تناقضات
الفن المعاصر، لا بأس، لكن معاصر لأي شيء؟
من الناحية الأيديولوجية، زعم ماركس وإنجلز أن الأشياء تبدو مقلوبة رأسًا على عقب. يحتفي الفن المعاصر بكل ما هو مفروض علينا باعتباره ممارسة للحرية، ويفعل ذلك على نحو معقول لأن الحرية المتحالفة مع الاستهلاك هي تجربة النخبة، التي ترى الفن — من حيث تبني الأدوار ونبذها، والهويات المتعددة التي تكونت — في ضوء اختيار المستهلك. لقد بدأت أحداث أخيرة — مداهمة ركود عالمي جديد، وظهور الحركات السياسية الراديكالية، والعواقب الكثيرة لمشروع إمبريالي تنتهجه الولايات المتحدة علنًا — في تحطيم الاتفاق الذي ظل لفترة طويلة حول دور الفن وطابعه، ونتيجة لذلك، بدأ التعبير عن بعضٍ من الآراء المتنوعة للغاية حول الفن، حتى من داخل نطاق النخبة المثقفة.
ربما يمكن لرؤيتين فرنسيتين حديثتين عن الفن المعاصر تقديم أمثلة على ذلك. من وجهة نظر نيكولا بوريو في كتابه المؤثر «الجمالية العلائقية»، اتصف فن التسعينيات في مجمله بأعمال جعلت من التفاعل الاجتماعي ميدانًا جماليًّا، من خلال تقديم خدمات أو عقود للزائرين أو بتيسير الاتصال بينهم ببساطة. يشرح أحد الأمثلة التي أوردها الفكرةَ جيدًا: يذيع ينس هانينج نكات بالتركية من خلال مكبر للصوت في ميدان في كوبنهاجن، مشكلًا رابطًا بين هؤلاء الذين يفهمونها ويضحكون. من وجهة نظر بول فيريليو، في محاضرات نشرت تحت عنوان «الفن والخوف» (واستقبلت على نحو سيئ عندما نشرت في فرنسا عام ٢٠٠٠)، ينشغل منطق الفن دومًا بكسر المحرمات، وتضخيم المشهد، وتوسيع حدود ما يُعد إنسانيًّا، حتى إلى حد الانشغال بالتلاعب الجيني الإبداعي. إن مثل هذا المنطق يتجه في النهاية نحو اغتيال الغايات الجمالية، وكما رأينا في الفصل الثاني، صنع سيرجي بوجايف أفريكا فيلمًا يصور حدثًا حقيقيًّا لمحبي الجمال. إن مثل هذا العمل يصادق على موقف فيريليو حول انعدام الرحمة وسيادة الجلبة بالفن المعاصر، ورغم أن الحقيقة والجمال والأخلاق، بصورة تقليدية ومثالية، قد اجتمعت معًا، فإن فيريليو يطرح السؤال التالي: «الأخلاق أم الجمالية؟» كما لو أن الواحد منهما يستبعد الآخر.
إن الانقسام الهائل بين وجهتي النظر يعود جزئيًّا إلى خلفيات الكاتبين؛ فبوريو مشرف معارض، وهو حاليًّا مدير مساعد لموقع مخصص للفن المعاصر تديره الدولة في «باليه دو طوكيو» بباريس. وقد تشكلت آراؤه من خلال العمل مع الفنانين والحديث معهم؛ فكتابه لا يقدم نقاشًا فحسب، بل ترويجًا لأعمال فنية يوصي بها بأسماء أصحابها؛ مثل أعمال فانيسا بيكروفت وليام جيليك وفيليب بارينو، وروكريت تيراوانيت، وغيرهم. أما فيريليو، فهو فيلسوف ومتخصص في التخطيط العمراني وناشط سياسي محنك، وتعود مساهمته في العالم الفني إلى عمله على الزجاج الملون مع براك وماتيس، كما أن أفكاره — لا سيما المتعلقة بالرؤية والسرعة والحرب — مالت إلى الكابوسية، وليس من المثير للدهشة أنه يكتب عن الفن الحالي باعتباره غير منتمٍ إليه.
من وجهة نظر بوريو، فإن الفن الذي يحث على التفاعل الاجتماعي بين متابعيه يتحرك مباشرة ضد اتجاه عام لزيادة التشظِّي الاجتماعي، بدءًا من تخصص وظيفي متزايد باستمرار إلى ميل الناس لحبس أنفسهم داخل منازلهم في صحبة الإعلام بدلًا من صحبة أشخاص آخرين. يهوِّن الفن من هذه الحالة: «عبر تقديم خدمات بسيطة، يستطيع الفنانون ملء الفراغات بالرابطة الاجتماعية.» لا يقدم الفن تعليمات نظرية فحسب، بل «يوتوبيا تقوم على المشاركة»، يوتوبيا صغيرة وخاطفة وذاتية يستطيع فيها الناس تعلم العيش بطريقة أفضل، إلا أن «ميدان التبادل» هذا يجب الحكم عليه من منظور جمالي عبر تحليل لنمطه، كما تُعامل العلاقات الاجتماعية باعتبارها وسيطًا فنيًّا آخر يسهم في الفوتوغرافيا والفيديو والتجهيز في الفراغ. إن هذه الأعمال ربما تتضمن أشياء تبدو أنها قطع فنية تقليدية وربما تُشترى وتباع، رغم أنه ينبغي أيضًا الحكم عليها في النهاية باعتبارها جزءًا من المشهد الكلي للنشاط الاجتماعي. إن هذا النموذج من الفن — كما يزعم بوريو — هو إنساني وديمقراطي.
ثمة مثال معبِّر عن نوع الفن الذي يحبذه بوريو، وهو عمل جافين تيرك «قصة تشي جيفارا». أعقب هذا الحدث سلسلة من الأعمال التي قدمها تيرك، والتي أدخل فيها وجهه الخاص في صور شهيرة لتشي على لوح إعلانات بالأحمر والأسود وتمثال شمعي بالحجم الطبيعي للصورة الشهيرة التي التقطت لإثبات وفاة الثائر.
في عام ٢٠٠١، في ابتعادٍ طَموحٍ عن المسار السابق في العمل، قدَّم تيرك سلسلة من الاجتماعات والجلسات النقاشية عن حياة تشي وإرثه في قاعة فسيحة في شورديتش. أعقب اجتماعات الاستراتيجية السياسية جلسات نظم فيها نشطاء تظاهرة من المفترض أن تكون ذروة السلسلة. كانت الفكرة وراء هذا العمل — كما ذكر تيرك — استخدام مكانته بوصفه فنانًا يحظى بأهمية إعلامية لإعداد مساحة للنقاش والفعل تحظى بفرصة الظهور في وسائل الإعلام.
إن الانجذاب المتجدد لتشي يعود إلى أن حياته وصورته تمزج سحر الشباب مع الالتزام الثوري الراسخ، وتضفي واحدة شيئًا من الخطر شبه الغائب عن البال على الأخرى. من بين أسباب فكرة هذا العمل تسليط الضوء على التباين بين السياسات الثورية لأمريكا اللاتينية والابتذال المحتدم «للفن البريطاني اليافع»؛ ومن ثم التركيز — من وجهة نظر تيرك — على إشراقات التاريخ التي تشع في الحاضر. إن النضالات اليسارية القديمة بدأت في التوهج ثانية نظرًا لظهور حركات مناهضة للرأسمالية، والتي طورت سبلًا جديدة لإنشاء تحالف بين العمل السياسي والثقافي؛ فهي تجسد ذلك الدمج الخطير للراديكالية الثقافية والسياسية والتي تذكِّر بها صورة تشي.
دفع تشي عصاباته الثورية إلى قراءة رواية «دون كيشوت»، ومشروع تيرك كان بالفعل كيشوتيًّا؛ فلا يمكن إحضار مجموعة قليلة متنوعة من الناس على مدى أسبوعين وتصميم برنامج سياسي من لا شيء. كانت المناقشة التي حضرتُها مشوقة لكنها كانت أيضًا بلا هدف ويعوزها التركيز، وكان آخرون ممن تحدثت معهم وحضروا الجلسات النقاشية يتملكهم شعور مماثل. ومما يدعو للغرابة أن الحدث الختامي هيمن عليه جدال مؤيدي التعري حول حقهم في التعري في العلن.
إن «قصة تشي جيفارا» هي نموذج لطابع الكثير من الأعمال التفاعلية على المستوى الاجتماعي؛ فهناك توازن بين عدد المشاركين وتنوعهم والخطاب المحتمل. ينزع المشاركون النشطاء إلى أن يكونوا قلة، ونخبويين، وانتقائيين، وفي هذه الفقاعات اليوتوبية المؤقتة لا يتم التوصل إلى أية سياسة جوهرية؛ وذلك لأنه حتى بين هؤلاء الذين يحضرون بالفعل، يجري إنكار الاختلافات وتضارب المصالح أو نسيانها بصورة مؤقتة، وتكون النتيجة على الأرجح سياسة رمزية ليس إلا.
من ناحية، فإن استخدام تفاعل الجمهور يدخل من جديد حضورًا فعالًا لا يقبل الجدال إلى فن يهدد بأن يتحول إلى لهو مفرغ لإشارات وأشياء جاهزة. لم يعد الحضور ذاك الخاص بعبقرية الفنان، بل بالجمهور الذي يتحمس مؤقتًا بالمبدأ المثالي الديمقراطي الذي يتعامل مع أفكارهم وأفعالهم باعتبارها شيئًا ذا قيمة، أو على الأقل يميز احتمالهم للمشاركة الإبداعية.
إذا كان هذا العمل بلا فائدة ورمزيًّا بإدراك ذاتي، فإن ظهور هذا النمط من الفن ربما يكون أقل إيجابية مما يرى بوريو. لدى اقترانه بالتفكير في تفريغ السياسات الديمقراطية من فحواها (تذكر مشروع «المواطن العادي» بالسويد)، فما يصفه بوريو هو استيعاب آخر لعالم الفن لما انتهى أو أهمل، وتمثيل جمالي لما كان في السابق تفاعلًا اجتماعيًّا، وخطابًا سياسيًّا، وحتى علاقات إنسانية عادية. إذا كانت الديمقراطية توجد في الأعمال الفنية فقط، فهي في مشكلة كبيرة.
إن هذا النمط من الفن، مع ذلك، يلائم كلًّا من الحكومات (لا سيما الحكومات ذات التحول الديمقراطي الاشتراكي، ومن هنا جاء انتشاره في أوروبا إبان التسعينيات)، وعالم المؤسسات التجارية. إن الحكومات — كما رأينا — تنظر إلى الفن باعتباره مهدئًا اجتماعيًّا، وتأمل أن يؤدي الفن التفاعلي على المستوى الاجتماعي دور ضمادة للجروح الخطيرة التي يستمر رأس المال في التسبب فيها. أما المؤسسات التجارية فربما توظفه على وجه خاص لتخفيف وطأة بيئات العمل بلهو إبداعي، وتحرير بِنى الشركات ومناهجها بفكر ابتكاري، وهكذا تُعاد صياغة الفن باعتباره مستشارًا إداريًّا.
على النقيض من ذلك، لم تكن ملاحظات فيريليو حول الفن المعاصر ما ترغب في سماعه الدول والشركات؛ فهي تحمل الكثير من الأخطاء بالفعل؛ لأن التعبير عنها كان بلغة متشددة وتهويلية، وتحتوي على أخطاء كبيرة، كما أنها استفزازية لإقرانها قدرًا كبيرًا من إنتاج الفن المعاصر مباشرة بالقتل الجماعي. مع ذلك، فإنها تعبِّر بوضوح عن قلق حول أن يضع هذا الفن نفسه في مقابل الخطاب الإنساني والسكينة والتأمل، وفي خدمة القوى الذرائعية. لتوحيد آراء بوريو وفيريليو، ربما يمكننا القول إن من بين الأساليب التي اتبعها الفن لفعل هذا الأمر تحديدًا تغليف التفاعل الاجتماعي بغلاف الأداء الجمالي.
إن منطق رأس المال تحريك جميع المواد والأجساد والثقافات والارتباطات بقوة في إطار البحث الآلي عن تحقيق الأرباح. يكمن شكل مماثل لهذا الأمر في استبدال الرموز عديم الأهمية في الفن. من وجهة نظر فيريليو، إن الإبداع الفني — المتحالف مع رأس المال — موجَّه ضد الإنسانية نفسها، وهو ما يظهر على أبرز نحو في ممارسة التلاعب بالجينات. لقد كانت هناك رؤى عديدة لبشر معدلين وراثيًّا في التصوير الفوتوغرافي الرقمي الحديث — على سبيل المثال، تلك التي قدمها كلٌّ من مارجي جيرلينكس وإينيز فان لامسويردي — ساهمت، بمناظرها المصقولة، في إضفاء طابع سحري لآفاق التغيير الإبداعي في الجينات. تمادى فنانون آخرون في الزعم بأنهم تلاعبوا فعليًّا في جينات كائنات حية للحصول على أثر فني. سواء أجرى إدواردو كاك تعديلات وراثية على أرنب أخضر فسفوري كعمل فني أم لا، فإن المغزى واضح: يملك الفنان الحق في استخدام التلاعب الجيني لغايات جمالية معلنة.
في وجه هذا التحول المستمر، فإن الحصن الأيديولوجي الأعظم هو ذاتية المشاهد. منذ وقت طويل، شعر ليو ستاينبرج أن عملًا تفاعليًّا لروبرت روشينبرج اختزله في وظيفة مفتاح كهربائي. حدث هذا قرب استهلال أعمال السبرانية التي كان لها مثل هذه النوايا تجاهنا. ومع ذلك، رغم التلاعبات الواضحة للغاية بالمشاهد، فإن طابعها المنيع وغموضها المقترن باقٍ. يطرح بورديو سؤالًا (اقتبسته في الفصل الأول) عن سبب وجوب تفادي الفن لجميع التفسيرات، فيقول إن السؤال عن تفسيرات «يشكل تهديدًا مميتًا للتظاهر الشائع للغاية (بين محبي الفن على الأقل) ومع ذلك «المختلف» للغاية عن تفكير المرء في نفسه على أنه فرد يسمو فوق الوصف، وقادر على خبرات تفوق الوصف.»
وفي نهاية المطاف، إن غرض الفن هو أن يكفل لمشاهديه المثقفين أنهم — رغم فساد الديمقراطية، وتلاعب الإعلام، وتلوث البيئة العقلية بالدعاية التجارية القوية التي لا تتوقف — كما هم، لم يمسسهم سوء، ويتمتعون بالحرية. عندما يصادق الفنانون عليه، بإمكانهم المشاركة في نقاش اجتماعي هادف مع غرباء من ذوي الميول المشتركة.
يواجه المشاهد العالمي بعالمية من نوع آخر. بيَّن سيرجي جيلباوت كيف أن النزعة الإقليمية والنزعة القومية — الاهتمامات المحلية الخاصة — بفن الولايات المتحدة أخذتا تتناقصان مع تحرك الولايات المتحدة تجاه ترسيخ هيمنتها العالمية. في مرحلة متقدمة، بطلت هذه الهيمنة، بحيث أنه لم يعد يشترط أن يكون الفن أمريكيًّا، بل يجب أن يصنع وفقًا للنموذج الأمريكي للنيوليبرالية العالمية.
يمكننا أن نخلص إلى أن الفن المعاصر الذي يحظى بأكثر إشادة هو الفن الذي يسهم في تدعيم مصالح الاقتصاد النيوليبرالي، وكسر الحواجز التجارية، وآليات التكافل المحلية، والارتباطات الثقافية في إطار عملية مستمرة من التهجين. لا ينبغي أن يكون هذا سببًا يدعو للدهشة، لكن ثمة تباين ضخم بين نظرة عالم الفن المعاصر لنفسه ووظيفته الفعلية.
يتجاوز الفن حدود الخصوصية المحلية، ويساعد في تغيير ثقافات واقتصاديات العالم ومزجها. إن الجوانب التصاعدية والتنازلية لهذه العملية متصلة على نحو معقد. تنهزم مواطن المقاومة المحلية، وفي أماكن كثيرة تسوء الأوضاع نتيجة لذلك. على نحو مماثل، يمهد الفن الطريق أمام اندماج أكبر، وظهور تضامنات أوسع، أوضحها هارت ونيجري على نحو مقنع للغاية في كتاب «الإمبراطورية». ومع ذلك، فإن أية سمة تصاعدية بدعم عالم الفن للنيوليبرالية هي معاكسة لنظرته الخاصة لأفعاله، والتي تنصبُّ على الخاص والشخصي وغير الذرائعي، وبالطبع ليس على التضحية بالطبائع الخاصة في سياق التجانس العالمي. هذا التباين تحديدًا هو الذي يشكل الإسهام الرئيسي للفن، في النهاية، فيما تنفذه الثقافة الجماهيرية بصورة أكثر فاعلية كثيرًا: اجتذاب قطاعات من النخبة تسمو فوق ثقافاتها المحلية وتبتعد عنها، وذريعة أيديولوجية فعالة للغاية لأفعال ذلك الجمهور في تواطئه مع رأس المال العالمي.
إلا أن هذا الموقف يتميز بتوترات وتناقضات مختلفة. لقد رأينا أن انعدام جدوى الفن — وهي جدواه الرئيسية — تشوَّه بحاجات خاصة بالحكومة والشركات. وفي تطور متصل، تعرَّضت نخبوية الفن للتشكيك نتيجة لمحاولة توسيع نطاق جاذبيتها: إذ تثمِّن الشركات الفن لسمته الحصرية، فيما تهتم الدول بوجه عام بالنقيض، وترغب في توسيع حيزه. وفي النهاية إن وسيلة الفن الإنتاجية، وهي تكنولوجية بصورة متزايدة، دخلت في صراع مع علاقاته الإنتاجية العتيقة.
تندرج فرص استغلال هذه التوترات ضمن فئات أربع. الأولى: تحطيم الأيقونات؛ فتدمير الفن — أو حتى محاولة فعل ذلك — هو الاعتراض الأساسي على الفكرة الضمنية للفن المعاصر القاضية بأن كل الرموز متاحة بالتساوي أمام التلاعب. إن أقارب ضحايا مايرا هيندلي رأوا أن صورتها لا يجب أن تكون عرضة لمثل هذا التلاعب، ودعمهم شخصان حاولا تدمير عمل ماركوس هارفي «مايرا» إبان عرضه في معرض «شعور»، بالمثل تعرضت لوحة كريس أوفيلي «مريم العذراء»، التي جاور فيها الرسم الرئيسي بمقصوصات من مجلات إباحية، للهجوم عند عرضها بمعرض «إحساس» بنيويورك. إن مثل هذه الأعمال تتحدى أيضًا الرأي الذي يؤمن به الكثيرون بأن جميع الأعمال الفنية جيدة، وهو نتاج التعبير المطلق عن الذات. حين تتعرض الأعمال الفنية العامة للهجوم، يتبين محيطها وغايتها وسياسة مباشرتها. كان الإحراق المتعمد المخطط جيدًا في برمنجهام لمنحوتة «إلى الأمام» لريموند مايسون، والذي مقته الكثير من سكان المدينة؛ ممارسةً للسلطة المبتذلة على قطعة فنية الغرض منها الدعاية للسلطة المحلية.
أما الفئتان الثانية والثالثة فتتمثلان في مذهب النشاط السياسي في الفن، والاستغلال المتصل لوسائل تكنولوجية لتفادي نظام عالم الفن. كان هناك بعض الانتقادات الصريحة للنيوليبرالية داخل نطاق البيناليات العالمية. اتخذت أحدث مناسبتين لمعارض «دوكيومنتا» من المشاركة السياسية موضوعًا لهما: فمعرض «دوكيومنتا العاشر»، تحت إشراف كاثرين ديفيد، اتخذ سمة لا سياسية لعالم الفن في ذروة انتعاش التسعينيات، ونتيجة لذلك أُدين أشد الإدانة في مناحٍ كثيرة لكونه يتأمل الماضي ويشتاق إليه؛ ومعرض «دوكيومنتا الحادي عشر»، أشرف عليه أكوي إنويزر، وكان إشارة واضحة أخرى على أن الفن الهامشي انتقل إلى مركز الاهتمام، فقد ضم مجموعة هائلة من الأعمال النقدية، دعمها نقاشات جرت في أماكن كثيرة حول العالم، ونشر حوارات عن الديمقراطية، والصدق والتصالح، والكريولية والمدينة في أمريكا اللاتينية. مع ذلك، ما دام أن هذه الأعمال تبقى داخل نطاق بِنى العالم الفني التقليدية، فإن هذه الانتقادات تحتوي تناقضات واضحة في ذاتها توهن من قوتها المحتملة.
في كتاب صغير مازح — يصور حوارًا بين ماثيو أرنات وماثيو كولينجز عن معرض «دوكيومنتا الحادي عشر»، ومن خلاله حديث بالمثل عن شخصيهما ولغتهما النقدية — يعبر الكاتبان عن انزعاجهما من استعراض الأعمال المغايرة. وبصورة نمطية، لا يملك كولينجز، وفي سبيل جعل القارئ غير منزعج من سهوه وقلة خبرته، سوى ذكريات مبهمة ومشوشة عما شاهده، مع ذلك يذكر اعتراضه على الطريقة التي «عبس بها جميع الموجودين فوق المنصة بالمؤتمر الصحفي، ويشعرون بألم المعاناة، أو معاناة الألم، أو على الأقل كانوا يتحدثون بتكلف وكانوا يجفلون كثيرًا.» إن المغزى المهم هنا أن مثل ردود الأفعال هذه متفق عليه مقدمًا. بالنسبة لهؤلاء — أمثال كولينجز — الذين يعادون الافتراضات «السليمة سياسيًّا»، فمثل هذه الأعمال ضعيفة.
الجميع «يعلم»، وذلك بناءً على عرفانية معكوسة — شيء مثل العجرفة ذات المبادئ — التي توظِّف في «خدمتها» الكائنات الحية بأفريقيا (الغنية بالألوان والراقصة في كل فرصة)، «والمشاعر» المعذبة لضحايا «البشاعات» السياسية والاقتصادية المبعدين جغرافيًا، وتوحد بينها. بتلك الطريقة، فإن اعتذار المركز على مركزيته الخاصة ينسحب على إدارة شئونه المريعة والشاذة، إذ يأتي بفاكهة الغيرية العجيبة، ويخفقها لتتحول إلى شيء هلامي القوام؛ كم هو أمر مقزز!
كما يذهب إلى أن هناك تناقضًا بين الفردانية الاحترافية لهذا الحدث (يحاول المشرفون، شأنهم شأن الفنانين، شغل مساحة فريدة) وانشغالات الحدث الجذرية (التي يبدو أنها تميل نحو المذهب الجماعي).
إلا أن السوء الذي انطوى عليه عرض هذه المشكلات في الفن لا يكمن في أن هذه الموضوعات هي ردود أفعال انعكاسية للتيار اليساري، ولا في إخفاق في توجيه اللوم إلى أناس تعرض أمامهم مثل هذه الأعمال، بل يكمن في الاحتمال الطفيف للغاية أن العالم الفني وحده يمكنه فعل أي شيء للمساعدة. إذا كانت الأعمال الفنية تعرض دون أي احتمال أن يكون لها صدى، فسيصبح عرضها مجرد أداء ومشاهدتها شكلًا من أشكال التسلية. سيقال إن العالم الفني ليس منفصلًا بحواجز فاصلة عن باقي المجتمع، بحيث يكون لهذه المعارض تأثير أوسع، وهذا يمكن أن يكون صحيحًا بصورة متزايدة إذا استمر تدمير استقلالية الفن، بيد أن تهميش الفن الحالي، عند مقارنته بباقي الجوانب الثقافية، يعني أن تلك الآثار من المحتمل أن تكون ثانوية. إن وجهة نظر والتر بنجامين القديمة لا تزال قائمة هنا: إن الفن الراديكالي يحتاج إلى فعل شيء أكثر من جعل السياسة موضوعه، لا بد أن يغير من الطريقة التي يُصنع ويُوزع ويُشاهد بها.
كان الخروج من الميدان التقليدي لعروض المعارض والمتاحف أحد ردود الأفعال. منذ منتصف التسعينيات، مع ظهور متصفح الويب، هدد نزع الصفة المادية من الأعمال الفنية — لا سيما في توزيعها اليسير عبر شبكات رقمية — النظام المصون للفنون. ماذا ستصنع السوق بعمل قابل للنسخ بدقة مثالية، ويمكن وضعه على آلاف من الخوادم وملايين من أجهزة الكمبيوتر في آن واحد، ويمكن للمستخدمين تفكيكه وتعديله؟ كيف يتسنى للمرء شراء أو بيع أو امتلاك مثل هذا الجزء من البيانات؟ وهذا هو الموقف — ذا الأهمية المحورية في نظرية ماركس — الذي يتعارض فيه تحديث وسائل الإنتاج مع علاقات الإنتاج. وفي الفن الرقمي، يتعارض استخدام وسائل التكنولوجيا الجديدة لإعداد العمل الفني وتوزيعه مع الممارسة القائمة على الحرفة ومع الرعاية وكذلك مع النخبوية التي يتسم بها العالم الفني.
أسهم فنانون في عالم الإنترنت، جنبًا إلى جنب مع الشركات التجارية التي بذلت جهودًا منسقة لتغيير الإنترنت من كونه منتدى إلى مركز تسوق تجاري. لقد كان هذا الاستعمار التجاري موضوعًا ثريًّا لفنَّاني الإنترنت الذين أنتجوا أعمالًا فنية ذكية ومعقدة تهدف إلى جذب المتسوق وإدهاشه. من بين أكثر الأعمال شهرة ذلك العمل الذي نشرته مؤسسة الأعمال الفنية إيتوي؛ فعملها «اختطاف رقمي» حولَ المتصفحين الذين كتبوا في محرك البحث كلمات مثل «مادونا»، و«بورش»، و«بنتهاوس»، ونقروا فوق الموقع الأعلى تصنيفًا لإيتوي، ثم حيَّاهم بهذا الرد: «لا تحرك ساكنًا، إن هذه عملية اختطاف رقمي.» تلاها تحميل لملف صوتي عن محنة مخترق حاسوب مسجون وهو كيفن ميتنيك، واختطاف الإنترنت من قبل شركة نتسكيب. وآخرون — من بينهم ريتشل بيكر، بفحصها الدقيق للدراسات الاستقصائية الخاصة بالعملاء، والتنقيب في البيانات، وبطاقات خصومات العملاء — دخلوا في نزاع مع الشركات التجارية التي استخدمت قوانين حقوق النشر لكبت حرية التعبير عن الرأي. صممت بيكر موقعًا يعِدُ مستخدمي الويب الذين سجلوا للحصول على بطاقة خصومات العملاء من شركة «تيسكو» بتقديم نقاط لهم أثناء تصفحهم الشبكة، شريطة أن يستكملوا استمارة تسجيل تطرح أسئلة على غرار: «هل تقدم غالبًا بياناتك الشخصية للمسوقين؟» و«ما مدى أهمية بياناتك الشخصية لعملاء التسويق؟» وسرعان ما تلقت خطابًا من شركة تيسكو تهددها فيه بإرسال أمر زجري قضائي ومطالبة بتعويض عن أضرار.
هذا النمط الفني دليل على تطور هائل أوسع نطاقًا؛ فمن نوع فتاك مستعاد للرأسمالية — في وقت انتصارها الظاهري — خرجت حركة معارضة متماسكة، مكونة من السياسة المتشظية القائمة على الاهتمام بقضية واحدة. يزعم مايكل هارت وأنطونيو نيجري أن هذا ليس بمصادفة، أن تنبثق القيم التعاونية من تحول الاقتصاديات الأساسية بعينه إلى معالجة البيانات، والتي يمكن أن يمثل فيها التعاون بين الشركات والمستخدمين والمنتجين قوى تنظيمية أكثر أهمية من رأسمال الاستثمار. وتأتي النتيجة في «احتمال ظهور نوع من الشيوعية تلقائي وأولي». إن حركة البرمجيات الحرة — التي قامت على هذا التعاون العالمي التطوعي تحديدًا المحمي بصيغة غير أصلية من قوانين حقوق النشر — هي تحدٍّ لهيمنة شركة مايكروسوفت وتضرب مثالًا بارزًا على هذا العمل الجماعي في أرض الواقع.
إن الفن على الإنترنت يثير — بدرجة أكثر فاعلية من معالجته العتيقة بالمعارض — قضايا الحوار والديمقراطية بوضوح. إن الديمقراطية هنا منفصلة عن السوق، والحوار سريع، والاقتراض متكرر، والانفتاح جزء من الأخلاقيات العامة، وثمة خط ضبابي بين صناع العمل ومشاهديه. هناك تباشير بالتضحية بالفنان المستقل والمشاهد المنعزلة لصالح المشاركة الجماعية إضافة إلى الصفات الأكثر حتمية ومراوغة بالفن، وردود الأفعال الهادفة والفعالة.
أتمنى أن أصف مواقف المتظاهرين العزل، وأحيانًا يتعرون عمدًا في صقيع الشتاء، وهم في انتظار قنابل الغاز والطلقات المطاطية والقنابل الارتجاجية. كانت هناك لحظات من الفعاليات بالمجتمع، ولحظات أخرى من الاضطراب بالحضر، وغيرها من لحظات الاحتفال.
إذن في غضون الانتظار، طبعت لحظات جامدة في إطار فوتوغرافي، لكنها تضم قدرًا هائلًا من الوقت مضمنًا داخلها، وقت يتطلع للمستقبل لكن من المؤكد للغاية في توقع ورهبة، ويتأمل الماضي أيضًا؛ لأنه كان هناك سمة عتيقة حيال كلٍّ من التظاهرات وتلك الصور، شعور بأن التاريخ يعيد تأكيد نفسه. ماذا أعاد تنشيط الوقت في مثل هذه الصور؟ ليست الأحداث بسياتل وحدها بل الطريقة التي بدت بها تضمنها داخل نظام أوسع للتغيير؛ فالجماعات سريعة الغضب التي ركزت على قضية واحدة في السابق تندمج داخل انتقاد واسع للنحو الذي تسير عليه الأمور. إن المشروع الإيجابي للحركات الحديثة هو مثار جدال، لكن خطوطه العريضة بيِّنة: حماية البيئة، وزيادة المساواة، وجعل الديمقراطية تعني ما هو أكثر من انتخابات دورية للحكام والأحزاب في بلوتوقراطيات (حكومات أثرياء) ثابتة.
مجددًا، يحمل هذا العمل قيمة دعائية واضحة، ولا يسعى إلى أن يكون لغزًا في ذاته أو إلى تملُّق المشاهدين عن طريق التأكيد لهم على العمق الهائل لتفكيرهم. لا شك أنه من الممكن أن يصب تقديم المعارض لهذا العمل في صالح تكريم مضيفيه. مع ذلك إن الدور الأكبر الواضح والمحدد للعمل يتعارض مع تلك الوظيفة؛ لأنها لا تتواءم مع المثاليات الضبابية المعتادة التي تدعم مكانة الفن والمعرض.
لهذا السبب أحب الفن؛ فهناك — على الأقل — كل شيء يتسم بالحرية في هذا العالم القصصي، وهناك يشعر المرء بالرضا، ويفعل كل شيء؛ فيكون ملكًا ورعاياه، نشطًا وسلبيًّا، ضحيةً وقسًّا. لا توجد حدود، الإنسانية بالنسبة إليك دميةً بها أجراس تقرعها في نهاية الجملة كشعور الإثارة الذي يسببه المهرج.
يلمِّح فلوبير كثيرًا إلى أن السيادة الحرة للفنان (والقارئ أو المتفرج) هي قوة عاتية. في تحليل بورديو، ابتيعت الحرية عند فلوبير، وتلك الخاصة بالفن الطليعي بوجه عام، مقابل الانفصال الفعلي عن عالم الاقتصاد. كان كُتَّاب بوهيميون آخرون هم السوق الرئيسية وغير الملائمة بصورة فادحة لهذا النمط من الأعمال، وأُلِّفت كتب في تحدٍّ متعمد للفهم البرجوازي. تشكلت استقلالية الفن من رد فعل ضد كلٍّ من المؤلفات البرجوازية الرفيعة والأدب الواقعي المنشغل بالقضايا، وتحقق الاستحسان — إذا كان تحقق على الإطلاق — بعد مرور وقت طويل من الزمن، مع أنماط طليعية جديدة حلت محل القديمة وروضتها. من اليسير رؤية أن شروط تلك الحرية لم تعد موجودة في عالم الفن؛ فالفنانون يشعرون بالراحة في كنف السوق، والأعمال الفنية تُصنع للتودد إلى العامة، مع الإبقاء على قدر كافٍ من الاستقلالية لتعريف الفن على أنه فن، لكن بخلاف ذلك فمعظم الأنماط والموضوعات منُغمسٌ فيها، وغالبًا ما يأتي النجاح سريعًا، أو لا يأتي على الإطلاق.
في مثل هذه الظروف، تتناقص مصداقية حرية الفن وسلطته. من بين الملاحظات الافتتاحية في كتاب «النظرية الجمالية»، قال أدورنو عن الحرية الفنية: «إن الحرية المطلقة في الفن دائمًا ما تقتصر على شيء خاص؛ مما يتناقض مع غياب الحرية الثابت للكل.» وحتى انمحاء غياب الحرية الأوسع نطاقًا هذا، فإن الحريات الخاصة للفن تتخلل الأصابع كالرمال. وفي حين أنها قد تفتح نافذة يوتوبية على عالم أقل ذرائعية، فهي تخدم أيضًا دور ذرائع فعالة للاضطهاد. على النقيض من ذلك، تشكل الأعمال التي تحمل فائدة واضحة ضغطًا على التناقضات المتأصلة في النظام الفني، وتسعى إلى تحرير نفسها من عبودية رأس المال. إن انتهاك استقلالية الفن الحر يعني رفع أحد أقنعة التجارة الحرة، أو العكس بالعكس، وإذا تقرر هجر التجارة الحرة كنموذج للتطور العالمي، فسيسري ذلك حتمًا على حليفها؛ وهو الفن الحر.