الحيل اللاشعورية
سبَق أن ذكرنا أن الرقيب لا يسمح للنزعات أن تعبِّر عن نفسها تعبيرًا يصدم ما اصطلح عليه المجتمع من قوانين وآداب ونظُم، وبيَّنا كيف يحدث الكبت في هذه الحالة.
ورأينا كيف أنَّ النزعات المكبوتة لا ترضى بهذا الحال، بل هي تحاول الظهور والتعبير عن نفسها بمختلف الطرُق، ولكن الرقيب واقف بالمرصاد يُعيدها من حيث أتت، ويمنع ظهورها خوفًا على الذات أن يصيبها مكروه من جراء ذلك.
ولذلك تلجأ النزعات إلى نوع من الحيل يُطلق عليها اسم الحيل اللاشعورية تتنكَّر بواسطتها فتعبِّر عن نفسها تعبيرًا ملتويًا غير مباشر يُظهرها للأنا بغير حقيقتها، ويخدع الرقيب عن أمرها، والحِيَل في مجموعها عبارة عن وسائل للتمويه والتعمية، بعضها يؤدي بالإنسان إلى تحويل نزعاته الغريزية إلى مستوى أعلى يوافق المجتمع ويحوز رضاءه، وبعضها من قبيل الاضطراب النفسي الذي يجعل الشخص شاذًّا بعيدًا عن الاتزان، وفيما يلي تفاصيل بعض هذه الحيل:
(١) الإِبدال١
يُقصد به نقل القيمة الوجدانية من فكرة إلى أخرى، ففكرة الأم مثلًا ذات قيمة وجدانية عند الطفل لِما يصحَب إدراكها من انفعالات مرتبطة بغرائزه. ولكن هذه القيمة الوجدانية يصحُّ أن تنتقل إلى شخص آخر أو فكرة أخرى تحت شروط خاصة؛ كأن يكون بينها وبين الأم تشابه في الصورة أو الوظيفة. وفي اللاشعور خاصة عجيبة؛ هي أنه يتغافل عن أوجه الاختلاف تغافلًا تامًّا، ويتمسَّك بأوجه الشبَه مهما كانت عارضةً، وتكون للفكرتين نفس القيمة عنده بناءً على أي تشابُه عارض.
ونقل القيمة الوجدانية من فكرة إلى أخرى يشبه تمامًا ما نلاحظه في أنفسنا وغيرنا أحيانًا، فقد يعود الأب مُتضايقًا من معاملة رئيسه له في عمله، فإذا دخل البيت وأحاط به أولادُه مُرحِّبين نهَرهم أو أجاب أسئلتهم بلهجة جافَّة، مع عدم وجود سبب مباشر يدعو إلى ذلك.
وكما يلاحَظ في كثير من الآباء الذين تسيء زوجاتهم معاملتهم، فيُسيئون هم بدورهم معاملة الخدم وأولاد، أو الرؤساء الذين يسيء معاملتهم مَن هم فوقهم، فيسيئون معاملة من هم دونهم، وكذلك الأخوات الذين يسيء معاملتهم الأبوان تسوء معاملة كبيرهم لصغيرهم؛ ففي كل هذه الأحوال نجد أن المعاملة التي كان يجب أصلًا أن توجَّه إلى الرئيس أو الكبير وامتنع ذلك لأسباب واضحة قد وُجهت إلى هؤلاء الأفراد الآخرين عن طريق الإبدال.
بل إن هناك ما هو أكثر من هذا، فكثيرًا ما تساء معاملة الشخص ويَشعُر بالغضب الشديد نحو المسيء إليه، ولكنه لا يستطيع أن يوجه إليه ما لقيَه من الإساءة، فيمسك بما يتفق وجوده من الأشياء أمامه ويُلقيه إلى الأرض كما لو كانت هي المتسبِّبة في غضبه، وكثيرًا ما يختار شيئًا سهل الكسر فيُدمِّره تدميرًا، ويجد لذلك في نفسه راحة كما لو كان قد عاقب المسيء إليه فعلًا، وكثيرون من الأطفال يجدون في تدمير عرائسهم وألعابهم بديلًا عن الرغبة في عقاب أبويهم؛ لِما يشعرون به من ضغطهم عليهم.
(٢) رد الفعل٢
رأينا أن حل الصراع في حالة الإبدال يكون على حساب القوى الكابتة؛ إذ تظلُّ الطاقة المستعمَلة في الإبدال هي الطاقة المستمَدَّة من النزعات المكبوتة، بعبارة أخرى: إن الطاقة تسير في طريق موازٍ لطريقها الأصلي، ولكن يَحدث أحيانًا عكس ذلك، فيكون الحلُّ مظهرًا للقوى الكابتة.
فالنزعة البدائية عند الطفل نحو حبِّ الظهور قد تُبدَل فيجد لذة في أن يسمو على أقرانه جسمًا أو عقلًا، أو أن يبحث عن الشهرة أو البروز في مختلف النواحي.
أما إذا حُلَّ النزاع عن طريق ردِّ الفعل، فإن الرغبة في الظهور تُكبَت ويحلُّ محلها ميل للخجل والانزواء وإذلال النفس، وكذلك السرور البدائي الذي يجدُه الأطفال في اللعب بالأقذار قد يتحوَّل إلى رغبة في تشكيل المواد على اختلافها، كما في الرسم أو النحت أو الطبخ … إلخ.
أما «رد الفعل» فإنه يكبت هذه النزعة ويكوِّن بدلًا منها نزعة متطرفة ترمي إلى النظافة، يصحبها خوف شديد من كلِّ أنواع التلوث، فيظهر سلوك الشخص بمظهر مبالَغ فيه ضد اتجاه النزعة المكبوتة. كما نرى في كثير من العوانس اللائي يتشمَّمْن رائحة النزعة الجنسية في كل كلمة مهما كانت بريئة، وفي كل فعلة مهما كانت غير مقصودة، وما ذلك إلا لأنَّ النزعة الجنسية عندهنَّ قد كُبتَت وحلَّت محلها نزعة مضادة تَنفر نفورًا مبالَغًا فيه من كل ما يصح أن يشير إلى الجنس ولو بطريق التخريج البعيد، وقد استغلَّ كثير من الكُتَّاب والروائيين هذا المظهر في رواياتهم، أما النزعة المبالغ فيها نحو النظافة وضد التلوث فهي أيضًا من المشاهَدات العادية؛ فالشخص الذي يتشكَّك في كل شيء ويعتبره نجسًا أو سببًا مُحتمِلًا لعدوى، فيحمل في جيبه زجاجة الكحول يغسل بها يديه كلما صافح غريبًا أو لمَس شيئًا لا يعرف نصيبه من النظافة، هذا شخص حدث عنده «رد فعل» لنزعة اللعب بالأقذار التي تملَّكتْه وهو طفل، وقد تكون القذارة المادية رمزًا للقذارة الخُلقية، فيجد العقل في محاربة الأقذار المادية رمزًا لمحاربة النزعات الغريزية «القَذِرة» ليَشفيَ غليل القوى الكابتة.
ونجد كثيرًا من الأشخاص بالِغي القسوة ضد كل هفوة اجتماعية أو خُلقية، دائمي الشك في سلوك الآخرين، وما ذلك إلا لأنهم هم أنفسهم يحتوون هذه النزعات في «لا شعورهم» وقد كوَّنوا حولها سياجًا مضادًّا هو هذه النزعة المبالَغ فيها.
(٣) التكثيف٣
في هذه الحالة يُعبِّر سلوك الشخص عن كلتا النزعتَين، الكابتة والمكبوتة، في وقت واحد، ومما يوضح هذا قصة رآها المؤلف بنفسه تتلخَّص في أن طفلًا كان يُصاحب أمه إلى دكان للفاكهة، وقد انصرفت عنه الأم فوقَف أمام صندوق للتفاح ومد يده نحو التفاح، ولكن قبل أن يَلمسه سحب يده مرة أخرى. ولكن الأمر لم يقف عند هذا، بل استمرَّت حركة يده جيئة وذهابًا كرقاص الساعة، واستمر يكرِّر هذه اللازمة إلى أن شُغِل عنها بأمر آخر، وكان يكررها حتى بعد انصراف نظره وذهنه عن التفاح. والمثال واضح؛ فالحركة الأولى تعبِّر عن النزعة البدائية للحصول على ما يريده بغير نظر للظروف، والحركة المضادة تمثِّل النزعة المضادة نحو المحافظة على ما اصطلحت عليه البيئة من حق الملكية وحُسن السلوك، وكأن كلًّا من النزعتين قد رضيت عن التعبير الرمزي عنها بهذه الحركات المتبادلة.
- (١)
يدافع عن الحكومة ويخدمها بقبضه على من يظن أنه أهانها.
- (٢)
وهو في الوقت نفسه يُهينها ويحقِّرها؛ لعدم تسليمه بإمكان توجيه تهمة التغفيل إلى غيرها، وهو مخلص في نزوعه وغير شاعر بما في سلوكه من التناقُض.
ثم هناك قصة ذلك الواعظ الديني الذي كان يؤمُّ المساجد ويَعظ الناس وعظًا اشتهر أمره وقتًا ما، وكان هذا الواعظ يحضُّ على الفضيلة، غير أنه لم يكن يحضُّ على الفضيلة بقدر ما كان يَنهى عن الرذيلة. ولكن النهي عن الرذيلة يحتاج إلى وصفها ووصْف مواطنها ومكائدها وما يدَّعيه الناس فيها من الملذات، وكان كثير من الناشئين يذهبون إلى مواعظه يلتمسون فيها وصفه الشائق للرذيلة، ويجدون رضاءً عن ذلك الوصف، ويَخرجون وهم يتبَسَّمون؛ لأنهم سمعوا عن الرذيلة أكثر بكثير مما سمعوا عن الفضيلة، وعرفوا عنها ما لم يكونوا يعرفون. والقصة واضحة فيما قصدنا إليه، فالدرس الذي يعطيه هذا الواعظ يقصد منه إلى إرضاء رغبته الظاهرة إلى الفضيلة والتقوى، ولكن نزعته إلى ضدهما تجد طريقها بالرغم منه إلى الظهور في خلال كلامه، فتدفعه وهو لا يدري إلى وصف الرذيلة وصفًا شائقًا محبَّبًا للكثيرين ممن لا تهمهم الفضيلة في شيء.
وحيث نجد التفاني الشديد في إظهار الحب والمبالَغة فيه نحو أيٍّ كان، فإننا نشتبه في وجود ضده في الجانب اللاشعوري من العقل.
- الأول: كيف أن كل ما يمرُّ به الطفل من التجارب مع أبويه يترك أثرًا في نفسه، فما كان منها سارًّا أدى إلى تكوين المحبة، وما كان منها مؤلم أدى إلى تكوين الكراهية، وبما أن العقل لا يحتمل التناقض الظاهر في هذه الحالة فإن إحدى العاطفتَين تُكبَت وتُصبح لا شعورية.
- الثاني: ما يظهر من التناقُض في سلوكنا أحيانًا نحو من نحب أو نكرَه، فنكره شخصًا لأنه فاقنا وبلَغ مبلغًا لم نستطع الوصول إليه، ونحن إنما نكرهه لأننا نُعجب بما هو فيه ونتمنَّاه لأنفسنا فنحن نحبه في صورة ما، ونحن إذ نثق بصديق أو بحبيب ثم نجد منه ما لا يحقِّق الثقة نكرهه أشد الكره؛ لأننا نحبه أشد الحب في الواقع، وهكذا نجد أن كل صديق لنا هو عدو محتمَل، وكل عدو هو صديق محتمل، وقد تؤدِّي هفوة ضئيلة إلى الانقلاب من حال إلى حال آخر. وربما كان فهمُنا لهذه الحقائق مساعدًا لنا على بناء علاقاتنا الشخصية على أُسس أثبت. والواقع أن العلاقات المبنية على الفهم والتواضع في التقدير أبقى من العلاقات التي تصل فيها العاطفة إلى درجة مبالَغ فيها من الشدَّة.
(٤) التبرير٥
نستطيع الآن أن نفهم أن سلوكنا كثيرًا ما يكون نتيجة دوافع داخلية لسنا على استعداد لأن نُصرِّح بها حتى فيما بيننا وبين أنفسنا، وأن هذه الدوافع كثيرًا ما تقودنا إلى تصرفات مُتناقضة، فنفعل اليوم ما أنكرناه بالأمس، ونأتي غدًا بما نُنكره اليوم. والحياة العقلية كما قلنا تحتمل هذا التناقض على شرط ألا يكون ظاهرًا؛ ولذلك فنحن نفسِّر سلوكنا سواء لأنفسنا أم لغيرنا تفسيرًا لا نُرجعه إلى الدوافع الداخلية، بل نُضفي عليه ثوبًا من المنطق المعقول، كما لو كان هذا السلوك مبنيًّا على الحكمة والتفكير والتدبير. فنفسِّر التناقض بين أفعالنا تفسيرًا يُغطي هذا التناقض ويُرجعه إلى أسباب تتعلق بتغير في الظروف. وهذا وأمثاله هو ما نسميه بالتبرير، فالإنسان يبرِّر استمساكه بالتدخين بأنه يهدئ الأعصاب مثلًا، مع العلم بأن معرفته بأنه مُهدِّئ للأعصاب لم تتأتَّ إلا بعد أن تعوَّد التدخين، ويُبرِّر كراهيته لشخص بما وجده فيه من حطة ودناءة قد تكون وهمية، وقد تكون الكراهية مبنية على وقوف هذا الشخص في طريق رغباته أو نزعاته، ونُبرر آراءنا السياسية والاجتماعية تبريرًا منطقيًّا، بينما نكون قد اعتنقنا هذه الآراء لأسباب تتعلق برغباتنا الشخصية في بعض الأحيان. وهذا يدلُّنا على أن حياتنا ليست مبنية على المنطق بقدر ما هي مبنية على هذه الأهواء التي تدفعنا إليها الدوافع الداخلية، والتي لا نريد الاعتراف بها، وخصوصًا فيما بيننا وبين أنفسنا. ولن يتمكَّن الفرد أن يستخدم المنطق لأي درجة معقولة إلا عن طريق فهم دوافعه ونزعاته على هذا الأساس. وأمثلة التبرير كثيرة لا داعي لذكرها؛ لأننا نراها أمامنا في كل آن.
(٥) الإِلصاق٦
نجد أحيانًا شخصًا كثير التشكُّك في أمانة الناس دائم التفكير في حماية نفسه وحماية المجتمع من شرورهم، لا يَثق بمخلوق ولا يستطيع أن يأمَن إلى أحد، وهو في محاولة دائمة لنصْب الشِّباك لهم ومحاسبتهم على ما يَقترفون بالفعل أو بالنيَّة.
والواقع أن مثل هذا الشخص يُخضِع تحت هذا المظهر الشعوري نزعةً لا شعورية هي نفس النزعة التي يفتِّش عنها بين الآخرين بالمنظار المكبِّر. وبعبارة أخرى فإنه يُلصق ما به من صفات لا شعورية بغيره، ثم يأخذ على عاتقه محاربة هذه الصفات والتنكيل بها في الغير. ونلاحظ أن الصراع يَصير خارجيًّا بدل أن يكون داخليًّا، فبدل أن يكون صراعًا بين الشخص وبين نزعته إلى عدم الأمانة، يَصير صراعًا بينه وبين هذه النزعة الموهومة عند سائر الناس. ومعظم الأشخاص الكثيري الشك في غيرهم بدرجة غير عادية من هذا الطراز الذي يَصل العقل فيه إلى تخفيف الضغط الداخلي من طريق الإلصاق. وكلنا يعرف أن الرجل الذي تطرَّف في التمتع بحياته في الشباب يُصبح زوجًا غيورًا غيرة زائدة عن الحد، ويتطرَّف في الشك في كل حركة أو لفظة.
(٦) الامتصاص٧
ذكرنا كيف أن إملاء العالم الخارجي يَنتقل إلى الذات ويُصبح داخليًّا، وهو ما ينشأ عنه الصراع ثم الكبت، وهذا الانتقال للنزعة من الخارج إلى الداخل يُطلق عليه اسم الامتصاص.
والطفل يمتصُّ عن أبويه ثم عن غيرهم من الأشخاص الذين يحلون محلهم.
والمبادئ الخُلقية والاجتماعية تدخل العقل عن طريق الامتصاص، كما أن الأنا العليا تتكون عن هذا الطريق.
والتقليد والمشاركة الوجدانية والاستهواء عبارة عن نتائج للامتصاص، والامتصاص نتيجة للحيلة التالية وهي «الاندماج».
(٧) الاندماج٨
عندما نقول اندمج المُمثِّل في دوره، نقصد أنه قد نسي شخصيته الأصلية وأصبح يتكلم بلسان الدور الذي يُمثله. ويحدث في الحياة العقلية مثل ذلك تمامًا. فالطفل حينما يمتص صفات الأبوين إنما يندمج فيهما عن طريق نشوء الأنا العليا، ويُصبح كما لو كان يقوم فعلًا بما يقوم به الأبوان من الرقابة والتوجيه والنقد. ويحدث الاندماج بعد ذلك بالنسبة لأفراد يقومون مقام الأبوين كالمدرِّسين والرؤساء والزعماء ومَن إليهم، ويحدث الامتصاص نتيجةً للاندماج.
(٨) الإِعلاء٩
وأهمية الإعلاء بالنسبة للجنس البشري في مجموعه أهمية كبيرة جدًّا؛ فلو لم يكن للغريزة هذه القدرة على الارتفاع من مستواها الحسي لبقيَ الإنسان قريبًا من مستوى الحيوان، وإنما أمكن له أن يَرفع مستواه الثقافي والاجتماعي والأخلاقي … إلخ؛ لأن غريزته قابلة لهذا النوع من التحول. وتحوُّل الغريزة في حالة الإعلاء تحوُّل يَمتاز بالسلاسة والسهولة، وتقلُّ فيه أو تَنعدم تمامًا مظاهر الحرمان والصراع التي تعلق بأنواع الإبدال الأخرى، فكأن الغريزة تجد في المجرى الذي حدث فيه الإعلاء بديلًا كافيًا عن مجراها الأصلي. ولو صحَّت نظريات التحليل النفسي فإن التقدم والحضارة الإنسانية ما كانا في الإمكان لولا هذه القدرة على الإعلاء؛ فقد ظلت النزعات الفطرية البدائية للإنسان الأول تتطور ببطء خلال الأجيال حتى تمخَّضت عن نواحي النشاط المعقَّدة الراقية التي نلمسها في الجماعات المتمدينة الراقية.
ومن قبيل النوع الأول من الأعراض: الشاب الخجول المنزوي «الذي يغلب عليه كبت النزعات» فإننا كثيرًا ما نجده في معاملاته خشنًا جافًا مع الآخرين، وفي هذا الجفاف والخشونة تنفيس أو تعبير عن الناحية المكبوتة فيه وتعويض عن الخجل والانزواء المتمكِّنَين منه.
ومن قبيل النوع الثاني من الأعراض: الفتاة العانس التي تَزيد إمعانًا في تعذيب نزعاتها الجنسية المحرومة، فتُحرِّم على نفسها الفكرة واللفتة والحركة التي قد يُشتَّم منها ولو من بعيد رائحة الجنس، وتتصرَّف كما لو كانت تشك في نوايا نفسها ونوايا غيرها، وبذلك تكون القوى الكابتة عندها هي التي تتحكَّم في تصرفاتها.
كل هذه المظاهر للصراع والكبت نجدها في الأعراض المرَضية، ولكننا لا نكاد نجدها في الإعلاء.
فالسلوك في حالة الإعلاء يمتاز بسلاسة وانسجام لا نجدهما أبدًا في حالة الإبدال المرَضِي، فكأن الإعلاء يُحوِّل الطاقة العصبية إلى مجارٍ أكثر استقرارًا ليس بها من عوامل الاحتكاك أو عوائق السير إلا أقلها.
وكأن المجرى الذي حدث الإبدال فيه كما قلنا «بديلٌ كافٍ» للمجرى الغريزي الأصلي، بمعنى أنه يؤدي إلى إشباع حقيقي، ولا شك أنه إشباع من نوع آخر، ولكن تبقى له صفة الكفاية كالإشباع المباشر الأصلي.
ولا شك أن الأفراد حينما يتابعون لذَّاتهم البديلة (الأدب – الفن – الموسيقى … إلخ) كثيرًا ما يُتابعونها بشغف يُذكِّرنا بما يشعر به المُستمتع بلذَّة جسدية مباشرة.
ويتضح مما تقدَّم أن الهدف السويَّ الذي يرمي إليه النمو العقلي في نظر أصحاب التحليل النفسي هو الإعلاء، وهو هدف يتضمَّن الصحة العقلية للفرد والتقدم الثقافي والاجتماعي للمجتمع. ولكن يتضح علاوةً على ذلك أن حدوث الإعلاء ليس أمرًا هينًا، وأنه يحدث بخطوات بطيئة ومتدرِّجة ويحتاج إلى الصبر الطويل، أما التسرع في الحصول على النتائج سواء من جانب الفرد أو المجتمع فهو المسئول الأساسي عن كثير من أنواع الأمراض العصبية. ولكي نَحصل على أكبر قدر ممكن من الإعلاء نجد من الضروري أن نأخذ أنفسنا بالهوادة لا بالقهر، وأن نَحتمل من مطالب الغرائز البدائية في الأطفال أكثر مما نَحتمل في الوقت الحاضر، حتى نُسهِّل لنفوسهم أن تسير في طريق السلاسة والنمو المُنسجِم الذي يؤدِّي إلى الإعلاء.
والإعلاء عملية لا شعورية، ولذلك فهي ليست تحت رقابتنا المباشرة، وليس في قدرتنا أن نُسيِّرها كما نسيِّر الآلة، وكل ما نستطيعه هو أن نهيِّئ الوسائل التي تأخُذ بيدها، على ألا نَنسى أن العملية عملية تطورية تدريجية. وموضوع الإعلاء أحد الدروس القيِّمة التي يَستفيدها من التحليل النفسي كلٌّ من المُربي والمصلح الاجتماعي.