الفصل الثالث
هل تعلم ما الذي يمنح رجلًا سُلطة على غيره من الرجال؟ ستظنُّ أنه المال، أو شغله منصبًا مرموقًا، ربما قاضٍ، أو سياسي. بكل صدق، متى يؤرِّقك ذلك النوعُ من السلطة؟ لم يسبق لي أن دقَّ بابَ منزلي وزير الخارجية وأصرَّ على تحريك سيارتي من مكانها. وأعتقد أنه لو فعل ذلك لاتصلتُ بالشرطة على الأرجح. لا أقول إن هؤلاء لا يتمتَّعون بسُلطة، بشكلٍ أو بآخَر. فهم بالطبع لديهم سُلطة؛ بل ربما يملكون قدرًا كبيرًا جدًّا منها. إلا إنها ليست نوعية السُّلطة التي تحطُّ من قَدْرك بصفة يومية. فهم لا يأتون إلى منزلك ويسلبونك محفظتَك، إذا كنتَ تفهم ما أقصدُه.
ومع ذلك، ثمَّة مكانة أدنى من ذلك، أدنى من السلطة القضائية وحُراس الأمن، عندها حقًّا يمكن أن ينخلع قلبُك من ضلوعك. الأمر لا يتطلب جيشًا وحتمًا لا يتطلب مبالغَ طائلةً من المال. ففي مقابل بضع مئاتٍ من الجنيهات في الأسبوع، يستطيع المرء أن يستأجر شخصًا آخَر ليلكُم ويركُل ويكسر، بل وأحيانًا ليغتصب أو يسرق، إذا ما اقتضت الحاجة. رجل «واحد» فقط ينجز أي شيء يُطلَب منه، أيًّا ما كان. وهذا كل ما يتطلَّبه الأمر. ولا يسعني سوى أن أتخيَّل كيف يبدو حتمًا استئجار أحدهم.
إن الرجال على شاكلة دينيس تانتر يقضون أمسيةً ممتعة في أحد المطاعم، وبحلول الوقت الذي يعودون فيه إلى المنزل، يكون أحدُهم، ممَّن يريدون إخافتهم، قد اقتُحِم منزله وكُسرَت أصابعه على يد شخصٍ غريب عنه تمامًا. ولا تستطيع أن تتوجَّه إلى الشرطة لأنك تعرف أن الأمر سيزداد سوءًا في المرة الثانية. كما أنك تعرف أن ذلك الشعور بالخوف عادةً ما يكون رادعًا بالصورة الكافية. ومعظم الرجال يعجزون عن منع مجرم عتيد من طَرحِهم أرضًا وتهشيم رءوسهم بعنفٍ على بلاط المطبخ الذي يقتحمونه. فمعظم الرجال يهتمُّون لأمر امرأة، أو طفل، أو شيء يحيك في صدورهم ويعتصر قلوبهم خوفًا وفزعًا إذا ما جاء ذكره حتى. لا يتملَّكُك خوفٌ كهذا من الساسة أو القضاة. فأنت تعرف أن لهؤلاء حدودًا، مهما كان ما يحدث. فإذا خرجتَ حرًّا طليقًا من المحكمة، لا تتوقَّع أن ترسل الشرطة رجالًا إلى منزلك في تلك الليلة لتطبيق القليل من العدالة عليك.
في الواقع، لقد التقيتُ بمايكل، حارس دينيس، في حفل رأس السنة الجديدة. لم يكُن ضخم الجثة، كأولئك الحُراس الذين تراهم يقفون عند أبواب الملاهي الليلية. لقد وجد دينيس لنفسه ملاكمًا متينَ البنية، طولُه ستُّ أقدام، ليس عنده وازعٌ أخلاقي واحد يؤرِّق ضميره. بل إنني تحدَّثتُ مع مايكل في تلك الليلة الأولى، وأظن أنه كان ينبغي أن يكون لديَّ شيءٌ من الحذَر، من منطلَق الفطرة الغريزية. فلو أنك شعرتَ بقشعريرة تسري في عمودك الفقري حين التقيتَ الرجل الذي سوف يُفقِدك الوعي بلكمة من قبضته بعد شهر من الآن، لكانت الحياة أسهل كثيرًا.
أُدرِك الآن أنه أوقفَني عند بار المشروبات لأن دينيس كان يتحدَّث مع كارول. فوجود رجلٍ واحد فقط على كشف الانتظار يجعل مثل تلك الأمور سهلةً ويسيرة. مجرد كلمة سريعة على انفراد كافية ليضيع الزوج نحو ساعة في دردشة قصيرة متوتِّرة مع شخص غريب تمامًا. حتى إنني تناولتُ صينية مليئة بالمشروبات، ولكن في كل مرَّة أهمُّ بالعودة إلى الطاولة مرَّة أخرى، يضع مايكل إحدى يديه على ذراعي ويقول تعليقًا، أو دعابة، أو يطرح عليَّ سؤالًا سخيفًا. أتذكَّر أنه قال لي إنه اكتسب القليل من الوزن خلال فصل الشتاء، ولكن مع مجيء فصل الربيع، عندما يكون «في موسمه»، يتحوَّل هذا الوزن الزائد إلى عضلات. لم أسمع أيَّ شخص يصف نفسه بتلك الطريقة من قبلُ. لم تكُن الدماثة هي ما تُبقيني، بل الخوف الشديد من كونه ثمِلًا وعنيفًا ولم أرغَب في إغضابه. وقفتُ لأطول فترة ممكنة، وعندما انصرفَ أخيرًا ليأخذ باقي حسابه من النادل، عُدتُ إلى الطاولة.
لم تكُن كارول هناك ولا دينيس أيضًا. من السهل الآن فهمُ ما حدث، إلا إنني لم أفهم شيئًا حينها. قاربَ الليل على الانتصاف وكنتُ أتجرَّع كأسًا تلو الأخرى. ارتشفتُ كأسًا كبيرة من البيرة حتى القطرة الأخيرة منها ثم بدأتُ أرتشف كأسًا أخرى عندما عادت كارول فجأةً إلى الطاولة وظهر دينيس أيضًا، ليُقبِّل زوجته عندما بدأ العد التنازلي لاستقبال العام الجديد. لن تظن أنني قد يفوتني شيءٌ كهذا، لعلمي بما كنت أفعل في الماضي، إلا إنني وضعتُ حدًّا لهذا النوع من جنون الارتياب. فهو يلتهمك حيًّا، لا سيما حين تكون محقًّا في ارتيابك من حين لآخَر. لا يمكنك أن تراقبهما طوالَ الوقت. فهذا يدمِّر أعصابك ومعدتك وربما قُواك العقلية.
أتذكَّر أن كارول بدت متورِّدة الخدَّين قليلًا. أرجعتُ هذا إلى الكحول والإثارة. تساقطَت البالونات من السقف وتشابكَت أيادي الجميع مع الغرباء وغنوا تلك الأغنية الاسكتلندية التي لا تعرف منها إلا سطرًا واحدًا ويواصل الجميع ترديده مرَّة تلو الأخرى. كان هناك رجلٌ يرتدي تنورةً اسكتلندية، وأتذكَّر أنني ابتسمتُ عندما رأيتُه والتفتُّ إلى كارول لأرى ما إذا كانت قد لاحظَت. ردَّت عليَّ بابتسامة وكان كل شيءٍ على ما يُرام.
•••
الشيء الذي يجعلني أشعر بالمرارة حقًّا أن دينيس المتمرِّس المسكين لم يكُن يعرف المرأة التي يتعامل معها حقَّ المعرفة. ولو أنه لاحقَها كما يُلاحِق معارفه في العمل، لجعلَها تخلع تنُّورتها بعد وجبة أو اثنتين. المشكلة في كارول أنها تبدو على العكس تمامًا. إذا كان بإمكانك تخيُّل الممثلة الأمريكية جريس كيلي ولكن بشَعر داكن، فهي من هذا المنطلَق لا تشبهها على الإطلاق؛ وإنما تُشبِهها من حيث «السلوك»، والعنق الطويلة والبشرة الفاتحة. إنها من نوعية النساء اللاتي تريد أن تعبث بهن قليلًا، وأن ترى خصلات الشعر اللولبية تنسدل، وبريقًا خبيثًا ينبعث من عينَيها. هل تعرف هذا النوع من النساء؟ إنها من نوعية النساء التي تريد أن تلهث وتنقطع أنفاسُها عندما تقبِّلها. لقد عملتُ جاهدًا على ذلك عندما كنَّا معًا في شبابنا. كانت ثمِلة بعض الشيء في أول لقاء لنا معًا. لم يكُن الأمر مثلما تخيَّلتُه. بالكاد استطعت أن أراها في الغرفة المُعتِمة الكائنة خلف السكن الجامعي للطلاب. كانت فخذاها طويلتَين وبيضاوَين ويُصدِران صوتًا هامسًا بينما أمرِّر يدي عليهما. أتذكَّر أنها كانت تُهدهِد رأسي إلى جسدها، كما لو أنها تحمل طفلًا. أعتقد أن أحدنا بكى في هذا الوضع، ولكن كنَّا ثملَين وصغيرَين، وكان ذلك قبل وقت طويل وكنا شخصَين مختلفَين.
بالطبع، ظنَّ دينيس أنه وجد حُب عمره الكبير.
•••
تبيع كارول المنازل إلى الناس نظير أموالٍ طائلة، تبيعها إلى نوعية الأشخاص الذين يحيطون أنفسهم بصور ذات إطارات مُذهبة وينسِّقون الألوان لتليق مع صنابير حمَّاماتهم. وما كان دينيس ليبدو بندًا شاذًّا في قائمة عملائها، حتى وإن اتخذ من مايكل سائقًا له. لقد سمعتُ اسمه عندما تركَت فتاة من مكتب كارول رسالة بخصوص اصطحاب «السيد تانتر» في معاينة أخرى. لم أدرك الأمر في البداية، ولكن ثمَّة رسالة أخرى في اليوم التالي. ضغَطتُ على أزرار الهاتف وسمعتُ صوت الفتاة؛ وتردَّد صوته في الخلفية وهو يُلقي دعابة. أظن أنني عرفتُ بالأمر حينها على الأرجح؛ إذ إنني مسحتُ الرسالة. لم تكن كارول قد سمعتها بعدُ، إلا إنني كنتُ أريد محوها من ذاكرة الهاتف، كما لو كان بإمكاني محو شكوكي ببضع نقرات سريعة.
إنها تكرهُني عندما أظن أن ثمَّة شيئًا ما يحدث في الخفاء. تقول إنني أتظاهر بكوني طبيعيًّا وودودًا، ولكن طَوال الوقت ثمَّة ضغينة تراها في عيني ولا تستطيع تحمُّلها. وتقول إن هذا يجعلها لا ترغب في البقاء في المنزل. وأحيانًا تخرج وتعود في الثانية أو الثالثة صباحًا تفوح منها رائحة الخمر وقَدْر مبالَغ فيه من العطر. وعندما تكون ثمِلة، أتظاهر أنا بالنوم. فإذا وجدتني مستيقظًا، تتحدث وكأنها عاهرة رخيصة، وكل ما يمكنني فعله إزاء ذلك أن أستلقي في الفراش، وأتظاهر بأنني لا أستطيع سماع آخر كلمة مما قالته. إنها لعبة أخرى من الألعاب الصغيرة التي نلعبها معًا.
أعتقد أن دينيس قد استغرق نحو أسبوع ليطلب منها أن تُرافقه إلى أحد الفنادق. ربما لو كان يعرفها حق المعرفة لحدَث ذلك في وقت أبكر من ذلك، ولكني أظن أنه ربما شعر بأنه الرجل الأوفر حظًّا في العالم حين أسقطَت تنُّورتها حتى كاحلَيها وخطَت خارجها. لطالما كنتُ أنا الطرف المستقبِل لأفضل ما تعرضُه هي، وهذا ما أسَرَني بالأساس. أقصد أنني ما زلتُ معها رغم مرور عدة سنوات في دائرة مفرغة؛ ولذا أستطيع أن أقدِّر ما شعر به دينيس، ألستَ معي في ذلك؟ لا أقول إنني أفهَم الرجل. لقد كان شخصًا استغلاليًّا، وعرفتُ هذا من المرَّة الأولى التي التقيتُه فيها. كان واحدًا من الأشخاص الذين يستغلُّون من حولهم من أجل المتعة أو الجنس أو الصداقة، مثل أخي تمامًا.
وأحيانًا يرتكب هؤلاء خطأً بظنهم أنهم قد عثَروا على شيء أهمَّ مما هو عليه حقًّا. وقد ارتكب دينيس ذلك الخطأ مع كارول، تحديدًا في اللحظة التي استيقَظ فيها بالفندق ووجدها قد رحلَت. لقد عادت إليَّ في المنزل مع الساعات الأولى من الصباح، ولم يكُن دينيس من النوعية التي تفهم ذلك النوع من العلاقات. سُحقًا، أنا أيضًا لا أفهمها، وأُعايِشها.
عادت إليَّ بالمنزل لأنها دائمًا ما تعود إليَّ. فهي لا تبقى حتى الصباح، لا تبقى بعد أن يغطُّوا في النوم. على أي حال، فاستقبال الصباح في فندق ما هو إلا أنفاس كريهة وملابس مجعَّدة وإفطار إنجليزي بالكامل به كمية مُفرطة من الملح والقهوة المحروقة. ولأكون صريحًا، أنا لا أهتم حقًّا بمعرفة السبب الذي يجعلها تثق بي بالقَدْر الكافي الذي يجعلها دائمًا تعود إليَّ. لعلها تحبُّني بقَدْر ما أحبُّها.
بالطبع لم يمنعها ذلك الحُب العظيم الذي تُكِنُّه لي من تكرار الواقعة مرَّة أخرى. ولا أعرفُ ما إذا كان هذا اللقاء قد تم في فندق آخر، أو ربما في منزله الخاص. كان الفارق من وجهة نظري أنها في المرة الثانية التي قضَت فيها أمسيةً بالخارج في ذلك الأسبوع، كان دينيس قد رتَّب لي استقبال زائر لطيف في بيتي. فبينما كان يعتلي كارول فراش مخملي وثير في مكانٍ ما، كنتُ أنا أفتح الباب وفي يدي شريحة خبز محمَّص عليها قطعة من الزبد. هل يمكنك أن تتخيل شيئًا مسالمًا ينتمي للطبقة الوسطى أكثر من ذلك؟ كان فمي ممتلئًا عن آخره بالخبز ومعجون الطعام عندما تعرَّفتُ على مايكل وكنتُ منخرطًا في محاولة إيجاد شيء لقوله حين أخذ خطوة إلى الأمام ودفعَني دفعةً عنيفة طرحَتْني أرضًا على ظهري. أظن أنه داس على إحدى قدَميَّ أولًا، غير أنني لم أعبأ كثيرًا بذلك نظرًا لأن رأسي اصطدم بقوة بأرضية الردهة. لو أنها كانت مفروشة بالسجَّاد، لربما كنتُ أكثر يقظةً قليلًا على مدار الدقائق القليلة التالية. لسوء الحظ كانت الأرضية من خشب مُصمَت، وهو أحد الأشياء التي أقنعَتْنا بشراء المنزل عندما عاينَّاه لأول مرة.
كانت الطبيعة غير الرسمية للموقف هو ما جعله مهينًا للغاية. أعتقد أن معظمنا قد تساءل في نفسه عن الطريقة التي يجب اتباعها للتعامُل مع لصٍّ مثلًا، إذا ما واجهنا أحدهم. إنني أستمتع تمامًا بحديث رجال السياسة عن «القوة الدفاعية المعقولة» لمثل هذه اللحظات الحياتية. وصدِّقني حين أُخبِرك أن الشعور بالذعر يشوِّه أي شيء ذي صلة بالعقلانية. فتحتُ الباب وفي رأسي فكرة مُبهَمة عن مباراة لكرة القدم مذاعة عَبْر التليفزيون. وبعد لحظة، كنتُ شبه مصعوق وأُصِبتُ بالعمى بسبب ضوء الردهة المُسلَّط فوقي مباشرة. شعرتُ بيدٍ تُمسِك بياقة قميصي ووجدتُ نفسي أنزلق فوق الأرضية الخشبية في اتجاه المطبخ. فزعتُ وحاولتُ أن أنهَض، ولكن لم أكُن أرتدي حذاءً وانخلعَت جواربي أسفَل مني. ولم أقوَ على فعل شيءٍ أكثر من مجرَّد حركات ركل في الهواء من فَرْط الذُّعر الذي تملَّكني.
يُوجَد في المطبخ طاولة صغيرة وكرسي. كانت المساحة ضيقة جدًّا، إلا إن كارول أصرَّت على أن يكون هناك مكان يمكِّنُها من استخدام كلمة «غرفة الإفطار» عند الترويج لبيع المنزل. فهذا مجال عملها على أي حال. خطَر ببالي تلك الأفكار الغبية عندما سحبَني مايكل إلى أعلى وألقى بي على الكرسي الخاص بي. ألهذا صِلة بالقوة المعقولة؟ وددتُ أن أرى أحدهم يستخدمها مع مايكل وهو يتكئ بقبضتَيه الضخمتَين على طاولة مطبخي.
سألتُه: «ماذا تريد؟»
رد قائلًا: «هل لديك ويسكي؟» أومأتُ برأسي، وهممتُ أنهض من مكاني لأُحضِره بحكم العادة.
فضغط بإحدى يدَيه على كتفي، مثبتًا إياي في مكاني دون أدنى عناء على الإطلاق.
قال وهو ينظر إلى الخزائن المثبَّتة عَبْر جدار المطبخ: «أخبرني أينَ هو فحسب.»
قلتُ له: «هناك بجوار الباب.» كان سيستدير وكنتُ سأمد يدي نحو أحد السكاكين الموجودة بجوار الحوض من ورائي.
وبدلًا من تنفيذ خطتي، مدَّ هو يدَه وسدَّد لي ضربةً في الوجه، بكل ما أُوتِي من قوة. أظن أنني فقدتُ الوعي حتمًا لبعض الوقت؛ إذ إنني فقدتُ تتبُّع مكانه واضطُرِرتُ إلى رفع رأسي والنظر من حولي بحثًا عنه. كان يسكب القليل من نبيذ لافرويج في كأس وبدا كل شيء في المطبخ أكثر بريقًا من المعتاد، كما لو كُنا في فيلم.
تمتَمتُ فيه وأنا أشعر بالغثيان: «اخرج!» وحين تحدَّثتُ، شعرتُ بارتجاع السائل الحمضي من معدتي إلى فمي. لطالما كان هذا ما يحدث لي، بعد أن تعرَّضتُ لمشكلة في صمام متدهور. فالعصارة المعدية هي مادة حمضية قوية. أشعر بدفقة منها في آخر الحَلْق عندما أشعر بالخوف أو الغضب، وتتسبَّب في شعورٍ بحُرقة شديدة. هناك مسمًّى طبيٌّ لمشكلة الصِّمام هذه، إلا إن إجراء عملية جراحية أمرٌ قاسٍ ومؤلم.
ردَّ قائلًا: «لن أخرج، يا ديفي. وأنتَ تعرفُ ذلك.» كنتُ أكره أن يُناديَني أحدٌ بهذا الاسم. لم يكُن أحدٌ يناديني به مطلقًا سوى أخي وكارول فقط. فلا يُوجَد شخص آخَر في حياتي قد عرفَني صغيرًا بما يكفي ليعرف هذا الاسم.
لاحظتُ أنه يرتدي قفَّازًا أسود جلديًّا ليُمسِك به كأسَ الويسكي. هزَزتُ رأسي لأصفِّي ذهني وتحسَّستُ شفتيَّ بحذَر، محاولًا استشعارَ ما إذا كانتا متورِّمتَين بحقٍّ مثلما كنتُ أشعر. بدا وكأنَّ جانبًا كاملًا من وجهي يخص شخصًا آخَر. فلم أستطع استخدامَه في أي شيءٍ سوى النظر إليه وحَسْب.
قال مايكل: «لا أريد القيام بهذا، يا ديفي، أريدكَ أن تصدِّق هذا.» كانت عيناه تعكسان شعورًا حقيقيًّا بالندم، شعورًا أقرب إلى التعاطُف الوجداني. تضرَّعتُ إلى الرب ألا يكون قد أتى إلى هنا ليقتلني.
قلتُ مرتعبًا: «تقوم بماذا؟» حينئذٍ كان السائل الحمضي يتجمَّع في فمي، وكان مذاقُه أَمرَّ من الخل. تساءلتُ في نفسي ماذا لو بصقتُ هذا السائل في عينَيه. هل سيحرقُه مثلما بدا أنه يحرقُني من الداخل؟
«بما أني أوجِّه لك تحذيرًا صغيرًا، يا ديفي. وأتجرَّع الويسكي خاصَّتك. ها أنا أقول لكَ اتركها.» بدت نبرتُه أقربَ إلى الاعتذار وهو يقول الجملة الأخيرة.
ردَّدتُ ما قاله: «أتركها؟ كارول؟» لم أكن أفكِّر بشكل جيد وأنا أرى دمائي على الطاولة أمامي. فلم يكن الدم يكُفُّ عن التقطُّر من أنفي لدرجة أنه كان بإمكاني أن أرسم به حلقات على السطح الخشبي للطاولة.
«ثمَّة شخص، كلانا يعرفه يا ديفي، يعتقد أنها تخشى تركك. وأظن أننا — أنا وأنتَ — نعرف أن هذا غير صحيح. فلستَ من هذا النوع من الرجال، أليس كذلك يا ديفي؟ أنت شخص عاقل لن تضطرَّني إلى الإقدام على تصرُّف عنيف تجاهك، أليس كذلك؟»
قلتُ: «هي لن تتركني»، ولعل ذلك كان أغبى شيئًا خرج من فمي على الإطلاق. فقد كنتُ سأعرض عليها أن أوصلها إلى منزل دينيس بسيارتي الخاصة إن غادر مايكل. والتفكير في منزله غيَّر مسار أفكاري المتصارعة.
تساءلتُ: «وماذا عن زوجته؟ أنا أتذكَّرها. ماذا لديها لِتقولَه عن هذا؟»
هز مايكل رأسه، كما لو أن مشاكل العالم تحزنه. وأردف قائلًا: «لقد تركته، يا ديفي. الأوضاع لم تكن على خير ما يُرام منذ فترة، وأظن أن زوجتك كانت القشَّة الأخيرة. إنه رجل حُر، يا ديفي. ويؤسفني أن أقول إن هذا ليس في صالحك.»
قلتُ له: «أنت مجنون. لا يُمكِنك أن تطلب من رجل أن يترك زوجته.»
سألني مايكل: «تُرى أين هي في هذه اللحظة يا ديفي؟ وماذا تفعل في ظنك؟ هي ليست قدِّيسة، أليس كذلك؟ ما كنت لأود أن أتخيَّل ما هي بصدد القيام به الآن، أليس كذلك؟ لو كنتُ مكانك، يا بُني، لتركتُ هذه العاهرة وتخلَّصتُ منها غيرَ آسِفٍ عليها. ماذا تُريد من امرأة تخلَع ثيابَها بهذه الطريقة؟ لعلَّنا نُسدي إليك خدمة صغيرة، إذا فكَّرتَ في الأمر. أقصد على المدى الطويل كما تعرف.»
يبدو أن عدم شعوري بالصدمة قد أدهشَه، وجعله يعبس في وجهي قبل أن يملأ الكأس ثانيةً ويسد الزجاجة بغطاء الفلِّين. رأيتُ يده تتحرك، ولكن كنتُ بالكاد قد شرعتُ أُخفِض رأسي حين نثر الويسكي في وجهي. تسبَّب لي الويسكي في حرقة أسوأ من حرقة ارتجاع السائل الحمضي من معدتي فتأوَّهتُ، رافعًا كلتا يديَّ. انسابت الدموع من عيني بغزارة، ولا أعرف ما إذا كان هذا بسبب السخونة المتصاعدة مني أم لغضبي الشديد تجاهها نظرًا لما تقترفُه في حقي، ولسماحها لهؤلاء الأشخاص باقتحام حياتنا. لم أستطع التفكير، وعندما صفعَني مرَّة أخرى توسَّلتُ إليه مرارًا ليكُفَّ يدَه عني، متشنجًا من البكاء.
«لقد أسرفتَ في الشراب قليلًا، يا ديفي، وسقَطتَ على الدرَج بالخارج، واصطدم وجهك بالأرض، أو شيء من هذا القبيل. لتكُن هذه إجابتك، يا ديفي، عندما تسألك. لا أريدك أن تُخبِرها بأكاذيب حول اقتحام رجال أغراب مطبخك، هل ستفعل ذلك؟ لن ترغب في محاولة قلبها على صديقها الجديد، صدِّقني لن ترغب في هذا. إذا سمعَتْ كارول بأمر مجيئي إلى هنا، فسأريك ما أسمِّيه زيارةً ثانية، أتفهَمُني؟ سيكون الأمر أسوأ بكثير، يا ديفي.» هزَّ رأسَه ببطء، كما لو أنه يتخيَّل المشهد. وأردف قائلًا: «لا تجعلني أعود مرَّة أخرى.»
أخذتُ أرتجف عندما غادر المنزل. شربتُ المزيد من الويسكي، وحين عادت إلى المنزل في صباح اليوم التالي كنتُ لا أزال مستيقظًا، وثمِلًا، وأستشيط غضبًا. سمعتُها تصرخ في صدمة عندما رأت الدمار الذي ألحقَه مايكل بوجهي. وقبل أن أستطيع أن أنبس ببِنت شفة، أخذَت تبحث في دولاب الإسعافات الأولية عن مراهم ولصقات طبية.
سألتني وهي تجلس قبالتي: «ماذا حدث؟» وأردفَت قبل أن أتمكَّن من التفوُّه بكلمة واحدة: «كنتَ تشرب؟ هل سقطتَ؟» تساءلتُ في نفسي ما إذا كان دينيس قد لقَّنها السؤال، وأجفلتُ حين تشقَّقَت شفتاي وأنا أشرع في الحديث. تردَّدتُ طويلًا وأنا أتساءل في نفسي عما سيحدث إذا أرسل مايكل ثانيةً لتثبيت الدرس في ذاكرتي. لم يكُن لديَّ خطة آنذاك، لم أكن فهمتُ عالَمهم فهمًا كاملًا. فقد كان بعيدًا كل البعد عن عالَمي.
قلتُ بهدوء وأنا أراقب ردَّ فعلها: «دينيس تانتر.» كانت تربِّت على الدم المتخثر من إحدى فتحتَي أنفي ورأيتُ التوتَّر باديًا على ملامحها. اختفَى من عينَيها بريق الاهتمام الحاني والشفقة التي كانت تُغدِقُني بها. ذهب كل شيء أدراج الرياح.
سألتني: «ماذا تقصد؟» وفجأةً انتابني شعور بالخوف من أن الفتور الذي اعتراها كان موجَّهًا لي، وأنها لم تعُد تهتمُّ لأمري.
«لقد أرسل إليَّ حارسه بينما كنتِ تقضين ليلتَك الماضية في الخارج. جاء ليُلقِّن الزوجَ درسًا صغيرًا كما تعرفين، أليس كذلك؟ بينما كنتِ غارقةً في أحضان مخدومه. كان يُحذِّرني، يا كارول، كان يُطلِق تهديداته في «بيتنا».» سمعتُ رعشةً في صوتي فسكتُّ قبل أن يستثير الشرابُ الدمع في مقلتي.
نظرتُ إلى يدَيها ورأيتُهما ترتعشان. لم أجد بداخلي أدنى ذرة تعاطُف تجاهها.
«هذا ما جلَبتِه على هذا البيت، يا كارول. هذا ما اقترفته في حقِّي الليلة الماضية، يا كارول.»
لاحظتُ أن وجهَها شحبَ بشدة، كما لو أنني صفعتُها. كانت لا تزال ممسكةً بمنديل ورقيٍّ مبلَّل مخضَّب بالدماء. رأيتُ يدَها تتحرَّك ثانيةً لتُربِّت على وجهي فأبعدتُها عني بقوة. لم أكُن أعتقد أن بإمكاني أن أتحمَّل الأمرَ إذا تصرَّفتُ وكأن شيئًا لم يحدث. أردتُ أن أناقش الأمر بلا مواربة.
انتصبَت واقفةً آنذاك وأخرجت لسانها لتتحسَّس أعلى شفتها العلوية. دائمًا تفعل هذا عندما تكون متوترةً حقًّا، واستحسنتُ ذلك. فوقفتُ أنا أيضًا لمواجهتها، وفجأةً فقدتُ الرغبة في الشجار. لم أستطع تحمُّل الجدال، ولم أستطع تحمُّل ترديد الكلام نفسه مرَّة أخرى. كان هذا يفوقُ قدرتي على الاحتمال بعد كل ما مررتُ به الليلة الماضية. لقد قلتُ هذا الكلام آلافَ المرات وحسمتُ الجدال لصالحي مرارًا وتكرارًا. لم أكُن بحاجة إلى قوله مرَّة أخرى صراحةً في وجهها. لقد كانت تعرفُ كل شيء.
«أَصلِحي الأمر يا كارول، فحسب. لم أعُد أهتم بما يحدث. تدبَّري الأمر بمعرفتك فحسب.»
أومأت برأسها وهي تجزُّ على شفتَيها بشدة لدرجة أن الدماء تلاشت منهما وبهت لونُهما. لم أرَها ترتعش من قبلُ هكذا، والمثير للسخرية أنني وجدتُ هذا مُبهجًا، لدرجة أنني تقافزتُ على السلم صاعدًا إلى غرفة النوم. وقبل أن تفتح صنبور الدش لتأخذ حمَّامًا، كنتُ قد استغرقتُ في سُبات عميق.