الفصل السابع
اقتحم دينيس تانتر بيتي في الساعة التاسعة وثمانٍ وعشرين دقيقةً صباحًا. كنتُ قد نظرتُ إلى ساعة الحائط؛ ولذا أعرف توقيت وصوله. صفع الباب الأمامي بقوة بالِغة لدرجة أنني ظننتُ أنه كان سيكسر المزلاج لو كنَّا أوصدنا الباب. ارتطَم الباب بعنف في الحائط ثم ارتد في كتفه بينما كان يشُق طريقه إلى الداخل. لقد قرأتُه قراءةً صحيحة، وسعدتُ برؤية ذلك. لقد أخبرتُ أخي بأنه ليس من نوعية الرجل الذي يرسل حارسه مايكل أولًا، لن يفعل إذا استشاط غضبًا. لم يبدُ أن هذا قد أزعج أخي؛ ولكنني أردتُ أن يدخل دينيس أولًا. لقد كان هو مصدر الخطر، لا حارسه. عرفتُ هذا من البداية.
لم يكُن لديه أدنى فكرة عما كان يحدث. استطعتُ أن ألاحظ هذا منذ اللحظة التي رآني فيها في المطبخ. كنتُ أبدو مثيرًا للشفقة، والدموع تنسابُ على وجهي وقد ارتسَم عليه الخوف والذهول. كان من الصعب أن تتصنَّع تعبيرًا زائفًا حين تعرف أن شخصًا ما سوف يموتُ في غضون الدقائق القليلة القادمة ومن المرجَّح أن تكون أنت هذا الشخص.
هدَر في وجهي متسائلًا: «أين هي؟» تأجَّج وجهه بحمرة شديدة من فَرط الانفعال، وظننتُ للحظة بغيضة أنه سينطلق إلى الطابق العلوي ليفتِّش غُرَف النوم بحثًا عنها. هززتُ رأسي وأومأتُ عَبْر المطبخ على نحوٍ مُبهَم. فعبَس في وجهي ورأيتُ قبضتَيه ترتفعان في الهواء وهو يخطو عَبْر الباب. وقف مايكل كظل في الردهة الممتدة وراء دينيس، إلا أنني لم أشاهد أحدًا سوى دينيس بينما كان أخي يهاجمه بضربة. يا إلهي، كان سريعًا. لعلك لم تَرَ شيئًا كهذا قَط من قبلُ.
لم يكُن صوتًا ساحقًا. بل بدا وكأنَّ جوالًا من الدقيق قد انفتح بقوة، كان أشبَه بضربة ناعمة بشكلٍ ما. أخذتُ أحدِّق مباشرة في دينيس، وأقسِم إنني رأيتُ طرَف القضيب مغروسًا في رأسه قبل أن يرتَد. الغضب، الطيش، كل شيء يتعلق بذلك الذي يُدعى دينيس تانتر ذهب في غمضة عين. عاجَلَه أخي بضربه مرَّة أخرى عندما شرع في السقوط، ثم مرَّة ثانية. لم أستطع تمالُك نفسي من تذكُّر الطريقة التي ظلَّ أخي يركلُ بها الرجل الذي قتلَه في كامدن، وحينئذٍ أدركتُ أنه سيترك في أعقابه جثةً واحدة على الأقل. ثمَّة لحظاتٌ في حياتنا تنهار فيها الأكاذيب التي نردِّدها على أنفسنا. وفي رأيي، كانت هذه واحدةً منها.
تجاهل أخي وجود مايكل؛ إذ وقف الرجل مذهولًا عند مدخل الباب، وقد فغَر فاه في فزع. وعوضًا عن ذلك، نظر أخي الأكبر «إليَّ» وابتسَم ابتسامةً عريضة. لم يبدُ أنه يبالي بوجود مايكل. راقبتُ الموقف وأنا في حالة من الانبهار المرَضي بينما كان أخي يلكز دينيس بقدمَيه. فانتفضَت الجثة وظننتُ أنني ربما أتقيأ.
قال: «لا شك أنه مات، أو أصبح جسدًا عديم الفائدة،» وأقسِم بأنه أخذ يُقهقِه بعد قوله هذا. قلما رأيتُه في حالة أسعد من تلك. ولعلك الآن تفهم لماذا كنتُ أخافه دومًا. لم يكُن خوفي منه نابعًا مما كان يفعله؛ بل كان نابعًا مما هو قادرٌ على فعله.
شرع مايكل في التحرك وكان من دواعي سروري أنني لم أتمكن من رؤية تعبيرات وجه أخي حين استدار لينهي المهمة. ثمَّة قروش في هذا العالم، ومثلما حدث مع بوبي بنريث من قبله، لم يكُن مايكل مستعدًّا لمقابلة قرش يفوقه ضخامةً في مطبخي، في ذلك اليوم. رأيتُه يمُد يده داخل معطفه بحثًا عن أي سلاح من أي نوع. ولم يكلف أخي نفسه عناء إيقافه. فقط ضرب بالقضيب بقوة على صدغ مايكل، محطمًا شيئًا ما بالداخل. سقط مايكل بالسرعة نفسها التي سقط بها دينيس تقريبًا؛ إذ انقطعَت الإشارات المُرسَلة من مخه إلى ساقَيه.
وقفتُ على قدميَّ وقد انتابتني حالة أشبه بغيبوبة، لا أستشعر شيئًا حيال مايكل سوى الشفقة فحسب. فهو في النهاية كان أجيرًا، إلا إنني جلستُ وشاهدتُه وهو يلوي أصابعي بالكامل ولم أطلق استغاثةً لإنقاذه، حتى لو كان بإمكاني ذلك.
دائمًا ما أتخيَّل الرجل الذي استأجره دينيس لبثِّ القليل من الرعب في نفوس مَن كان يتعامل معهم، رجلًا ضخم البنية، ليس سريعًا، وإنما قويٌّ. اندهشتُ وأنا أشاهد أخي وهو يتوعده بينما يكيل إليه الضربات مرَّة أخرى. الخوف يجعلك تنكمش بشكل أو آخَر، بينما الشجاعة تجعلك تبدو في حجم أكبر مما أنت عليه فعليًّا. لقد لاحظتُ هذا من قبلُ.
وجدتُ قطعة الماسورة الخاصة بي في حقيبة السباكة التي جلبها أخي معه. لا أظن أنه سمعني قادمًا، وحتى وإن سمعني، فلم يتوقع أن أحطِّمها على رأسه بكل ما أوتيتُ من قوة اكتسبتُها على مدار سنوات من الخوف والكراهية. لقد رأيتُه يهشِّم جمجمةً قبل بضع لحظات فحسب ويُسعِدني أن أقولَ إنني أنجزتُ المهمة على نحوٍ بارع مثلما أنجزَها هو. قتلتُ أخي بينما كان يضربُ مايكل للمرة الثانية، حتى بدَت الضربتان شبه متزامنتَين. سقط على جانبه، ليتمدَّد فوق الجثَّتَين. لم يتحرك قيد أنملة وكِدتُ أتركه على هذا الوضع؛ لولا أنه كان يرى فيما يبدو أن الأمر يقتضي ضربتَين لضمان إنجاز المهمة. حبستُ أنفاسي وهوَيتُ بالماسورة مرَّة أخرى على جمجمته بكل ما أوتيتُ من قوة. كانت في حالة رخوة بالفعل وشعرتُ برخاوتها. كانت عيناه مفتوحتَين ولا أظن أنه كان لا يزال يشعر بأي شيء. فقد كانت الضربة الأولى شديدةً جدًّا.
تساقطَتْ بعضُ قطرات الدماء، إلا إن الأمر لم يكُن سيئًا للغاية. فكان أغلبُها يسيل عليهم وانتشرَت عَبْر المطبخ. بدا الأمر كما قال تمامًا: مشهدٌ عنيف لمشاجرة وقعَت قبل قليل.
وقفتُ أنظر إليهم لوقت لا أستطيع أن أحدِّده. خانتني معدتي بالطبع؛ ولذلك أهدرتُ بضع دقائق أتقيأ في الحوض وأتساءل عما إذا كان عليَّ أن أتخلص من أثر القيء أم أتركه كرد فعلٍ منطقي لمثل هذا المشهد المرعب. وفي النهاية، تركتُه. ستأتي الشرطة لاستجوابي أخيرًا وكنتُ أعلم أنها ربما تكون متعنِّتة في استجوابها. ولكن كان أخي محقًّا بخصوص شيءٍ واحد. فبموته ستُفلِح حجة الدفاع عن النفس على نحوٍ أفضل. راودَتني فكرة بأنني ربما ينتهي بي المطافُ بالظهور في صورة البطل.
عندما توقفَت معدتي عن التشنُّج، جلستُ إلى طاولة المطبخ وأعدَدتُ نخبًا أخيرًا لثلاثتهم.
رفعتُ كأسي لأخي. وقلتُ له: «هذا نخب الرجولة والنضج، يا بُني الكبير. ما كان ينبغي لك أن تنامَ معها. كان هذا أكبر من قدرتي على الاحتمال بكثير. ولكن كل شيء صار في طي النسيان الآن.»
وجدتُ نفسي أضحك، وبذلتُ جهدًا لأتوقف عن الضحك. وتساءلتُ في نفسي ما إذا كان قد عرف أنني اكتشفتُ الأمر، وأن كارول فجَّرَت المفاجأة في إحدى مشاجراتنا. لم يكُن من نوعية الأشخاص الذين يشعرون بالذنب. وليس لديَّ أدنى شك من أنه كان من دواعي سروره أن يجد امرأةً جميلةً ترغب في إضاعة عصر يومٍ من أيامها معه، بغض النظر عن هُوية الرجل الذي كانت متزوجة منه. كان من الغريب ملاحظة الطريقة التي كانا يتصرفان بها معًا بعدما عرفتُ بأمر علاقتهما. ومهما كانت مرارة الذكرى التي بنياها معًا، كان بمقدوري أن ألاحظ ذلك. لعلها رفضَت لقاءً ثانيًا، أو لعل هو مَن رفضها. لم تهمَّني المسألة كثيرًا، أو بالأحرى لم تعُد تهمُّني بعد الآن.
كانت رؤية مشهد الجثث في مطبخي أمرًا غريبًا. لقد رأيتُ المشهد في مخيِّلتي بما فيه الكفاية، ولكن الوصول فعليًّا إلى هذه النقطة أشبَهُ بلحظةٍ توقَّف فيها الزمن وربما كانت مخيفةً أكثر من ذلك بعض الشيء. إن الحقيقة أشبه بذلك، كما اكتشفتُ.
كنتُ قد تدبَّرتُ معظم التفاصيل بينما كنتُ أقف في عرض البحر المتجمد منتظرًا من أخي أن يقرأ الرسالة التي تركتُها لكارول ويأتي إليَّ ويصحبني. أتذكَّر قلقي من احتمال تعرُّضه لحادث أو تعطُّل أحد إطارات السيارة، وحينها ستذهب كل جهودي سدًى. كنتُ «أعرف» أن رؤيته لي هناك ستجعله يأخذ صفِّي. لطالما كنتُ النقطة العمياء التي يغفل عنها؛ أنا أخوه الصغير. لا أظن أنه كان يهتم بأي مخلوق حي. ولا أخجل من أن أقول إن الدمع ترقرق في عيني لبُرهة وأنا أنظر إليه. فالإخوة يربطهم رباطٌ وثيق.
لم أكن بحاجة إلى إقناعه بعد أن وجدني واقفًا على عمق قدم وسط المياه تحت جنح الظلام، محاولًا بأقصى جهد تخيُّل ما يبدو عليه الانتحار. ما كان من الممكن أن تسير الأمور على نحوٍ أفضل من ذلك حقًّا. فقد سُدِّدَت جميع ديوني، وتمنَّيتُ لو أن بوبي بنريث عرف أنها قد سُدِّدَت.
ستَلقَى قصتي قبولًا لدى الشرطة، إذا ما تركتُ فيها أجزاءً ناقصةً صادمةً بما يكفي. وقد كانت قصةً بسيطةً بما يكفي على أي حال. سأتركُه يقودني إلى حيث أراد أن يذهب. مجرَّد أخوَين يُصلِحان ماسورةً في مطبخ وهجم عليهما مجرمان عتيدا الإجرام. تساءلتُ في نفسي ما إذا كان ينبغي أن أوضِّح وضع كارول للشرطة. كلا. لم أكُن أريدهم أن يعرفوا أن لديَّ دافعًا من أي نوع. فكَّرتُ أنهم سيعتقدون أن دينيس كان مفتونًا بها دون أن يعرفوا أنه حاول مواعدتَها بالخارج أيضًا بضع مرات. وأتت الخطة ثمارها على نحوٍ رائع.
خرجتُ عَبر الباب الأمامي، مغلقًا إياه ورائي. كان الجيران في أعمالهم كما هو معتاد دومًا؛ ومن ثَم لن يكون هناك أي شهود تستطيع الشرطة استجوابهم. تطلَّب الأمر مني بضع ضرباتٍ عنيفة بكتفي لكسر المزلاج. لا شك أنها ستخلِّف لديَّ كدمةً أخرى لأريها للشرطة عندما أخبِرهم كيف عذَّبني دينيس تانتر. ممتاز.
تذكَّرتُ أن أضع ماسورتي في يد مايكل بينما كنتُ أبعثر محتويات حقيبة السباكة على أرضية المطبخ. وجدتُ سكينًا في جيبه الآخر، السكين التي كان يبحث عنها عندما أسقطه أخي بضربة. وبعد قليل من التفكير، جعلته يمسكها في يده الأخرى، منتبهًا لبصمات أصابعي.
كانت هناك أشياءُ كثيرة عليَّ تذكرها. سيكون هناك دماءٌ متناثرة على ثيابي، ولكن رأيتُ أنه لا بأس من ذلك. أدركتُ أن لولا وجودها على ملابسي، لصار الأمر مثيرًا للشك بالنظر إلى هذه المساحة الصغيرة، مع وجود ثلاثة رجال أُوسعوا ضربًا حتى الموت. كنتُ سعيدًا بقدرتي على التفكير بوضوح.
عندما جلستُ أخيرًا، أمسكتُ الهاتف بيدي لأتصل بالشرطة. لقد فعلتُ كل ما بوسعي، وقلتُ في نفسي، أجل يا ديفي، ستُفلِت بها. رددت تلك الكلمات بصوت عالٍ وثبات، بينما كانوا جميعًا مستلقين على الأرض ينزفون. كانت هذه إحدى المفاجآت. كان حجم الدماء المُسالة في حد ذاته صادمًا مهما كان ما سمعتُ عن كمه. لا يبدو ممكنًا أن يحوي جسدك كل ذلك الكم من الدماء. ليس صحيحًا أيضًا أن الموتى لا ينزفون. فهؤلاء كانوا ينزفون، على الأقل لمدة وجيزة. كان المطبخ مغطًّى بالدماء وما زلتُ لا أصدِّق مدى لزُوجتِه عندما يلتصق بك. ثمَّة درجاتٌ مختلفة من اللون الأحمر أيضًا.
كنت أظن أن بإمكاني التعامل مع دينيس تانتر، مثلما تعاملتُ مع بضعة رجال آخرين على مَر السنين. وعندما أدركتُ أنني لا أستطيع، ظننتُ أنني سأترك أخي يتولى أمره. كانت فكرةً عقيمة في البداية أن أرى كم سيكون لطيفًا أن يُجهِز كلا الوغدَين على الآخَر. غير أنني لم أفكِّر حقًّا في تبعات الموقف. ولو أن هناك مكانًا للتفكير في تبعات الموقف، لكان ذلك المكان هو المطبخ الذي تحوَّل إلى بركة من الدماء وتفوح منه رائحة تجعلني لا أرغب مطلقًا في الاقتراب منه مرَّة أخرى.
لا تُتاح لك فرصة كهذه كثيرًا كما تعرف. نعم، يُمكِنني الفوز بالقضية، هذا إن كانت ستُنظَر أمام المحكمة. ويجب على النيابة العامة أن تقرِّر ما إذا كانت هناك قضية يُمكِنها الفوز بها، وحجَّتي المتمثِّلة في الدفاع عن النفس ضد هؤلاء الأوغاد كانت مثالية تمامًا. كان بإمكاني الرحيل، ولكن كارول. هل أردتُ حقًّا أن أرحل معها؟ لم أستطع منع نفسي من التفكير في أنها لو كانت وسط هذه الفوضى حين جاء دينيس ومايكل، لربما كانت ممدَّدةً على الأرض جثةً هامدة أيضًا وأصبحتُ أنا حرًّا. حرًّا طليقًا بحق، على عكس شعور الحرية الصوري الذي استمتعتُ به بضع لحظات قصيرة.
من الواضح أنه كان يومًا للبدايات الجديدة. وبدلًا من الاتصال بالشرطة، اتصلتُ بها وأخبرتُها بأنني سأبتلع حبوبها المنوِّمة دفعةً واحدة. ثم أغلقتُ الخط في منتصف جملة ما، وأزلتُ بطارية الهاتف. لم يساورني القلق. فسأتولى التفاصيل قبل أن تصل هي إلى المنزل.