الفصل السادس
استيقظتُ من نومي فجأة، لأستفيقَ من حلم على ضوضاء أحدثَتها كارول وهي ترتدي ملابسها. كانت أول شيء رأته عيناي وهي تقف بملابسَ داخلية ومشدٍّ للصدر، وترفع تنُّورتها إلى خصرها. كانت تغطُّ في نومها حين صعدتُ إلى الغرفة في الليلة السابقة، أو على الأقل تظاهرَت بذلك. رأتني أتحرَّك في مرآة المزينة، فنظر كلٌّ منا إلى الآخر لبرهة طويلة. ثم رأيتُ عينَيها ترمقان يدي المجبَّرة بجبيرة كبيرة وبيضاء فوق البطانية. أما الكدمات الأخرى، فكانت متوارية تحت التيشيرت الذي أرتديه.
قلتُ لها وقد لاحظتُ أنها أجفلَت: «كُسر ظفران وأنا أغيِّر إطار السيارة. يجب أن ترَي شكل الجرح.»
«كلَّا شكرًا، يا ديفي. أنا مضطرة للذهاب.»
كان هذا قبل موعد مغادرتها المعتاد بنصف ساعة ولم أستطع منع نفسي من اختلاس النظر إلى المُنبِّه. كانت بالدماثة الكافية لتُشيح بنظرها بعيدًا عني وأنا أحدِّق في المنبِّه، لتضبط ياقة بلوزتها في المرآة. خمَّنتُ أنها أرادت الخروج من المنزل قبل أن يستيقظ أخي. أحيانًا يمكنني قراءتها بسهولة بالغة.
قلتُ لها: «زيارته لن تدوم سوى يوم أو يومَين فقط.»
أومأَت برأسها، وبدا فمُها بدون أحمر شفاه عبارة عن خطٍّ رفيع باهت. أنهَت روتينها المعتاد ببضع حركات خاطفة أخرى ثم غادرَت الغرفة، لتُخلِّف وراءها لمسةً عطرية خفيفة في الأجواء. راقَتْني مشاهدة التغيير الذي حوَّلها من كتلة ناعسة تشابكَت خصلاتُ شعرها إلى وكيلة عقارية بارعة، آية في الأناقة والتألق.
اختلق أخي كذبة الأصابع المكسورة. فلو كنتُ أخبرتُها عن عودة دينيس مرَّة أخرى، لربما توجَّهَت إلى الشرطة، أو لربما فعلَت الأسوأ واتصلَت بالرجل نفسه من مكتبها. بالطبع لا يزال بإمكانها أن تتصل به، ولكنى صدقتُ دينيس حين أخبرَني بأنها قد أنهت العلاقة، أو على الأقل صدَّقتُ غضبَه وألمَه. يا له من أمر مضحك! ما كنتُ لأصدِّقها هي.
غير أنها كانت مخاطرة بسيطة، وأدركنا أنه سيتعيَّن علينا التحرك سريعًا. حتى إنها حين أغلقَت الباب الأمامي وراءها، سمعتُ أخي يفتح صنبور الدش. سننفِّذ اليوم. وبحلول وقت عودتها إلى المنزل من العمل، ستكون مشكلتنا الصغيرة قد حُلت.
أخرجتُ مبذلًا حين سمعتُ صرير صنبور مياه الدش يتوقَّف عن العمل. كانت لحظة غريبة حين خرجتُ إلى بسطة الدرج ورأيتُه يقف هناك. أظن أن آخر مرة رأيتُه بمنشفة حول خصره حين كنَّا طفلَين. لاحظتُ أنه بدا أقوى كثيرًا عن ذي قبل. لم يُراكِم أي دهون في جسمه، وبدا كما لو أنه يحافظ على لياقته البدنية بدرجة بالِغة. وكما تعلم هذا أسهل كثيرًا بالنسبة إلى الرجال ممَّن لديهم مستويات عالية من التستوستيرون. فهم يستمتعون بممارسة الرياضة أكثر من غيرهم، إلى حد أنهم قد يُصابون بنوبات قلبية تقضي عليهم. عقدتُ ذراعي على مبذلي وأومأتُ إليه برأسي. لقد خطَّطنا لكل شيء، لكني شعرتُ بقلبي يخفق بسرعة جنونية.
سألَني، وقد بدا الاستمتاع في نبرة صوته: «هل أنت مستعد، أخي الصغير؟ لا مجال للتفكير ثانية؟» لم يبدُ عليه التوتُّر مطلقًا.
قلتُ: «لا مجال للتفكير ثانية.»
•••
تحرَّكنا سريعًا بعد ذلك. كان من المحتمل أن يتناهى إلى سمع دينيس أن كارول قد عادت إلى العمل. فعلى حدِّ عِلمنا، كان دينيس يمُرُّ على المكتب صباح كل يوم، أو يدفع أموالًا للسكرتيرة نظير نقل أي أخبار عنها. ربما كانت المسألة مجرد توتُّر وقلق، ولكن لم يكُن هناك ضَير على الإطلاق من تسيير الأمور بأسرع ما يُمكِن. كانت طريقة أخي في التخطيط لمجريات العملية تمنحنا فرصة واحدة فقط لتنفيذها على النحو الصحيح. وطمأنَني بأن الخطة ستنجح حتى وإن كانت كارول تعلم بوجوده في برايتون. لقد ذهب إلى المحكمة بسبب قضية بوبي بنريث وأفلَت منها. وسيفعلها ثانية.
جلستُ في المطبخ واضعًا الهاتف على الطاولة أمامي، أحدِّق فيه وحسب بينما أراجع في ذهني ما خطَّطنا له. كان من الجيد جدًّا أن أراجع التفاصيل في مخيِّلتي، ولكن عندما أرفع سمَّاعة الهاتف وأطلب الرقم، ستكون العملية قد بدأَت بالفعل. بعد ذلك سيبدو الأمر وكأنك تهبط من على منحدر، ولا جدوى إذا غيَّرت رأيك في منتصف الطريق.
قال أخي: «جرِّب الأمر معي أولًا.» كانت تلك هي أولى علامات التوتُّر التي لاحظتُها عليه. هزَزتُ رأسي، مسترجعًا ما خطَّطنا لقوله. كان هذا سيأتي بدينيس على جناح السرعة، أعرف أنه سيأتي به.
رأيتُه يصُبُّ كأسًا من الويسكي الذي اشتريتُه الليلة الماضية. فتراجعتُ على نحوٍ مفاجئ حين حرَّك يده، إلا إن معظمها كان قد نال من وجهي. صرختُ في غضب، متذكرًا مايكل وهو يفعل الشيء نفسه.
قلتُ مُغمِضًا إحدى عينيَّ بسبب اللسعة التي أصابتني: «ما الذي تفعله بحق الجحيم؟»
قال ساخرًا من تعبيرات وجهي: «أنت الآن مستعد لإجراء المكالمة الهاتفية. لقد كنت مسترخيًا على نحوٍ مُفرِط قليلًا قبل ذلك. استمر. افعلها.»
حدَّقتُ في قصاصة الورق الموضوعة بجوار الهاتف التي تحوي رقم دينيس تانتر. كانت مكالمة واحدة لدليل الاستعلامات كفيلة بأن توفِّر لي آخر شيء احتجتُ إليه.
ضربتُ الأرقام وأخذتُ نفَسًا عميقًا.
ردَّ صوتٌ نسائيٌّ لا أعرفه، يقول: «شركة دبليو تي ليميتيد.» ربما كانت سكرتيرة. حافظتُ على هدوئي. كان هذا هو الرقم الذي أُعطَى إليَّ.
قلتُ بنبرة غير واضحة قليلًا: «آتِني بدينيس تانتر على الخط.» ساعدَتني الأبخرة المُعبَّأة بالويسكي قليلًا، وعلى نحو غريب بما يكفي.
سألَتْني: «مَن المتحدث؟» شعرتُ بارتجاع الحمض إلى فمي وأجفلتُ من مذاقه.
«اذهبي وأحضِريه فحسب. أخبريه بأن يأتي ويُصلِح الفوضى التي أحدَثها، مفهوم؟ أخبريه أن …»
سمعتُ أصواتَ تحويل الاتصال الدائر وكنتُ متأهبًا حين سمعتُ الصوت الجديد.
قال مايكل: «مَن المتحدث؟» كان هذا كل ما أردتُه.
قلتُ هازئًا به: «أيها النذل. لقد ماتت والملعون دينيس تانتر هو السبب، أليس كذلك؟ اذهب إلى الجحيم، أيها …» توقفتُ فجأة، لأنخر في ثمالة كما لو كنتُ أبكي، أو أضغط بيدي على وجهي. كنتُ أمنح الرجل فرصة للرد.
«ديفي؟ مَن مات؟ ليست كارول؟ ديفي، أهذا أنت؟» ممتاز. استطعتُ أن أسمع نبرة الخوف في صوته. وكانت هذه مجرد البداية لما هو آتٍ.
«حبوب!» لفظتُ الكلمة بقوة عَبْر الهاتف، تاركًا أثر الويسكي واضحًا في نبرة صوتي، وتطايَر لعابي وأنا أتحدث في ثمالة. «أخذَت تضغط وتضغط، أليس كذلك، يا مايكل؟ أنت ودينيس. ضغطتُما علينا، والآن ماتت كارول. أُقسِم إنني …»
أخذ أخي سمَّاعة الهاتف مني وضغَط على زِرِّ إنهاء المكالمة. كان وجهه مثالًا حيًّا للرهبة الرزينة.
قال: «أحسنت صنعًا، أيها الفتى ديفي. ينبغي أن يأتي هذا بهما على جناح السرعة.» أومأتُ إليه برأسي وأنا أمسح فمي بقوة.
تَمتَم وهو يُعيد سمَّاعة الهاتف إلى مكانها مُصدِرًا خشخشةً قائلًا: «من الأفضل أن نستعد.» أحضر حقيبةً من السيارة وشاهدتُه يُخرِج قضيبًا حديديًّا بطول ثماني عشرة بوصةً لم يسَعْني سوى التقاطه. كان يتناسب مع قبضة اليد على نحوٍ جيد للغاية. أرجحته وتخيَّلته وهو يشجُّ جمجمة.
ولدهشتي كشفت الحقيبة عن عدد من القطع الأخرى من مواسير وغيرها من الأدوات المتنوعة.
قال: «هذا يفسِّر فيما بعدُ سبب وجود سلاح في متناول يدك بالمطبخ، أليس كذلك؟» وبابتسامة جادة، فتح الخزانة الموجودة أسفل الحوض وأطلعَني كيف قام بفك المواسير البلاستيكية. وأردَف قائلًا: «ربما لن يسألوا أبدًا، ولكني فكَّرتُ في هذا الاحتمال اللعين. ولو فعلوا، فكلُّ ما سيجدونه هو أعمالُ سباكة. كنت في منتصف العمل عندما اضطررت إلى الخروج والبحث عن مكان لبيع قِطع غيار أخرى مماثلة لتلك التي كسرتها ببراعة بالغة. وبينما كنتَ في الخارج، زارك رجلان كنت قد تلقَّيتَ تهديدًا منهما من قبلُ.»
نظرتُ إليه وأقسم إنه كان أهدأ مني. وفي غضون بضع دقائق، كان دينيس تانتر يقتحم منزلي للمرة الثالثة. أخرجتُ علبة لبن من الثلاجة وشربتُ منها لتهدئة معدتي.
مدَّ أخي يده إلى سترته وأراني سكينًا مريعة الشكل.
قال: «سيأتيان مدجَّجَين بهذه. إنها تُباع في أي متجر عتاد موجود في البلاد. وليس من المُستغرَب أن ترتعبَ وتلوِّح بقطعة من الماسورة في وجهَيهما. ستتصل بالشرطة، وقبل أن تصل الشرطة، سأعود. وسنتعامل معًا مع استجواباتها.»
سألته: «هل تعتقد أن هذا سيُجدي؟»
هزَّ كتفَيه في لا مبالاة. ثم أردف: «لا أظن أن المسألة ستصل حتى إلى المحكمة. اثنان ضد واحد؟ ستُبرَّأ بحجة الدفاع عن النفس، يا ديفي. لا مشكلة على الإطلاق. فقط ثق بي وسنُتمِّم الأمر معًا حتى النهاية، اتفقنا؟»
نظرتُ في عينَيه مباشرة، وللحظة شعرتُ بالدموع تتجمَّع في مقلتي. أومأتُ برأسي، وأشَحتُ بعيدًا، متيقنًا من أنه رآني.
«الآن، ركِّز يا ديفيد. سيصلان إلى هنا في أي لحظة. لديك الجزء السهل. ستجلس في المطبخ وحسب كما خطَّطنا. ستحتسي شرابًا، إذا تعيَّن عليك ذلك، فقط لتبدو بائسًا.»
وبينما كنتُ أجلس، توجَّه أخي إلى الباب الأمامي وتركَه مغلقًا دون أن يُوصِده بالمزلاج.
قال حين عاد إلى المطبخ ووقف خلف الباب: «ذكِّرني أن أكسِر المزلاج بعد ذلك.» ورفع القضيب المعدني في يده ولم أتمكَّن من النظر إليه.
ثم سمعنا من الخارج هديرَ محرِّك سيارة تقترب منَّا بسرعة بالِغة. ثم توقفَت مُصدِرةً صوتًا حادًّا. فأخذتُ نفَسًا عميقًا.