الفصل الأول
وقفتُ وسط المياه وأخذتُ أفكِّر في الغرَق. من الغريب أن يكون البحر أهدأ دومًا في الليل. لقد سِرتُ عَبْر شاطئ برايتون مئات المرات من قبلُ في الأيام الباردة، ولطالما كانت الأمواجُ تتلاطَم هناك، كل موجة تنزلقُ فوق الأخرى في حركة متوالية. وفي جُنْح الظَّلام، كانت المياهُ هادئةً ومُعتِمة، لا تُصدِر إلا حفيفًا خافتًا حين تصطدم بالحصى. لا يُمكِنك سماعُه بالنهار، وسط أصواتِ طيور النَّورس والسيَّارات وصُراخ الأطفال، ولكن البحر يهمسُ ليلًا، مناديًا إياك.
أمسَك الموجُ بتلابيب قُماشِ أفضلِ بذلة سوداء لديَّ؛ إذ ارتفع مع المَد والجَزْر اللطيف للتيارات غير المرئية. بدا الأمر حميميًّا إلى حدٍّ ما، كما لو كنتُ أُسحَب إلى أسفل وأصير أثقل. داعبَت رياح برايتون الجليدية بشَرتي، أو لعلَّني شعرتُ بالخدَر للتَّو. وإنْ كنتُ قد شعرتُ به بالفعل، فقد كان خدَرًا مستحبًّا على أي حال. قضَيتُ وقتًا طويلًا جدًّا في التفكير والآن لم يعُد هناك سوى الاختيار الأخير وهو التوغُّل في ظلمة أشد.
سمعتُ صوتَ الخطوات الساحقة على الحصَى، إلا إنني لم ألتفِت إلى الوراء. كنتُ أعلم أنني سأكون شِبه خفي بملابسي الداكنة هذه بالنسبة إلى السائرين الذين ينزِّهون كلابهم أو عَرابِدة آخِر الليل، أو أي شخصٍ يتجرَّأ للخروج في هذه الأجواء الباردة. رأيتُ بضعة أشكالٍ باهتة من مسافة بعيدة بجوار الرصيف البحري وسمعتُ أصواتًا مرتفعةً تُنادي بعضُها على بعض. لكنَّ شيئًا لم يؤثِّر فيَّ. ثمَّة شيءٌ رائع يتجلَّى في الوقوف في عُرض البحر بكامل ملابسك. لقد تركتُ اليابسة ورائي، بضجيجها وأضوائها وبقايا رقائق ملفوفة على هيئة كَوْمة من الورق المُبتَل. استشعرتُ مرارةً في فمي، ولكنَّني تحرَّرتُ من الشعور بالخوف والذنب، تحرَّرتُ من كل شيء. وعندما سمعتُ صوتَه، ظننتُ لوهلة أنها مجرَّد ذكرى عابرة.
قال: «هل هناك ما هو أسوأ من الوقوف هنالك في ليلة كهذه؟» كان هذا صوتَ أخي الأكبر. لم أستطِع مقاومة نَوبة التوتُّر التي اجتاحت أفكاري الخَدِرة. لقد أمضيتُ هنا ساعات. كنتُ على استعداد للتوغُّل في المياه العميقة إلى أن تصير ملابسي أثقل، وأعجز عن تفريغ رئتَيَّ من موجة مفاجئة من الفقاعات البيضاء. كنتُ مستعدًّا، حين جذَبَني صوتُه إلى الوراء بإحكام وكأنه ألقى بصنَّارة شبَكَت بسُترتي.
وقال: «إذا واصلتَ المُضيَّ قُدمًا الآن، فستُغرِق كلَينا. سيتعيَّن عليَّ أن أتبعَك، أنت تعرفُ ذلك.»
أجبتُه بصوتٍ أجشَّ: «وربما ينجو واحدٌ منا فحسب.» سمعتُه يضحك ولم أستطع أن ألتفتَ إليه لمواجهته. لطالما كنتُ أخشاه طَوال حياتي، وكنت أعرف أنني إذا التفتُّ إليه فإنني سأُضطَر إلى النظر في عينَيه مباشرة. سمعتُه يضحك بهدوء.
«ربما، أيها الصبي ديفي. ربما ستكون أنتَ الناجي.»
أخذتُ أفكِّر في صبيٍّ كان كلانا يعرفه؛ كانت لديه نزعةُ قسوة بالِغة. كان يُدعَى روبرت بنريث، ولكن والدته كانت تدعوه بوبي. أستطيع أن أرى وجهها في جنازته؛ بدَت شاحبةً للغاية كما لو أنها خُلِقَت من عجين. كنتُ أقف على الجانب الآخر من حفرة رطبة في باطن الأرض أشاهد التابوت ينزل فيها وأتذكَّر تساؤُلي عمَّا إذا كانت تعرف إلى أيِّ مدًى أرهَبْنا ابنها.
كان بوبي يحب الإهانة والمذلَّة أكثر من الألم. كان أكثر ما يفضِّله على الإطلاق هو إجبارك بكل بساطة على الانبطاح أرضًا وثَنْي قدمَيك فوق رأسك مباشرة، وضغطهما بشدة حتى تكاد لا تستطيع أن تتنفَّس. عندما فعل ذلك معي، أتذكَّر وجهه الممتقع بقَدر امتقاع وجهي نفسه، لدرجة استطعتُ معها أن أشعر بنبضات قلبي تتردَّد في أذنيَّ. ورغم صغر سنِّي آنذاك، أدركتُ أن ثمَّة خطبًا ما في الطريقة التي يشتعل بها حماسُه وثورتُه إلى هذا الحد. وها أنا بعد أن أصبحت الآن رجلًا ناضجًا، فإن فكرة العجز الشديد تجعلني راغبًا في أن أُلحِق الأذى بنفسي.
أظن أن أخي قتلَه. لم أتحلَّ قَط بالجرأة الكافية لأسأله صراحةً، ولكن عيوننا التقَت أثناء إنزال التابوت في الحفرة الفاصلة بيننا. لم أعرف كيف أُشيح بنظري بعيدًا، ولكن قبل أن أتمكَّن من هذا كان قد غمَز لي وتذكرتُ جميع الفظائع السرية التي اقترفَها في حياته.
غَرِق بوبي بنريث في بحيرة أقصى شمال برايتون، كانت كأنها عالمٌ آخر. كان أخي قد تحدَّاه لاجتيازها ذات يوم كانت فيه المياه شديدة البرودة لدرجة كانت تُحيل الجلد إلى اللون الأزرق. وصل أخي بصعوبة إلى الجانب الآخَر، حيث وقفنا ننتظرهما في مجموعة صغيرة كان أفرادُها يرتجفون من شدة البرودة. خرج من البحيرة كما لو أنه خُلق من المطَّاط، وظلَّ يترنَّح ويتخبَّط قبل أن ينكفئ على صخرة ويتقيأ سائلًا أصفر ساخنًا عند قدمَيه الحافيتَين.
أظن أنني أدركتُ الأمر قبل أي شخصٍ آخَر، رغم أنني كنتُ أتطلَّع مع الآخرين إلى ما وراءه، في انتظار رؤية جمجمة بوبي تطفو بإصرار فوق الماء وسط بُقعة حمراء. استغرق الغطَّاسون وقتًا لإخراج جثته في النهاية إلى الشاطئ بعد مرور ثلاث ساعات، رغم ازدحام البحيرة بأعداد غفيرة من الناس تفُوق الموسمَ السياحي. أخضَعَتنا الشرطة جميعًا للاستجواب، وأخذ أخي يبكي بالدموع. كان الغطَّاسون يسبُّون ويلعَنون بغضبٍ يليق برجال يبحثون عن جثث أطفال بالمياه في أيام مريرة. استشعرنا ازدراءهم كصَفَعاتٍ موجَّهة إلينا بينما نقف مرتجفين ومتدثِّرين بأغطية حمراءَ خشِنة.
استمعتُ إلى أخي بينما كان يُخبرهم بأشياء لا تستحق الاستماع إليها من الأساس. لم يَرَ ما حدث؛ هكذا قال لهم. فلم يدرك المأساة إلا عندما وصل إلى الضفة البعيدة بمفرده. ربما كنت سأصدِّقه لو أنه لم يرَ بوبي وهو يؤذني في اليوم السابق مباشرة.
أنت لا تعرف أبدًا متى بدأَت القصة، أليس كذلك؟ لقد قرَّر بوبي أنني أستحق عقابًا خاصًّا، جزاءً لمخالفتي إحدى قواعده. كنتُ أبكي عندما مرَّ أخي بنا مصادفة وهو ما جعل بوبي يُطلِق سراحي. لم يكُن لدى أحد منَّا علمٌ بما قد يفعله؛ ولكن كانت ثمَّة غِلظة شديدة في أخي تجعل حتى الصبية على شاكلة بوبي يهابونه. مجرَّد نظرة خاطفة إلى عينَيه الداكنتَين ووجهه الذي بدا شاحبًا قليلًا على نحوٍ يُبرِز عظام الوجنتَين جعلَت بوبي يُفلِتني من قبضته على الفور.
نظر كلٌّ منهما إلى الآخَر، ثم ابتسَم أخي. وفي اليوم التالي، خرج بوبي بنريث جثةً باردةً زرقاء على ضفة بحيرة ديروينت ووتر. لم أجرؤ على طرح السؤال أبدًا فاستقرَّ بداخلي وكأنه كتلة باردة. شعرتُ بالذنب حتى حيال الحرية التي نِلتُها. لقد استطعتُ أن أمُرَّ أمام منزل بوبي دون أن يتملَّكني الذعر المعتاد من أن يراني ويسير خطوةً بخطوة إلى جواري. كان لدى الصبي نزعة شر، لكنه لم يكُن يُضاهي أخي في هذه النزعة أبدًا؛ فما من أحدٍ سيُحاوِل السباحة في أحد أيام شهر نوفمبر إلا أحمق مثله. كان مجرد صبي ليس له رادع سوى مَن هو أشد قوةً وأكثر شرًّا منه.
بدأتُ أرتجف من البرد وسط الظلام الدامس الذي أحاط بشاطئ برايتون الحصوي. بالطبع لاحَظ هو ذلك، وسمعتُ في صوته نبرة استمتاع عندما واصَل الحديث.
أردَف قائلًا: «يقولون إن المنتحرين لا يتألمون. هل سمعتَ بهذا من قبلُ، يا ديفي؟ إنهم يجرحون ويؤذون أنفسهم، إلا إنهم منغمسون بشدة في الأفكار التي تدور برأسهم لدرجة أن وجع هذه الفعلة الجبانة الوضيعة لا يتجاوز وجع لدغة. أتصدِّق ذلك؟ إنه عالَم غريب.»
لم أشعر بمثل هذه البرودة من قبلُ. ظننتُ أنه شعورٌ بالخدَر، ولكنه في تلكم اللحظة بدا يعصف بي دفعةً واحدة، كما لو أن رياحًا عاتية تخترقُ جسدي وتمزقه. آلمَتْني قدماي المغمورتان تحت الماء من البرودة التي نفذَت إلى عظام ساقيَّ. عَقَدتُ ذراعيَّ فوق صدري وشعرتُ بنفسي أسترجع كل شيء. كنت سأبذل أي شيء آنذاك في مقابل الشعور بالخدَر. كان البديل عن ذلك هو الشعور بالذُّعر والخِزي.
تابع حديثَه قائلًا: «هلَّا تُخبِرني عن السبب الذي دفع أخي الصغير الشجاع إلى الوقوف هكذا في عُرض البحر في ليلة باردة كهذه؟ إن الرياح تجعلني أتجمَّد في مكاني، لا يسعُني سوى تخيُّل كيف تبدو الأجواء حتمًا في موضعك هذا. ديفي؟ لو كنتُ أعرفُ لأحضرتُ لك مِعطفًا.»
شعرتُ بالدموع تنساب على وجنَتيَّ وتساءلتُ في نفسي لماذا لم تتحول إلى ندفٍ جليدية من البرودة التي تخترق جسدي.
قلتُ بعد بُرهة: «ثمَّة أشياءُ لا أقوى على تحمُّلها أكثر من ذلك.» لم أكن راغبًا في الحديث عن الأمر. أردتُ الحفاظ على هذه الحالة المزاجية المُرهَفة السلِسة التي واتَتْني عندما جاء، عندما شعرتُ بالسكينة والهدوء. لقد امتلأَت مثانتي عن آخرها دون أن أنتبه، والآن أعلنَت عن امتلائها. بدا أن كل جزء مني كان يتحكَّم فيه بؤسي وشقائي قد استيقظ من سُباته يستغيثُ لجذب الانتباه، وطلبًا للدفء. كم مرَّ من الوقت وأنا أقف هنالك؟
قلتُ بصوتٍ منخفض: «أواجه عدوًّا.» ساد الصمت وراء ظهري ولم أتبيَّن إنْ كان قد سمع ما قلتُه أم لا.
سألَني: «إلى أي عمقٍ قد وصلتَ؟» وفي لحظة جنون ظننتُ أنه يقصدُ عمق الماء.
قلتُ وأنا أهزُّ رأسي: «لا أقوى على معالجة ذلك. لا أقوى … لا أقوى على إيقافه.» انساب المزيد من الدموع على وجنتيَّ والتفتُّ لأواجه الرجل الذي صار عليه أخي. كان وجهُه لا يزال نحيلًا وطويلًا وكانت خصلات شعره داكنةً وخشنةً متناثرة حول بشرته الشاحبة. ثمَّة نساء رَأَينَه وسيمًا إلى حد الافتِتان، رغم أنه لم يمكث أبدًا مع إحداهن وقتًا طويلًا. بدا لي أن قسوتَه تراءت بوضوحٍ للعالم الخارجي متمثلةً في ذلك الوجه الجامد والعينَين اليقظتَين. كنتُ أنا الوحيد الذي يرى ذلك. أما باقي العالم فقد رأى ما أرادهم أن يرَوه. لاحظتُ أنه جاء وبحوزته معطفًا، على عكس ما قال. كانت يداه مدسوستَين في جيبَي المعطف.
قال: «دَعْني أساعدك.» كان ضوء القمر كافيًا لرؤية الشاطئ الحصوي المرتفع من ورائه. كان من المُفترَض أن تُحيلَه ملايينُ الأطنان من الحصى وراء ظهره إلى نقطة ضئيلة في كونٍ فسيح. إلا إنه كان ثابتًا برسوخ في مكانه كما لو أنه غُرِس غرسًا في ذلك الموضع. إن الرجل الذي صار عليه أخي لا يعرف الشك. لا يعرف الضمير، لا يعرف الشعور بالذنب. لطالما عرفتُ أنه ينقصُه ذلك الصوت الإضافي الخافت الذي يتردَّد بداخل بقيَّتنا ويعذِّبنا. لطالما كنتُ أخافُه، ولكن لم يُساوِرني أي شعورٍ سوى الارتياح عندما عرض عليَّ المساعدة.
سألتُه: «وما الذي يُمكِنك أن تفعله؟»
«أستطيع أن أقتُلَه، يا ديفي. كما فعلتُ من قبلُ.»
أخذتُ نفسًا طويلًا وبطيئًا عجزتُ قبله عن الحديث. لم أكن أريد أن أعرف. امتلأ ذهني بصور لبوبي بنريث في حالة من الوهن والضعف بينما كان يسبح في المياه المتجمِّدة. كان أخي سبَّاحًا ماهرًا، ولم يكن الأمر سيستغرق منه مجهودًا كبيرًا ليُبقيَه تحت الماء، حتى يستنزفَ قواه. فقط فورة من رذاذ الماء ثم الضربات السلسة من الذراعَين في اتجاه الشاطئ، ليصل كما لو أنه مُنهَك. وربما كان كذلك بالفعل. ربما قاوَم بوبي وقاتَل بكل ما أوتي من قوة اليأس.
حدَّقتُ في عينَي أخي ورأيتُ جميع السنوات الحائلة بيننا.
ثم أردَف قائلًا: «هاتِ ما عندَك.»