الفصل الرابع
كانت كارول في موقف عصيب بالطبع وهي تراني جالسًا وأنفي يقطُر دمًا. الحقيقة شيءٌ غريب، في حال إذا لم تكُن قد اضُطررتَ مطلقًا إلى تأمُّل تقلُّباتها وتحوُّلاتها. لا يهمُّ مدى السوء الذي وصَل إليه أمرٌ ما. فإذا لم تُقر بما يحدث، وإذا لم «تُصرِّح به بصوت عالٍ»، فمن الممكن أن يَطويَه النسيان. يُمكِن التعامل معه. ويُمكِن تجاهله. أتذكَّر أوَّل مرة سمعتُ أحدًا يمزح بخصوص «الفيل في الغرفة». كان يقصد به مشكلةً ما يحاول الجميع تجاهُلها، ولكن مَن ذا الذي يستطيع أن يتجاهل فيلًا؟ صدِّقني حين أقولُ لك إنكَ بعد فترة تجد نفسك تعلِّق ملابسك على خرطومه كما لو أنه صار قطعة أثاث. يمكنك أن تعتادَ أيَّ شيء، وما دُمتَ لم تَلقَ حتفَك فعليًّا، فكلُّ ألَم إلى زوال. كل ألَم إلى زوال. فكِّر في هذا في المرة التالية التي تظن أنك لا تستطيع تحمُّل شيء ما. فكِّر فيَّ. وإذا لم تسأل عن واقعة بوبي بنريث، فإنها تندرج دائمًا تحت بند حادث. وحتى إن كنتُ «تعرف» الحقيقة، فأنت لا تُجبِر الكلمات على الخروج إلى العلَن.
ستتفهم أن كارول لم تَستطِع إيقاظي، وتُحِطني بذراعَيها وتُعلِن أن علاقتَها بدينيس تانتر قد انتهت. إنه الشيءُ الذي لم نعُد نذكُره من قريب أو بعيد على أيِّ حال. كان من المفترض ألا أشكِّك في حقيقة أنها تسندُ رأسَها على وسادتي.
لم أكُن في حالة مزاجية جيدة؛ ربما لأنني عندما استيقظتُ، شعرتُ أن إحدى أسناني تتداعى. لا بد أن عشرين عامًا قد مرَّت منذ وجدتُ نفسي أعبث بلساني في سنٍّ مُخلخَلة، ولم تتحسَّن حالَتي المزاجية. لقد أحضرَته إلى مطبخ بيتنا. كانت القواعد القديمة عديمة الفائدة إلى أن يخرج دينيس تانتر من حياتنا.
شئنا أم أبينا، ثمَّة أشياء معيَّنة كان يجب قولها، بغض النظر عن مدى كراهيتي للقيام بذلك. اغتسلتُ بحرص، متفحصًا الكدمات في مرآة الحمَّام الطويلة. لم يكُن مظهري يُوحي بالثقة. وعلى الرغم من أنني شعرتُ بالغضب، بدا عليَّ الخوف. وكان أسوأ ما في الأمر كله حقيقة أنها لم تعُد إلى المنزل طَوال فترة ما بعد الظهيرة.
بدأتُ أتخيَّل أنها قد واجهَت دينيس وازدادت حدَّة الغضب بينهما. وذهب خيالي بعيدًا بعض الشيء لبُرهة. واتصلتُ بها في العمل؛ لأنني كان عليَّ أن أتصلَ بأحد وأسأل عن مكانها، على الرغم من أنني أكره القيام بذلك. ففي كل مرة، أستطيع أن أتخيَّل ابتسامتهم الخبيثة تعلو وجوههم على الطرف الآخر من الهاتف. كنتُ الزوج الذي لا يستطيع العثور على زوجته. هل سبق لك أن لاحظتَ من قبلُ أن بإمكانك سماع ابتسامة أحدهم على الهاتف؟ إذا قلت الكلمات ذاتها مرتين، ولكن ابتسمتُ في المرة الثانية، يُمكنك أن تسمع الاختلاف. وأنت عندما تسأل عن مكان زوجتك، لا ترغب في سماع ذلك الاختلاف. فهذا يحُث عقلك على العمل سريعًا بالدرجة الكافية لإيلامك.
أخذَت كارول إجازةً من العمل في فترة ما بعد الظهيرة، وكان هناك شيء ما في نبرة صوت الفتاة المُجيبة على الهاتف أوحى لي بأنها تستمتع بحقيقة أنني لم أكُن أعرف ذلك. كان عليَّ أن أجاهد لأحافظ على صوتي ثابتًا وهادئًا بينما أُعيد سمَّاعة الهاتف إلى مكانها، متشبِّثًا بها بقوة كافية جعلَت يدي تهتز. وعندما وضعتُها، رنَّ جرس الهاتف، مما جعلني أقفز من مكاني.
استطعت أن أسمع أنفاس كارول، متسارعة ومتقطِّعة.
قالت دون أن تتفوَّه بكلمة الترحيب المعتادة: «قلتُ لدينيس تانتر أن يتركنا وشأننا. لقد رحل.»
سألتُها وأنا أُلصِق سماعة الهاتف إلى أذني كما لو أن بإمكاني أن أقرِّبها مني أكثر وهي على الطرف الآخر من الهاتف: «ولكن ماذا عنك؟»
أجابت: «أنا بحاجة إلى قضاء بضعة أيام بعيدًا، يا ديفي. العمل يتراكم عليَّ وأحتاج إلى استراحة، هدنة لالتقاط الأنفاس.»
سألتها وأنا أعرف أنها لن تُخبرني: «أين ستذهبين؟» لم تكُن الإجابة مهمة. ما كان يهمُّ حقًّا أن ذاك اللعين دينيس تانتر قد فقدَها وغمرَتني فرحة جامحة. كان بإمكاني أن أسمع الإرهاق يقطرُ من صوتها. لو كانت ستذهب إليه، لبدَت عليها تلك الإثارةُ الشديدة التي كانت تميِّز بداية جميع علاقاتها الغرامية. ليتركنا وشأننا، هكذا قالتها بصيغة «الجمع». كانت هناك أوقاتٌ أشعر فيها بالحُب تجاهها حقًّا، بغضِّ النظر عن المشاعر الأخرى التي تنتابني. ألصقتُ السمَّاعة بشدة إلى أذني لدرجة أنها بدأَت تُؤلِمني.
قالت: «أنا بحاجة إلى قضاء بضعة أيام بعيدًا عن هنا وحسب.» انتظرتُ ريثما تستفيض في الحديث. وتساءلتُ في نفسي ما إذا كانت قد حزَمَت أمتعتَها. ربما لو أنني كنتُ قد استغرقت الوقت لإلقاء نظرة على خزانة الحمَّام، لأدركتُ أن هذه المكالمة الهاتفية آتية.
قلتُ بلطف: «لا تبتعدي كثيرًا.» كنتُ أحيانًا أحادثها كما لو أنني أُحادِث فرسًا حَرُونًا، ولكن لم يبدُ أنها تُلقي بالًا. أردتُ أن أقول لها إنني أحبها، وأردتُ أن أعبِّر عن الشعور الدافئ المفاجئ الذي جاش في صدري نحوها عندما سمعتُ صوتها. ولأول مرة، لم أستطع أن أتفوَّه بالكلمات بسهولة مثلما هي دائمًا. لم تفعل هي ذلك قط، ورغم أنني كنتُ أخبر نفسي بأن المشاعر جلية في كل كلمة ونظرة تُسديها إليَّ، إلا إن النطق بها لا يزال ذا أهمية. لقد تخلَّيتُ عن جزء كبير من كرامتي على مَرِّ السنين لدرجة أنني ابتلعتُها وأحرقَتني. لعلَّني اكتفيتُ أخيرًا؛ ولهذا السبب طفَح بي الكيل في كل مرة أُضطَر إلى تجرُّع المزيد من الهزيمة، والمزيد من الخزي. تمنَّيتُ لوهلة «ألا» تعود ثانيةً. وفي لحظة من الصمت تخلَّلَت المكالمة الهاتفية، رأيتُ حياتي تمضي قدمًا بدون الألم والدراما. في نهاية المطاف، ستصير كارول مجرد ذكرى بعيدة لشخص اعتدتُ أن أكونه. ومشكلة لشخص آخر في المستقبل. تذكَّر أن كل ألم إلى زوال، حتى الذكريات التي ظننتَ أنها ستقتُلك. لعلني أستقل سيارتي وأقودها إلى مكان بعيد وحسب قبل أن تعود هي وأتظاهر بأنني شخص طبيعي لبقية حياتي. بل ربما أكون سعيدًا وأحيا عيشةً غريبة نوعًا ما حيثُ لا أُضطَر إلى إجراء تحليل دم كل شهر تحسُّبًا أن تكون قد جلَبَت إلى المنزل مرضًا عُضالًا يسلبُني صحَّتي بالتدريج. ستكون حياة غريبة بدون خوف، وبدون كراهية، وبدون هوَسي بها.
أعدتُ سمَّاعة الهاتف إلى مكانها دون أن أستمع إليها وهي تُودِّعني.
•••
مكثتُ نحو عشر دقائق جالسًا بمفردي حتى أدركتُ أنني بحاجة إلى الهروب أيضًا. لم أرغب في أن أكون الشخص الذي بقي وانتظر عودتها. لم أرغب في أن أكون بمفردي، وبالتأكيد لم أرغب في الوجود هناك إذا أرسل دينيس لي مايكل مرَّة ثانية. كانت تلك هي الفكرة التي دفعتني للتحرُّك في الواقع. كانت قد أخذَت حقيبة السفر الوحيدة التي نملكها، ولكن كانت هناك حقيبة قماشية عتيقة في الخزانة الموجودة فوق السخَّان الغاطس، وهكذا دسستُ بضعة أشياء فيها، مضيفًا إليها قطعةً من الصابون وعُلبة نصف ممتلئة من مزيل العرق. لم يكن لديَّ مال يجعلني أُربك نفسي باستخراج جواز سفر. كنتُ أفكِّر في استقلال القطار المتجه غربًا، ربما لقضاء بضعة أيام في مقاطعة كورنوال. وجدتُ حذائي ذا الرقبة الطويلة ودثَّرتُ نفسي في المعطَف، وتحرَّكتُ سريعًا، مسيطرًا على شعور الذعر المتفاقم بداخلي.
فتحتُ الباب في اللحظة التي أدركتُ فيها أن ثمَّة طيفًا يتحرك وراء الزجاج. كنتُ أفكِّر في كارول، وعندما انفتح المزلاج أدركتُ أن ثمَّة شخصًا ما يقف هناك يسترق النظر إلى الداخل. كان يراقبُني وأنا أتحسَّس جيوبي بحثًا عن المفاتيح وأفتح الحقيبة القماشية مرَّة تلو الأخرى لأدُسَّ في أعماقها غرضًا أخيرًا من أغراضي.
يبدو أنه يتحرك، أو بالأحرى يتحرَّكان، بسرعة متباينة. فحين يحاول أحدُهم اقتحام منزل في أحد الأفلام، فمن المرجَّح أن يصفع الباب في وجهه. دخل دينيس للتو كما لو كان يَلِج إلى منزله، رغم أن تعبيرات وجهه أفصحَت عن رأيه في المكان. اصطدم كتفُه بي ثم دخل مايكل من ورائه، ليضغط بيده اليسرى على صدري ويثبِّتني على الحائط دون أدنى عناءٍ من جانبه. ربما كنتُ سأقاوم لو أنهما أعطياني تحذيرًا بسيطًا، إلا إن الأمر جاء على نحو سريع ومباغت للغاية.
عندما اختفى دينيس منسحبًا إلى داخل الردهة، هزَّ مايكل رأسَه على نحوٍ أقرب إلى الاعتذار. حينئذٍ استعدتُ جُرأتي بدفعة مفاجئة من الأدرينالين تدفَّقَت بفعل شعوري بالخوف، نازعًا أصابعه لإرخاء قبضته عليَّ. كنتُ على مقربة شديدة من الحرية المتمثِّلة في القطعة الصغيرة الظاهرة من الحديقة بالخارج لدرجة أنني ما كنتُ لأحتمل فكرة إغلاق الباب والبقاء معهما عالقًا بالداخل. سحبَني مايكل مرَّة أخرى من عند مدخل الباب المفتوح وأغلَقه بذراعه الأخرى، مُومئًا لنفسه حين سمع طقطقة المزلاج. واشتدَّت ظُلمة الردهة بوقوفه هناك حاجبًا الضوء.
تساءل دينيس وهو يخرج عائدًا من المطبخ: «أين هي؟» لم أُحِره جوابًا. لوهلة شعرتُ أن غرابة وجوده في منزلي قد فاقت كل حدود الاحتمال. كانت آخر مرة رأيتُه فيها في حفل رأس السنة الجديدة وسط البالونات بصحبة رجل اسكتلندي. تذكَّرتُ وجهه، إلا إن وقوفه هنا وتحدُّثه معي كما لو أننا نعرف أحدنا الآخر كان أمرًا يفوق الواقع.
قلتُ: «سأتصل بالشرطة.»
رفع دينيس حاجبَيه في شيء يقارب الدهشة.
ردَّ قائلًا: «قال لي مايكل إنك لا تخفُّ بسهولة. وعن نفسي لا أرى ذلك.» استرقتُ نظرةً جانبيةً سريعة نحو مايكل، إلا إن وجهَه خلا من أي تعبير. لا ثرثرة من جانبه، أو مطالبات بتقديم الويسكي إليه. فقد كان يلتزم بآداب العمل والاحترافية في حضرة هذا الرجل العظيم.
لم أنبس ببِنت شَفة؛ ولذا أعطى دينيس إشارته ليُؤتَى بي إليه. وجدتُ نفسي أُقتاد إلى مطبخي مرَّة أخرى. انتابَني شعورٌ بالغثيان من أنهما بصدَد الإجهاز عليَّ. ولوهلة تخيَّلتُ كارول وقد عادت بعد بضعة أيام، ويُخجِلني أن أقول إنني استمتعتُ بفكرة شعور الذَّنب الذي سينتابُها.
كانت زجاجة الويسكي لا تزال حيث تركتُها، فصب دينيس لنفسه منها كأسًا، مُحتسِيًا رشفةً منها بينما كان يُواجهني. أدركتُ أنه كان بإمكاني أن أدُس به سُمًّا، لو أنني كنتُ خطَّطتُ للأمر مسبقًا، كما في إحدى روايات أجاثا كريستي. ولكن، للأمانة، من أين لي أن أحصُل على سُمٍّ زُعاف؟ لا بد أنه ذاق مُبيد الأعشاب، أليس كذلك؟ المشكلة في مثل هذه الأفعال أنها تئولُ بك في النهاية إلى المكوث وراء القضبان مدى الحياة. ولم أكن لأسمح لهذا أن يحدث قَط مهما كان المنحى الذي تتخذه الأمور.
قرع مايكل أصابعه أمام أنفي. وقال وهو يقرعُها: «انتبه وأجب عن السؤال.»
شرَد ذهني مرَّة أخرى، وكأنه يفضِّل البقاء في حالة من التشتُّت والانفصال على مواجهة الواقع الفعلي المتمثل في انتظار مقتلي.
قلتُ: «لا أعرف إلى أين ذهبتُ.» كنت أستمع دون انتباه كامل وكان هذا ما طلَبه دينيس. أضفتُ قائلًا: «لقد رحلتُ.» أردتُ أن أجيب عن أسئلتهما. أردتُ أن يظل الحوار متواصلًا اليوم بأكمله إذا راقَ لهما ذلك. لم أرغب في تخيُّل ما سيحدث عندما ينقطع الحديث.
قال دينيس وهو يسحَب الكرسي الآخر ويجلس عليه: «أخبِرني، يا ديفيد. أخبِرني ما الذي يجعل زوجتك لا تتحمَّل التفكير في تركك؟»
أطرفتُ بعيني، محاولًا أن أبدو وكأنني أفكِّر في سؤاله بشيء من الجدية. كانت كارول الوحيدة التي من شأنها أن تعثُر عليَّ، وربما لن تعود قبل أيام.
أجبتُه: «لا أعرف. إنها تُحبُّني.» لم يكُن دينيس رجلًا بهيَّ الطَّلعة للتحديق فيه. احتُقنَت بشرتُه واختفى من عينيه البريق وبدا فيهما الفتور. برز النمش في وجهه الشاحب ذي العظام البارزة، ولوهلة لم أستطع أن أرى شيئًا سواه، وكأن شبكة من النقاط قد لاحت على وجهه.
قال لي فجأةً، بصوت أقرب إلى الهمس: «هل تتعامل معها بوحشية، يا ديفي؟» استطعت أن أشعر بتوتُّره بينما كان يراقبني. كان يريد فعلًا أن يعرف. فذلك الأبلَه المسكين لم يفهَمْها قَط.
قلتُ وأنا أنحني مُقترِبًا منه أكثر: «إنها الشيء الوحيد الذي أقدِّره في الحياة.» كانت حقيقة هذا الأمر جليَّة بشكل أو آخَر، فتململ دينيس في جلسته. تساءلتُ في نفسي كيف تبدو زوجته بلحمها وشحمها. هل كان لديه أطفال صُهْب بوجوه بارزة العظام وضحكة جامدة؟ كانت كارول أشبه بقوة من قوى الطبيعة مقارنةً بأسرته التقليدية. ولذا، أمكنَني أن أتعاطف، نوعًا ما مع ما كان يمُر به.
قلتُ له بينما كان يحدِّق بي: «يجبُ أن تبتعد عن هذه الفوضى. إنها بحاجة إليَّ، ولذا أبقى. وأي شيءٍ آخر، أو بالأحرى أي «شخصٍ» آخَر، ليس إلا غريبًا.»
استطعتُ أن أراه يُعاني من جدال داخلي. فقد كان يهتزُّ فعليًّا من فَرْط التوتُّر والانزعاج وتجرَّع كأس الويسكي الخالي من السم دفعة واحدة دون أن يتذوَّقه فيما يبدو. وسمعتُ الزجاجة تصطدم بالكأس بينما كان يُعيد مَلْأها. لم ترُق لي فكرة أن يسكر في مطبخي.
استدار دينيس في مقعده. وسأل: «هل ترتدي قفَّازًا، يا مايكل؟»
تطلَّعتُ لأرى أن مايكل يرتدي واحدًا فعلًا. وكان لدى دينيس زوجٌ من القفازات أيضًا، وانتابَني إحساسٌ مفاجئ بالسقوط من ارتفاع كبير. لا أظن أنني سمعتُ شيئًا مخيفًا أكثر من هذا السؤال العابر. وعندما استدار دينيس نحوي، اضطررتُ إلى عقد يديَّ معًا على الطاولة لمنعهما من الارتعاش.
«يُمكِنني أن أجعلك تختفي، يا ديفيد. ولا تجد هي زوجًا في المنزل تعود إليه، أتفهمني؟ ربما يُفسح المجال آنذاك أمام رجل آخر ليس طُفيلًا غريب الأطوار. أنت حتى لا تعمل يا ديفيد، أليس كذلك؟ أنت تجلس هنا وتنفق الأموال التي تكسبها من أجلك. هل يُشعِرك هذا برجولتك، يا ديفيد؟»
قلتُ بتمهُّل: «لن تثقَ بك مطلقًا إذا اختفيتُ. إنها تعلم بأمر المرة الأولى التي أرسلت فيها مايكل. وستعرف أنك الفاعل.» أعجبني المسار الذي اتخذه الأمر وبدأت أتحمَّس للفكرة. «ستكرهك إذا أصبتني ولو بكَدْمة، يا سيد تانتر. يجب أن تستوعب هذا. لا أستطيع أن أرى نهاية سعيدة لما يحدث هنا إلا إذا غادرت.»
جلس مرَّة أخرى وبدا أنه يفكِّر في هذا الأمر لبُرهة.
«فهمتُ ما تقصده، يا مايك. إنه يجلس هادئًا متماسكًا رغم جسَده المعلَّق في الهواء.» رأيتُ مايكل يبتسم وراء ظهر دينيس. لم أكُن واثقًا تمامًا من أنني فهمتُ المقصود من العبارة بالمناسبة. وإذا كان المقصود منها الضعف، فقد أصابت كبد الحقيقة.
وقف دينيس، وشعرتُ ببارقة أمل مفاجئ بأنه سيعمل بنصيحتي. ثم أومأ إليَّ.
«أنت رجلٌ حقير ومريض، يا ديفيد. لقد حوَّلتَ امرأةً رائعة إلى امرأة ملتوية وهشَّة … أنا لا أعرف ماهيَّتها. ربما تكون محقًّا بخصوص قتلك، أو لعله الشيء الوحيد الذي تحتاج إليه لتتخلص منك وتُميطَك عن طريقها، أتفهم ما أقصده؟ إن مجرد رؤيتك جالسًا هناك بهذه الغطرسة البادية عليك يُثير حنقي، يا ديفيد. أعتقد أنك تُسيطِر عليها، مثل أولئك الرجال الذين يضربون زوجاتهم ومع ذلك يعُدن إليهم بشكل أو آخَر. أنا لا أفهم هذا. ولكني لستُ من نوعية الأشخاص الذين يبتعدون عن الأشياء التي لا يفهمونها، يا ديفيد. أنا رجلٌ «عنيد».»
قالها كما لو أنه شيء قاله من قبلُ مئات المرات، كما لو كان فخورًا بذلك. ما كان بيدي حيلة سوى أن أُحملِق فيه بدون أي تعبير بينما كان يدور حول مايكل ووقف عند الجهة المقابلة من المطبخ. بدَت الغرفة ضيقة ومكتظَّة بينما كان هذان الاثنان يسُدَّان الباب.
قال دينيس: «سأبقى لأتفرَّج يا مايك، إن كنتَ لا تُمانع.»
سأله مايكل وعيناه في عينيَّ: «إلى أي مدًى تريد أن أتوغَّل؟»
فكَّر دينيس لوهلة.
وأردف يقول: «أودُّ أن تسنح لي المحاولة مرَّة أخرى عندما تعود كارول؛ لذا اجعل كل شيء من تحت ملابسه، أفهمتَ؟ لقِّنه درسًا. اكسر له إصبعَين، واجعل باقي الإصابات مخفيَّة.»
حينئذٍ بدأتُ في الصراخ مستغيثًا، رغم أنني على علم بأن جميع الجيران سيكونون في العمل. لم يكُن هناك من يُجيرُني.