تمهيد
عندما نُحاول أن نُعرِّف علم النفس نجد أن أمامنا مهمة عسيرة، وليس ذلك بغريب؛ فإنه ليس من السهل تعريف أي علم من العلوم، حتى العلوم الطبيعية مع ما امتازت به من تحدُّد المنهج ووضوح المعالم.
وتبدو الصعوبة لأول وهلة في تسمية العلم؛ فهو علم «النفس»، واستعمال كلمة «النفس» في ذاته أمر يدعو إلى التساؤل: ما هو المقصود بها؟ أهي «الروح» أم «العقل» أم هما معًا؟ أم شيء آخر غيرهما؟
والواقع أن الإجابة على هذا السؤال لن تكون مُجدية تمامًا إلا بعد دراسة هذا العلم، ولكننا نستطيع أن نقول باختصار: إنَّ علم النفس الحديث هو أحد العلوم التي تَدرس «الإنسان» فتنظر إلى جانب من جوانبه المتعدِّدة، وتُحلِّل هذا الجانب، وتصل فيه إلى الحقائق، وتربط العلل بالمعلولات، ثم تربط بين هذا الجانب الذي تدرسه من الإنسان وبين جوانبه الأخرى.
ما هو هذا الجانب الذي يدرسه علم النفس؟ لعله ليس هناك ما يوضِّح لنا اتجاه علم النفس الحديث خيرًا من مقارنته بعلم آخر واضح المعالم لدرجة كبيرة، هو علم وظائف الأعضاء أو «الفسيولوجيا»، فهذا العلم أيضًا يدرس الإنسان، يدرس جانبًا من جوانبه، هو جانب الوظائف التي يقوم بها جسمه، بكُليَّتِه وبأجزائه؛ فهو ينظر إلى النفس، إلى التغذي وإلى النمو، إلى الإخراج وإلى التناسل … وإلى غير ذلك من الوظائف التي يقوم بها الكائن الحي أو تقوم به، ويحاول أن يبحث عن كيفية حدوثها، وعن آثارها وعلاقتها بعضها ببعض، إلى غير ذلك.
ومعنى ذلك أننا ننظُر إلى الكائن الحي — والحيوان في ذلك مثل الإنسان — باعتباره وحدةً، فكما أنه يتغذى ويتنفس، فهو يَشعُر ويُدرك ويريد، بل إنه لَيقوم بكِلا النَّوعين من الوظائف مُندمجةً معًا.
إذن فمجموعة الوظائف التي يَبحث فيها علم وظائف الأعضاء، وتلك التي يبحث فيها علم النفس، كلها وظائف الكائن الحي، وإنما تميَّزت الطائفة الأولى من هذه الوظائف بإمكان تتبُّعها تتبعًا ماديًّا، فنحن نستطيع أن نحلِّل الطعام الذي نتناوله في المعمل، ونستطيع أن نتتبع العمليات التي يمرُّ بها من تمزيق وطحن وما يُصبُّ عليه من سوائل هاضمة، وما يحدث له في الفم والمَعدة والأمعاء إلى آخر ذلك. فالأجهزة التي تقوم بوظائف الهضم والتنفُّس والإخراج أجهزة معروفة لنا نستطيع أن نصل إليها بالتشريح وبالتجارب والمَشاهدة الفعلية.
أما الطائفة الثانية من الوظائف من تفكير وإدراك وشعور فليست من النوع نفسه؛ فهي لا تخضع لمبضع الجرَّاح، وتستعصي على عدسة الميكروسكوب، ولا نستطيع أن نتتبَّعها في المعمل بالمُشاهدة الفعلية.
ولذلك كان لعلم النفس طرائقه الخاصة المستمَدة من طبيعة الوظائف التي يبحث فيها.
ولا شك في أن البحث في أي من العلمَين؛ علم وظائف الأعضاء وعلم النفس، يجرُّ بالضرورة إلى البحث في الآخر، فإذا تتبَّعنا أية وظيفة من الوظائف الفسيولوجية، فإننا سنجد في النهاية أن أداءها مرتبطًا بتلك المجموعة من الأنسجة الرخوة المحميَّة داخل التجاويف العظمية الصلبة للجمجمة والعمود الفقري وما يتبعها، وهي التي نُسمِّيها إجمالًا بالجهاز العصبي.
وإذا بحثْنا في الوظائف النفسية فإن البحث يقودنا في النهاية إلى المصدر نفسه، غير أن وظيفة المخ باعتباره عاملًا فعَّالًا في الوظائف الفسيولوجية للجسم وظيفة أغلبها معروف، ولكن وظيفته باعتباره مركزًا للعمليات العقلية أو النفسية أغلبها مجهول وأقلها معروف. في هذه الساحة إذن تَلتقي الوظائف النفسية والوظائف الفسيولوجية، ومن هذا التلاقي تنشأ العلاقة الوثيقة بين النوعين من الوظائف، بل الوحدة التي تتجلَّى في الكائن الحي.
والعلاقة بين الجسم والنفس مما شغل الباحثين أجيالًا طويلة، وما زال ولن يزال يشغلهم، وكلٌّ يحاول أن يحلَّ مُعضلاته بطريقته الخاصة؛ فهو يشغل الفلاسفة، يُحاولون أن يصلوا إلى الحل بتأمُّلاتهم، ويشغل علماء النفس وعلماء البيولوجيا والطب، يُحاولون أن يصلوا إليه بالتجارب والمُشاهَدات.
إذا كنا قد استطعْنا أن نُدرك الآن ما الذي نقصده بعلم النفس بوجه الإجمال، فلننتقل إلى النقطة الثانية لنلخِّص فيها كيف نظر العلماء إلى النفس في مختلَف العصور، فنجد أن هناك طريقين متوازيين للبحث، بدأ أحدهما فلسفيًّا والآخر طبيًّا، وانتهى بهما الأمر إلى أن تقاربا ثم اندمجا إلى درجة كبيرة.
أما الأول فقد بدأ منذ عهد الفلاسفة الإغريق؛ فقد اهتموا بالعلم، وبما أن «العقل» هو أداة العلم فقد انصرف همهم إلى دراسة «العقل»، وكانت دراستهم منصبة أكثر ما تكون على جانب مما نسميه الآن بالفكر أو المعرفة، وقد استمر الاهتمام بهذه الناحية خلال العصور الماضية، ولا يزال إلى الآن الشغل الشاغل لكثير من علماء النفس، فالإدراك والفكر، والتذكر والذكاء وما إليها لا تزال من أهم ما يشمله علم النفس.
وقد تردَّد صدى كلٍّ من الاتجاهين في أثناء النهضة الفكرية الإسلامية، وكان من أثر ذلك أننا نجد في كتابات فلاسفة العرب لفظَي النفس والعقل. ولم يكن اللفظان مترادفَين، وإنما كان كلٌّ منهما يشير إلى اتجاه خاص في تناول الموضوع.
فالنفس كانت أكثر ما تُذكر عندما يُقصد إلى إبراز ناحية الانفعال أو الرغبة أو الشهوة، هذا إلى تضمين المعنى أحيانًا لِما نفهمه من الروح، وأما العقل فيُذكر عندما يقصد الكاتب إلى المعرفة أو الذاكرة أو التفكير إلى غير ذلك من نواحي «الفكر»، والواقع أن ألفاظ الروح والنفس والعقل قد أدَّت معاني مختلفة في أوقات مختلفة.
ولكنها كثيرًا ما تداخلَتْ تداخُلًا كبيرًا؛ فالروح كثيرًا ما قصَد بها الكاتبون ما يتعلق بالقيم الخُلقية، بينما النفس كثيرًا ما خُصِّصت للمعاني المتعلقة بالشهوة أو الناحية «الحيوانية» من الإنسان، أما «العقل» فقُصد به غالبًا الناحية المفكِّرة المدبِّرة من الإنسان.
وعلم النفس الحديث لا يَنظر إلى هذه النواحي كوحدات مستقلَّة منفصلة، بل يجمع بينها جميعًا باعتبارها مظاهر لكل واحد نُسمِّيه أحيانًا بالنفس وأحيانًا بالعقل، ولا نفرِّق عادةً بين التسميتَين؛ فهما الآن في كتابات المحدِّثين باللغة العربية لفظان مترادفان لا مختلفان، وسنجد أننا نستعمل اللفظين في هذا الكتاب بمعنى واحد.
قلنا إنه كان هناك طريقان متوازيان للبحث فيما نُسمِّيه الآن علم النفس، أما الطريق الفلسفي الذي كان يَنصبُّ في أغلبه على البحث في المعرفة فقد لقيَ من عناية الفلاسفة ما جعله يتقدم ويُثمر ويُصبح هو الغالب، بينما ظل الطريق الآخر مدة طويلة واقفًا عند الحدِّ الذي أوصله إليه جالينوس.
وعلى ذلك يكون قد أرجع الحياة النفسية كلها إلى نوع أو أكثر من أنواع التفاعل بين الأفكار؛ فهي أساس الوجدان، أساس اللذة والألم، وأساس الخُلق والشخصية.
وفي جميع هذه الأدوار التي مرَّ بها علم النفس لا نكاد نجد ذكرًا للغرائز أو الدوافع أو غيرها من المصطلحات التي دخلَت بعد ذلك وأصبحت من المفهومات الأساسية فيه.
وقد أدَّت هذه النظرية إلى البحث عن «غرائز» الإنسان، وعمَّا هو «فطري» فيه، وقد بدأ علم النفس يتَّجه هذا الاتجاه، ولم يكن من السهل أن يفطن علم النفس إلى هذه الحقيقة قبل ظهور نظرية التطور، وكان من نتائج هذا الاتجاه أن ظهر «علم النفس الحيواني» كفرع مِن علم النفس له قيمته في توجيه علم النفس «الإنساني».
وقد بدأ علم النفس في الوقت ذاته يتَّجه اتجاهًا اجتماعيًّا وبدأ علماء الاجتماع وغيرهم يَبحثون عن تفسيرٍ نفسي للظواهر الاجتماعية والإنسانية المختلفة، وكان مكدوجل في مقدمة أولئك الذين حاولوا أن يوجِّهوا علم النفس توجيهًا اجتماعيًّا، فقد عُني بأن يُبرز الناحية الاجتماعية في الغرائز الإنسانية، وأن يتتبع النزعات الاجتماعية المختلفة حتى أصولها الفطرية.
ومن الغريب أن أوجه التشابه بين الاثنين كانت كبيرة بالرغم من التفاوت الهائل بين النظرية التي انتهى إليها أحدهما والنظرية التي انتهى إليها الآخر.
وبما أننا سنتفرغ في هذا الكتاب لشرح نظريات فرويد فقد آثرْنا أن نضع أمام القارئ في هذه المقدمة شرحًا مختصرًا لسيكولوجية مكدوجل. وأساس السلوك الإنساني عند مكدوجل كما قلنا هو الغريزة، وللغريزة في نظره معنًى خاص؛ فهي استعداد متعدِّد النواحي؛ إذ إن لها جوانب ثلاثة مشتقة من مظاهر النفس التي وصفها «كانت»؛ وهي الإدراك والوجدان والنزوع، فالفأر مثلًا إذا فوجئ برؤية القط فإنه يُدركه إدراكًا خاصًّا وينتبه له، ويشعر بانفعال الخوف الذي يدفعه إلى النزوع نحو الهرب التماسًا للنجاة، فكأنَّ الموقف الغريزي شمل الأنواع الثلاثة: الإدراك والوجدان والنزوع، ويَحدُث مثل ذلك بالنسبة للإنسان عندما يمرُّ بموقف تثار فيه إحدى غرائزه.
ومن الأسس التي تقوم عليها سيكولوجية مكدوجل أن السلوك يجبُ النظر إليه دائمًا في ضوء الدافع الذي يدفع إليه والغاية التي يرمي إليها، فكل سلوك ينتج عن دافع ويرمي إلى غاية.
والدافع نوع من «الطاقة» أو «النشاط» الداخلي يُحفِّز الإنسان إلى السلوك لبلوغ «غاية» معينة، وبين «الدافع» و«الغاية» يتنوَّع السلوك تنوعًا واسع المدى.
للإنسان إذن غرائز فطرية مثله في ذلك مثل الحيوان، غير أن الغرائز في الحيوان متشابهة، جامدة، موحدة الصورة، وهذا هو الذي جعل ملاحظتها سهلة من مبدأ الأمر، أما الإنسان فإن المُشاهِد لسلوكه يجد تنوعًا كبيرًا في السلوك واختلافًا بين الأفراد، فكيف يتَّفق ذلك مع وجود غرائز مشتركة بين الناس؟ يُعلِّل مكدوجل ذلك بأن الغرائز عند الإنسان قابلة للتعديل في ضوء الخبرة التي يمرُّ بها الفرد، فغريزة الخوف مثلًا يثيرها عند الطفل الصغير مثيرات معينة؛ كصوت عالٍ مفاجئ مثلًا، وانفعالها للخوف، وهو معروف لدينا، والسلوك الذي ترمي إليه هو الهرب من مثير الخوف، ولكنَّ الغريزة تتعدَّل في حياتنا، فنحن مع الوقت نتخلَّص من كثير من المثيرات التي تخيف الطفل، وفي الوقت نفسه نتعلم أن نخاف أشياء جديدة لا تخطر له على بال، فنخاف العار أو الفضيحة أو السقوط الأدبي إلى غير ذلك، ثم إننا لا نهرب إذ نخاف هذه الأشياء، بل نتبع طرقًا أخرى للتخلُّص مما يُخيفنا، ونحن نغضب في الطفولة إذا حيلَ بيننا وبين غايتنا، فالمثير الذي يُثير الغريزة هو الحيلولة دون بلوغ الغاية، والانفعال هو الغضب، أما السلوك الناتج فهو الرغبة في تدمير العقبة التي وقفت في طريق الغريزة، ولكننا إذ نتقدَّم في العمر نتخلَّص من كثير من مثيرات الغضب ونُحلُّ غيرها محلها، فنغضب للكرامة، ونغضب للاعتداء على الضعفاء، ونغضب للوطن أو للدين أو لغير ذلك من «المعاني» التي لا تخطر للطفل على بال، ثم إننا نتبع طرقًا تختلف عن التدمير فنكتب، ونرفع القضايا أمام المحاكم، أو قد نؤلف قصيدة في هجاء المغضوب عليه، ولكننا في كلتا الحالتين نخاف ونغضب. فإذا اعتبرنا المظاهر الثلاثة للغريزة، فإن قابلية التعديل تنصبُّ على اثنين منها؛ هما المظهر الإدراكي، والمظهر السلوكي، ولكنها لا تتناول المظهر الوجداني وهو الانفعال.
وهذه القابلية للتعديل مهمة جدًّا؛ لأنها هي التي تسمح برفع مستوى السلوك الإنساني بأجمعه، عن طريق الإضافة والإحلال والحذف، وهي التي تسمح بهذا التنويع الكبير في سلوك مختلَف الأفراد، ذلك التنويع الذي يكاد يغطي على الصورة الأصلية للغريزة ويوهم المُشاهِد السطحي أن الإنسان يكتسب سلوكه بالتلقين والعادة لا بالفطرة والسليقة. وهذا التعديل الذي يدخل على الغرائز يتأثر بما يمرُّ به الفرد في حياته من خبرة أو تعليم يرفعان السلوك الغريزي من مستواه الفطري إلى مستوى أرقى، فكأنَّ الغريزة بصورتها الفطرية نواة نستطيع عن طريقها أن نرقى بالفرد ونتيح له أن يسمو إلى مستوى أعلى، والواقع أن الرقي الذي يبلغه المجتمع إنما يأتي عن طريق تعديل غرائز أفراده. وكل فرد يتأثَّر بالمُجتمع بدوره فتتعدَّل غرائزه في الاتجاهات التي يسمح بها المجتمع، ولنأخذ مثالًا غريزة الخوف فنجد في الشكل الآتي ما يُبيِّن الاتجاهات المحتملة لتعديلها.
لم تقف سيكولوجية مكدوجل عند هذا الحد، بل إنها أكَّدت نقطة أخرى هامة هي حدوث تنظيم يتناول الغرائز في صورتها الفطرية، ويُحيلها إلى صورة جديدة؛ وذلك أن الغرائز في صورتها الأولية قد تتضارَب؛ إذ تنشأ في حياة الفرد مواقف تُثير أكثر من غريزة في وقت واحد، كأن يجد الفرد نفسه وهو جائع مدفوعًا بغريزة الْتِماس الطعام إلى التماسه من أيِّ سبيل كالسرقة مثلًا، بينما تدفعه غريزة الخوف إلى العدول عن ذلك.
ولكنا نُشاهد في سلوك الناس عادةً نوعًا من الاستمرار والوحدة والاستقرار تجعل من المُمكن أن نتنبَّأ بالكيفية التي يتصرَّف بها شخص معيَّن في موقف معين، فأنت إذ تسمع عن صديق أنه خان أمانةً وُكلت إليه تقول: يَستحيل أن يفعل صديقي مثل ذلك! والواقع أنك إنما تَستوحي ما تعرفه من سلوكه الماضي لتحكم على سلوكه في هذه الواقعة المعيَّنة؛ أي أنك تفرض نوعًا من الاستمرار والوحدة في السلوك.
ولنأخذ مثالًا، عاطفة الصداقة مثلًا؛ فهي تنشأ من مقابلتي لشخص معين عدة مرات مُتتالية، ثم من احتكاكي بهذا الشخص في أثناء هذه المُقابلات احتكاكًا يُشبع فيَّ رغبات معينة، فلا يلبث أن يُصبح موضعًا لاهتمامي، ثم سرعان ما تتكوَّن نحوه عاطفة نُسمِّيها عاطفة الصداقة، فما علاقة هذه العاطفة بالغرائز؟ الواقع أن العاطفة لا تتكوَّن نحو هذا الشخص إلا إذا تكرر ارتباطه بمواقف تُستثار فيها انفعالاتي الغريزية، ويكون له نصيب في إشباع الغرائز. فهو مرة يرضي عندي غريزة السيطرة، وأخرى يُرضي غريزة التملك، وثالثة يرضي غريزة التجمع، وهكذا … ومعنى هذا أنه قد ارتبَط بعدد كبير من الانفعالات ومتى تكونت نحوه عاطفة الصداقة أصبح له في حياتي النفسية أثر إيجابي، فأنا أغضب لِما يُغضبه وأحزن لما يصيبه، وأفرح لما يناله، وأضحِّي في سبيل مرضاته. وهكذا تصبح عاطفتي نحوه عاملًا يتدخل في سلوكي، ويُرجِّح ألوانًا من هذا السلوك على غيرها، وبعبارة أخرى تصبح هذه العاطفة مصدرًا لانفعالات جديدة لها أثر في توجيه سلوكي.
وبهذه الكيفية تنشأ عاطفة الابن نحو أبيه وأمه، ويُصبح لعاطفته نحوهما من الأثر في توجيه سلوكه ما نلمسه جميعًا؛ فالطفل يرضي الأم حتى ولو كان في ذلك تضحية برغبة ملحَّة، وتتكوَّن عواطف الوالدين نحو أولادهم بالكيفية نفسها.
ولكنَّ هناك نوعًا آخر من العواطف؛ فالطفل إذ يقول الصدق إرضاءً لأبيه إنما يفعل ذلك بسبب عاطفته نحو الأب، ولو أراد له الأب أن يكذب لفعل ما دامت العاطفة ترمي إلى مجرَّد إرضاء الأب.
ولكن قد يأتي اليوم الذي يقول فيه الصدق حتى ولو كان ذلك ضدَّ أبيه أو ضد نفسه؛ وذلك لأنه قد تكونت عنده عاطفة جديدة نحو الصدق نفسه، كما تكونت عاطفته نحو أبيه فيما مضى. ومن أهم التطورات في حياة الفرد الخُلقية تسكينُ هذا النوع من العواطف نحو الصفات والأفكار والمعنويات، ويَغلب أن يأتي ذلك عن طريق تأثير الأبوين والمجتمع المحيط بالطفل في توجيهه، سواءً التأثير المباشر بالإملاء والنصح، أو غير المباشر بالقدوة والمثال.
وهنا نرى بادرة «الخُلق» عند الشخص؛ لأن التنظيم ارتفع عن المستوى الغريزي إلى المستوى العاطفي الحسي، ثم إلى المستوى العاطفي المعنوي.
ولا يلبث أن يدخل على العواطف نفسها تنظيم يُشبه التنظيم الذي دخل على الغرائز.
وهذا هو موقف الطفل من تكوين عواطفه؛ فهو عندما يُكوِّن عواطفه نحو شخص ما يبدأ في الوقت نفسه بأن يكوِّن عواطف نحو صفات هذا الشخص، ولا يلبَث أن ينتقي من صفات مخالطيه ومعارفه وأبطال قراءته وغيرهم مجموعة من الصفات يكوِّن من مجموعها نوعًا من المثل الأعلى الذي يحب لذاته أن تتَّصف به، وهذا هو طريق نشوء عاطفة اعتبار الذات.
ومتى نشأت هذه العاطفة أصبح الشخص يحكم على سلوكه بقدر ما يضيف هذا السلوك إلى اعتباره لذاته أو يَنقص منه، فما يضيف فهو سلوك مرغوب فيه، وما يُنقص فهو سلوك مرغوب عنه. ويصبح هذا هو المقياس الذي يقيس به تصرفاته؛ فهو لا يجري وراء مجرد إرضاء غرائزه، أو عواطفه نحو الأشخاص، أو حتى نحو الصفات، بل إن الحَكَم الأخير في أي تصرُّف من تصرفاته هو ما يضيف أو ينقص هذا التصرف من اعتباره لذاته، فيقرُب بها أو يُبعدها عن مثلها الأعلى. انظر إلى تصرُّف الجندي الذي يَقبض الأعداء عليه وعلى أولاده ويُعذِّبونه ويُعذِّبون أولاده لكي يبوح بأسرار وطنه. إنه يقاوم نزعته للإبقاء على نفسه، ويُقاوم عاطفته نحو أولاده، يقاوم كل ذلك؛ لأن اعتباره لذاته لا يسمح له أن يرتكب ما يُطلب إليه، ولو فعل لعاش معذبًا؛ لأنَّ «الضمير» وهو مرتبط بهذه العاطفة يبكته إذ لم يرتفع بالفعل إلى مستوى الفكرة.
- الأول: أنها تحمل في ثناياها كثيرًا من الأسس التي ظهرت في سيكولوجية فرويد.٢٣
- والثاني: أنها تمثِّل نفس الاتجاه لإبراز أهمية الغريزة والانفعال، وإن كان مفهوم هذين اللفظين والعلاقة بينهما تَختلف اختلافًا كبيرًا بين المدرستين.
غير أن الفرق بين المدرستين يظهر في نقط أساسية جدًّا، ولعل أهم هذه النقط — وقد سلَّم بها مكدوجل في بعض كتاباته الأخيرة تسليمًا مطلقًا — كشف المنطقة المجهولة من العقل المُسماة باللاشعور.
فتكوين العواطف والخُلق عند مكدوجل إنما هو نتيجة الاتصال الشخصي بالبيئة في مستوى شعوري، بل لعل مكدوجل جعله منطقيًّا أيضًا.
ولمكدوجل حظوة كبيرة عند المربين؛ لأنه أعطى لهم نظامًا لبناء الخُلق على أساس الغرائز والعواطف. وهذا النظام مفيد إذا نظرنا إليه باعتباره جزءًا من تدريب الذات تدريبًا يجد في كثير من الأحيان صدًى في باقي جوانب النفس، وإن كنا لا نكتفي بذلك الآن؛ إذ إن من الخطر إغفال القوى اللاشعورية في بناء الخُلق.
والواقع أنَّ العلاقة بين المذهبين لا تزال في حاجة إلى دراسة أكثر تفصيلًا، وإن مكدوجل لَيُشير إلى ذلك في كتابه «علم النفس الاجتماعي والتحليل النفسي».
وقد كانت نقطة البدء عند فرويد هي العلاج الطبي، ولكن النظرية ما لبثت أن غمرت الميادين الأخرى على اختلافها، فدخلت ميدان علم النفس العام، ثم علم نفس الأطفال، والبدائيين، وما لبثت أن اجتذبت أنظار علماء الاجتماع وعلماء الأنثروبولوجيا، بل والساسة ورجال الحرب، فبدءوا يعلِّقون عليها آمالًا كبارًا، ويقارنون ملاحظاتهم في حقول تجاربهم المختلفة بنتائج النظرية، ويهتمون بما يجدون مما يؤيدها أو يعارضها.
وفي فصول الكتاب التالية ستجد شرحًا وافيًا لنظريات فرويد.