الثقافة الاستهلاكية
إذا كان التعبير الاقتصادي للنيوليبرالية هو عدم المساواة الأشد قسوة، والتعبير السياسي لها هو رفع القيود التنظيمية والخصخصة، فإن التعبير الثقافي لها هو النزعة الاستهلاكية الجامحة بلا شك. وفي حين أن «النظام العالمي الجديد» دفع الفن إلى إعادة صياغة نفسه عبر عولمة عملياته، فقد خضع الفن في العالم المتقدم لضغط متزايد من شريكه وخصمه القديم: الثقافة الجماهيرية. منذ السنوات الأولى للقرن العشرين على أقل تقدير، مع اختراع السينما، والفونوغراف، والراديو، اجتمع الاثنان في رقصة غير متكافئة، وكانت الثقافة الجماهيرية هي القائد أحيانًا كثيرة.
ينزع الفنانون المعاصرون إلى تناول قضية الثقافة الاستهلاكية بافتتان وقلق، وثمة سبب وجيه لكل ردة فعل منهما؛ فالافتتان سببه أن النزعة الاستهلاكية يبدو أنها تتحول إلى سمة ثقافية على نحو متزايد، فاهتمامها بالبيع أو بمجرد عرض الصور والأصوات والكلمات يضاهي اهتمامها بالأشياء المادية. أما القلق، فمردُّه إلى أن محركات هذا الإنتاج طائلة للغاية وتمول ببذخ، والناتج صاخب للغاية وواسع الانتشار. وإذا كانت السلع تصير ثقافية، فما المساحة المتبقية للفن إذن؟
إنه قلق قديم، وُجد في الحداثة وأيضًا ما بعد الحداثة، وإن كان في أشكال مختلفة. وقف فرنان ليجيه أمام المعروضات من الآلات «بمعرض باريس» عام ١٩٢٤، مندهشًا من الحد الذي غطت فيه هذه المنتجات الخالية من العيوب على الجهود المتواضعة الخجولة للفنانين. إن الحجة القائلة بأن الفن لم يعد ممكنًا نظرًا لأن عالم المنتجات مشبع بالجماليات هي الصورة المختلفة بعد الحداثية للقلق نفسه؛ حلم حداثي بدمج الفن والحياة يبدو أنه قد تحقق، وإن كان باستسلام الطرف الأضعف أكثر منه بالتوليف بينهما.
وفي حين أن قضية انفصال الفن عن الثقافة السلعية أو دمجه معها لها تاريخ طويل، إبان التسعينيات كان هناك تكثيف للقوى المعنية، كثير منها سمات قديمة للرأسمالية، ساهمت في غلبة الثقافة الاستهلاكية المنتصرة ليس على الفن فقط بل أيضًا على كافة أنماط الإنتاج الثقافي الأخرى. بدت السلع أنها تصير أقل تشابهًا مع الأشياء الوظيفية وأكثر تشابهًا مع حركات ثقافية زائلة في نطاق لعبة معقدة وذاتية المرجع. انتقلت العلامات التجارية بين منتجات غير متصلة، فيما دار الإعلان بين المرجع، والمرجع الذاتي، والمرجع الوصفي في التهام متسارع للارتباطات الثقافية قديمها وجديدها. أما الأرباح الكبرى فقد تواصل تحقيقها ليس في مجال الصناعة بل في مجال الخدمات، ومعالجة البيانات، والموارد المالية؛ وكان نجاح هذه القطاعات مرتبطًا إلى أبعد حد بالاقتصاديات النيوليبرالية، لا سيما في الولايات المتحدة. أما في الغرب، فقد استُشعر هذا التغيير في وقت مبكر منذ منتصف السبعينيات، إلا أن التسعينيات شهدت انهيار النماذج البديلة، ليس فقط في أوروبا الشرقية، بل أيضًا في الاقتصاديات الصناعية العظمى كألمانيا واليابان اللتين عانتا الركود والتراجع. اتجهت أوروبا القارية نحو تبني النموذج النيوليبرالي الذي كان جذابًا للغاية خلال أغلب منتصف وأواخر التسعينيات بحوكمة اشتراكية ديمقراطية اسمية. وسَّع النموذج النيوليبرالي من نطاقه وعمَّق من سطوته، شأنه شأن التسليع نفسه.
إن أيديولوجية السوق العالمية لطالما كانت الخطاب اللاتأسيسي واللاجوهري بلا جدال؛ فالتداول والحراك والتنوع والخلط هي شروطها الفعلية للإمكان. إن التجارة تجمع الاختلافات، وكلما كانت أكثر كانت أفضل! والاختلافات (اختلافات السلع والشعوب والثقافات وما إلى ذلك) يبدو أنها تتضاعف إلى ما لا نهاية في السوق العالمية التي تشن أعنف الهجوم على الحدود الثابتة، وتقهر أي تقسيم ثنائي بتعددياته اللانهائية.
إن هذا الأمر ليس بتشابه وقع من قبيل المصادفة، بل بالأحرى (كما أشار فريدريك جيمسون في مقالته التأسيسية عن حركة ما بعد الحداثة) علاقة وظيفية: عنصر جمالي أُدمج داخل الإنتاج العام للبضائع الاستهلاكية، والتي تتغير مع الإيقاع المتزايد دائمًا للموضة. كما أن الشركات التي تنتج مثل هذه السلع تقدم الدعم المالي لسلاحها البحثي والتدويري: الفنون. تصف مارثا روسلر الموقف في كتابتها عن النزعة الراهنة والباهظة في فن الفيديو ذي الإنتاجية العالية: «لا شيء أكثر ملاءمة لصناعة الوعي من وجود فنانين يلهون عند حدوده، يزينون أنماطه ويصيغون حرفيًّا إلى حد بعيد استراتيجيات جديدة للإعلانات والجرافيك.»
ربما يمكن تخيل الفن كنزعة استهلاكية تسبح في الأحلام، وتجمع من جديد على نحو لعوب عناصر الثقافة الجماهيرية في تركيبات مضطربة، وفي غضون ذلك، تصادف أشياءً نافعة. وفي إعادة مزج ما لم يعد مستخدمًا وتخزينه، ربما يخدم الفن غاية مشابهة للحمض النووي «المهمل»، الذي يعتقد أنه يدخر التسلسلات العتيقة في حال الاحتياج إليها ثانية.
استوعبت ثقافة المؤسسات تمامًا الخطاب الملطف لحركة ما بعد الحداثة. وكما في الثقافة الجماهيرية، أصبح افتقار الفن الفعلي للعرف هو الأمر المتعارف عليه تمامًا. أصوات ملحة توجد في كل مكان تحث المستهلكين على التعبير عن أنفسهم، وعلى أن يكونوا مبدعين، ومختلفين، وعلى كسر القواعد، والتميز عن الحشود، بل والتمرد، لكنها لم تعد كلمات نابعة من مثيري الفتنة الراديكاليين، بل من رجال الأعمال. إن الكُتَّاب في مجلة التحليل الثقافي الأمريكية «ذا بافلر» يصفون وصفًا حيًّا مدى هذه الإيعازات والتوحيد القياسي لها، ونجد المثال الموجز على نحو رائع الذي أوردوه لهذا الإلزام هو ظهور ويليام بوروز في إعلان لنايك. إن قدرًا كبيرًا من المجال الفني منذ عام ١٩٩٠ قدَّم تمثيلًا واعيًا من منطلق هذه الفضائل الراديكالية التي اختلستها ثقافة المؤسسات.
إن نظرية ما بعد الحداثة نفسها، في انتقالها من كونها قصة ليوتوبيا أو ديستوبيا ممكنة إلى وصف سطحي لواقع قائم، فقدت قوتها النقدية والأخلاقية. وفي حالتها المختزلة، حظيت النزعة الاستهلاكية والتمكين المزعوم للمتسوق على أهمية في خطاب ما بعد الحداثة، في حين أنه إبان التسعينيات تعرضت نظرية ما بعد الحداثة لوابل من الانتقادات على سخافاتها الداخلية وإرهابها للقراء بلغة اصطلاحية علمية لا معنى لها (برزت في قضية سوكال)، فلم تُستبدل بقدر ما توارت في جزء كبير من عالم الفن الأكاديمي على الأقل، بقبولها كخلفية لا جدال فيها تخرج منها تصريحات بشأن الفن.
معظم ما ورد في نظرية ما بعد الحداثة أكد على أن المحاكاة قد أشبعت العالم بصورة كاملة، ورأى أنه ليس هناك إفادة في بيان الموضع الذي ينتهي فيه التمثيل وتبدأ الحقيقة. مع ذلك، سارت السمة الطيفية للسلعة العصرية، غير المادية على ما يبدو، جنبًا إلى جنب مع ظهور النيوليبرالية. إن هذا النمط العدواني للرأسمالية أضحى ممكنًا من خلال التغيرات التكنولوجية بالغة الأثر، لا سيما في مجال اتصالات الكمبيوتر الذي جعل تبادل المعلومات زهيدًا وسريعًا وسهلًا. وكما وصف دان شيلر في كتاب «الرأسمالية الرقمية»، كان تأسيس البنى التحتية الهائلة لشبكات الكمبيوتر مدفوعًا باستغلال خصخصة صناعات وسائل الاتصال المملوكة للدولة، كذلك حوَّل ترقيمُ البيانات المعلوماتِ المجانيةَ في السابق (على سبيل المثال، في المكتبات) إلى سلع، في تطويق لمشاعات البيانات.
ساهم تطور بارز آخر في إظهار السلعة في صورة أقل مادية، وهو: تحقيق التمييز بعلامة تجارية أهمية أكبر على مدار التسعينيات مع إنفاق الشركات المال الذي ادخرته من تعهيد الإنتاج على تحسين صورتها الخاصة. تؤكد ناعومي كلاين في كتابها الشهير عن استحقاق «بلا شعار» أنه مع تصدير الإنتاج إلى الاقتصاديات منخفضة الأجور، انقطعت الصلة بين مستهلكي منتج ما وصانعيه. وفي المقابل ترقت العلامة التجارية، وتحررت من المنتجات المجردة لتصبح شخصية مجازية، وتجسيدًا موثوقًا لتركيبات بعينها من الفضائل أو الرذائل المحببة. في بعض الأحيان، كما في حالة رونالد ماكدونالد، تجسدت داخل شخصية رسوم متحركة. كنتيجة لذلك، أخذ الفن والتجارة يقتربان أحدهما من الآخر.
… حيث تتضاءل أهمية قيمة الانتفاع المادية للسلع، وحيث يصير الاستهلاك متعة بديلة للوجاهة الاجتماعية … حيث يبدو، في النهاية، أن السمة السلعية للمواد الاستهلاكية تختفي تمامًا. إنها محاكاة تهكمية للوهم الجمالي.
والنتيجة ظهور موقف تجاه الفن يماثل موقف الأشخاص تجاه السلع، والتي تتظاهر بأنها ليست أقل من الفن. بيد أن هذا ليس بتطور تاريخي حتمي أو غير قابل للتغيير، وُلد من منطلق الجوهر المنكشف للفن والسلع، لكنه تطور مرتبط بالإيقاع المتصاعد والمتناقص للدورة الاقتصادية، ولا ينعم به سوى من يتمتع بالثراء الكافي للاستهلاك بتفاخر.
استجابت ممارسات فنية عديدة في التسعينيات إلى هذه التغيرات، واستفادت منها ودفعتها قدمًا. أخذت سيلفي فلوري ثمار رحلاتها التسوقية إلى المحلات التجارية الراقية ووضعتها فوق أرضية المعرض، أو وضعت أشياء محبوبة وعصرية (فعليًّا) فوق منصات العرض. تفحصت فلوري أيضًا المستويات المختلفة للنشاط الاستهلاكي، وربطت بين الأقل جاذبية والأكثر منفعة والاستهلاك التفاخري من خلال عربات التسوق المطلية بالذهب.
أما جيوم بيل فقد فتح ببساطة محالَّ تجارية داخل نطاق المتحف. وقد تحول معرض «التسوق» بمتحف تيت بليفربول إلى فرع جيوم بيل الخاص لسلسلة متاجر «تيسكو». قدَّم فريق عمل متاجر تيسكو الدعم، وأخذوا يعيدون ترتيب السلع ويسعِّرونها وينظِّمون الأرفف. مع ذلك، لأنه لم يكن متاحًا لأحد أن يشتري شيئًا بالفعل، وكانت جميع الأرفف ممتلئة بالسلع ومضاءة بأضواء المتحف الكاشفة، أضحى «المتجر» معرضًا جماليًّا لكتل متعددة الألوان من العبوات المتكررة. من ناحية، يذكرنا هذا العمل بعربات تسوق فلوري من حيث تحويل أقل الخبرات التسوقية جماليةً إلى مشهد بصري منفصل مثير للاهتمام. شعر المشاهدون الذين لم يعتادوا على التوقع الضمني بأنه ينبغي أن ينظروا إلى العرض التجاري للسلع المعلبة كخبراء بالإحباط. ومن ناحية أخرى، أسهم هذا الشعور بعدم الارتياح كدحض ثانوي للموقف (نجده في كتابات بودريار) أن الجانب الجمالي قد أتم غزوه للتجارة منذ زمن بعيد.
لطالما سار الفن والموضة جنبًا إلى جنب، أحيانًا بأسلوب راديكالي وصادم، وأحيانًا أخرى بطريقة تقليدية ومحافظة، وكلاهما تُصدَر الأحكام عليه وفقًا لمعايير تذوق ذاتية، وكلٌّ منهما يمثل بأسلوبه الخاص أجواء العصور وروحها. إن الفن والموضة يحفزان الحواس ويصنعان أشياء مرغوبة ومعبودات للمجتمعات الثرية وتراثيات ثقافية.
على مدار التسعينيات، ازداد اقتراب صناعة الفن وعالم الموضة أحدهما من الآخر يومًا بعد يوم؛ فضمت المجلات الفنية إعلانات أكثر لشركة أزياء برادا، بينما ضمت مجلات الموضة مقالات أكثر عن الفن المعاصر، وظهرت مجلات مختلطة على نحو أصيل (مثل «تانك» أو «فيري») يتعايش فيها العالمان في تكافل. أنتج العديد من مصوري الأزياء على غرار يورجن تيلر وكورين داي كتبًا فنية، وظهرت أعمالهم في المعارض إلى جانب ظهورها على الصفحات. يربط ديدريتش ديدريكسون رواج الأعمال الفنية المذهلة بكلٍّ من التطور الملحوظ في جودة طباعة المجلات والذي أدى إلى استخدام أكبر للصور (التي حلت محل النص)، وزيادة مجلات الفن والأناقة والموضة المنوَّعة. وبطبيعة الحال، تميل مثل هذه المطبوعات إلى توليد فن يمكن استيعابه سريعًا بمجرد النظر إليه في صورة أو اثنتين.
ارتبطت هذه التطورات بكلٍّ من الضغوط التي خضعت لها المعارض والمتاحف العامة لاكتساب الصفات التجارية وميول رعاة المعارض، لكنها عكست أيضًا نزعة أوسع نطاقًا في الثقافة السلعية لمحاباة الشباب، أو على الأقل ظاهره. إن مرحلة الشباب صفة تسويقية جذابة حتى لتلك المناسبات الفنية التي تجذب جماهير أكبر سنًّا تحب أن ترى أنفسها كأشخاص مفعمين بالحيوية والنشاط. لقد أضحى الشباب ميزة يتسنى للفنانين استغلالها بطرق عديدة، يستطيع الفنانون البقاء شبابًا لفترة طويلة، أو حتى تصنيفهم كشباب. بإمكانهم تصوير مرحلة الشباب، وثمة موجة من هذه التصويرات، لا سيما في التصوير الفوتوغرافي، حيث دومًا ما تُطمر مرارة التقدم في العمر والموت. يقف العارضون المراهقون بصور رينيكي ديكسترا أمام الكاميرا على نحو مؤلم على الشواطئ أو في النوادي، أو الفتيات الثريات المرتبكات بصور سارا جونز واللاتي اصطففن عبر غرف أنيقة، يحزنهن دراية ما خفية، أو — في تنسيق مختلف — تستخدم فانيسا بيكروفت في عروضها الأدائية وأفلام الفيديو والصور الفوتوغرافية عارضات يقفن في حالات مختلفة من التعري، ويواجهن المتفرج بشعورهن بالذنب من رغباتهن وتطلعاتهن.
إن جميع هذه الأعمال يمكن اعتبارها أعمالًا هامة، ويمكن الاستمتاع بها بالمثل كتجسيدات مميزة من الناحية الثقافية لجمال الشباب. في نهاية المطاف، يستطيع الفنانون الأداء في أعمالهم وكأنهم شباب. تعبر جورجينا ستار، وإليزابيث بايتون، وغيرهما الكثير عن الثقافة الاستحواذية للمعجبين من المراهقين، في حين أنه يكمن في المعارضة الصريحة لإجادة الفنانين البارعين والمتمرسين من الطراز الأول على غرار بيل فايولا — الذي لا يزال يحمل شعلة الجودة الجمالية والعبقرية — ترويحٌ خفيفٌ عن سوء الأداء الخجول المثير للشفقة، كما في أعمال شون لاندرز الهزلية.
من بين هؤلاء الذين قطنوا العالم الواصل بين المعارض والمجلات، واحد من أكثر الفنانين نجاحًا وهو فولفجانج تيلمانس. اكتسب تيلمانس شهرته من عمله العصري والحر بطريقة الصور الفوتوغرافية الخاطفة لمجلات مثل «آي-دي»، و«ذا فيس»، لكنه عرض أيضًا بصفة منتظمة في المعارض والمتاحف. فاز بجائزة تيرنر عام ٢٠٠٠، وقدَّم معرضًا هامًّا في متحف تيت ببريطانيا عام ٢٠٠٣. إن موضوع تيلمانس هو الشباب، وعينه (كما ينبغي أن نستنتج من الطابع غير الرسمي لعمله) هي العين البريئة للشباب، والتي تركز بدهشة على كل جزء مرئي من العالم، سواء كان مبتذلًا أو استفزازيًّا؛ فالطبقة الرفيعة فوق فنجان قهوة سادة، فأر يهرب عبر المصرف، قضيب بجانب صينية فطور بجانب السرير ينظر إليها جميعًا بنفس النظرة المحدقة. تلك الرؤية، كما لك أن تتوقع، تجد الجمال في أماكن غير متوقعة، على غرار صورة لمجموعات ملونة بألوان الحلوى لمعطرات الجو منعكسة على السطح المعدني الأملس لمبولة.
إن عالم تيلمانس هو ميدان لشريحة من الشباب الموسرين، البيض في الأغلب، وبعيدًا عن الأشخاص الذين يرتدون ملابس مجارية لأحدث خطوط الموضة، يصور تيلمانس الأشخاص المترددين على النوادي الليلية وموكب الحب ببرلين، ويضعها جنبًا إلى جنب مع اهتمامات سياسية شبابية مختلفة: مهرجانات فخر الشواذ، والتشرد، ومعارضة الحرب. وكل هذا يطغى عليه روح الشباب نفسه بصراحته، وجاذبيته الجنسية، ومثاليته، وإدراكه الكئيب بسرعة زوال المرحلة العمرية (كما هو واضح في صور تيلمانس، على نحو تقليدي تمامًا، بزهور ذابلة وفاكهة ناضجة أكثر مما ينبغي). إن أعمال تيلمانس ذات نفع؛ نظرًا لأنها تمثِّل إلى حد بعيد جزءًا كبيرًا من إنتاج الفن والموضة في المجلات والكتب والمعارض والتي تُعبر فيها عن نفس الارتباطات بالضبط وتُفترض القيم نفسها. ونظرًا لأهمية هوس الثقافة التجارية بالشباب، فإن لهذه الرؤية زخمًا هائلًا، وإذا نفرنا منها، فسوف يدين هذا المرء على الفور لكونه فظًّا ورجعيًّا.
ينبغي طرح السؤال: هل هذه الصور الفوتوغرافية تتأمل التوترات المتأصلة في عقيدة الشباب أم أنها تضرب مثالًا لها فحسب؟ هل هذا التجاور بين الصور يبني الدلالة أم فقط يوحي بها؟ لقد ذكر تيلمانس أنه في تصوير السبائك الذهبية يشير إلى شيء له مغزى عن المال والقيمة. إن ملاحظة قديمة لبرتولت بريشت تصلح في هذا السياق: إن صورة فوتوغرافية لمصنع لا تخبرك شيئًا عن العلاقات بين الناس داخله. إن عنوان معرضه بمتحف تيت وكتابه أيضًا — «إذا كان شيء ما مهمًّا، فكل شيء مهم» — يكشف لنا الأمر، إلى جانب أنه يعكس انحياز المجال الفني مؤخرًا للتصوير المباشر «للواقع». إن ما يقدمه هنا هو لمحات طبيعية متنوعة للأشياء والناس، وإن الوصول إلى الواقع يتطلب سعرًا أعلى، في الفكر والمعرفة وتشييد البنى، وفي إدراك أن بعض الأشياء لها أهمية أكثر من غيرها.
كل هذا لا يجب أن يقودنا إلى الاعتقاد أن الفن والموضة قد اندمجا معًا، مثلما لم يندمج الفن والثقافة الجماهيرية ككل، أو الفن ووسائل الترفيه (كما أشار عرض أخير بمركز ووكر الفني). إن الانجذاب المتبادل ما كان سيصمد إذا لم ينتج عن تقاطُع الأقطاب المتقابلة شرارة نافعة: شرارة التميز الثقافي والجدية للموضة، وشرارة رونق وتألق للفن. كيف يدوم هذا الفصل؟ إن الخطاب الفني الاحترافي يسير في اتجاه واحد مرتبطة به الطريقة التي تشير بها الأعمال الفنية في أغلب الأحيان إلى أعمال فنية أخرى؛ مما يتطلب من المشاهد الخبير معرفة بالتاريخ والمجال المعاصر، إلى جانب امتلاك لغة اصطلاحية فنية. سنرى أيضًا في الفصل القادم كيف يتحاشى الفن أي تهديد بالدمج مع الثقافة الأوسع نطاقًا عن طريق الدفاع عن استقلاليته من خلال تطلعات لتبوء مكانة احترافية.
مع ذلك، لعل امتزاج الفن مع الموضة أو وسائل الترفيه ليس بتهديد بقدر ما هو ارتباط كامل مع السلعة نفسها. إذا حدث ذلك، فسيفقد الفن كل ادعاءاته بالمثالية وكل تبريراته للإعانات الحكومية. من وجهة نظر ماركس، إن السلعة شيء غريب ومعقد، لكونها شيئًا ماديًّا يقدره المشتري لأن له نفعًا، وفي الوقت عينه — بفضل حركة السوق — شيئًا يحمل قيمة تبادل نقدية. في حين أن الاستخدامات متنوعة ويستحيل قياسها، فإن قيم التبادل جميعها توضع على مقياس واحد. من وجهة نظر بنجامين بوكلو، في وصفه التشاؤمي للفن المعاصر، رضخت قيمة الانتفاع بصورة متزايدة، والفن — مثله مثل المال — أضحى سلعة لها قيمة تبادل خالصة إلى حد بعيد (ما دام أن المال والفن ظلَّا أشياء مادية، فلا يمكن لأيٍّ منهما إبعاد قيمة الانتفاع كلها، كما ذكر ماياكوفسكي، إبان الحرب الأهلية الروسية كانت الكتب تطبع على النقود التي لم يعد لها استخدام، أما في العمل الاستفزازي الفاضح لدوشامب، فيمكن استخدام لوحة لرامبرانت كمنضدة مكواة). في مرحلة متقدمة، حتى ادِّعاء تحقيق قيمة الانتفاع في الفن قد توقف، مع توجه الفنانين إلى عكس المشهد الجديد وفحصه ببساطة، والذي لا يوجد فيه تمييز بين الفن والمال، وهم يفعلون ذلك دون نقد أو رغبة في التغيير.
لقد أصبح رفض التحيز في عمل فني ما أو في مناقشته منهجًا قياسيًّا في الفن المعاصر الغربي. والنموذج هنا هو أندي ورهول، بالطبع، الذي تحدث وكتب كثيرًا لكن في كلمات فقط صدرت من شخصياته التي تحمل علامته التجارية، وبذا لا يستطيع أحد التأكد من وضعها: «إن إجادة العمل التجاري هي أكثر الأنماط الفنية روعة» مع اقتراب الفن أكثر وأكثر إلى السلعة القياسية، قد يكون من الحماقة توقُّع صدور تعليق انتقادي على منتج من صانعه؛ لذا في أعمال بيل وبيكروفت وفلوري، ليس من الواضح ما إذا كانت صناعة الموضة والنزعة الاستهلاكية تتعرض للإشادة أم للإدانة. إن مثل هذه الأعمال تلقي الضوء ببساطة على وجود السلع أو النماذج من خلال إظهارها بمظهر غريب، بتغيير البيئة التي تُشاهد فيها هذه الأشياء في المقام الأول. ورغم تصريحات الفنانين والنقاد التي تحيط بهذه الأعمال الفنية، وتؤكد للمشاهد على حياديتها، فإن الازدواجية واضحة تمامًا. إذا نظرنا إلى هذه الأعمال الفنية باعتبارها انتقادية، فهي أعمال متواضعة وضعيفة، وإذا نظرنا إليها باعتبارها أعمالًا إشادية، فهي قوية ولاذعة؛ نظرًا لأنه في النهاية — وعلى وجه الخصوص في أعمال فلوري وبيكروفت — ما ينتج على نحو براق وبارع هو مجموعة أخرى من السلع، وترتيبات الدعاية والرعاية التي من خلالها تشاهَد وتباع. إن في استهلاك هذه السلع، التي تحمل شيئًا من انتقادها لنفسها ولاستهلاكها، التعريف الفعلي لكلمة «معسكر» التي أكدت سوزان سونتاج منذ زمن طويل على أنها المنهج الذي يستخدمه المفكرون لإجازة استمتاعهم بالثقافة الجماهيرية.
من ثم يقترب الفن، وهو التجسيد المادي لقيمة التبادل، من حالة السلعة الأكثر تجريدية، وهي النقود — ويُستخدم بالفعل كذلك من قِبَل الأثرياء كصورة شبه سائلة لرأس المال المضارب — بحيث تُخبَّأ الأعداد الهائلة للأشياء التي تكمن فيها تلك القيمة بعيدًا في مخازن آمنة ومشيَّدة خصوصًا لذلك الغرض.
إلا أن هناك اختلالات بهذا المخطط البسيط للتقريب بين الفن والسلع الأخرى في الطابع، كما بين المعارض والمتاجر. إن مادية العمل الفني تبقى حتى في فنون الفيديو وفنون الميديا، والتي حظيت بقبول عام كنمط فني فقط بعد أن دفعت الثمن عن طريق تحولها إلى صورة مادية جزئيًّا. إن السوق الفنية ما زالت تعتمد على بيع وشراء أشياء نادرة وفريدة مختلفة أيما اختلاف عن السلع التي تنتج على نحو جماهيري وتوجد في المتاجر العادية. في معظم الأسواق، تتحكم بضع شركات مهيمنة في الإنتاج، لكن هناك عددًا محدودًا من الأسواق يُنظَّم فيه الاستهلاك. إن عالم الفن التجاري يسعى إلى إحكام قبضته حول الزمامين جيدًا، فغالبًا ما يكون الإنتاج محدودًا على نحو اصطناعي، وغالبًا ما يكون للرعاية بُعد شخصي. إذا نظرنا إلى عالم الفن المعاصر، فسنحصل على لمحة داخل نظام سوقي أقدم يسبق انتشار التصنيع.
وفوق هذا وذاك، فبما أن السلع العادية تحيا أو تموت وفقًا لقرارات ملايين الأفراد بشرائها أو بعدم شرائها، فإن آليات ردود الأفعال التي تقرر مسار الفن المعاصر منظمة وحصرية، وليس للمشاهد العادي للفن أي دخل فيها. أبرز فيتالي كومار وألكسندر ميلاميد هذه القضية من خلال تطبيق المناهج القياسية لاستبيانات المستهلك على الرسم، وأخرجا نتائج تلبي الذوق المتوسط لسكان بلدان مختلفة. كانت النتائج سلسلة من اللوحات المضحكة والمتشابهة على نحو مفاجئ، يسيطر عليها اللون الأزرق بدرجاته، وتسكنها حيوانات جذابة وشخصيات تاريخية شهيرة في مناظر طبيعية رعوية تلائم على نحو مثالي حياة الإنسان.
إن الفنون — بمنأى عن التشددات الكاملة للسوق — بإمكانها مغازلة الثقافة الاستهلاكية فيما تبقى مطمئنةً بشأن حدودها الآمنة. لا شك أن تلك الأعمال التي يبدو أنها تهدد مثل هذا الاختلاط بين الفن والسلعة (مثل عمل بيل) تعزز هذه الحدود من خلال إظهارها إياها. ثمة طريقة أخرى لضمان بقاء التمييز واضحًا، وهي تحويل التركيز إلى الأمور الداخلية، كما داخل صندوق به مرايا، بحيث يضطلع الانعكاس بدلالة غير مبررة، ويميل النظر إلى تحركات الفنانين مقارنة بتلك الخاصة بفنانين آخرين، ونادرًا ما يكون في نطاق العالم الخارجي. وهنا تُحاكى أعمال السلف على نحو لاهٍ متكرر، وتُستخدم أيضًا المواد المستمدة من الثقافة الجماهيرية.
إن قيمة الانتفاع الخاصة بنا ربما تثير اهتمام الإنسان، لكنها لا تنتمي إلينا كأشياء. إن ما ينتمي إلينا كأشياء، مع ذلك، هو قيمتنا. إن ارتباطنا كسلع يبرهن على ذلك، نحن نرتبط ببعضنا كقيم تبادل ليس إلا.
ورغم أن الفن يسعى إلى حماية نفسه بخطاب داخلي في الأعمال الفنية والتصريحات، بحيث تربط الأشياء الأهم التي تقال عن نمط فني هذا النمط بنمط فني آخر على ما يبدو، فهو يحاكي فقط اللهو بقيم التبادل غير المقيدة التي تتجلى على أبرز نحو في أوقات الوفرة.
منذ لحظة ترسيخ هذه المنطقة المحمية للفن، تحدى الفنانون بالطبع مدى أمانها، وكان هذا جزءًا من مغزى لصق صفحات الجرائد على لوحات الرسم، ومحاولة وضع مباول عتيقة بها نقوش في المعارض، أو — على نحو أكثر تطرفًا — إجبار الفن على أداء دور خادم للإنتاج الجماهيري. ورغم أن هذه التحديات ارتبطت بالوقت والسياق، فإن الأشياء التي تجسدت فيها لم تكن كذلك، ومع استمرارها على مر التاريخ، عززت صبغتها الراديكالية من بريقها الجمالي وقيمتها السوقية مع تحولها إلى سلع فنية تقليدية يومًا بعد يوم.
بعد أن أصبحت الثقافة الجماهيرية أكثر إذهالًا واستحواذًا باستمرار — مع الأجهزة التليفزيونية عالية الدقة الأضخم وشاشات العرض السينمائي الهائلة، والمنظر المغلق والمدروس بعناية لمركز التسوق أو الحديقة الترفيهية — كان على الفن منافسة ذلك. تمكن الفن من فعل ذلك — كما شاهدنا — من خلال استغلال إغراء الثقافة الجماهيرية فيما يضيف ميزته الجمالية الخاصة والمستبعدة. تمكن الفن من المنافسة عن طريق عكس قواعد الثقافة الجماهيرية؛ فإذا ضربنا فن الفيديو كمثال، تمكن الفن من إنتاج مقاطع بطيئة ومذهلة بدون حركة كاميرا، أو سرد، أو معنى واضح، في مواجهة القصص ذات المغزى الأخلاقي الاعتيادية والواقعة البصرية الاعتيادية للتليفزيون. كما تمكن من تقديم بيئات وأشياء مؤثرة — مختلفة عن تلك الخاصة بمراكز التسوق أو المنتجعات — وغير وظيفية وغير مصممة للبيع (أو على الأقل ليس للأغلبية الكبيرة من مشاهديها)، وأخيرًا تمكن من عمل تمثيلات بأحجام، وثراء ألوان، ودقة غير معهودة في وسائل الإعلام الجماهيري.
أثمر هذا النهج الأخير عن بعضٍ من أكثر الأعمال نجاحًا على المستوى التجاري في التسعينيات وما بعدها، وهي الصور الفوتوغرافية الملونة الضخمة. إنَّ مثل هذه الصور الفوتوغرافية التي صُنعت بكاميرات ذات تنسيق ضخم، وطُبعت أحيانًا على ألواح من الألومنيوم لتصل إلى حجم لوحات ضخمة تنقل رؤى العالم المعاصر؛ تتمتع بالوضوح المدهش والعمق اللوني. يغلب إنتاج هذه الصور الفوتوغرافية في طبعات صغيرة وبأحجام مختلفة؛ مما يجعلها ملائمة لعرضها في المتاحف وكذلك بغرفة معيشة شخص يهوى جمع التحف. إبَّان ركود أوائل التسعينيات، ابتاعت المتاحف التي كانت تبحث عن أعمال مذهلة ومتاحة الكثيرَ من هذه الأعمال الفنية، وبدأت أسعارها في الازدياد بحدة نتيجة لذلك. تنافس أسعارها الآن أسعار أعمال أهم الرسامين؛ ففي عام ٢٠٠٢ بيعت صورة فوتوغرافية ضخمة لجورسكي مقابل أكثر من ٤٠٠ ألف جنيه استرليني بأحد المزادات، وهو رقم قياسي لصورة معاصرة.
ثمة خيط تاريخي فني ربما يمكن تتبعه من أبرز المصورين الفنيين الألمان (جورسكي، وتوماس ستروث، وكانديدا هوفر، وتوماس روف) رجوعًا إلى معلميهم بأكاديمية دوسلدورف للفن، بيرند وهيلا بيشر، ومنهما إلى ذاك الإثنوغرافي الفذ من جمهورية فايمار «أوجست ساندر». فمن جانب، بدأ الأمر بإيمان ساندر بقدرة الصور الفوتوغرافية في سلسلة طويلة ونسبية على نقل المعرفة الاجتماعية، مرورًا بالرثاء التسلسلي الغريب لأنماط الحداثة الصناعية لآل بيشر، إلى إصرار روف — مثلًا — في الصور التي يبلغ طولها ستة أقدام وتأخذ طراز جوازات السفر على عجز الأداة على نقل أي شيء يحمل دلالة، بصرف النظر عن قدر التفاصيل التي تواجه المشاهد به. لدى تتبع هذا الخط في المعارض (بدلًا من النُّسَخ) يتجلى شيء آخر: مطبوعات ساندر البيضاء والسوداء مصنوعة بدقة، وأكبر قليلًا بصورة عامة من حجم اليد، وعمل آل بيشر أيضًا في الصور البيضاء والسوداء، وطبعا الصور بأحجام مختلفة، وفي أحيان كثيرة وضعا الصور المطبوعة في تقاطعات داخل إطار واحد ليصنعا عملًا تبلغ مساحته خمسة أو ستة أقدام، أما أعمال الجيل التالي الفنية فقد تدفقت في صور غنية ومشبعة بالألوان، وفي الأغلب فاقت أعمال السلف على نحو هائل. سمحت أضخم أعمال جورسكي وستروث الفنية، التي بلغ ارتفاعها سبعة عشر قدمًا، للمتفرج أن يخطو فوقها مباشرة ويتفحص أسطحها الصافية التي تخلو من التحبب، وتفاصيلها الغزيرة. في نطاقها، تبدو القيم الإنتاجية والجاذبية الواعية والتكلفة أنها الرسم الزيتي التاريخي الجديد، وعلى غرار الرسم التاريخي، فقد صُنعت في المقام الأول للعرض في المتاحف.
كثير من هذه الأعمال استعرضت بصورة متزايدة براعته الفنية؛ فقد حوَّل ستروث في مشاهد الشوارع الأولى له تركيز ساندر وأسلوبه نحو ملامح المدينة في صور بيضاء وسوداء بأحجام متوسطة وتجميع بارع، كما أخذ جورسكي المظهر الباهت لصور الهواة الفوتوغرافية القديمة ذات الأطر العادية وطبَّقها على مشاهد العطلات المبتذلة والمتفرجين الذين يشعرون بالملل. إن هذه الأعمال تدبرت بدرجات متباينة في إرث الحداثة. التقط روف صور المباني التي صمَّمها ميس فان دير روه، ونزع منها الألوان البراقة ليضفي عليها مظهرًا عتيقًا، مبرزًا قدم تلك المباني، أو لوَّن صورًا فوتوغرافية قديمة بألوان باهتة ليعطي التأثير ذاته.
وثَّق ستروث وجورسكي البنيات الجاهزة للعقارات والمكاتب والمباني الصناعية والمنشآت الترفيهية. ومؤخرًا، اتسع نطاق الإشارات الفنية التاريخية؛ فكلٌّ من جورسكي وستروث تركا المتفرج الآن بشيء من الريبة حول ما يشاهده؛ فكثيرًا ما يشير إنتاجهما الباذخ إلى فن الرسم، وغالبًا ما يتعاملان مع المعرض نفسه كموضوع العمل. أقام كلاهما مؤخرًا معارض بأهم متاحف الفن بنيويورك، حيث عرض جورسكي في متحف الفن الحديث عام ٢٠٠١، أما ستروث فقد عرض بمتحف المتروبوليتان للفنون عام ٢٠٠٣. أكدت معارضهما والكتالوجات الخاصة بها على تدرج التصوير الفوتوغرافي إلى ذروة الفنون، أما الكتابات (على وجه الخصوص كتابات بيتر جالاسي عن جورسكي) فقد أشارت بصورة أكبر إلى التماثلات في فن الرسم عنه في التصوير الفوتوغرافي. من ثم، يُعتمد الشكل الفني بإشارته إلى شكل فني آخر، وأعيدت صناعة التصوير الفوتوغرافي كشيء مبهر بالمتاحف. كذا حثَّت صورهما الفوتوغرافية المتواضعة الأولى على فهم نقدي للموضوعات وضاهت المشاهد المبتذلة بالصور الفوتوغرافية الجامدة؛ كما مال أحدث إنتاجهما إلى تحويل المشاهد المعاصرة إلى مناظر ملحمية بل ومهيبة، وإلى تعزيز الدهشة أكثر من الفكر.
لا يزال الفن المعاصر يعرِّف نفسه بوصفه مقابل الثقافة الجماهيرية، وهذا أمر ضروري؛ نظرًا لأنه يتجنب الإنتاج الجماهيري الذي يملك تأثيرًا أبعد على موضوعه. زعم ماركس أن الإنتاج والاستهلاك يرتبطان ببعضهما إلى حد الوحدة، فلا يعتمد أحدهما على الآخر ويتممه فحسب، بل دائمًا ما يتضمن الإنتاج استهلاكًا (على سبيل المثال، المواد الخام)، ويتضمن الاستهلاك إنتاجًا (على سبيل المثال، يقوي الطعام الجسد العامل). إن التركيز على الاستهلاك وحده في أغلب جوانب عالم الفن مسألة أيديولوجية تنبثق من أهمية الإعلان وغيره من الدعاية المؤسسية، فكلما قلَّ تفكير المستهلكين في الإنتاج (من يعمل؟ وما المقابل المادي؟ وفي أي ظروف؟ وما المخاطر؟ وفي إطار أي شكل من أشكال الإكراه؟ وبأي عواقب بيئية؟) كان أفضل. إن هذا الجهل تعززه الممارسات الإنتاجية العتيقة في عالم الفن، وتفصله عن الشأن العادي للإنتاج الجماهيري. ثمة أعداد هائلة من الأعمال الفنية التي تناولت، على سبيل المثال، الطابع الغريب للدُّمى في مجال الاستهلاك (لنضرب بعض الأمثلة المتنوعة، في أعمال مارتن أونرت، ومايك كيلي، وماريكو موري، وجورجينا ستار)، وقليل منها يتطرق إلى الكلفة العادلة للتناقض بين استخدامها المنشود والظروف التي صُنع معظمها في ظلها، في الصين مثلًا، العمالة ذات الضوابط القاسية للنساء صغيرات السن اللاتي يسافرن بين مصنع غير آمن ومهجع مكتظ (ثمة استثناء حديث هو عمل مايكل وولف «قصة الدمية الحقيقية»، والذي عرضه في هونج كونج عام ٢٠٠٤).
هناك بضعة فنانين ممن يجمعون مجالَي الإنتاج والاستهلاك في نقطة اتصال ونزاع. تفحص صور جورسكي الفوتوغرافية، للمتاجر والمعارض وأيضًا المصانع، التوحيد الثقافي أكثر من الاقتصادي بين الاستهلاك والإنتاج؛ فصوره — مثلًا — لمصنع جروندج، ومركز بومبيدو، ومتاجر البيع بأسعار موحدة وزهيدة، تُظهر أشخاصًا بُكمًا محاطين بأطر شبكية ضخمة. من الممكن أن تصلح هذه الأعمال كرسومات توضيحية نموذجية لحجج ثيودور أدورنو في مقاله «أوقات فراغ» عن الصلة والاعتماد المتبادل السريَّيْن بين العمل ووقت الفراغ، التي تتبنى فيها أوقات الفراغ — المقتطعة من أوقات العمل على ما يبدو — هيكل العمل وأنماطه. إن ظهور مثل هذا التفكير في أعمال فنان ألماني له عدة أسباب؛ أحدها هو النجاح الطويل للاقتصاد الصناعي الألماني الذي عزز داخل الكثير من الفنانين الألمان اهتمامًا بالإنتاج مستمدًّا من عقول معظم الفنانين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اللتين تشهدان عملية لاتصنيع متسارعة. إن هذا الاهتمام دفع أيضًا جورسكي وستروث إلى التقاط صور في نظم اقتصادية مماثلة، من بينها اليابان وهونج كونج. يتمثل سبب آخر (ومتصل) في الحراك المستمر للتفكير الحداثي (المشتمل على أعمال أدورنو) في ألمانيا، بعد انتصار حركة ما بعد الحداثة في مناطق أخرى. إلا أن المشهد الاستهلاكي في التسعينيات بوجه عام — الذي تحرك على نحو مواتٍ لميول المجال الفني — انتصر على التفكير النقدي حيال الترابط الوثيق بين الإنتاج والاستهلاك. وسنرى في الفصل الأخير كيف بدأ هذا الأمر في التغير.