سمات شخصية القبط، فهم يضمرون بعض الكراهية لجميع المسيحيين الآخرين، وهم حتى
يتفوقون في ذلك على كراهية المسلمين لغير المؤمنين بالإسلام … وهم — بصورة عامة —
يمتازون بحدَّة الطبع، وشدة البخل، والنفاق البغيض، يتذللون أو يطغون حسب الظروف.»
٥ وواصل ستانلي لين بول (قريب لين) تقاليد العائلة في التحفظ تجاه
الأقباط: «ينسب لمصر شرف اختراع الرهبنة والديرية، المثير للجدل.»
٦
واعترف لين أنه كان له «حظ مصادفة شخصية كنت أشك في وجودها، وهو قبطي يتمتع
بعقلية متحررة ذكية» قدم له المعلومات التي استخدمها في الملحق الخاص بالأقباط، في
كتاب «عادات وتقاليد المصريين المحدثين».
٧
ووجد ويلكنسون رهبان وادي النطرون «على درجة بالغة من الجهل»، وعبر عن الاستنكار
البروتستانتي الشائع للرهبنة، ولكنه لاحظ أيضًا أن: «هناك روح من الوقار والطيبة،
في مشية كبار الرهبان، والآباء من كبار السن، تعد ميزة مسيحية خالصة، وتضع خطًّا
فاصلًا بين تواضعهم وغطرسة علماء الإسلام، تدخل السرور على الزوار المسيحيين
الأجانب، وتذكرهم بإيمان أولئك القوم الذين — رغم جهلهم وتشددهم — يرتبطون بالرب
برباط الوحدة، ولديهم مُثُل توجِّه حماسهم تجاه الرب وحده.»
٨
ووجد بعض أهل الغرب المتأثرين بمصر القديمة — مثل ويلكنسون — من السبل فأتيح لهم
المزج بين مصر القديمة وهذا الإيمان العميق بالمسيحية. فتبين اللوحة التي رسمها لوك
أوليفييه ميرسون عام ١٨٧٩م، العائلة المقدسة تحت سماء تسطع فيها النجوم تتجه نحو
أحضان أبي الهول المصري الذي مد ذراعيه مرحبًا بها (انظر الشكل
٤٠).
النهضة والنكوص – البطريرك كيرلس الرابع وما بعده
يذكر الأقباط البطريرك كيرلس الرابع (تولَّى ١٨٥٤–١٨٦١م) بأنه كان «أبو الإصلاح».
لقد كان الأقباط يدفعون «الجزية» التي تفرض على غير المسلمين، مقابل عدم تجنيدهم في
الجيش. ولكن عباس الأول جندهم في الجيش،
٩ واستمر سعيد في تجنيدهم، وألغى الجزية، جاعلًا بذلك الحواجز الطائفية
الدينية عرضة للتآكل بمرور الزمن، غير أنه لم يسمح بقبول الأقباط بالمدارس
الحكومية، وكان عليه الانتظار حتى أصدر مبارك قرارًا عام ١٨٦٧م، أباح الالتحاق
بالمدارس للجميع بغض النظر عن عقيدتهم الدينية. وفي عهد الخديو إسماعيل تم إيفاد
بعض الأقباط للدراسة بالخارج على نفقة الدولة لأول مرة.
١٠ وأدخل إسماعيل — أيضًا — الأقباط في «مجلس شورى النواب» وخلال نصف
القرن التالي، أقبل الأقباط على الالتحاق بمدارس الدولة ومدارس الأقباط، كما
استفادوا كثيرًا بمدارس الإرساليات التبشيرية.
١١
وبدأ كيرلس الرابع موجة الإصلاح القبطي الحديث الأولى عام ١٨٥٤م، ومنذ ذلك التاريخ
حتى ثورة يوليو ١٨٥٢م ظهرت موجة جديدة من الإصلاح القبطي، توجت كل عقد من العقود.
وقاد العلمانيون كل موجة من موجات الإصلاح التي قاومها الأكليروس، فيما عدا الدرجة
الأولى التي قادها كيرلس الرابع. وكان للإصلاح القبطي آليات الحركة الداخلية الخاصة
به، ولكنه اتفق مع نغمة وإيقاع الإصلاح الوطني في مصر والدولة العثمانية.
جاء كيرلس الرابع من بين صفوف الفقراء من الفلاحين بالصعيد، ودخل سلك الرهبنة،
وهو بعدُ شاب في ريعان الشباب، في دير القديس أنطونيوس بالصحراء الشرقية. ولعله
تأثر بحلقة دينية قصيرة الأمد نظمها مبشر إنجيلي بالقاهرة في الأربعينيات،
١٢ ولكن إصلاحات محمد علي كان لها بالغ الأثر عنده. فقد أدت تلك الإصلاحات
إلى تعامل الدولة مع الأفراد المسيحيين واليهود مباشرة، دون أن تلجأ إلى رئاساتهم
الدينية، مما أضعف دور بطريرك الأقباط وحاخام اليهود في الوساطة بين طوائفهم
الدينية والحكومة.
غير أن ضعف إيقاع عملية الإدماج تلك، يعني أن الأقباط لم يكن لهم مكان في الجيش
الجديد، ولا في المدارس العليا والبعثات التعليمية التي أوفدت إلى أوروبا، وقلم
الترجمة، والمطبعة، والوقائع المصرية. وعندما نصب كيرلس الرابع بطريركًا، قرر أن
تتولى الكنيسة مهمة جلب منافع الإصلاح للأقباط. فقام باستيراد مطبعة من بريطانيا،
وشن حملة على فساد رجال الأكليروس وجهلهم، وفتح مدارس جديدة للأقباط، ومد الصلات
المسكونية مع اليونان الأرثوذكس، والأرمن، وربما الإنجيليين. وقد شاع الاعتقاد أن
اتصال كيرلس الرابع بالكنيسة اليونانية الأرثوذكسية جعل سعيد يتخوف من التدخل
الروسي في مصر، فدسَّ السم للبطريرك عام ١٨٦١م.
١٣
وكان من أعظم إنجازاته تأسيس «مدرسة الأقباط الكبرى»، فقد رفض سعيد طلبه السماح
بقبول الأقباط بالمدارس الحكومية، لينضموا إلى مواطنيهم المسلمين الذين كانوا —
عندئذٍ — يشغلون المراكز الدنيا في الإدارة. وكان التعليم المتاح للأقباط — حينئذٍ —
عند مستوى «الكتاب»، حيث كان الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة، والكتاب المقدس،
وبعض الحساب. ولم تكن هناك مدرسة قبطية من مستوى الأزهر.
ولعبت «مدرسة الأقباط الكبرى» — التي تعلَّم فيها مرقص سميكة — دورًا في تكوين جيل
كامل من نخبة الأقباط العلمانيين قبل أن تجعل مدارس الإرساليات التبشيرية، والمدارس
الحكومية، التعليم متاحًا — على نطاق واسع — للأقباط. ويذكر سميكة أن المدرسة خرجت
ثلاثة ممن تولوا رئاسة الوزراء هم: بطرس غالي، ويوسف وهبة، ويحيى إبراهيم،
١٤ ومن بين الخريجين الآخرين: فليني فهمي، والمؤرخ ميخائيل شاروبيم،
والصحافي ميخائيل عبد السيد، وعالم القبطيات والمصريات كلوديوس لبيب.
كان موقف البطاركة: ديمتريوس الثاني (١٨٦٢–١٨٧٠م)، وكيرلس الخامس (١٨٧٤–١٩٢٧م)،
ويوحنا التاسع عشر (١٩٢٨–١٩٤٢م)، بالغ الحدة في مواجهة المؤثرات الأجنبية التي
قابلها كيرلس الرابع وسميكة، والكثير من الأقباط العلمانيين. فقد جاء المشيخون
المتحدون التابعون «للإرسالية الأمريكية» «لاحتلال» مصر،
١٥ في نفس السنة التي تولَّى فيها سعيد الحكم، ونصب فيها كيرلس الرابع
بطريركًا. وهاجم ديمتريوس الثاني المشيخيين الدخلاء، الذين يعتبرون الكنيسة القبطية
مهرطقة، وفاسدة، وجاهلة. وساند كل من سعيد وإسماعيل البطريرك القبطي في مواجهة
أولئك الأجانب الذين يثيرون المتاعب. وواجه إسماعيل المدارس التبشيرية بمنح الكنيسة
القبطية ١٥٠٠ فدان من الأراضي الزراعية لتنفق من ريعها على مدارسها وتعمل على تطويرها،
١٦ وبفتح مدارس الحكومة أمام غير المسلمين في ١٨٦٧م. (كانت الإرساليات
الكاثوليكية تعمل بمصر قبل وصول المشيخين بوقت طويل، ولكنهم كانوا أقل اصطدامًا
بالكنيسة القبطية). ولكن إسماعيل كان بحاجة — أيضًا — لتحسين علاقته مع الولايات
المتحدة التي أمدته بالخبراء العسكريين بعد الحرب الأهلية الأمريكية، وساعدت
الحماية الدبلوماسية الإرسالية الأمريكية على توطيد مقرها الرئيسي بأسيوط وبناء
المدارس والكنائس في مختلف أنحاء البلاد. وما لبث الأقباط الكاثوليك والبروتستانت
(الإنجيليين) أن انفصلوا عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
اشترك مرقص سميكة مع جوقة المرتلين عند تنصيب الأنبا كيرلس الخامس، الذي ما لبث
أن استجاب لمطالب دعاة الإصلاح من العلمانيين بتأسيس كلية أكليركية، وانتخاب المجلس
الملِّي للمساعدة في إدارة أمور الأقباط. وقام بطرس غالي بصياغة القانون الذي تم
بموجبه إنشاء المجلس الملِّي عام ١٨٧٤م، واختير نائبًا للرئيس تحت رئاسة البطريرك.
١٧ وكانت تلك المجالس شائعة في الدولة العثمانية، فقد سمحت بتأسيس مجالس
ملية للأرمن، وبرلمانًا عام ١٨٧٤م، وإن كان مجلس شورى النواب الذي أسسه إسماعيل
(١٨٦٦م) أسبق وجودًا.
وما لبث كيرلس الخامس أن انقلب على المجلس الملِّي، وقام بحله في حركة مماثلة لما
فعله السلطان عبد الحميد الثاني بالبرلمان والدستور العثماني عام ١٨٧٨م. وبذلك انتهت
المحاولة الثانية للإصلاح القبطي، والتي كانت أول محاولة يقودها العلمانيون.
وعاد العلمانيون إلى الكفاح ضد البطريرك ورجال الأكليروس الرجعيين، بعد ذلك
التاريخ بعقد من الزمان للحدِّ من سلطتهم التقليدية على الطائفة، طالب الإصلاحيون بأن
يظل المجلس الملِّي قائمًا على الدوام ليدير أوقاف الكنيسة والأديرة، ومدارس الأقباط،
وليتولى النظر في قضايا الأحوال الشخصية المعلقة بالطلاق والميراث. وكان البطاركة
والأساقفة — الذين جاءوا من أصول ريفية فقيرة، وعاشوا رهبانًا في أديرة الصحراء —
ينالون احترام الأقباط وتقديرهم لورعهم وزهدهم في أمور الدنيا، ولكن تنقصهم الثقافة
وخبرة التعايش مع عالم أرحب نطاقًا من عالمهم المحدود.
كتب سميكة «إنه اعتراف مثير للخجل، ولكننا يجب أن نقر بأن القلة القليلة من
الأساقفة الحاليين، جاءوا من عائلات محترمة.»
١٨ فقد انحدر معظم الرهبان من عائلات الفلاحين الفقراء في الصعيد، ومن كان
يتولى منهم منصبًا كبيرًا في الكنيسة كان لا يستطيع مقاومة مطالب الأقارب الذين
يسعون لتعويض حرمان الماضي. وتعكس انتقادات مرقص سميكة لرجال الأكليروس لكسلهم،
واعتبارهم هاربين من عالم العمل الحقيقي إلى مجال الفساد والدعة، تعكس مقولات
بروتستانتية مألوفة. فقد اتهم رجال الأكليروس بإهمال واجباتهم الدينية، وبيع
العدالة، وإثراء الأقارب عن طريق نهب أموال الكنيسة.
١٩ أما كبار الملاك والمهنيين من أعيان الأقباط، الذين انتخبوا لعضوية
المجلس الملِّي، فكانوا من الأثرياء ميسوري الحال، الذين تلقوا تعليمًا أفضل،
ويتطلعون إلى أن تكون لهم كلمة نافذة في شئون الأقباط. ففي العام ١٨٩١م، كان سبعة من
بين أعضاء المجلس الملِّي الاثني عشر يحملون رتبة البكوية وباشا واحد هو بطرس غالي،
٢٠ ولكن البطريرك والأساقفة وغيرهم من رجال الأكليروس كانوا يتحصنون
بالكنيسة، ولهم تأثير كبير على الجماهير القبطية، وتمسكوا بمواقفهم المعارضة
لمحاولات الإصلاح التي يتبناها المجلس الملِّي. وكان لهذا الجمود ما يناظره في
السياسة الوطنية بين الوفد وأحزاب القصر بين عامَي (١٩١٩–١٩٥٢م)، وكان له ما يوازيه
في الأزهر الذي جاء معظم طلابه — منذ ٩٠٠ — من بين صفوف الفقراء، أو من أصول ريفية.
٢١ فقد عارض معظم العلماء محاولات إصلاح الأزهر، والمحاكم الشرعية،
والأوقاف، خشية فقدان نفوذهم ومكانتهم. وكان الإصلاحيون من شيوخ الأزهر — من أمثال
الشيخ محمد عبده — يمثلون حالات استثنائية، شأنهم في ذلك شأن الإصلاحيين من أساقفة
الأقباط، واستند كلاهما إلى تأييد نخبة العلمانيين، وكان باستطاعة دعاة الإصلاح من
الأقباط أن يلجئوا إلى الدولة لترجيح كفتهم، ولكنهم تحسبوا لما قد يترتب على ذلك من
فقدان الطائفة لاستقلالها.
تربية مرقص سميكة
نشأ مرقص سميكة في بيت جده لأمه، بحارة الأقباط شمالي الأزبكية، في زمان لم تعد
الحارة فيه تغلق أبوابها مساءً لحماية سكانها، وأصبح الأقباط يشعرون بدرجة كافية
من الأمان تجعلهم يستطيعون الإقامة في أي مكان يشاءون بالقاهرة. وكانت نشأة مرقص
سميكة في عائلة من عائلات أعيان القاهرة التي حققت ثراءً من خلال العمل في خدمة
الدولة والكنيسة. ولدت أمه بدمشق، عندما كان والدها يعمل كاتبًا بمعية إبراهيم باشا
ابن محمد علي في الثلاثينيات. ومن ناحية الأب، تبرع أجداده ببعض المخطوطات والأشياء
الثمينة الأخرى للكنيسة المعلقة.
٢٢
وعلى مسيرة مائتي متر بشارع الواسعة من بيت جده، كانت تقع البطريركية، وكاتدرائية
القديس مرقص، ومدرسة الأقباط الكبرى. وكانت الدراسة مجانية بتلك المدرسة، التي كانت
تقبل التلاميذ من مختلف الديانات، ولكن معظمهم جاءوا من عائلات الأعيان من الأقباط
مثل سميكة. ويذكر أنه تعلَّم في تلك المدرسة اللغات العربية والقبطية، واليونانية،
ولكن التركية لم تكن من بين تلك اللغات، فقد قل النفع منها في عهد إسماعيل لأن
النخبة الحاكمة كانت تميل نحو التعريب.
واختار مفتشو المدرسة اثنين من أشقاء مرقص سميكة للدراسة بمدرسة الحقوق تمهيدًا
للالتحاق بخدمة الحكومة. وكما كانت العائلات المسلمة تخصِّص أحد أبنائها للالتحاق
بالأزهر، حاول والد مرقص سميكة أن يدفع به إلى الكنيسة؛ ولذلك منعه من حضور دروس
اللغة الإنجليزية بمدرسة الأقباط. وكان عبد السيد يتولى تدريس الإنجليزية بالمدرسة،
وكان محررًا لصحيفة «الوطني» القبطية، ومن نفرٍ قليل من الأقباط الذين تعلَّموا بنفس
المدرسة، مدارس الإرسالية الأمريكية، وكذلك بالأزهر.
٢٣ وخشي والد مرقص سميكة من أن يؤدي تعلمه الإنجليزية إلى اتجاهه إلى
الحياة العلمانية، ولكن إصرار مرقص وإضرابه عن الطعام، جعل والده يعدل عن موقفه.
فدرس الإنجليزية ثم اتجه إلى «مدرسة الفرير» لدراسة الفرنسية. وكانت مخاوف والده في
موضعها، فقد انصرف تمامًا عن التفكير في العمل الكنسي.
٢٤
كانت مدرسة الأقباط الكبرى والكلية الإكليركية توفران فرصة دراسة اللغة القبطية
بمستويات أعلى من تلك التي يوفرها «الكتاب» القبطي؛ ولذلك تعرَّف الأقباط على تراثهم
من كتابات الأوروبيين. فقد استخدم فصل سميكة بالمدرسة نسخة تاتام من الإنجيل
القبطي-العربي الذي أهداه المؤلف في مقابل المخطوطات التي حصل عليها من أديرة
وادي النطرون. وكتب برسوم الراهب — معلِّم سميكة — أول كتاب في النحو القبطي باللغة
العربية. وتعلَّم كلوديوس لبيب (١٨٦٨–١٩١٨م) — عالم المصريات والقبطيات — بنفس
المدرسة. ويبدو أن رجال الكنيسة القبطية لم يكن يعنيهم أمر المصريات، على نقيض رجال
الدين البروتستانت في الغرب، الذين دعموا مجال الآثار لإثبات «صحة الإنجيل» في
مواجهة من ينتقدونه.
٢٥
وعلى كلٍّ، لم يعمل الإصلاح دائمًا في تناغم مع الآثار والمحافظة عليها، فقد
اعترض المبشرون البروتستانت على وجود الأيقونات بالكنائس القبطية، تمامًا كما فعل
المسيحيون الأوائل عندما طمسوا بالملاط وجوه صور الآلهة بالمعابد الفرعونية. وعندما
أعيد بناء كاتدرائية القديس مرقص، أمر البابا كيرلس الرابع بحرق الأيقونات القديمة،
ومنع عمل غيرها. وفي العام ١٨٦٩م قامت زمرة من الشباب الأقباط، الذين تأثروا
بالمبشرين الأمريكان، بالإغارة على الكنائس القبطية بأسيوط لتحطيم أيقوناتها، فتم
إلقاء القبض عليهم وإرغامهم على ردها إلى ما كانت عليه. ولكن لم يمضِ وقت طويل «حتى
توقفت ورشة التصاوير عن العمل»، على حد قول سميكة.
٢٦
الإصلاح القبطي والاحتلال البريطاني
كان مرقص سميكة في الثامنة عشرة من عمره عندما دخل الجيش البريطاني القاهرة،
وسرعان ما استفاد بمعرفته للإنجليزية فعمل سكرتيرًا لسيدة إنجليزية كانت تدير
مستشفى تطوعي لعلاج الجرحى البريطانيين، وفي العام ١٨٨٣م بدأ حياته العملية كاتبًا
بمصلحة السكك الحديدية، ولم يكن ذلك غريبًا، فبعد ذلك بجيل (عام ١٩١١م) بلغت نسبة
الأقباط العاملين في السكك الحديدية والبرق (التلغراف) ٤٨٪ من جملة العاملين بتلك المصلحة.
٢٧
وأسهم الاحتلال البريطاني في المحاولة الثالثة لإصلاح أحوال الطائفة القبطية؛ ففي
مايو ١٨٨٢م، كان بطرس غالي أول قبطي يصل إلى رتبة الباشا يعمل وكيلًا لنظارة
الحقانية، وتبنى — مرة أخرى — قضية الإصلاح القبطي. تعلَّم بطرس غالي بمدرسة الأمير
فاضل (وكان والده يعمل مباشرًا بدائرة الأمير)، ومدرسة الأقباط التي أنشأها كيرلس
الرابع تجارة السقايين، ومدرسة الألسن. واستخدام معرفته بالعربية والتركية
والفرنسية والإنجليزية والإيطالية في الوساطة بين الأقباط والدولة، والخديو عباس
الثاني والمعتمد البريطاني، وبين المصريين والأوربيين. وكان عضوًا بمجلس الوزراء
منذ ١٨٩٣م حتى تم اغتياله عندما كان رئيسًا للوزراء عام ١٩١٠م. وعلى طول هذا الطريق
كون ثروة شخصية عن طريق شراء أراضي الدومين بأنشاص بالشرقية.
٢٨
ساندت «جمعية نشر المسيحية بمصر» — وهي مؤسسة إنجيلية — الأقباط العلمانيين في
دعوتهم للإصلاح في أوائل الثمانينيات. وكانت تستند إلى أساس يثير التساؤل، جاء على
لسان متحدث رئيسي بأحد الاجتماعات الأولى شن فيه الهجوم على «هرطقة الأقباط المدمرة للروح».
٢٩ كان كيرلس الخامس رئيسًا للمجلس الملِّي بحكم القانون، ولكن رفضه
الاعتراف بالمجلس حال دون انعقاده. وفي عام ١٨٨٤م تم حل المجلس الملِّي مرة أخرى، وفي
عام ١٨٩٠م قامت «جمعية التوفيق القبطية» برابع محاولة للإصلاح. ورغم أن مرقص سميكة
كان في منتصف العشرينيات من عمره، فقد فاز بعضوية المجلس الملِّي. وعندما رفض كيرلس
الخامس — مرة أخرى — الاعتراف بالمجلس، حاول بيرنج (المعتمد البريطاني)، ومصطفى
فهمي (رئيس الوزراء)، وبطرس غالي، إخضاع البطريرك بنفيه إلى أحد أديرة وادي
النطرون. وكلفت هذه الغربة مصطفى فهمي منصبه، كما دمرت مكانة البريطانيين. وألغى
رياض — الذي خلف مصطفى فهمي — قرار نفي البطريرك، وعاد كيرلس الخامس إلى القاهرة
ليلقى ترحيب المنتصر، وثارت ضجة — أيضًا — حول القس الإنجليكاني جورج هورنر، الذي
كان يبحث في مجموعة المخطوطات القديمة بالبطريركية، وكان بطرس غالي، وبيرنج، ومرقص
سميكة، قد رتَّبوا له مهمة الاطلاع على تلك المخطوطات، ولكن سرت شائعات حول وجود
مؤامرة إنجليكانية للاستيلاء على الكنيسة القبطية، وأن للقس هورنر يد فيها. وبعد
عودة البطريرك كيرلس الخامس من المنفى شكل لجنة استشارية من أربعة من المشايعين له
لتحل محل المجلس الملِّي، و «لم يجرؤ أحد أن يتحدث عن الإصلاح».
٣٠ وأعاد البطريرك افتتاح الكلية الإكليركية، ولكن هيئة التدريس كانت
ضعيفة وكذلك كانت حال طلابها.
وثمة ما يوازي إجهاض محاولة الإصلاح هذه، بالنسبة للأزهر، فبعد تشدق الخديو عباس
بالحديث عن الإصلاح، إذا به يعيِّن شيخًا للأزهر من المحافظين. ويئس محمد عبده من
إمكانية إصلاح الأزهر فاستقال من مجلسه. وكذلك تشبه محاولة الدولة انتزاع السيطرة
على الأوقاف من علماء الأزهر، صراع المجلس الملِّي مع البطريرك للسيطرة على الأوقاف القبطية.
٣١
وأعاد دعاة الإصلاح القبطي تنظيم صفوفهم ببطء من أجل القيام بمحاولة خامسة
للإصلاح. وفي عام ١٨٩٥م أنشأوا جريدة لمواجهة صحيفة بتشجيع تادرس شنودة المنقبادي —
عضو جمعية التوفيق المؤيد للمجلس الملِّي — على إصدار صحيفة «مصر» التي جمعت بين
الدعوة للإصلاح القبطي، وتأييد سياسة الاحتلال البريطاني.
٣٢
إعادة تقييم الماضي القبطي من منظور أوروبي
لم تكن اللغة القبطية بحاجة إلى من يقوم — مثل شامبليون — بحل رموزها؛ لأنها بقيت
— إلى جانب العربية — لغة النصوص الدينية والتراتيل الكنسية للكنيسة القبطية. وبدأت
الدراسات الجادة للغة القبطية في الغرب في القرن التاسع عشر على المخطوطات التي
جلبها الرحالة معهم. وشجع الفاتيكان هذا العمل لأسباب تبشيرية، ورعى نشاط
الفرنسيسكان وغيرهم من المبشرين العاملين بين صفوف الأقباط. وقام إثناسيوس كيرشر
(١٦٠٢–١٦٨٠م) — اليسوعي الألماني الذي أقام بروما لمدة طويلة — بدراسات مستفيضة لكل
من الهيروغليفية والقبطية. وكان اشتغاله بالهيروغليفية متواضعًا (فقد اعتقد أنها
طريقة رمزية خالصة للكتابة)، ولكن عمله في القبطية أصبح أساسًا لجميع الدراسات
الأوروبية القبطية.
٣٣
وهكذا ترعرعت الدراسات القبطية في أوروبا في حجر دراسات الكتاب المقدس، والدراسات
اللاهوتية، وربيبها: الاستشراق. وقام المتخصصون في «المصريات» — منذ أيام شامبليون
— باستخدام القبطية كأداة لفهم الهيروغليفية. وتحدث جومار قليلًا عن الأقباط في
«وصف مصر»، وتناولهم وليم لين في ملحق بكتابه الشهير «عادات وتقاليد المصريين
المحدثين»، وفي الثلاثينيات من القرن التاسع عشر قام كل من روبرت كيرزون، وهنري
تاتام (انظر الجدول
٧-١) بتهريب المخطوطات القبطية وغيرها التي
اكتشفت بالأديرة المصرية إلى بريطانيا. وكما رأينا من قبل، كان قدوم مارييت إلى مصر
عام ١٨٥٠م لشراء مخطوطات قبطية وغيرها من المخطوطات لحساب اللوفر.
٣٤
ورسم سومرز كلارك صورة قاتمة لحال الآثار القبطية بمصلحة الآثار قبل عودة ماسبيرو
إلى إدارة المصلحة عام ١٨٩٩م:
«كان الموقف الفكري للمتخصص في المصريات تجاه أي دراسة للآثار المصرية لا تتم على
طريقته — في ذلك الوقت — أبعد ما يكون عن الصفة العلمية، كما كان مسببًا للإحباط.
ولم يكن مدير عام الآثار يتحدث إلا باشمئزاز عن (الأقباط التافهين). كان في منتهى
القسوة والبربرية التي لا داعي لها في مدينة حابو، فقد تم تحويل أحد إيوانات ذلك
البناء الضخم الأخَّاذ إلى كنيسة في عهد متأخر، فأقيمت الأعمدة، وبناء حجري نصف دائري
للمذبح … فلم تعجب تلك الصفحة من التاريخ جناب المدير العام، وما قد تشير إليه من
أدلة، فقام بانتزاع الأعمدة بمشقة وكلفة كبيرة. ولم يفعل ذلك وحسب، بل لم يعنَ بنشر
تصميمها ورسوماتها، والمعلومات الوصفية لها. وعلينا الآن أن نبحث عن الكيفية التي
حاول بها أولئك المسيحيون إعادة تنظيم الإيوان لاستخدامهم الخاص، بالرجوع إلى الرسم
الوارد بكتاب وصف مصر.»
٣٥
وما زالت هناك بعض الصور الفوتوغرافية لبقايا الكنيسة القبطية قبل أن تتم إزالتها
من الموقع (انظر الشكل
٤١).
جدول ٧-١: علماء القبطية وقيادات الأقباط
علماء أوروبيون |
علماء |
علمانيون |
البطاركة — مدة الخدمة |
تاتام ١٧٨٨–١٨٦٨م |
|
|
|
كيرزون ١٨١٠–١٨٧٣م |
|
|
|
كلارك ١٨٤١–١٩٢٦م |
|
|
|
|
|
بطرس غالي |
|
|
|
١٨٤٦–١٩١٠م |
|
أميلينو ١٨٥٠–١٩١٥م |
|
|
|
بتلر ١٨٥٠–١٩٣٦م |
|
ميخائيل شاروبيم |
|
|
|
١٨٥٣–١٩٢٠م |
|
شتا يندورف ١٨٦١–١٩٥١م |
مرقص سميكة |
فليني فهمي |
كيرلس الرابع |
|
١٨٦٤–١٩٤٤م |
١٨٦٠–١٩٥٤م |
١٨٥٤–١٨٦١م |
كروم ١٨٦٥–١٩٤٩م |
كلوديوس لبيب |
ميخائيل عبد السيد |
ديمتريوس الثاني |
|
١٨٦٨–١٩١٨م |
١٨٦٠–١٩١٤م |
١٨٦٢–١٨٧٠م |
كليدا ١٨٧١–١٩٤٣م |
|
مرقص حنا |
|
ماسبيرو ١٨٨٥–١٩١٥م |
|
١٨٧٢–١٩٣٤م |
|
|
|
ويصا واصف |
كيرلس الخامس |
|
|
١٨٧٣–١٩٣١م |
١٨٧٤–١٩٢٧م |
وأخذت الدراسات القبطية — في الدوائر الأوروبية الأخرى — تحظى بالاهتمام في
الثمانينيات والتسعينيات، فاشتغل كل من أميلينو، وأوسكار فون وليم، وولتر كروم
باللغة والأدب، ونشر شتا يندورف كتابًا مهمًّا في قواعد اللغة القبطية عام ١٨٩٤م.
وبدأ الفن والعمارة القبطية يدخلان دائرة الاهتمام عام ١٨٨٠م عندما قدم إلى مصر
الفرد بتلر ليعمل معلمًا لأبناء الخديو توفيق، فخلبت لبَّه الكنائس القبطية. وفي عام
١٨٨٤م نشر كتابه «الكنائس القديمة في مصر»، الذي ذكر فيه أن «الآثار القبطية في
طريقها للفناء يومًا بعد يوم؛ فلا يعرفها السياح الأوروبيون، ولم يهتم بها الأقباط
أنفسهم إلا نادرًا، ولم يتم عمل أي شيء مطلقًا لإنقاذها من الدمار.»
٣٦ وفي العام ١٩٠٢م، نشر بتلر كتابه «الفتح العربي لمصر».
بدأ حقل الآثار القبطية يجتذب الاهتمام بعد العام ١٩٠٠م، فبعدما ترك سومرز كلارك
العمل في مجال العمارة بإنجلترا عام ١٩٠٢م، استقر في مصر، وتفرغ للبحث وكان ماسبيرو
— على نقيض مارييت — مهتمًّا بالآثار القبطية، وبدأ يعمل منذ عام ١٩٠٠م على تعويضها
عما أصابها من إهمال. وخصص قاعة بالمتحف المصري للآثار القبطية، هي التي نُقلت فيما
بعد إلى المتحف القبطي.
٣٧ وأصبح ابنه جان — الذي مات في الثلاثين من عمره على الجبهة الغربية
للحرب — قد أصبح متخصصًا بالبيزنطيات وأعد كتالوجًا للبردي اليوناني بمتحف القاهرة.
واشتملت الحفائر التي أجراها جان كليدا (١٨٧١–١٩٤٣م) قبل الحرب الأولى، على مواقع
قبطية في بويط، ودير أبو حنس، ودير القديس سمعان بأسيوط، وأسيوط، وأخميم، وأديرة
سوهاج، وقد رعى تلك الحفائر المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، ومصلحة الآثار
المصرية، ولجنة حفظ الآثار، وشركة قناة السويس.
٣٨ وأسس بتلر، وكلارك، ومورتز (مدير الكتبخانة الخديوية)، وماكس هرتز،
«جمعية تاريخ الآثار القبطية في مصر» عام ١٩٠٣م، ولكن يبدو أنها لم تعمر طويلًا.
٣٩
إعادة تقييم الماضي القبطي — سميكة ولجنة حفظ الآثار
كان المصريون الذين قدر لهم أن يلبوا دعوة بتلر إلى إنقاذ الكنائس القديمة يطورون
اهتماماتهم، وينمون قدراتهم للقيام بهذا العمل، وكان مرقص سميكة — في صباه — يحب
زيارة المتحف المصري، وأهرام الجيزة وسقارة، ومساجد القاهرة وكنائسها. وبعدما انقشع
غبار الاحتلال البريطاني، رافق سميكة مخدومته الكونتيسة سترانجفورد عند زيارتها
لتلك الأماكن. واعترف في مذكراته بأنه تعرَّف على آثار بلاده من كتب مواري وبايديكر
لدليل مصر السياحي، وفي ذلك يقول: «رغم أن ذلك يمس مشاعري الوطنية، لا بد أن أعترف
بأننا ندين للأوروبيين — وخاصة الفرنسيين — باكتشاف هذه الآثار، ودراستها علميًّا، وترميمها.»
٤٠
وساعد الشقيق الأكبر لمرقص سميكة بتلر في بحثه عن الكنائس القبطية، وفي ١٨٩٠م زار
مرقص الباحث البريطاني بأكسفورد.
٤١ وعرفه بتلر على سومرز كلارك، المعماري البريطاني المتخصص في ترميم
الكاتدرئيات. وقد بدأ كلارك اهتمامه بالمصريات والعمارة القبطية كهواية، ثم انكبَّ
على دراستها بعد تقاعده في بيته الذي بناه في الكاب، ونشر كتابه «الآثار القبطية في
وادي النيل» عام ١٩١٢م.
٤٢
ونبَّه سميكة كلارك إلى أن أعيان القبط يستبدلون بالكنائس القديمة، عمائر على
الطراز «اليوناني الحديث» المغطى بالرخام الإيطالي. وأن ذلك يتم بحسن نية، ولا يلقى
معارضة من جانب البطريرك، وكبار العلمانيين، وفيهم بطرس غالي. فقام كلارك بنشر
مقالة احتجاجية نارية بجريدة التايمز اللندنية. وفي العام ١٨٩١م، رافق مرقص سميكة
بيرنج في جولة لزيارة كنائس القاهرة، وحثَّه على وضع تلك الكنائس تحت رعاية «لجنة حفظ
آثار الفن العربي».
٤٣ وبعد ذلك بسنوات، عبر سميكة عن تقديره لعمل بتلر بإهداء الدليل الذي
أعده للمتحف القبطي إلى ذكراه، وذكر أن كتاب بتلر «الكنائس القديمة في مصر» ألهمه
الدعوة إلى وضع الآثار القبطية تحت رعاية «لجنة حفظ الآثار» وتأسيس المتحف القبطي.
٤٤
وكما رأينا في الفصل السادس، أسَّس توفيق لجنة حفظ الآثار عام ١٨٨١م، وفي ١٨٩٤م
اقترحت اللجنة أن تتولى مسئولية الحفاظ على الكنائس والأديرة القبطية الأثرية، فخشي
البطريرك كيرلس الخامس أن يؤثِّر ذلك على صلاحيته، وبعد عامين من ذلك التاريخ، عرضت
اللجنة تخصيص ٢٠٠٠ جنيه مصري لإصلاح الآثار القبطية إذا شاركت الكنيسة بدورها في
تحمل جانب من التكلفة، فوافق البطريرك بعد تردد. وتم ضم عضوين من الأقباط إلى
اللجنة على نحو ما رأينا.
٤٥
ويذكر سميكة أن البطريرك كيرلس الخامس «لامَهُ» على ذلك التدبير، وكان «عزاؤه
الوحيد» أنه لم يدخل اللجنة. واتهم سميكة أحد العضوين القبطيين باللجنة — نخلة
البراتي — لهدمه برجًا رومانيًّا في حصن بابليون لتوسيع مدخل الكنيسة المعلقة،
وإزاحة الستائر والأيقونات عند إعادة تأثيثه لكنيسة مارجرجس، فمنذ عام ١٨٧٩م، أنفق
نخلة البراتي ٦٠٠٠ جنيه من ماله الخاص في إعادة تأثيث الكنيسة المعلقة، ولكن
الآثاريين البريطانيين ساءهم فقْد البرج الروماني، وطالبوا كرومر بالتدخل لإنقاذ
البرج الآخر.
٤٦ وفي عام ١٨٩٨م، كتب كرومر إلى ستانلي لين-بول:
«إنني أكافح ضد البطريرك القبطي، وأسعى لإيجاد نوع من السيطرة الأوروبية على
الكنائس القبطية من الناحية الأثرية … ويؤسفني أن أحدًا لم ينبهني قبل ذلك لما حدث
بقصر الشمع. وبمجرد قراءتي لخطاب سومرز عن الكنائس قمت بزيارة الموقع. لقد حدث ضرر
كبير بالمكان تم بحسن نية، ومن حسن الحظ أنني وصلت في الوقت المناسب لإنقاذ البرج
الروماني الآخر من الدمار؛ فالآثار القبطية على نفس درجة الآثار الرومانية من حيث
الأهمية. ولا بد أن أسعى لوضعها تحت إشراف هرتز بصورة أو بأخرى؛ لأنني على ثقة من
قدرته على ذلك العمل.»
٤٧
وفي نفس الوقت، بدأ مرقص سميكة يجد نفسه — تدريجيًّا — أمام اختيار صعب: أن يستمر
في السعي للإصلاح القبطي، أو يخفف من ذلك، ويرمم الصدع الذي أصاب علاقته بالبطريرك
كيرلس الخامس، ويحاول الحصول على مساعدته لدخول لجنة حفظ الآثار، ولإقامة المتحف
القبطي. كان مرقص سميكة — عام ١٨٩٣م — واحدًا من بين المتشددين من أعضاء المجلس
الملِّي الذين رفضوا التوقيع على التماس أعده بطرس غالي للمطالبة بعودة البطريرك من
منفاه بوادي النطرون.
٤٨ والآن غيَّر سميكة رأيه، ونحَّى فكرة الإصلاح جانبًا، وبدأ يتودد لكيرلس
الخامس. وفي عام ١٩٠٥م، أصبح عضوًا بلجنة حفظ الآثار، وبعد ذلك بثلاث سنوات أسس
المتحف القبطي.
من الأرمن إلى الأقباط
انتقل تمثيل المسيحيين في قمة النخبة السياسية في مصر من الأرمن إلى الأقباط خلال
سنوات الحكم البريطاني (١٨٨٢–١٩٢٢م)، وانعكس ذلك التغير على عضويته لجنة حفظ الآثار.
لقد لعب الأرمن والأقباط دور الوساطة بين المصريين المسلمين والأوروبيين، ولكن ظروف
هاتين الطائفتين المسيحيتين في مصر كانت مختلفة تمامًا. فالكثير من أفراد الطائفة
الأرمنية الصغيرة الحجم قدموا إلى مصر في القرن التاسع عشر، ولم تكن لهم جذور قوية
بها، واعتمدوا على حماية الأسرة الحاكمة أو الدول الأوروبية، ولم يتورطوا في الحركة
الوطنية المصرية. أما الأقباط فكانوا على نقيضهم تمامًا، يدَّعون أنهم أعمق المصريين
جذورًا في البلاد، ويتخذون من العربية لغة لهم، ونفروا من التعاون مع الاحتلال
البريطاني، وتضامنوا في العمل الوطني مع المسلمين في النضال من أجل
الاستقلال.
وفي التسعينيات، كان الأرمن الذين رجحوا كفة الأوروبيين في لجنة حفظ الآثار هما:
تيجران (صهر نوبار رئيس الوزراء، ووزير الخارجية من ١٨٩١م حتى ١٨٩٤م)، ويعقوب أرتين
وكيل المعارف، وفيما يتعلق بمجلس الوزراء، شكا كرومر من مقاومة تيجران الضمنية
للاحتلال، وعزا ذلك إلى عقليته «الفرانكو-بيزنطية».
٤٩
أما يعقوب أرتين (١٨٤٢–١٩١٩م)، فقد تواترت الإشارة إليه في الفصول السابقة من هذا
الكتاب، قضى نصف حياته بلجنة حفظ الآثار؛ ولذلك كان أهم من تيجران الذي كان عابر
سبيل. وكان أرتين حفيدًا لمهاجر أرمني من سيواس (بآسيا الصغرى) جاء إلى مصر للعمل
في خدمة محمد علي نحو عام ١٨٠٨م، وهو ابن أرتين بك شراكيان المترجم وناظر التجارة
والأمور الأفرنجية في الأربعينيات، وكان أيضًا قريبًا ليوسف حككيان، وتربى يعقوب
أرتين في فرنسا تربية كاثوليكية، وجاء إلى مصر كرعية فرنسية ولم يتعلم التركية
والعربية إلا في العشرين من عمره؛ ولذلك كان تصنيفه كمصري إشكاليًّا في حد ذاته.
وكما كانت الحال بالنسبة لنوبار وتيجران، شقَّ يعقوب أرتين طريقه نحو القمة بإتقانه
الفرنسية واستعداده للعمل مع الأوروبيين. فكان معلمًا خاصًّا لأبناء إسماعيل، كما
اشتغل سكرتيرًا خاصًّا له. وكان يعمل في خدمة المصالح الأوروبية تمامًا من خلال عمله
في «لجنة التحقيق في الديون».
وبعد الاحتلال البريطاني، تولَّى يعقوب أرتين رئاسة اللجنة التي نظرت دعاوى
التعويضات عن الأضرار الناجمة عن الثورة العرابية. وفيما بين ١٨٨٤ و١٨٨٨م كان وكيلًا
للمعارف، ولكنه اصطدم بناظر المعارف علي مبارك، فانتقل إلى مصلحة السكك الحديدية
حيث النفوذ الأقوى للبريطانيين حتى خرج علي مبارك من الوزارة (١٨٩١م)، فعاد وكيلًا
للمعارف، وكان يقيم في بناية واحدة بجوار تيجران ونوبار فيما بين الأزبكية وباب الحديد.
٥٠
وانضم يعقوب أرتين إلى لجنة حفظ الآثار في نوفمبر ١٨٨٢م — عقب الاحتلال مباشرة —
وكانت خطوته الأولى لفتح أبواب المقدسات الإسلامية عنوة باسم الفن أو العلم. أخذ
يشكو من أن «أعضاء بعينهم» (يقصد المسيحيين) لا يُسمح لهم بدخول المساجد أحيانًا،
واستجابت اللجنة لذلك فزودت الأعضاء بميدالية برونزية تتيح لهم دخول أي مسجد.
٥١
وقد عُمِّر أرتين لما بعد ذروة النفوذ الأرمني في مصر ولجنة حفظ الآثار: فتقاعد
تيجران بعد خروجه من نظارة الخارجية عام ١٨٩٤م، وفي السنة التالية أنهى سقوط وزارة
نوبار مشاركة الأرمن في مجلس الوزراء، وتقاعد أرتين من منصب وكيل المعارف عام ١٩٠٦م
حتى لا يعمل تحت رئاسة ناظر المعارف سعد زغلول. وظل نشطًا في لجنة حفظ الآثار،
والجامعة المصرية، والمجمع العلمي المصري حتى وفاته في يناير ١٩١٩م، قبل شهرين من
اندلاع الثورة التي دشنت عصرًا جديدًا لم يترك للأرمن سوى مساحة سياسية
ضئيلة.
وملأ الأقباط الفراغ السياسي الذي تركه الأرمن؛ ففي عام ١٨٩٣م، أصبح بطرس غالي أول
قبطي يصل إلى الوزارة، وظل بها حتى اغتياله عام ١٩١٠م عندما كان رئيسًا للوزراء. وقد
اتبع سنة الأرمن في شغله لمنصب ناظر الخارجية، وفي رئاسته لمجلس النظار، وقد تعاون
بطرس غالي مع الإنجليز، ودفع حياته ثمنًا لذلك على يد أحد الوطنيين. ومنذئذٍ أصبح
وجود وزير قبطي بمجلس الوزراء حقيقة واقعة ثابتة. وامتص حكماء الأعيان الأقباط صدمة
اغتيال بطرس غالي، ووجهوا طائفتهم إلى التضامن مع المسلمين في العمل الوطني من أجل
تحقيق الاستقلال.
وجاء التمثيل المسيحي بلجنة حفظ الآثار، في التسعينيات. ولكن طال أمده في اللجنة
عنه في الوزارة بسبب استمرارية وجود يعقوب أرتين. وبدأ الوجود القبطي باللجنة
بعضوين اثنين عام ١٨٩٦م بعد وضع الآثار القبطية تحت إشراف اللجنة، فكان ذلك خطوة
باتجاه الوحدة الوطنية.
وعند عام ١٩٠٦م، كانت الكنيسة قد أسهمت بمبلغ ٥٠٠ جنيه في أعمال اللجنة في مقابل
١٦٦ ألفًا من الجنيهات قدمتها فيما بين ١٨٨١ و١٩٠٦م، و٣٩ ألفًا قدمتها غيرها من النِّظَارات.
٥٢ وكان التحاق مرقص سميكة باللجنة عام ١٩٠٦م علامة فارقة في النشاط القبطي
في مجال حفظ الآثار القبطية، وفي العشرينيات كان صوت سميكة من أعلى الأصوات
باللجنة.
تأسيس المتحف القبطي
ويبدو أن البطريرك كيرلس الخامس وافق على المتحف القبطي في مقابل قيام سميكة بكبح
جماح الإصلاحيين بالمجلس الملِّي، فبدون موافقة البطريرك لا يمكن إقامة متحف لأن
مكانه ومقتنياته من ممتلكات الكنيسة. وقد ملأ المتحف الفجوة التاريخية بين المتحف
المصري والمتحف اليوناني الروماني من ناحية، ومتحف الفن العربي من ناحية أخرى.
وكانت جميع المتاحف تحت إدارة الحكومة فيما عدا المتحف القبطي، الذي كان تابعًا
للكنيسة، وكان مؤسِّسه مصريًّا.
والمتحف القبطي يبرز ظاهرة في التاريخ المصري أكثر من عرضه لعصر معيَّن؛ فمن حيث
السيادة السياسية لم يكن هناك حكم قبطي؛ لأن مصر انتقلت من الحكم البيزنطي إلى
الحكم الإسلامي، ولم يعرف تاريخها دولة قبطية، كذلك ليست هناك عملة قبطية. وكان عرض
الآثار القبطية المبكرة في المتحف اليوناني-الروماني، يضفي نوعًا من الغموض على
الفترة الفاصلة بين ما يعرف بروما القديمة، وما يطلق عليه الآثار المتأخرة، وكانت
إقامة متحف بيزنطي غير واردة في بلد تشكلت هويته من خلال مقاومته للقسطنطينية
والأرثوذكسية اليونانية. وكان عرض الآثار القبطية التالية للعام ٦٤٠ بمتحف الفن
العربي سواء مختلطة مع غيرها، أو كمجموعة قائمة بذاتها في قسم خاص بها إشكالية
أيضًا، ورغم تداخله الزمني مع المتاحف الأخرى، وصعوبة تحديد «العصر القبطي»، سد
«المتحف القبطي» ثغرة مهمة، في وقت كان المصريون فيه يناضلون من أجل تحديد هويتهم
الوطنية الحديثة.
كان ماكس هرتز أول من طرح فكرة إقامة «متحف قبطي» على لجنة حفظ الآثار عام ١٨٩٧م،
واقترح استئذان البطريرك في جمع رءوس الأعمدة الحجرية المحفورة وغيرها من الآثار
المهملة من الكنائس، لتشكيل نواة المتحف.
٥٣ وكان البطريرك متقبلًا للأمر في البداية، واقترح أن يتولى نخلة البراتي
— عضو اللجنة — الإشراف على تخزين الآثار التي تتجه إلى هرتز بمبنًى ملحق بالكنيسة المعلقة،
٥٤ ولكن المدى الذي بلغته تلك الترتيبات قبل أن يتولى سميكة هذه المهمة،
ليس واضحًا، ويبدو أن سميكة قد أغفل (في مذكراته) أي دور لهرتز ونخلة البراتي في
فكرة إقامة المتحف.
وقد أسس المتحف القبطي في حوالي نفس الوقت الذي أسس فيه المتحف البيزنطي بأثينا،
الذي افتُتح عام ١٩١٤م، وذلك بعد تأسيس المتحف الوطني للآثار بأثينا بنحو ثمانين
عامًا، مسجلًا الاعتراف الرسمي بعصر وتراث كان اليونانيون المعاصرون على استعداد
تام للانتساب إليه.
٥٥
ولم يكن ثمة مكان أفضل للمتحف القبطي من ذلك الموقع التاريخي الذي أقيم فيه بجوار
الكنيسة المعلقة بحصن بابليون بمصر القديمة (الفسطاط، انظر الخريطة ٢)، وهناك
بالجوار كنيسة القديس سرجيوس (التي يعتقد أن موقعها مكان إقامة العائلة المقدسة)،
وغيرها من الكنائس التاريخية الأخرى، وسوف يتم توسيع المتحف، وصممت واجهته على
الطراز الفاطمي البديع المرصع برموز مسيحية، وذلك في فترة ما بين الحربين
العالميتين. وأعاد الملك فاروق افتتاح المتحف عام ١٩٤٦م، وأقيم في فنائه نصب يحمل
تمثالًا نصفيًّا لمرقص سميكة (انظر الشكلين
٤٢،
٤٣).
طوَّف مرقص سميكة بالكنائس والأديرة «من رشيد إلى الخرطوم»
٥٦ عام ١٩٠٨م، مزوَّدًا ببركات البطريرك، وكان يدفع للكنيسة ثمنًا رمزيًّا
لما يختاره من أشياء، ولم تسهم الكنيسة — ماليًّا — في إقامة المتحف، وجاءت
التبرعات التي أقيم بها المتحف من العلمانيين من الأقباط، وبعض رجال الدين، والأمير
حسين كامل (السلطان فيما بعد)، وأعضاء مجلس الوزراء، والمستشارين الإنجليز، وزملاء
سميكة من أعضاء مجلس شورى القوانين. وقدمت الحكومة إعانة سنوية قدرها مائتي جنيه،
زيدت إلى ٣٠٠ جنيه عام ١٩١٨م، وألف جنيه عام ١٩٢٥م، و١٥٠٠ جنيه عام ١٩٣٠م.
٥٧
وما لبث المتحف المتواضع أن أصبح مفخرة الأقباط، وموقعًا احتفاليًّا يعرض فيه حكام
مصر
المسلمون اهتمامهم برعاياهم من المسيحيين. وفي عام ١٩١٠م ألقى الرئيس الأمريكي
تيودور روزفلت كلمة في الجامعة المصرية، استنكر فيها اغتيال بطرس غالي، وهاجم
الوطنيين، وأشاد بالحكم البريطاني لمصر. وعبر أعيان الأقباط عن شكرهم له بدعوته
لزيارة المتحف القبطي، واقترح فليني فهمي إهداء أهم مخطوط قبطي لروزفلت، ولكن سميكة
رفض الاقتراح.
ولم يدخل المتحف أفق السياحة الغربية إلا بعد الحرب العالمية الأولى، فلا يرد
ذكره بدليل بايديكر (١٩١٤م)، ولا ما كميلان (١٩١٦م). وساعدت زيارة السلطان فؤاد
للمتحف عام ١٩٢٠م على معرفة الجمهورية، وبعد ذلك بثلاث سنوات. اصطحب فؤاد الملك
فيكتور إيمانويل الثالث ملك إيطاليا والملكة في زيارة للمتحف.
٥٨
الأقباط بين الملة والأمة
لا يرِد ذكر الإصلاح القبطي، والمتحف القبطي في الكتب التي تتناول تاريخ تلك
الفترة الحافلة بالاضطراب السياسي، السابقة على الحرب العالمية الأولى، كان الأقباط
يمرون بالمحاولة الرابعة للإصلاح بقيادة العلمانيين، بعدما أصبح سوء إدارة المدارس
والأوقاف القبطية على يد اللجنة الاستشارية الرباعية التي أقامها البطريرك، واضحًا
عام ١٩٠٥م، حتى إن جريدتَي «الوطن» و«مصر» اتَّحدتا في المطالبة بإعادة إقامة المجلس
الملِّي، واستجاب البطريرك كيرلس الخامس وتم انتخاب مرقص سميكة عضوًا بالمجلس الملِّي
الجديد، الذي تغيرت أفكاره، فأصبح يرجع الصدام الذي حدث عام ١٨٩٢-١٨٩٣م بين البطريرك
والمجلس الملِّي، إلى اشتطاط أعضاء المجلس (وكان واحدًا منهم)، في سياستهم.
٥٩
ولاحظ أحد الكتاب البريطانيين أنه «كان من الممكن جذب البطريرك قليلًا نحو
الإصلاح ببعض اللطف والحيلة التي عُرف بها رجل مثل مرقص سميكة باشا»،
٦٠ وبيَّن سميكة على صفحات مذكراته كيف تخلَّص من التوتر الذي شاب علاقته
بكيرلس الخامس الذي كان متسامحًا مع رجال الإكليروس الفاسدين، يغدق من أموال
الكنيسة على أقاربه، ويسعى لتحويل المعادن إلى ذهب ليستخدمه في بناء الكنائس، ويجبر
سميكة على الحفر تحت مذبح إحدى كنائس القاهرة ليستخرج «كنزًا» من تحتها.
٦١
استقال كرومر عام ١٩٠٧م، وحلَّ بطرس غالي — بعد ذلك بعام — محلَّ مصطفى فهمي رئيسًا
للنظار، فكان أول قبطي يتولى هذا المنصب، ولكن الوطنيين المعارضين اعتبروه مسئولًا
عن توقيع اتفاقية الحكم الثنائي المصري — الإنجليزي في السودان عام ١٨٩٩م، وعلى
رئاسته لمحكمة دنشواي التي قضت بإعدام الفلاحين (١٩٠٦م)، وإصدار قانون المطبوعات
الذي كمم المصحف، والسعي لمدِّ امتياز شركة قناة السويس. ولم يكن بطرس غالي فريدًا في
تعاونه مع الإنجليز، فلم يختلف في ذلك عن غيره من الأعيان المسلمين والأقباط في تلك
الأيام. فمن الأقباط كانت جريدتا «مصر» و«الوطن» وأخنوخ فانوس من أعيان أسيوط،
يدافعون صراحة عن الاحتلال، وزين البطريرك كيرلس الخامس قاعة الاستقبال بصورتي
إدوارد السابع وجورج الخامس.
٦٢ وأسَّس أخنوخ فانوس — البروتستانتي، خريج الكلية السورية البروتسنتية —
«جمعية الإصلاح القبطي» و«حزب المصريين المستقلين» الذي طالب الحكومة والإنجليز
بتقديم امتيازات للأقباط.
أما الحكماء من قادة الأقباط الآخرين فاختاروا العمل في إطار التيار الوطني،
فانضم ويصا واصف حنا إلى الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل الذي كان يطالب بالاستقلال
الفوري. واختار فخري عبد النور وسينوت حنا الانضمام لحزب الأمة الذي كان لطفي السيد
وراء تأسيسه، ضم كبار الملاك والمثقفين الذين رأوا في الإصلاح الاجتماعي تقدمًا
تدريجيًّا نحو الاستقلال، وأكد كل من مصطفى كامل، ولطفي السيد أن المسلمين والأقباط
يكونون أمة مصرية واحدة. ولكن تدهورت علاقة الأقباط بالحزب الوطني بعد وفاة مصطفى
كامل عام ١٩٠٨م، وخاصة عندما قام أحد المنتمين إلى الحزب الوطني باغتيال بطرس غالي
عام ١٩١٠م. وبالغ المؤتمر القبطي — الذي نظَّمه فانوس وآخرون بأسيوط — في تصعيد الخلاف
وشق الصف الوطني، واستدعاء عقد مؤتمر إسلامي ردًّا عليه.
٦٣
كان سميكة يناور سياسيًّا بين صفوف البريطانيين، ومع البطريرك، ودعاة الإصلاح
العلمانيين بالمجلس الملِّي. ولا يكاد يخلو كتاب إنجليزي عن الأقباط في مطلع العشرين،
من الإشارة إلى جهود مرقص سميكة. ويذكر سميكة أنه استطاع إقناع كرومر بتخصيص إعانة
للمدارس القبطية الخاضعة لتفتيش المعارف، وأنه أقنع مستشار المعارف دوجلاس دانلوب
باستبدال أحد الإصلاحيين المتعلمين بفرنسا بناظر الكلية الأكليريكية صنيعة البطريرك.
٦٤
وعلى صعيد العمل الوطني، عيِّن سميكة عضوًا بمجلس شورى القوانين (١٩٠٦–١٩١٣م)،
وبالجمعية التشريعية (١٩١٤م)، ويبدو أن علاقته بلطفي السيد وحزب الأمة كانت سطحية.
٦٥ وكان الأقباط الآخرون من أعضاء مجلس شورى القوانين: فليني فهمي، وسينوت
حنا، وكامل صدقي، وفي غضون تلك الأيام، حصل سميكة على الباشوية.
٦٦
شعر الأقباط بالحاجة إلى جمع الصفوف بعد اغتيال بطرس غالي، وفي العام ١٩١٢م، عمل
اللورد كتشنر من خلال فليني فهمي للوصول إلى حل وسط، ضم بموجبه أربعة من الأكليروس
بطريق التعيين إلى جانب ثمانية من العلمانيين المنتخبين أعضاء بالمجلس الملِّي، وعاقَ
قيام الحرب العالمية الأولى واشتعال ثورة ١٩١٩م دون ظهور محاولة جديدة للإصلاح القبطي.
٦٧
يروي هذا الفصل قصة صراع دام أربعين عامًا بين البطريرك كيرلس الخامس،
والعلمانيين من دعاة الإصلاح بالمجلس الملِّي، غير أن ذلك لا يحجب ما حققه الأقباط من
إنجازات في التعليم، والثروة، والسياسة الوطنية عند قيام الحرب العالمية الأولى.
وتعد الإحصائيات الخاصة بتلك المحاولات موضع الشك بسبب تباين الدوافع عند الأطراف
التي طرحتها في خضم الصراع الطائفي (الفتنة الطائفية). ولعل «الهلال» لم تتجاوز
الحدود عندما ذكرت عام ١٩١١م — استنادًا إلى إحصاء ١٩٠٧م — وعائدات الضرائب أن
الأقباط يمثلون ٧٪ من سكان مصر، ولكنهم يملكون ١٦٪ من العقارات والأراضي الزراعية،
و٢٥٪ من الثروة الوطنية.
٦٨
أبناء الكنيسة القبطية أم أبناء الفراعنة
كان باستطاعة الأقباط إرساء هويتهم الحديثة على بر آباء المسيحية الأوائل في
العصر الروماني — البيزنطي (الذي كان عصر اضطهاد)، أو على شاطئ مصر القديمة. وكانت
الرؤية المتمركزة حول الكنيسة أكثر قبولًا عند رجال الدين وعامة الناس من الأقباط،
بينما شعر العلمانيون الذين تأثروا بالأفكار الغربية بإغراء الرجوع إلى
الفراعنة.
لم يحكم الأقباط مصر في يوم من الأيام، وليس لديهم سوى الشهداء أو النساك من
أمثال القديس أنطونيوس والقديس باخوميوس موضع فخار واعتزاز. فالتقويم القبطي لا
يبدأ بمولد المسيح أو قدوم القديس مرقص إلى مصر، بل يبدأ بعصر «الشهداء» في عهد
دقلديانوس. بينما التاريخ الفرعوني — على نقيض ذلك — حافل بمظاهر الاعتزاز بمجد
الأجداد والعظمة التي يتوقون للافتخار بها.
وسواء كان التأكيد على العصر الفرعوني أو على العصر المسيحي — كما ذهب سميكة
و«جمعية الآثار القبطية» التي أسسها مريت غالي في الثلاثينيات — فقد كان العلمانيون
هم الذين قادوا حركة الحفاظ على الآثار التاريخية القبطية وتأسيس المتحف القبطي
بينما كان البطريرك ورجال الأكليروس يستمدون شرعيتهم من خلافتهم للقديس مرقص، ومن
الاشتهار بالتقى والزهد، غير أنهم كانوا لا يدرون ما يعود به الإصلاح التعليمي من
منفعة، ولا يقدِّرون قيمة الآثار القبطية.
٦٩
كان تادرس شنودة المنقبادي (١٨٥٧–١٩٣٢م) علمانيًّا من جيل سميكة، متعمقًا في
الاهتمام بالماضي القبطي. استفاد مرتين من تحدي المبشرين الأمريكان للكنيسة
القبطية، فتعلم بالمدرسة الأمريكية الابتدائية بأسيوط، ثم انتقل إلى المدرسة التي
أقامها البطريرك ديمتريوس هناك لمواجهة البروتستانت. وما لبثت المدرسة القبطية أن
أغلقت بعد وفاة البطريرك، عندما كان تادرس في الثالثة عشر من عمره، فساعد والده في
تجارته حينًا من الزمن وشغل بعض الوظائف الحكومية بمديرية أسيوط. واشتغل بالتجارة
واستصلاح الأراضي، وساعد في تأسيس «الجمعية الخيرية القبطية» بأسيوط. وانتخب عام
١٨٩٢م عضوًا بالمجلس الملِّي الإصلاحي. وفي عام ١٨٩٥م أسس جريدة «مصر» لسان حال
الإصلاحيين، كما أسس «جمعية حفظ التاريخ القبطي» بأسيوط عام ١٨٨٣م أو ١٨٨٤م، وترجم
كتاب بوتشر «تاريخ الكنيسة في مصر» إلى اللغة العربية.
٧٠
كان الاهتمام بالماضي القبطي والماضي الفرعوني من قبيل التباهي — غالبًا — وليس
من قبيل الارتباط القصري. وكلاهما كان سهل التوافق مع الوطنية المصرية، فمعرفة
اللغة القبطية لا تؤهل المرء للدراسات القبطية فحسب، بل ودراسة مصر القديمة أيضًا.
ولم يرَ سميكة فارقًا كبيرًا بين ديانة مصر القديمة والمسيحية. وذهب إلى أن معظم
المصريين المسلمين انحدروا من صلب الأقباط، وأن جميع المسلمين المستنيرين يعرفون
ذلك، فكل المصريين أقباط: بعضهم مسلمون أقباط، والبعض الآخر مسيحيون أقباط.
٧١
وفي ربيع عام ١٨٨٢م، اعترف ناظر الأشغال العمومية بالصلة بين الأقباط ومصر
الفرعونية عندما اقترح إضافة عشرة تلاميذ إلى الخمسة الذين ضمتهم مدرسة أحمد كمال
للآثار بالمتحف، على أن يكون من بين العشرة أربعةٌ من الأقباط.
٧٢ وجاء تأكيد بعض العلماء من أمثال ماسبيرو وبتري، وسايس، على انتساب
الأقباط إلى الفراعنة ليضاعف من شعور الأقباط بالفخر. ففي حديثه أمام «نادي رمسيس»
(وهو تجمُّع قبطي) ذكر ماسبيرو أن الأقباط يمثلون سلالة فرعونية خالصة. وأن المسلمين
المصريين ينتسبون إلى نفس السلالة، ولكن التزاوج مع العناصر الوافدة جعلهم أقل
نقاء، من الناحية العرقية، من الأقباط. ونقل كل من سايس وبتري هذه الرسالة العنصرية
إلى مستوًى بالغ الخطورة.
٧٣ فكتب بتري: «القرية القبطية نظيفة، طرقاتها جيدة الكنس، يجلس النسوة في
مداخل الدور يعلمن أو يتحدثن معًا على مستوى بلاد البحر المتوسط المتحضرة، وليست
بالغة القذارة والفوضى كقرية المسلمين … ولن تصبح مصر أبدًا بلدًا متحضرًا إلا إذا
حكمها الأقباط — إذا قُدِّر لهم ذلك.»
٧٤
وطرقت ملكة سعد — محررة المجلة النسوية «الجنس اللطيف» — هذا الطريق الخطر عام
١٩٠٨م، عندما كتبت: «النساء المصريات درجن على دراسة العلوم، والخطابة فوق المنابر،
وحكم الإمبراطورية.
٧٥ عندما كانت نساء البلاد الأخرى يعشن حياة العبودية والبؤس، واستمرت
حرية النساء مع قدوم المسيحية، غير أنها تلاشت بعد الغزو العربي، وفرض الخدر
والحجاب على النساء.»
وتكشف العناوين التي اختارها الأقباط لصحفهم عن تزايد انجذابهم نحو مصر القديمة.
فقد اختار تقلا — المسيحي الشامي — «الأهرام» عنوانًا لجريدته، أما الأقباط فاختاروا
«الوطن» و«مصر» التي عكست قومية إقليمية مليئة بالاعتزاز بمصر القديمة. وحملت الصحف
القبطية الأخرى عناوين فرعونية صريحة: رمسيس (١٨٩٣م)، و«فرعون» (١٩٠٠م)، و«عين شمس»
(١٩٠٠م)، و«الآثار المصرية» (١٩٠٩م)، و«رمسيس» أخرى (١٩١١م).
٧٦
واكتشف سلامة موسى — الكاتب القبطي — مصر القديمة عندما سافر إلى أوروبا. واهتم
مكرم عبيد — السياسي الوفدي — بمصر القديمة عندما كان يدرس بفرنسا.
٧٧ فاكتشاف الوطن من خارجه ظاهرة شائعة في القومية الحديثة.
ومزج كلوديوس لبيب (١٨٦٨–١٩١٨م) بين «المصريات» و«القبطيات» مثلما فعل بعض علماء
الغرب. درس القبطية بمدرسة الأقباط الكبرى وتعلم الهيروغليفية أثناء عمله بمصلحة
الآثار، وتركها عام ١٨٩٢م ليقوم بتدريس اللغة القبطية بالكلية الإكليريكية، وأدار
مطبعة البطريركية التي كانت تنشر كتبًا دينية، وبدأ يعد قاموسًا للغة القبطية، وفي
عام ١٩٠٠م أصدر مجلة عربية — قبطية هي «عين شمس». وبدأ الأقباط يطلقون على أولادهم
أسماء فرعونية، ولكن كلوديوس لبيب أصر على أن يتخذ أولاده الستة من القبطية لغةً
للحديث في المنزل.
٧٨
ويعكس كتاب ميخائيل شاروبيم «الكافي في تاريخ مصر القديم والحديث» — الذي يقع في
أربعة مجلدات — وطبع فيما بين ١٨٩٨ و١٩٠٠م، اهتمامًا قبطيًّا عميقًا بتاريخ مصر
كله، وليس بالعصر الفرعوني، أو البيزنطي — القبطي وحدهما.
٧٩ ويغطي تاريخ مصر من أيام مصرائيم بن حام بن نوح حتى الخديو
توفيق.
ورغم أن شاروبيم أدخل الأقباط في إطار معالجته لتاريخ مصر الإسلامي والحديث، فقد
قدم تاريخًا قوميًّا، وليس طائفيًّا، وإطار تناوله لما قبل الإسلام يشبه تناول
الطهطاوي لنفس العصر في «أنوار توفيق»، وربما كان معتمدًا عليه. ونادرًا ما أشار
الطهطاوي إلى أسماء البطاركة الأوائل، ولكن شاروبيم فعل ذلك منذ النصف الثاني من
القرن الثاني، عندما بدءوا يظهرون من بين ضباب الأساطير. ولخص الاضطهاد الروماني —
البيزنطي. ولم يفترض استمرارية التاريخ القومي المصري منذ أقدم العصور فحسب، بل وضع
الأقباط في مكانهم من ذلك التاريخ على مر العصور.
وعند الحرب العالمية الأولى، كان المتحف القبطي المتواضع، والكنائس التي قامت
لجنة حفظ الآثار بإصلاحها ترمز لرؤية الأقباط للماضي والحاضر التي اختلفت عما كانت
عليه قبل ذلك بنصف القرن. كان الأقباط أفضل تعليمًا، وأكثر ثراء، واتصالًا بالعالم
الخارجي من ذي قبل. وعكست الصراعات بين الأكليروس والمجلس الملِّي تصميم العلمانيين
المتعلمين الأثرياء، وتشدد الأكليروس. وكان التحول من وضع الأقلية التي تحظى
بالتسامح إلى المواطنين المتساوين في حقوق المواطنة يسير في طريقه. وأحس الأقباط
بالاعتزاز الشخصي بتراثهم الفرعوني، ولكن كان عليهم أن يحذروا ما قد يجرهم إليه ذلك
من القول بتميزهم على مواطنيهم من المسلمين.