نظام عالمي جديد
دوريس سالسيدو فنانة كولومبية تصنع تماثيل من قطع أثاث كانت في السابق تنتمي لأشخاص «اختفوا» خلال الحرب الأهلية الطويلة في بلادها. خلال ذلك الصراع المرير، موَّلت الجبهتان — العصابات والحكومة — الحرب من خلال تجارة المخدرات، فيما موَّلت الولايات المتحدة الجيش الكولومبي ببذخ، رغم سجلِّه الحافل بانتهاكات حقوق الإنسان. اختطفت الجماعات شبه العسكرية المتحالفة مع القوات الحكومية تحالفًا وثيقًا الأشخاصَ وقتلتهم دونما عقاب. في بعض من أعمال سالسيدو، نجد قطعة من الأثاث معشَّقة بعناية داخل قطعة أخرى، وفي أعمال أخرى، ما يبدو للوهلة الأولى أنه ألياف خشبية يتضح أنه شعر آدمي، تكون هذه التركيبات مملوءة بالأسمنت، والذي أحيانًا يغمر أيضًا جزئيًّا بابًا أو طاولة مقلوبة رأسًا على عقب. عند النظر إلى تلك القطع يتملكك شعور بالانغمار أو التلاشي البطيء للغاية، وكأنها رسم بياني لذكرى ذبلت نتيجة للعنف داخل الذهن، وقضى عليها الصمت والرقابة، ثم عادت غير مرغوب فيها في الأحلام والأفكار اللاإرادية، وفقدتْ على نحو قاسٍ بالمثل تعريفها الدقيق مع مرور الوقت، وتراكمت ذكريات جديدة وذكريات عن ذكريات فوق القديمة.
إن كاتدرائية جايلز جيلبرت سكوت الإنجيلية بليفربول عبارة عن مبنى شاسع بجدران جرداء قوطية الطراز، وهي تقليدية في فخامتها وتصميمها المعماري، رغم أنها شُيدت أثناء القرن الأخير. يتملكك وأنت تتجول داخلها حسٌّ قويٌّ بالغرابة. يفكر الزوار: أين الزخارف التي تحمل الذاكرة التاريخية؟ وأين آثار انمحائها وتآكلها، وكذلك حالة الفوضى المألوفة التي تخلِّفها القرون؟ إلا أن هذه الكاتدرائية العتيقة جُددت مؤخرًا وتُركت جرداء.
أقيم أول بينالي للفن المعاصر في ليفربول عام ١٩٩٩، وضم مكوَّنًا دوليًّا، تحت عنوان «اقتفاء الأثر»، وأشرف عليه أنتوني بوند، ووُضعت قطع الفن المعاصر في مواقع مختلفة حول المدينة، وظهرت أعمال سالسيدو في الكاتدرائية الإنجيلية. ماذا يمثل هذا الجمع؟ إن السبعين عامًا التي مرت على تشييد الكاتدرائية شهدت حربين عالميتين، وظهور الراديكالية السياسية وزوالها في بريطانيا، وتراجع أهمية التصنيع، واكتساح العلمانية للمجتمع؛ فتولَّد المنتج المكتمل بحجم أكبر من المألوف داخل مدينة ناضبة من العمل والسكان والإيمان. إن عمل سالسيدو الفني — وهو محاولة دقيقة وشاقة لتبجيل الذاكرة — هو النظير المرئي لأعمال إدواردو جاليانو الفذة الخاصة باستعادة الذاكرة السياسية الجماعية في وجه القمع العنيف للاحتجاج كلمةً أو فعلًا في أغلب بلدان أمريكا اللاتينية. بصورة أكثر تحديدًا، كما أوضح تشارلز ميرويزر، ينتقد تجميد الذكرى وكبحها التي يهدف الاختفاء إلى توليدها، فأهل المختفي الحزان ليس لديهم جثمان أو مقبرة أو حتى اليقين بأنَّ حبيبهم توفي. من الناحية البصرية، تلاءمت أعمال سالسيدو الفنية جدًّا مع المساحات الشاسعة الجرداء بالكاتدرائية، فبدت الخزائن ككراسي اعتراف متحولة أو نعوش عملاقة. إن الغاية من الجمع بين الموقع والعمل الفني في مثل هذه المقاربة هو إثراء أحدهما الآخر، والمقاربة بين الثقافات على نحو مثمر، وتحفيز الفكر، والتزويد بلمحة عن تواريخ وثقافات أخرى. ورغم أن وضع أضرحة داخل كاتدرائية أمر ملائم، فقد بدا الجمع بينهما تضاديًّا؛ نظرًا لأن الأنماط الطقسية للذكرى عند سالسيدو تعارضت مع شبح المذهب الإنجيلي، داخل مبنى شُيِّد وكأن شيئًا لم يتغير.
يعد العنوان «اقتفاء الأثر» موضوعًا نمطيًّا لبينالي؛ نظرًا لأنه يمكن أن يتسع ليشمل كل شيء تقريبًا، ومن ثم لا يعني شيئًا تقريبًا. إن بينالي ليفربول هو فعالية شاملة تستوعب المعارض السنوية الأقدم، منها معرض نيو كونتمبراريز ومسابقة جون موريس للرسم. إن مدينة ليفربول ملائمة للغاية لمثل هذه الفعالية؛ مدينة تمتلئ بأحواض السفن، اعتمدت ثروتها العظيمة في السابق على التجارة، بما في ذلك تجارة الرق، مثَّلت موقعًا ملائمًا لفن يتدبر في أمر العولمة ووقائعها التاريخية. ونسيجها الحضاري المهترئ الآن به الكثير من المساحات الشاسعة الخالية لعرض الأعمال الفنية، ومناطقها المتهالكة، وجذول الأشجار العائمة التي تناسب التصورات الرومانسية، جاهزة للتحسين والتطوير. كل هذا يهيئ لبعض الفرص المثمرة والاستفزازية لعرض الأعمال الفنية، لا سيما أكياس البهارات المنتفخة لإرنستو نيتو المعلقة في معرض تيت، والتي تملأ فضاء المكان الذي كان في السابق مخزنًا لتلك السلع بالفعل بالروائح. على نحو مماثل، قدم فيك مونيز في سلسلة «الأثر» أعمالًا عاطفية ومعقدة حول أطفال الشوارع في مسقط رأسه ساو باولو، فقدَّم للأطفال نسخًا من لوحات لفان دايك وإل جريكو وفيلاسكويز، وأقنعهم بتمثيل الأوضاع، ثم التقط لهم الصور الفوتوغرافية، ثم استخدم هذه الصور بعد ذلك كأساس لصور مفصلة مكونة من النفايات والقصاصات الملونة من النوع الذي يُترك في الشوارع بعد مرور كرنفال، ومنها تظهر صور تخطيطية للأطفال محاطة بالسكر على نحو طيفي، ثم التقط صورًا فوتوغرافية لها وعرض الصور الضخمة في المعرض. اكتسبت الصور التي عُرضت في متحف تيت، الذي يحمل اسم أحد أقطاب تجارة السكر، بُعدًا آخر.
زعمت المقدمة في الكتالوج الخاص بمعرض «اقتفاء الأثر» أن هذا البينالي يعكس «النهضة المدنية الحالية» للمدينة، رغم أنه في عام ١٩٩٩ كان ذلك مطمحًا أكثر منه بيانًا للواقع. كتب بوند أن توزيع معارض الفنون حول المدينة «يضمن أن الزوار سيكتشفون الطابع الثري لمدينة ليفربول فيما يشاهدون الأعمال الفنية.» من ثم صُرِّح علانية بارتباط المناسبة بالسياحة، وبالطبع إن مشاهدة زوار المدينة للحدث الفني تتضمن الانتقال من مكان لآخر بوصفهم سياحًا، والاستعانة باستمرار بالخرائط. كانت هناك سلسلة محيرة من الأعمال والأماكن، ونقص في المادة السياقية لكلتيهما، وفي ضوء أن مبادئ الحدث كانت مبهمة على أفضل تقدير، أصبحت التجربة بصورة أساسية ممارسة جمالية في رؤية العمل داخل سياق معماري، فيما عدا للأشخاص المطلعين للغاية على بواطن العالم الفني (الذي ربما أقيم لهم الحدث بصورة أساسية).
أدرج الكتالوج رعاة البينالي والمنظمات المساهمة، والتي اشتملت على شركات تجارية ومؤسسات أكاديمية محلية، وهيئات فنية، ومجالس الفنون القومية، والأجهزة الحكومية التي تدعم الثقافة في الخارج، مثل معهد جوته. كشف هذا المزيج عن نوع التحالفات الذي يولِّده أي بينالي: مؤسسات تجارية، كبيرة وصغيرة، ترغب في تعزيز شهرة علاماتها التجارية، وشعوب تدفع بمنتجاتها الثقافية، وكيانات إقليمية تأمل في تجديد نشاطها، وجامعات ترغب في رفع تقييماتها البحثية.
إن بينالي ليفربول لا يعدو كونه نموذجًا واحدًا لظاهرة آخذة في الانتشار أكثر فأكثر. وفي حين أن العالم الفني طالما كان أمميًّا؛ إلا أن نهاية الحرب الباردة — كما شاهدنا — قد تسببت في إعادة تنظيم ممارساته وعاداته. مثلما طاف المسئولون التنفيذيون بالشركات الكرة الأرضية بحثًا عن أسواق جديدة، شرعت مجموعة من مشرفي المعارض الفنية الرحالة الدوليين في فعل الأمر نفسه، فيتنقلون من بينالي إلى آخر متعدد الجنسيات، من ساو باولو إلى فينيسيا إلى كوانج جو إلى سيدني وكاسل وهافانا. من بين تلك الأحداث الفنية في الدول النامية والشيوعية، كان بعضها يقام منذ مدة طويلة (على غرار بينالي ساو باولو الذي انطلق عام ١٩٥١، رغم أنه جرى تجديده وتمويله مؤخرًا على نطاق أوسع) فيما كانت أحداث أخرى حديثة تمامًا. إليك بعضًا من الأحداث الفنية الجديدة إلى جانب تواريخ انطلاقها: بينالي هافانا (١٩٨٤)، بينالي الشارقة، الإمارات العربية المتحدة (١٩٩٣)، معرض كوانج جو، كوريا الجنوبية (١٩٩٥)، بينالي جوهانسبرج (١٩٩٥)، بينالي شنغهاي (انطلق عام ١٩٩٦، وفتح أبوابه أمام الفنانين الدوليين عام ٢٠٠٠)، وبينالي ميركوسور الذي يقام في بورتو أليجري بالبرازيل (١٩٩٧)، معرض داكار، السنغال (١٩٩٨)، بينالي بوسان، كوريا (١٩٩٨)، بينالي برلين (١٩٩٨)، وترينالي يوكوهاما (٢٠٠١)، ومعرض براغ (٢٠٠٣).
إن البينالي المثالي هو حدث سياسي وروحاني في الأساس؛ فهو يتأمل الحاضر برغبة في تغييره، كما يقول آرثر دانتو في تعريف أحبه للبينالي: «هو لمحة ليوتوبيا متعددة الجنسيات.»
إن الهدف من كل حدث، بصورة مثالية، إحداث تبادل لمعايير الفن المعولم الثمينة — عند فحص قوائم البيناليات نلاحظ تكرر نفس الأسماء باستمرار — نحو اتصال مثمر مع الفنانين المحليين والظروف المحلية. على نحو مثالي أيضًا، ينبغي أن يفرز هذا مع الوقت مزيجًا هجينًا من الأنماط الفنية يأتي به أشخاص من خلفيات وارتباطات مختلفة على نطاق واسع، يعبر على المستوى الدولي والمحلي على حد سواء، ويملأ المساحات البينية وينتجها، والتي تقوض التكتلات المتماثلة — لا سيما الدولة القومية — التي تعتمد عليها السلطة.
وهذا مبدأ مثالي له دعم نظري قوي — لا سيما من كتابات هومي بهابها وستيوارت هول — عادة ما يُذكر صراحة في المناسبات الفنية وفي المطبوعات المصاحبة، وقد ساهم في زيادة شهرة فنانين من شعوب لم تحقق في السابق هذا النجاح إلا في حالات استثنائية. يجلب هؤلاء الفنانون — من الصين أو كوبا أو روسيا أو جنوب أفريقيا أو كوريا، على سبيل المثال — إلى الساحة الفنية العالمية أصواتًا ورؤى وأفكارًا وأنماطًا جديدة. إن حدة أعمال سالسيدو، والتي تأتي من تعاونها مع الأقارب الحزان للمختفين، بعيدة كل البعد عن القصص الخيالية للعنف غير الأصلية والمستوحاة من الإعلام كما في أعمال داميان هيرست، على سبيل المثال، أو الأخوين تشابمان، والمقارنة تجعلها تبدو مثيرة للسخرية قطعًا. غيَّرت مثل هذه الأعمال المشهد الفني وتصدَّرت سلاسل المعارض الفنية. اضطرت «ثيرد تكست» — مجلة متخصصة تهدف إلى تعزيز وجهات نظر العالم الثالث حول الفن والثقافة وتحليلها — إلى تبديل غاياتها الأساسية من إظهار مثل هذا الفن والرأي إلى استكشاف ظروف نجاحه الكبير. على حد تعبير جين فيشر، فإن المشكلة الرئيسية لم تعد في التواري عن الأنظار، بل في تركيز الأنظار المفرط الذي حدث؛ لأن الاختلاف الثقافي أضحى سلعة يسهل ترويجها الآن.
يمكننا أخذ فكرة حول الشروط التي حدث هذا النجاح بناءً عليها من خلال النظر تباعًا إلى البيناليات، وبعض حالات الفن المتناقضة في مناطق مختلفة، ثم إلى وظيفة وأثر هذه الهوجة الجديدة من إنتاج الفن المعولم واستهلاكه.
إن العدد الهائل للبيناليات مدفوع بالقوى نفسها التي أدت إلى إنشاء هذا الكم الكبير من المتاحف الجديدة، وتوسعة القديمة وترميمها. تدرك الحكومات جيدًا أن المدن تتنافس على المستوى العالمي مع بعضها بصفة متزايدة من أجل الحصول على الاستثمارات وإقامة المقرات الرئيسية للشركات بها وجذب السياحة. لا بد أن توفر المدن الأكثر نجاحًا مجموعة واسعة من الفعاليات الثقافية والرياضية. والبينالي لا يعدو كونه سهمًا واحدًا في جعبة سهام أية مدينة ترغب في أن تكون عالمية — أو مدينة تتطلع إلى تلك المكانة، كما في أغلب الأحوال — لاجتذاب فئة بعينها من السائحين (بعضهم فاحش الثراء) على أمل إمتاع هؤلاء المقيمين الذين لديهم حرية المغادرة.
إن هذه المدن العالمية الجديدة تمثل قيام قوى اقتصادية وثقافية بل وسياسية جديدة تخلق نظامًا عالميًّا جديدًا ورؤى جديدة لكوكب الأرض. إن الشيء الأهم هو أنه مع تراث تلك المدن الخاص بها، أصبحت تلك المدن مساحات جديدة وأصلية يتسنى فيها التعمق في الرؤى والتفاهمات الجديدة للحداثة، واحتمالات جديدة لخيال «اليوتوبيا/الديستوبيا» وإعادة ابتكارها.
من ثم فإن تلك المعارض هي تأكيد ثقافي لقوى اقتصادية وسياسية جديدة، من بين الأمثلة على ذلك بينالي إسطنبول الذي يعد جزءًا من جهود الحكومة التركية للتأكيد للاتحاد الأوروبي أن الشعب يمتثل بدرجة كافية للمعايير العلمانية والنيوليبرالية كي تضمن العضوية بالاتحاد. مثال آخر هو بينالي هافانا الذي يهدف إلى تقديم صورة أكثر لينًا ومنفتحة ثقافيًّا للحكومة الكوبية بالتصديق على المعارضة في هذا الإطار الضيق.
للبينالي فائدتان أخريان تميزانه عن معرض لتكنولوجيا جديدة أو مباراة كرة قدم هامة. أولًا: رغم كل الرفض الأكاديمي من جانب النقاد وواضعي النظريات، فإن الفن يحتفظ بمجد يسمو فوق الثقافة والترفيه المألوفَيْن، وإشارات نحو العالمية من وجهات النظر العامة والمدنية، وهو في حد ذاته يؤدي الوظيفة نفسها لمدينة — في ظل التزاحم الفج لنيل مكانة في السوق العالمية — كما تفعل لوحة لبيكاسو معلقة فوق المدفأة لدى تنفيذي بشركة تبغ. ثانيًا: إنه لا يجسد فضائل العولمة فحسب، بل يروِّج لها بفاعلية أيضًا.
ثمة أحوال تتعارض فيها فوائد البينالي مع المبادئ المثالية التي من المفترض بها أن تجسدها. تأسس بينالي جوهانسبرج عام ١٩٩٥، بعد فترة وجيزة من إجراء أول انتخابات حرة في جنوب أفريقيا عام ١٩٩٤، كان الهدف إعادة ربط جنوب أفريقيا بالعالم الثقافي بعد سنوات من المقاطعة. في البينالي الأول نُظمت سلسلة غاية في التنوع من المعارض في محاولة تصوير مدينة جوهانسبرج على أنها مدينة عالمية مكتملة الجوانب. تعرَّض الفنانون المحليون الذين سيعرضون نظرة مشكَّلة عن الأمة للإقصاء بصورة عامة، ورأى الكثيرون أن البينالي قدَّم صورة إيجابية مريبة عن المجتمع الجنوب أفريقي. وفي حين أن البينالي ضم مشرفين جنوب أفريقيين، إلا أنه تعرض لنقد كبير من جانب السكان المحليين لاعتباره غزوة أجنبية داخل مناطق معدمة ومقسمة لم تكن مستعدة على الإطلاق لذلك الحدث. تملكت توماس مكافيلي، من بين آخرين، الدهشة لإدراكه أن الحدث قاطعه كما يبدو جزء كبير من السود الذين نفروا من المغازلة الخانعة لساحة الفن العالمية.
في عام ١٩٩٨، سعى البينالي الثاني — الذي أشرف عليه أكوي إنويزر وفريق دولي، وكان موضوعه «مسارات تجارية: التاريخ والجغرافيا» — إلى الاستجابة للانتقادات التي وُجهت للبينالي الأول، فكان معرضًا سياسيًّا تناول قضايا العرق والاستعمار والهجرة. مجددًا، كان البينالي تجربة عولمية ضمت معارض تحت إشراف هوه هانرو وخيراردو موسكيرا، رغم أنه في هذه المرة أكد على الروابط بين بلدان الجنوب. ورغم التغيير في موضوع المعرض، والإشراف صارم التنظير، بدا في مثل هذا الإطار أن الصورة الفعلية للبينالي تعمل ضد نجاحه. هددت الأزمة المالية لمجلس مدينة جوهانسبرج الحدثَ وتسببت في إرجائه، ومجددًا، تبرَّم الفنانون والنقاد المحليون من أن الإنتاج الأفريقي حل ثانيًا لصالح شأن أممي يحمل هجينًا عالميًّا، وأنه لحقه الضرر على وجه الخصوص نتيجة للاهتمام المنصب نحو فنون الميديا التي لا يملك خبرة بها — أو حتى الفرصة لاكتسابها — سوى عدد محدود من الفنانين المحليين. علاوة على ذلك، رُؤي أن الأنماط القياسية للفن ما بعد المفاهيمي والفنون القائمة على التصوير الفوتوغرافي فُرضت عنوة على الثقافة المحلية المتلاشية بأسلوب استعماري، فجاءت النتيجة متمثلة في تعذُّر وصول الجماهير المحلية له وابتعاده عن القضايا التي تشغلهم. عزَّز هذا التصور نقص أموال الدعاية والإعلان، نتيجة للأزمة المالية للمدينة مرة أخرى. شعر الزوار الأجانب للبينالي بالعزلة، وذلك في ظل مخاطر المدينة بالخارج؛ لذا لم يتدفق التبادل الثقافي في أيٍّ من الاتجاهين كما كان مخططًا. جذب البينالي عددًا أقل من المتوقع بكثير، وأنهى مجلس المدينة فعالياته قبل شهر من موعد انتهائه، وأعلنت المدينة بعد ذلك أنها لم يعد لديها أموال لإقامة بينالي آخر.
ما سبب هذا الإخفاق؟ تؤكد جين بودني أن البينالي كان يسعى إلى اجتذاب جمهور الطبقة المتوسطة (إما من البيض أو القطاع الأسود الصغير حينئذٍ) ممن لديهم اهتمام ضئيل بالمبادئ الثقافية المثالية للمعرض. إن مواجهة البينالي صعوبةً في جذب جمهور محلي أمرٌ لا يدعو إلى الدهشة؛ لأن الكثير من بيض جنوب أفريقيا حافظوا على الفصل العنصري على أرض الواقع ولم يتقبلوا معرضًا عن العولمة متعددة الثقافات، في حين أن النخبة السوداء كانت لديها شواغل آنيَّة أكثر، أما باقي أهل البلاد، فإن المعاهدة مع الغرب التي أسفرت عن نهاية سياسة الفصل العنصري، والتي تم الوصول إليها بتعهد بإدارة الاقتصاد تمشيًا مع القيود العالمية المعهودة ومن ثمَّ الحكم على أهل البلاد باستمرار الفقر؛ لم يكن في إمكانها الاحتفاء به دون مشاعر متناقضة.
وصلت طائرات ممتلئة على آخرها بمشرفي معارض من أمريكا وأوروبا … تم توجيههم إلى الاستديوهات المنتقاة وحفلات المشروبات الخاصة بهم دون غيرهم، وكذلك مرافقتهم إلى المعرض الرئيسي، وكان حدثًا باهظ الكلفة للغاية بدرجة حالت دون حضور أغلب الكوبيين. وهناك، وعلى مدى بضع ساعات، شُغِّل العديد من عروض الفيديو وأقيمت بعض الأحداث المباشرة للمتفرجين الأجانب فقط. لما وصل زوار آخرون في الأيام التالية كانت أجهزة عرض قليلة للغاية هي التي تعمل، هذا إن وُجد أيٌّ منها من الأساس.
في عمل الفنان سانتياجو سييرا الذي عُرض في بينالي هافانا لعام ٢٠٠٠ بعنوان «سانتياجو سييرا يدعوك لمشروب»، يوجه الفنان نقدًا لاذعًا للعلاقات المحتملة للسلطة والاستغلال بين سياح الفنون وأهل البلاد عن طريق تقديم المال للعاهرات وتخبئتهن في الصناديق التي وُضعت كمقاعد لرواد الحفل.
البعض ممن يجوب مثل هذا العالم الراقي للفن والثقافة والكتابة والإنتاج والمعارض يبدون الآن أنهم يستجيبون للساحة الفنية فحسب، ورغم أن العمل يبدو أنه مدفوع اجتماعيًّا، فإن النتيجة الحقيقية الوحيدة لهذا الجهد النقدي تتمثل في درجة إيجاد عالم الفن للعمل مقبولًا أم غير مقبول أم استثنائيًّا، وهو الأمر الذي يُقاس بقدر التقييمات التي يحظى بها العمل، من حيث جودة الوثائق والسجلات التي يولِّدها، والمبيعات التي يحقِّقها في نهاية المطاف.
إن انتقاء المادة المحلية عبر النظام الفني يفرز في النهاية التماثل. هذا النظام — ليس فقط الإشراف، بل مصالح كافة الهيئات، الخاصة والعامة أيضًا، التي تشكِّل التحالفات التي تتمحور حولها البيناليات — ينزع إلى إنتاج فن يخاطب الاهتمامات الدولية. بصورة أدق، هو يعزِّز القيم النيوليبرالية، لا سيما تلك الخاصة بحركة القوى العاملة والفضائل ذات الصلة بالتعددية الثقافية.
من بين الأمثلة البارزة عمل ألفريدو جار، «مليون جواز سفر فنلندي»، الذي عرضه في مهرجان الفنون الدولي إيه آر إس ٩٥ بمتحف الفن المعاصر في هلسنكي. صنع جار نسخًا معدلة على نحو طفيف لمليون جواز سفر فنلندي ونظمها في كتلة هائلة تذكرنا بالبِنى التبسيطية، ووضعها خلف لوح زجاجي. كانت جوازات السفر ترمز إلى تلك الجوازات التي كان من الممكن أن تُمنح إلى المهاجرين في حال سمحت الحكومة الفنلندية بالهجرة بنفس المعدل الموجود في باقي القارة الأوروبية، وبسبب إصرار سلطات الهجرة الفنلندية، دُمِّر عمل جار في وقت لاحق.
كان هذا العمل مثالًا نموذجيًّا للإنتاج الفني المعولم بطرق عديدة، فقد استخدم حرفيًّا كلًّا من المادة المحلية واللغة العالمية للفن المعاصر، كما استجاب للقضايا السياسية المحلية وعلَّق عليها. وهو في فعله ذلك انحاز لمصالح رأس المال العالمي على حساب الاهتمامات المحلية؛ إذ تمثَّلت رسالة العمل في أن حق الأشخاص في التوطين لا بد وأن يتجاوز أية قرارات قومية، حتى تلك التي تم التوصل إليها بطريقة ديمقراطية، وذلك لحماية التجانس والترابط الاجتماعي.
سنعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى، وكذلك إلى التأثير المجانس للنظام الفني العالمي، لكن كي نؤكد أولًا على تنوعه، نود مناقشة زوجين من الحالات المتناقضة: الأنماط المختلفة للأعمال الفنية التي خرجت نتيجة لصدمة الاحتكاك بالقوى الاقتصادية النيوليبرالية، في روسيا والدول الإسكندنافية؛ ثم الأعمال الفنية من دولتين أبقتا على الحكومات الشيوعية؛ الصين وكوبا.
روسيا والدول الإسكندنافية
إبان تسعينيات القرن العشرين، كانت روسيا والدول الإسكندنافية دولًا حديثة التعرض للضغوط السوقية القصوى. في روسيا، أوعز خبراء الاقتصاد النيوليبراليون من الغرب للحكومة بأن التعرض السريع والحاد للسوق — «العلاج بالصدمة» — سيثبت أنه قاسٍ على المدى القصير، إلا أنه سيسفر عن ثراء سريع. أضحى عدد ضئيل من الروس فاحش الثراء، لكن النتائج على الشعب ككل كانت كارثية، مع انهيار أكثر الخدمات الأساسية، وتفشي الجريمة، وانخفاض متوسط العمر المتوقع، وانتشار الفقر المدقع على نطاق واسع.
وبدافع من هذه الكارثة، حازت الأعمال الفنية القادمة من روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة اهتمامًا واسعًا؛ إذ قُدمت شظايا الانحطاط الاجتماعي لإدخال السرور إلى قلوب الجماهير في الغرب. وأضحى «فن الواقع» فنًّا مطلوبًا، من خلال الأفلام الوثائقية والتصوير الفوتوغرافي والفن الأدائي وفن التجهيز في الفراغ. كان تقديم مثل تلك العناصر الأولية للفن الواقعي مرتبطًا بالصدمة (كما يمكن أن يتوقع المرء من وصف هال فوستر بالغ الأثر عن فن حقبة التسعينيات: «عودة الفن الواقعي»)، وعلى وجه التحديد بالأثر المسجَّل جماعيًّا للعلاج بالصدمة الاقتصادية.
صنع بوريس ميخايلوف سلسلة من الصور الفوتوغرافية التي يُقدَّم فيها المال لأشخاص مشردين لاتخاذ وضعيات معينة وتعرية أنفسهم أمام الكاميرا، مسلطًا الضوء على الاضطهاد المضمن في تقديم الجسد مقابل المال (وهو يقترب في هذه النقطة من سانتياجو سييرا الذي دفع المال أيضًا لأشخاص ليفعلوا أشياء مذلة مختلفة ولتعرية أجسادهم). يحاكي بوريس ميخايلوف في صور «قريبًا من الأرض» (١٩٩١) و«عند الغسق» (١٩٩٣) مظهر صور أوائل القرن العشرين مصوِّرًا الحياة في شوارع أوكرانيا، ويركز مرة أخرى على العديد من قاطني الشوارع، لكنه أيضًا يركز على أولئك الذين لديهم منازل لكن بالكاد يستطيعون البقاء على قيد الحياة.
إن الموضوع إلى جانب الأسلوب استحضرا عصر ما قبل الثورة، وهنا يكمن تماثل مرئي فعَّال مع الشعور الذي تملَّك العديد من أفراد مجتمع ما بعد الاتحاد السوفييتي عن التاريخ والتقدم بعد انتكاسهما، وذلك بعد أن تمخضت الرأسمالية التي كان من المفترض أن تنقلهم إلى حاضر استهلاكي ثري عن تراكم لأطر زمنية، دافعة بذلك أغلبية الشعب نحو الفقر المدقع الذي ساد عصور القياصرة في روسيا.
مثَّل سيرجي بوجايف أفريكا روسيا في بينالي فينيسيا عام ١٩٩٩ بتجهيز أطلق عليه «إم آي آر: صنع في القرن العشرين». رأيت ذلك العمل الواعد متعدد الوسائط في نيويورك، حيث كانت أرضية المعرض وجدرانه مغطاة ببلاط قصديري يحمل صورًا دعائية للحياة أيام الاتحاد السوفييتي، وقد طُبعت أيضًا لتبدو وكأنها قديمة من عشرات السنين. كانت الأرضية المعدنية تنبعج عند السير فوقها، وكانت الصور الفوتوغرافية تحمل سمة الرسومات الطفولية الموجودة فوق علب البسكويت، وفي منتصف الغرفة توجد كرة معدنية ضخمة تحوي داخلها مقطع فيديو لرجل مقيد بجهاز كهربائي يصرخ ويعض على رباط في ألم. بدا الفيلم أنه مقطع فيديو مكتشف، لكن يمكن تزييفه. كانت ردة فعلي المباشرة على العمل الفني — لأنه في معرض تجاري — أن ظننتُ أن مقطع الفيديو هو مقطع أدائي، إلا أن الفيديو في حقيقة الأمر نُسخ من فيلم وثائقي عن شخص أُجبر على خوض علاج بالصدمة الكهربائية، وما كنا نشاهده — نحن جمهورًا كيِّسًا نحمل كئُوس الخمر بين أيدينا — كان مشهدًا حقيقيًّا لتدمير العقل. سعت قطعة أفريكا الفنية إلى الجمع بين الصدمة النفسية والاجتماعية، في سبيل إماطة اللثام عن القمع المؤلم والوحشي الذي ينطوي عليه النظام الذي صوَّر نفسه بالسماح والبطولة في صوره الفوتوغرافية، وطرح تلك الأوصاف القديمة والحنينية ربما أمام تدمير الذاكرة.
صنع أفريكا بعد ذلك عملًا، كان مثارًا لجدل أوسع، مستوحى من فيلم وثائقي عن ذبح دورية روسية على يد متمردين شيشان. إن المثالين السابقين يدلان على أهمية فن ما بعد الاتحاد السوفييتي الواقعي في الساحة الفنية الغربية، ربما تجلى في الصور الفوتوغرافية والأفلام، مع تلاشي كافة دروس ما بعد الحداثة القديمة عن التمثيل من الذاكرة، لكن مع ذلك اعتبرت أنها واقعية. وربما نراه في أداء معبر، كما في المشهد الأدائي «الكلب» لأوليغ كوليك، والذي ينقضُّ فيه الفنان العاري على الجمهور محاولًا عضهم، وكأنه إنسان تحوَّل إلى كلب، في تمثيل واقعي على ما يبدو لخسة الروس وانحطاطهم.
إن انجذاب الجمهور الغربي لمثل هذه الأعمال الفنية واضح وضوح الشمس؛ فهي مزيج مدهش من الرأسمالية المزدهرة (بارونات لصوص ومدعين، أو — بعبارة أخرى — محتالين وقتلة على نطاق واسع)، ومن المولد المفاجئ لعالم ثالث أوروبي أبيض، ومن قصة انهيار إمبراطورية «فاسدة» وعدو منهزم (قصة ممتعة لليبراليين والمحافظين على حد سواء)، ومن أيديولوجية أضحت جزءًا من الماضي. إن الروسنة التي تنطوي الآن على كل هذا، تظهر على أفضل نحو عندما تُعرض على الملأ.
لكن ما قد يصعب على الجمهور الغربي استيعابه هو كيف أن تلك الأعمال الفنية لا تصور بالضرورة الاختلاف الغريب للروح السلافية، أو حتى التاريخ السوفييتي، لكنها تشير بالأحرى إلى الحاضر الرأسمالي. إن عمل ميخايلوف الفني هو عن نتائج الرأسمالية الجامحة التي أضحى فيها كل شيء للبيع ليس إلا، وعمل كوليك «الكلب» هو بالتأكيد نسخة محدثة لقصة بولجاكوف «قلب كلب»، والتي يخضع فيها كلب لعملية جراحية بحيث يأخذ هيئة بشرية، وينجح في العيش بفضل غرائزه الأساسية في المجتمع السوفييتي في عشرينيات القرن العشرين. إلا أن المجتمع الذي تفحَّصه بولجاكوف تفحصًا دقيقًا كان يمر بتراجع منهجي من محاولة لإثارة شيوعية ثورية كلية، وكان يستخدم معايير السوق الحرة لتحفيز الاقتصاد مؤقتًا؛ إذ ظهرت في فترة «السياسة الاقتصادية الجديدة» طبقة من الأثرياء الجدد ممن يتباهون بثرواتهم التي اكتسبوها بطرق مشبوهة في الغالب. بعبارة أخرى، كان صورة أكثر اعتدالًا لروسيا اليوم.
على النقيض من ذلك اضطرت الاقتصاديات الديمقراطية الاشتراكية الفاعلة للدول الإسكندنافية فجأة إلى أن تسلك اتجاهًا نيوليبراليًّا خلال التسعينيات عن طريق إلغاء تنظيم الأسواق المالية والتخلي عن ضوابط سوق صرف العملات. ساءت الأوضاع أكثر مع ركود أوائل التسعينيات، وهو الأمر الذي أجبر الحكومات الإسكندنافية جزئيًّا على تفكيك البرامج الاجتماعية الخاصة بالصحة والرعاية الاجتماعية، والتي طالما اعتبرها المواطنون أمرًا مسلمًا به. ارتفعت البطالة — التي كانت شيئًا مستجدًّا غير مرحب به — مع انهيار النشاط التصنيعي. بدأت الهجرة الجماعية في تغيير ما كان في السابق مجتمعات منغلقة ومتجانسة تمامًا.
كانت الحداثة والديمقراطية الاشتراكية في الدول الإسكندنافية، كما في غيرها، مرتبطتين بقوة. ومثلما تخطت الديمقراطية الاشتراكية على مدى طويل القوى النيوليبرالية واليمينية والتي ألقت بظلالها على كثير من باقي دول العالم منذ أواخر السبعينيات فصاعدًا، نجحت حداثة بنيوية ونقية في البقاء على الساحة الفنية الإسكندنافية. أدى الركود وتبعاته إلى تحول في دور الفن من التصميم المنفعي وتأسيس مشروعات بنيوية مثالية إلى النقد الصريح. قدمت الحكومات الديمقراطية الاشتراكية الدعم المالي للفنون، وجعلت الفنانين أشخاصًا مطَّلعين ذوي نفوذ، بطريقة من الصعب إنكارها، مثلما فعل الكثير في بلدان أخرى. استمر هذا التوجه حتى في الفترات النيوليبرالية، حتى مع شروع الفنانين في أعمال معادية للمجتمع. ضمت مجموعة من كتابات الفنانين الإسكندنافيين — حملت العنوان اللاذع «كلنا عاديون (ونريد حريتنا)» — فقرة عبَّرت عن الأمر جيدًا: «يبدو أن الفنان يؤدي دور المؤشر على قدر الحرية في المجتمع الإسكندنافي، وبقدر رفض الفنان للمجتمع — كما هو الدور التقليدي للفنان — يتأكد هذا الدور.»
إن ذلك النقد، الذي تطلَّبه النظام الجديد، يتوافق عن كثب مع الخطاب الليبرالي الذي صاحب النيوليبرالية. لا تحقِّق المقاومة المحلية أو القومية للاقتصاد والمجتمع النيوليبرالي سوى القليل من التعبير الثقافي في المجال الفني العالمي، وهذا من شأنه زيادة الشكوك حول احتمال أن الفن قد لعب دورًا (ثانويًّا على نحو لا يمكن إنكاره) في الدعاية، ليس لسياسات الهوية فحسب، بل أيضًا للنيوليبرالية نفسها.
إن تصادم تلك المجتمعات التي تتمتع بقدر وافر من الحماية مع القوى الاقتصادية القاسية أثمر عن فيض لامع ومتنوع من الجزيئات الثقافية التي لم تُرَ من قبل، ونتيجة لذلك، وصل الفن الإسكندنافي المعاصر إلى محور الاهتمام العالمي، جنبًا إلى جنب مع الموسيقى والسينما الإسكندنافية. انعكست تبعات الوضع الجديد بوضوح في معرض «حرية التنظيم: الفن الإسكندنافي في التسعينيات» عام ٢٠٠٠، كما ذكر ديفيد إليوت — مشرف المعرض — في الدليل الخاص بالمعرض، أن هؤلاء الفنانين «يبدو أنهم غاضبون للغاية» حيال شيء ما، ولديهم مشكلات مع المعمار العقلاني، والأحلام اليوتوبية، والمثالية، والهندسة الاجتماعية (من بين أشياء أخرى). استخدم جاكوب كولدينج الأشكال النيوية في تجميعات الصور الخاصة به، واضعًا رؤى قديمة وراديكالية عن فقدان الاتجاه الشديد (كما يمكن أن نراها في أعمال الطليعيين الثوريين الروس) أمام التخطيط المجتمعي والمعمار المنظم على نحو رفيع اللذين كانا نتاجها الإسكندنافي. ترعرع كولدينج في أحد أحياء كوبنهاجن النموذجية والذي كانت الشوارع فيه آمنة للمشاة، والمحال التجارية والمدارس ورياض الأطفال والعيادات الطبية في المتناول. وهذا، كما لنا أن نفترض، هو مصير مروع، ومما لا شك فيه أنه كان كذلك حتى أُغلقت تلك المرافق.
إن «الإنسان» الحداثي العالمي صاحب الاحتياجات الأساسية تمزَّق إلى شظايا من المصالح المتنافسة والهويات العدوانية. صورت ميريام باكستروم التصميمات الداخلية للمعرض بمتحف شركة إيكيا: سلسلة من المساحات الضيقة والعقيمة. إن شركة إيكيا لها مهمة حداثية تنادي بالمساواة بين البشر والديمقراطية، وهي التطوير العقلاني والاقتصادي والتدريجي للمساحة الداخلية. وترى باكستروم، شأنها شأن باقي الفنانين الإسكندنافيين المعاصرين، أثر الحداثة باعتباره شيئًا يثير رهاب الاحتجاز. من السهل تخيل السكان المثاليين الغائبين لتلك المساحات الداخلية، شخصيات راضية متأنية وعقلانية تجلس في المنزل في تجانس. على النقيض من ذلك، يفضح الفنانون خبايا تلك الثقافة العقلانية باستمتاع، ويسلطون الضوء على المشكلات المحيطة بدخول المهاجرين من ثقافات أخرى، ويحتفون بمزاعم العناصر الكثيرة لسياسات الهوية. سافر بيارن ميلجارد — وهو فنان يتناول في أعماله المثلية الجنسية — في رحلة إلى تاهيتي، وما إن وصل إلى هناك حتى استمنى فوق قبر جوجان. إن شبح الحداثة يطارد الدول الإسكندنافية (لم يمر سوى وقت قليل على جنازتها) ويطلب طرد الأرواح الشريرة باستمرار، ولا يزال الكثير من الفنانين منشغلين بدق غطاء التابوت.
مع ذلك، إن الدرب الذي تسير فيه هذه الديمقراطيات الاشتراكية واضح للغاية، بالنظر إلى ظروف الحياة الديمقراطية بمناطق أخرى. يفحص مشروع مانس رانجي «المواطن العادي» الظروف الجديدة التي تحوَّلت فيها السلطة من عامة مُشكَّلة سياسيًّا إلى أولئك الأشخاص الذين يتلاعبون بالرأي العام والعملية السياسية باحتراف. يتناول المشروع مفهوم المواطن العادي كما شكَّلته حالة الرفاهية الاجتماعية بالسويد، وبعد أن عيَّن مواطنة عادية حسب الإحصائيات واستجوبها عن آرائها السياسية مستخدمًا أدوات احترافية من ضمنها أفراد جماعات الضغط السياسي لتطوير اهتماماتها، وصلت آراؤها إلى عامة الناس في الخطب السياسية ووسائل الإعلام الجماهيرية. واستُخدمت الاقتراعات لاختبار فاعلية هذه الاستراتيجيات، وقد حدثت أكثر التدخلات فاعلية عندما ذُكرت آراء المواطنة على لسان إحدى الشخصيات بمسلسل تلفزيوني شهير. إن هذا العمل الممتع على نحو لاذع يضع التغير في الحياة العامة محل دراسة، متهكمًا على كلٍّ من التشبث القديم بالوسيلة الإنسانية، وفساد النظام الجديد، هذا إضافة إلى إيحائه بأن تشظِّي الكيان الاجتماعي تحت وطأة ضغوط الركود الاقتصادي والاختلاف الثقافي لعب دورًا في فتح السياسة أمام تلاعب المجموعات المتنافسة، والتي تكون أقواها هي أثراها.
في اليوم التالي عُقد مؤتمر صحفي لُقِّبتُ فيه بالفاشي، كلا يا أعزائي، لا أوافقكم الرأي. في هذا المعرض كنت الشخص الديمقراطي الوحيد الذي أعلن صراحةً موقفه وأظهر خلافه مع المنظمين. إنها الديمقراطية الراديكالية على أرض الواقع! المحاكاة والابتذال النيوليبرالي تحديدًا!
كوبا والصين
إن الفن القادم من الأمم الشيوعية في عصر النظام العالمي الجديد له جاذبية مختلفة عن ذلك الخاص بالدول التي مرت بالتحول من الشيوعية مثل روسيا. نجحت كلٌّ من كوبا والصين حتى الآن في البقاء في ظل النظام العالمي الجديد بطرق مختلفة للغاية دائمًا. خرج من كلا البلدين أنماط معقدة ومختلفة من الفن، ولا يسعني هنا سوى التحدث بإيجاز عن بعض الأمثلة القليلة التي حققت نجاحًا على المستوى العالمي.
بدأت أعمال متنوعة ابتعدت عن مبادئ الواقعية الاشتراكية في الظهور في الصين في أعقاب نهاية الثورة الثقافية؛ ارتبط بعضها بالموضوعات الدينية، فيما أثارت أخرى النزعة الإنسانية الماركسية، والبعض الآخر (منذ أواخر الثمانينيات فصاعدًا) تناول الثقافة الاستهلاكية الجديدة سريعة النمو. تحول الاهتمام العالمي نحو الفن الصيني على المدى القصير نتيجة لمذبحة المنشقين عن النظام في ميدان السلام السماوي في يونيو عام ١٩٨٩، والتي أدت إلى التركيز على الفنانين الذين يمكن فهم أعمالهم على أنها معارضة. عزز الاهتمام العالمي طويل الأمد الظهورَ الفائقَ للأسواق المنظمة في الصين والتوليدَ السريعَ للثروات الهائلة وانعدام المساواة، هذا إلى جانب وجود تحسن متوسط ملحوظ في مستويات المعيشة لمعظم أفراد الشعب، ونشأة مجموعة واسعة من المستهلكين (على النقيض من روسيا).
حدد جاو مينجلو النزعات الفنية التي أعقبت هذه التغيرات المثيرة، وأشار إلى أنه بحلول عام ١٩٨٨، مع تسارع وتيرة التطور الرأسمالي في الصين، اتجه الفنانون (من ضمنهم وانج جوانجي) ممن أبدوا اهتمامًا بالموضوعات الإنسانية والروحانية الجليلة إلى نسيانها لصالح نقد اجتماعي أكثر صراحة. دعا وانج إلى وضع حد للحماسة للحركة الإنسانية، موضحًا أن الفن ما وُجِد إلا ليحقق النجاح في عالم الإعلام وفي السوق فقط. تجلى أحد العناصر المهمة في هذا التوجه الجديد في العودة إلى تمثيل ماو، لكن على نحو معدل ليتناسب والمناخ الثقافي والسياسي الجديد جيدًا؛ فظهر تمثيل لماو من عدسة الفن الشعبي، في صورة رديئة ومزعجة في الوقت نفسه.
مما لا شك فيه أن وضع كوبا مختلف للغاية، بحكم أنها جزيرة صغيرة تقع بالقرب من الولايات المتحدة المعادية التي تستمر في فرض الحظر التجاري عليها، بل وتزيد من وطأته، وتهدد بما هو أسوأ. إن العلاقات مع أفراد الشعب الكوبي المنفي مضطربة وخطيرة أيضًا؛ فقد تلقَّى خيراردو موسكيرا — وهو مشرف معارض ومؤرخ وناقد مشهور لفن أمريكا اللاتينية — دعوة للتحدث في مركز ميامي للفنون الجميلة عام ١٩٩٦ لكن سُحبت الدعوة؛ وذلك نظرًا لحقيقة أنه يقيم في كوبا، وهذا يجعله غير مرغوب فيه لدى الجمهور المحتمل، كذلك تعرَّض المتحف الكوبي للفن والثقافة في ميامي للتفجير مرتين لعرضه لفنانين كوبيين مقيمين فيها. لكن من ناحية أخرى، تتوافق كوبا توافقًا جيدًا مع الوضع المعولم الجديد نتيجة لمزيجها الثقافي والعرقي، والتكوين المتناغم نسبيًّا من العناصر الأفريقية والأوروبية والأمريكية.
كانت ردة الفعل الأولى لنظام الحكم جراء انهيار شيوعية أوروبا الشرقية، والتوقف المفاجئ للإعانات السوفييتية، قمعَ الحرية الفنية؛ إذ أُغلقت المعارض الطليعية، وأقيل الوزير الذي أجازها، وسُجن أنجيل ديلجادو الذي تغوَّط علانية على نسخة من صحيفة الحزب الشيوعي الرسمية «جرانما». وردًّا على ذلك، هاجر في أوائل التسعينيات معظم الفنانين الطليعيين الذين ظهروا في الثمانينيات.
منذ ذلك الحين — كما يروي موسكيرا — صبَّ التركيز الدولي على حقوق الإنسان المقترن بانتعاش اقتصاد السوق والبحث عن الاستثمار الأجنبي في صالح الانفتاح الثقافي. كان جيل التسعينيات من الفنانين الكوبيين الناجحين هو الجيل الأول الذي ظل في كوبا بعد أن سُمح لهم بالسفر، والأهم من ذلك، بيع أعمالهم بالدولار؛ مما مكن العديد منهم من التمتع بحياة كريمة للغاية. كذلك أجيز النقد المخفف والمتفق عليه، وأحيانًا ما كانت الأعمال تُناقَش مع المراقبين. كتب موسكيرا: «تكمن الخطورة في أن هذا العنصر الحيوي ربما يصير نمطيًّا باعتباره ميزة جذابة للتصدير. لقد أصبح النقد السياسي ميزة بيع مغرية لهواة الجمع والمعارض الأجنبية.»
لا تزال وسائل الإعلام الجماهيرية تخضع للرقابة في كوبا، بيد أن الفنانين مباحة لهم حرية محدودة لانتقاد نظام الحكم، وهذه محاولة تشكيل قانونية للبنى الفعلية في الغرب التي تكفل تعزيز وسائل الإعلام الجماهيرية للتوجه السياسي السائد (لطالما كان ذلك موضوع تحليل لنعوم تشومسكي)، وكما في كوبا فإن الفن السياسي الراديكالي هو الأعلى احتمالًا أن يُعرَض في البيناليات.
في كلٍّ من كوبا والصين، أُنتج الفن الترويجي لمزيج الرأسمالية-الشيوعية، ويمكن للمرء مقارنة أعمال وانج جوانجي وخوسيه آنخيل تويراك اللذين صنعا صورًا لماو وكاسترو على التوالي، تتداخل فيها مواد إعلانية تجارية.
ظهرت صورة كاسترو في تمثيلات الفن الشعبي، شأنه شأن ماو في الصين، فقد أظهر خوسيه آنخيل تويراك كاسترو في إعلان عطر أوبسيشن (هاجس) من كالفن كلاين، ويقصد بالهاجس هنا إصرار الولايات المتحدة على إبعاده. كذلك عندما ظهر كاسترو وهو يدخن سيجارة ويمتطي فرسًا في إعلان مارلبورو من تصميم تويراك، أصبح من الجلي أي مغزى يرمز إليه عنوان السلسلة «أوقات جديدة». كما أعاد تقديم صور وثائقية شهيرة للثورة مستعينًا بأصدقائه، مؤكدًا على السمة البلاغية للصورة الأصلية.
إن أوجه التشابه هذه لا ينبغي أن تثير الدهشة؛ إذ إن الحكومتين الصينية والكوبية أرختا قبضتيهما على اقتصاد البلاد، وأجازتا المشروعات الخاصة المحدودة، وكان عليهما بالضرورة تغيير لغة الخطاب في غضون ذلك؛ مما سمح بتسلل نماذج متنافسة للدعاية التجارية إلى الساحة؛ لذا انهالت دعاية الحكومة ودعاية المؤسسات التجارية على كلا الشعبين، تسعى كل واحدة جاهدة لإقناع الشعب بتفرُّد منتجاتها. أما في الغرب، فتمثل هذه الأعمال على نحو جميل دور سجلات تشهد على تضاؤل عدوين بعثا في السابق على الخوف وأيديولوجيات إلى صورة فحسب، وكذا أمثلة على الاختلاط الثقافي. إن الموقف المطمئن تجاه الشيوعية الموجودة فعليًّا سمح بإدماج رموزها داخل الثقافة المعاصرة دون أدنى خوف من خطر يعدو ظهور وجه تشي جيفارا على تي شيرت.
إن أعمالًا مثل طائرات الفنان تاتلين الشراعية ولكن بجسد أنثى من تصميم تانيا بروجيرا — والتي تقدم البنيوية الروسية بمواد رقيقة وشفافة — هي نموذج على هذا النفور من الترابط؛ فهي تأتي بمجموعتين من المصطلحات المتقابلة داخل شكل نحتي واحد، مزجت فيه الذكوري مع الأنثوي، والهندسة مع الحياكة، والبناء اليوتوبي مع البناء العشوائي في مجسم صغير ينعكس على نحو بارز على كل مجموعة من المصطلحات. وكما المألوف في عالم الفن المعاصر، يخلو العمل من أي تركيب أو وضوح.
في كلا البلدين، تعبر الأعمال الفنية الأكثر نجاحًا بالمحافل العالمية صراحةً عن الطبيعة الصينية أو الكوبية أمام الجمهور الغربي، ومع الإنتاج الفني الكوبي الأكثر شهرة، على سبيل المثال في أعمال كاتشو ولوس كاربينتيروس، ثمة عنصر قوي للإنتاج منخفض التكنولوجيا، والابتكار الإبداعي بمواد مجمعة ببطء وعناية، واستخدام المهارات اليدوية القديمة، ومن المؤكد أن جزءًا من هذا الأمر من منطلق الضرورة، لكنه أيضًا تلبية لتوقعات الغرب عن كوبا. ويستخدم اثنان من بين أكثر مُصدِّري الأعمال الفنية الصينية فاعلية — جو ويندا وشو بينج (يقيم كلاهما الآن في الولايات المتحدة) — فنَّ الخط الصيني كوسيلة رئيسية للتعبير. بصورة أشمل، إن معايير الاندماج واضحة للغاية؛ إذ يجب أن يعكس العمل الفني الأحوال الصينية المعروفة جيدًا والتي تمثل محور اهتمام لدى الغرب، على غرار القمع السياسي والنمو الاقتصادي والنزعة الاستهلاكية، وإخضاع المرأة، وتحديد حجم الأسرة. إن هذه الشئون «الصينية» بشكل واضح يجب أن يجري التعبير عنها في أساليب غربية معاصرة مميزة لإنتاج عمل مهجن بوضوح.
اتضح هذا الأمر لي بجلاء حال رؤيتي مجموعة أعمال منتقاة من «المعرض القومي الصيني التاسع للفنون» في هونج كونج عام ٢٠٠٢. كان قسم اللوحات الزيتية بهذا المعرض عبارة عن عرض كبير وهائل لرسومات اشتراكية-واقعية للحياة الصينية المعاصرة، مرسومة بمجموعة واسعة من الأنماط، وغالبًا ما كانت بارعة على المستوى التقني للغاية. بعض الأعمال، مثل لوحة وانج هونججيان الحزينة عن العمال المهاجرين المنتظرين لوسيلة نقل إلى الوطن في ضوء القمر، عبَّرت مباشرة وببراعة عن تجارب الناس في مجتمع يتغير سريعًا. وأعمال أخرى، على غرار لوحة جين يي عن أناس ريفيين يبتسمون في ضوء الشمس، بدت (من وجهة نظري) رديئة بصورة يائسة؛ فالعنوان «أرواح بسيطة تبرق تحت الشمس» ليس بعنوان يستطيع المرء أن يتجنب التهكم عليه في لندن أو نيويورك. نتيجة لنقص المراجع الغربية المطلوبة (كان هناك العديد حقيقة، لكن لأنماط أقدم، من ضمنها الفن الانطباعي) وظهور انعدام الجدوى لأن جميعها له وظيفة دعائية، كانت تلك الأعمال مختلفة على نحو حقيقي عن الإنتاج الغربي، ومن ثم غير مرئية لنظام الفن العالمي.
على النقيض من ذلك، بإمكاننا فحص نموذجين ناجحين على المستوى العالمي: شو بينج من الصين، وكاتشو من كوبا، واللذين تمثل أعمالهما ما هو منشود في مثل هذا الفن. اكتسب شو بينج — وهو عنصر رئيسي في البيناليات — شهرته بعد أن قدَّم عملًا في معرض بكين عام ١٩٨٨ بعنوان «كتاب من السماء».
إن تقديم عمل المرء إلى المجتمع يشبه تمامًا توجيه حيوانات حية إلى المذبح، لم يعد العمل ينتمي إليَّ؛ فقد أصبح ملكية للناس كافة ممن مسوه، فهو الآن شيء مادي وقذر.
في مقال جدير بالذكر، خطط آبي القراءات المختلفة لعمل «كتاب من السماء»، وما إن عُرض العمل خارج الصين حتى تغير تغيرًا عميقًا، فلم يحاول أغلب الجمهور الجديد قراءة الحروف أو استشعار ألفتها الغريبة. وعندما عُرض العمل في الولايات المتحدة، لم يُشاهَد إلا من منظور مذبحة ميدان السلام السماوي، بوصفه رمزًا للخير (التعبير الفردي) مقابل الشر (الاستبداد الشرقي). لم يوافق شو بينج على هذه التفسيرات لكنه لم يرفضها أيضًا. على أية حال، لمَّا كانت التفسيرات تتسع مع الانشغال بقضية ميدان السلام السماوي، فإنه فُسر على نحو مطلق ووحيد على أنه انتقاد للتقاليد والمؤسسات والتاريخ الصيني، ولم يفسَّر أبدًا — على سبيل المثال — على أنه تعليق عام على المعنى في حد ذاته.
نشاط طليعي جديد براجماتي يسعى جاهدًا إلى تخطي المستوى المحلي لصالح القبول على الساحة الدولية. إن هذا التحول هو إلى حد بعيد ثمرة الضغوط الخارجية التي أعقبت الحرب الباردة، لكن ثمة نزعة مثابرة في الغرب لتجاهل هذا التحول وتفسير الفن الصيني المعاصر من المنظور الأيديولوجي للحرب الباردة.
يستمر مينجلو في التأكيد بالقدر نفسه بأن ما يسمى «بالفن الطليعي» متواطئ مع ترويج الثقافة الاستهلاكية في الصين (فالانجذاب إلى الفن الشعبي ليس بمصادفة إذن)، وبأن ما قد يبدو طليعيًّا عندما نراه من خارج الصين ربما يبدو رجعيًّا عندما نراه من الداخل. ينافس هذا الفن المطلوب على المستوى العالمي فنًّا يُطلِق عليه جاو «فن الشقق السكنية»، ويُعرض في أماكن خاصة أو في الشارع، ويتألف من أعمال مؤقتة وغير قابلة للبيع. مثال على ذلك الجدار الثلجي الفذ الذي صنعه وانج جين أمام أحد مراكز التسوق الرئيسية بمدينة تشينجتشو عام ١٩٩٦، كان مطمورًا داخل الجدار الثلجي أغراض استهلاكية ثمينة لجأ العامة إلى استخراجها بحفر الثلج كيفما استطاعوا، وفي النهاية دمروا الجدار.
يصنع كاتشو قطعًا نحتية، أغلبها من الخشب، تتألف على نحو نمطي من عناصر تذكرنا بهياكل القوارب الصغيرة. حقق كاتشو نجاحًا سريعًا للغاية بعد أن عرض أعماله في بينالي هافانا عام ١٩٩٤ وبينالي كوانج جو في العام التالي. ظفر بعقد مع معرض بارز بنيويورك — باربرا جلادستون — واشترى متحف الفن الحديث منحوتة ضخمة — «العمود اللانهائي ١» — في العام الذي صنعها فيه، عام ١٩٩٦. كانت هذه القطعة أحد هياكل القوارب البديلة لدى كاتشو، مقرونة بالنحت مع إشارات للحداثة الأوروبية (في هذا الحالة، منحوتة برانكوزي «عمود لا نهاية له» التي صنعها عام ١٩٣٨)، والتي تشير بوضوح إلى المحاولات المفجعة للهجرة الجماعية للكوبيين بعد إعلان الولايات المتحدة بأن جميع الأفراد الذين نجحوا في الوصول إلى شواطئها سيتم قبولهم بوصفهم مواطنين. وكما في حالة شو بينج، موضوع قومي على نحو واضح يقدَّم بمهارة فنان، ومؤطر داخل نسق فني معاصر مقبول.
إن جزءًا كبيرًا من هذه الأعمال الفنية، رغم اعتمادها على صدى القضايا السياسية، لا يتبنى أي موقف، ويتميز بالسياسة التهكمية أو الصامتة. حاولت كوكو فوسكو في مقالة لمجلة «فريز» الفنية الرائعة للغاية (وأعادت طبعها في كتابها «الأجساد التي لم تكن أجسادنا»)، فهم عمل كاتشو من منظور سياسي، لا سيما بفحص استخدامها من قبل السلطات في بينالي هافانا. أمام مثل هذه الجرأة في تحليل عمل محبوب جديد للسوق تلقت كوكو تهديدات، واضطرت المجلة إلى التعامل مع شكاوى من موزعي أعمال كاتشو. يعبر هذا الحدث كثيرًا عن مستوى الكتابة الفنية في هذه المجلات — والقدر الذي يضمن به الموزعون ذوو النفوذ والمؤسسات الفنية المؤثرة «النقد» الخانع — لدرجة أن مثل هذا المقال ينبغي أن يبرز كحالة استثنائية بدرجة كبيرة في المشهد النقدي. ثمة حاجة ضئيلة بوجه عام للتهديدات والشكاوى، بالطبع؛ لأن أغلب الكُتَّاب يراقبون أنفسهم. كما تشير المجلة الفنية الصفراء — «كواجيلا» — فإن هذا على وجه التحديد سلوك مثير للشفقة من جانب الكتاب لأنهم (مع استثناءات قليلة للغاية) يكسبون مالًا زهيدًا من ذلك.
في الفن العالمي المتميز، تُستعرض الهويات من أجل ترفيه المشاهدين الدوليين. إن ملامح التمازج الثقافي والتهكم والعرض الصريح للهوية أمور تبعث على الراحة لدى المشاهد الغربي الذي لا يشعر بالطمأنينة لفكرة الاختلاف إلا إذا لم يكن هو الآخر في واقع الأمر (كما يؤكد على نحو جدلي سلافوج زيزك). أجملت فوسكو النتائج جيدًا: إن العولمة غيرت المجال الفني، جنبًا إلى جنب مع إدارة الاختلاف الثقافي والعرقي، بحيث يتبع نموذج الدولانية المشتركة. إن الشهرة في عالم الثقافة ليست بضمان على النفوذ السياسي، والخصخصة المتزايدة للمتاحف والمعارض تدمر الأثر الذي ربما تدفَّق من تلك الشهرة في السابق. عوضًا عن ذلك، جرى تطبيع التنوع فيما ابتُعِد عن المحتوى النقدي له. يمكننا إيضاح هذه النقطة حرفيًّا أكثر بالنظر إلى هجرة الفنانين أنفسهم؛ فربما تكون أصولهم متنوعة، لكن الكثير منهم — وبالطبع ليس أولئك الذين فروا من دول بها رقابة قانونية فحسب — انتهى بهم المطاف بالعيش في نيويورك، مركز الفنون العظيم. من ثم أفرز التعدد التجانس، مع مواجهة الجميع لإقرار السوق.
بيد أن جزءًا كبيرًا من هذا الفن — على جاذبيته المريبة في الغرب — يعبر بالفعل عن أشياء رائعة، وينجح على مستوى الحدة والارتباط بدرجة نادرًا ما نجدها في المجتمعات المستقرة والرغدة. أكد فريدريك جيمسون على نحو مقنع عندما كتب عن النظرية، على أن أكثر الأعمال النظامية تنتج في ظروف يواجه فيها المفكرون أقصى التناقضات في المشهد؛ نظرًا لتطور متحد وغير متجانس، وكأنهم عاشوا في بيئة يتسنى فيها الانتقال من حقبة تاريخية إلى أخرى. ربما يرفع المزارعون في حقول الأرز ناظرهم نحو السماء ليلمحوا جارهم الجديد، بناية شاهقة الارتفاع ما بعد حداثية الطراز. هذا الأمر — على حد زعم جيمسون — يعزز التفكير النظامي والإجمالي عن التغير التاريخي. في الفن، لا توجد توقعات حيال مثل هذه الصفات النظامية، لكن هذه الظروف لها تأثير بالفعل، لا سيما في التفكير فيما وراء الانتشار الواسع للثقافة الاستهلاكية. بالمثل، ربما يمكن للمرء أن يتوقع إنتاج الأعمال الفنية الأكثر ضحالة وتفككًا وانهزامية في الاقتصاديات النيوليبرالية الأثرى والأقدم، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وبالطبع — كما سنرى في الفصل القادم — هو كذلك بالفعل.
ما فحصناه بإيجاز هنا ليس النسق الكامل للإنتاج الفني العالمي الذي يتسم بالتنوع الشديد ويُنتج لظروف محلية كثيرة معقدة ومختلفة، لكن بالأحرى ما يمر عبر أداة ترشيح نظام الفن العالمي ليحظى بالشهرة الدولية. ورغم أن هذا النمط من الفن يمكن إنتاجه في الأغلب وفي مخيلتنا النخبة الفنية العالمية، فإن عالم الفن يفصح عما فيه؛ فرغم هيمنة الولايات المتحدة وسطوة المحترفين، فإن منتجاتها الفنية لها صدى أوسع بين جمهور متنوع، الكثير منهم لا يزال يتبنى المعتقد اليوتوبي بأن الفن يحمل رسالة أوسع نطاقًا. من وجهة نظرهم، ربما يقدم تجارب متنوعة، بل وأحيانًا راديكالية.
ما تحدثتُ عنه بإيجاز هو فكرة أن تنوع الفن المعولم الذي كثيرًا ما يُشاد به ربما يخفي فنًّا آخر، وتجانسات أجدد. ومثلما خرجت الرأسمالية كنظام عالمي من تحت عباءة خصمها المنهزم بعد عام ١٩٨٩، تبين، في تحولها السريع، أنها النظام الجشع العنيد الذي هي عليه، ومن ثم ربما تكون الحال كذلك مع عالم الفن. إن الغاية من استخدامه كأداة في مواصلة الحرب الباردة بيَّنت ما كان قيد التطور بالفعل: وظيفته الجوهرية كداعٍ للقيم النيوليبرالية.