تطور الحياة النفسية
(١) مكوِّنات الغريزة الجنسية
ذكرْنا فيما سبق معنى الغريزة الجنسية بوجه الإجمال، وذكرنا أن هذه الغريزة تأخذ صورًا مختلفة وتَنتقل من صورة إلى أخرى عند الطفل، حتى تصل إلى صورتها النهائية الناضجة عند البلوغ، والآن نأتي إلى تفصيل هذا الإجمال.
فالغريزة الجنسية اسم أُطلق على مجموعة من النزعات البدائية التي تَصل إلى الإشباع بطريقة حسية، أو بعبارة أخرى مجموعة من النزعات التي تَرمي إلى اللذة الحسية بمُختلف أنواعها.
وهذه النزعات لا تَنشأ في وقت واحد، وإنما تتوالى بكيفية خاصة، كما أن الهدف الذي ترمي إليه يناله من التطور والتحويل مثل ما يَنالها هي، حتى تصل إلى الهدف النهائي للغريزة وهو التناسُل.
وتُسمَّى هذه النزعات «مكوِّنات الغريزة الجنسية» تمييزًا لها عن الغريزة المتكاملة كما تظهر في دور المُراهقة.
وهذه المكوِّنات تتناول أجزاءً مختلفة من الجسم؛ بمعنى أن هناك مناطق من الجسم تتميز بحساسية كبيرة، وتكون مَصادر للَّذة (أو الألم)؛ إذ تكون هذه المناطق محمَّلةً بقدر كبير من الطاقة الغريزية؛ وعلى ذلك تكون حساسيتها عبارة عن العلامة الشعورية لتركُّز الغريزة الجنسية فيها، والمنطقة من الجسد التي تتميَّز بالحساسية في أي طور من أطوار الغريزة تفقد شيئًا من هذه الحساسية عندما يحلُّ الطور الثاني وينتقل مركز الحساسية الجنسية إلى المنطقة التالية. قلنا إنها تفقد شيئًا من طاقتها ولم نقل أنها تفقد كل هذه الطاقة؛ لأن قدرًا معينًا منها يبقى لاصقًا بها، وهذا القدر قد يُستخدَم فيما بعد في التمهيد لعملية التناسل نفسها، وسنرى فيما يلي ما يُوضِّح ذلك. والقدر الذي يُفقد من الطاقة لا يَنتقل كله إلى المنطقة التالية، وإنما يُستنفَد جزء منه في إعلاء هذا المكوِّن من مكونات الغريزة، فيتحول هذا الجزء كما عرفنا في الإعلاء إلى غرضٍ لا جنسي يَرمي لا إلى لذة حسية بل إلى لذة «معنوية».
والخلاصة أن الطاقة التي تتركز في أي دور من أدوار الغريزة مآلها أن تتفرَّع إلى فروع ثلاثة: «الأول» يتجه عن طريق الإعلاء إلى هدف لا جنسي. و«الثاني» يتحوَّل إلى الدور الثاني من أدوار الغريزة ويئول في النهاية إلى الغريزة بصورتها المكتملة في دور البلوغ. و«الثالث» يبقى على حاله ليُعطي هذه المنطقة أهمية ثانوية دائمة بالنسبة لوظيفة النسل نفسها؛ إذ تمهِّد لها تمهيدًا وظيفيًّا كما سبق أن مهَّد لها تمهيدًا تطوريًّا.
وعلى ذلك فهذه المكوِّنات هي عوامل النضوج الجنسي، كما أنها عوامل النضوج الاجتماعي والثقافي.
(٢) مناطق الغريزة الجنسية
يُمكن أن نقول بصفة عامة أن المظهر البدائي للغريزة الجنسية هو عبارة عن حساسية خاصة مُمتازة ترمي إلى التهيُّج وتَلتمس اللذة عن طريقه بوسائل حسية أو ميكانيكية صرفة، ويكون مصدر الحساسية واللذة عند الطفل في المبدأ في حالة عامة غامضة، غير محدَّدة لا في طبيعتها ولا في مواضع الجسم التي تتأثَّر بها، فيكون سطح الجلد بأكمله حساسًا. ويتلو هذه الحساسية العامة دور تتركز أثناءه الحساسية في مناطق معينة بالتدريج كما علمنا، ولكن تبقى للحساسية الجلدية العامة أهميتها ولها علاقتها المباشرة بالعملية الجنسية كما هو معلوم، ومناطق التركيز هي بوجه عام مخارج الجسم وأعضاء الحس.
ومن المناطق التي تتركز فيها الغريزة مركز الإحساس البصري أو العين، فالتلذُّذ عن طريق البصر برؤية الألوان والأشكال يَظهر في الأطفال بشكل واضح. وينتهي الأمر بتركُّز الحساسية في أعضاء التناسل بعد أن تكون قد تركتْ أثرًا واضحًا في كل منطقة أخرى مرَّت بها، فتُصبح الحساسية الجنسية الرئيسية مركَّزةً فيها، بينما تبقى المناطق الأخرى محمَّلةً بشيء من الحساسية يختلف باختلاف ظروف التطور الذي مر بها.
(٣) التثبيت٤
ولهذا الاختلاف قصة يَحسُن بنا أن نوردها هنا. فالغريزة عندما تتركز في منطقة من المناطق إنما تُمهِّد للمنطقة التالية، ولكن يحدث أحيانًا أن يكون الانتقال ناقصًا مبتورًا وأن يَبقى قدر كبير من الطاقة متعلقًا بالطور البائد لا يتركه، ويُطلَق على مثل هذه الحالة اسم «التثبيت»، ويَنتج عنه أن يبقى من الحالة البدائية نصيب أكبر من الطبيعي، ويبقى السلوك البدائي عالقًا بالشخصية؛ ومن ذلك ما نراه في حالات الشذوذ الجنسي على اختلافها.
(٤) تطور أهداف الغريزة
ويَصحب هذا التطور في مناطق الحساسية الجنسية، تطوُّر أهداف الغريزة؛ فالغريزة في مبدأ الأمر لا ترمي إلى هدف ما غير مجرَّد اللذة الموضعية، فلا يكون هناك اتجاه نحو شخص أو شيء معيَّن.
أي أن اللذة تكون غير مُرتبطة بالذات في مجموعها، بل بالعضو في ذاته، فلذة الفم عند الطفل الرضيع في مبدأ حياته متعلِّقة بالفم ذاته، وليست لذةً للشخص في مجموعه كما هو الحال عند الكبار.
وتمرُّ مرحلة النرجسية وتتلوها مرحلة يتعلق فيها الحب بأشخاص خارجين يكونون أولًا من جنسه ثم من الجنس المقابل. فتعلُّق البنت بالبنت والولد بالولد يَسبقان تعلق البنت بالولد والولد بالبنت، ويُشاهَد ذلك في الطفولة المبكِّرة كما يُشاهد في بدء المراهقة.
- أولًا: الحب غير الموجه.٦
- ثانيًا: الحب الموجه:
وكل دور من هذه الأدوار يُعتبر تمهيدًا للدور الذي يليه، كما حدَث بالنسبة لمكوِّنات الغريزة، وكل دور يَحدث فيه الإعلاء والتثبيت بنفس الكيفية التي سبق أن تكلمنا عنها.
ويقتضي تطور الحياة النفسية أن تُنسَّق هذه المكوِّنات وتُنظم تحت قيادة غريزة التناسل الحقيقية «في البلوغ»، فتمهِّد لها كما قلنا من الوجهة التطورية؛ أي أنها تهيِّئ الحدث لحياته الجنسية الناضجة، ولكنها تبقى حتى بعد البلوغ لتخدم عملية التناسل الحقة. فإذا حللنا هذه العملية الأخيرة فإننا نجد أن الدور الذي تقوم به العين والفم والإحساس الجلدي العام، دور له علاقة مباشرة بالتهيُّج الجنسي، ولزيادة الإيضاح نذكر بعض الأمثلة.
أما الفم فلا سبيل إلى المبالغة في علاقته المباشرة بالغريزة، وقد كانت القُبلة دائمًا ذات معنًى جنسي واضح، وهي وثيقة الصلة بالاتصال الجنسي. ولا شك في أن القُبلة من الوظائف التي تستوقف النظر لكثرة ما تؤدِّيه من المعاني؛ فهي بالنسبة للأطفال متعة في ذاتها ولذة كاملة مستقلة، أما في البالغين فهي تمهيد وخدمة لِما هو معلوم من الاتصال الجنسي، ولكنها تبقى في الكبار لتَخدم أغراضًا أخرى كالحنان والصداقة … إلخ، مما يبيِّن أنها تستبقي قدرتها على الاستقلال وعلى أن تكون غرضًا لذاتها.
وهذه النزعة لأن يَستبقي المرء مكوِّنات الطفولة بعد انتهاء وظيفتها التمهيدية الحيوية هي ما سمَّيناه «بالتثبيت»، والتثبيت شائع في جميع مكوِّنات الغريزة، ومن الطبيعي أن يحدث قدر معين من التثبيت في جميع المكوِّنات، ولكن إذا زاد التثبيت عن هذا الحد خرج الشخص عن كونه طبيعيًّا وأصبح التثبيت عرَضًا من أعراض المرض النفسي.
والمرور من إحدى المراحل إلى المرحلة التي تليها يقتضي أن يحدث الإعلاء بالنسبة للمرحلة المنقضية، فتتحوَّل طاقتها إلى مجرًى يجعل منها أداة للتقدم الخُلقي والاجتماعي للفرد؛ أي أنها تَنحرف عن الهدف الجنسي إلى أهداف غير جنسية، بينما تُخلي الطريق للمرحلة التالية، ويتكرَّر ذلك من مرحلة إلى أخرى.
وهذا هو المقصود من إعلاء الغريزة الجنسية؛ فالإعلاء كما قلنا من قبل يندر أن يحدث بالنسبة للغريزة في صورتها الأصلية الناضجة، وإنما يحدث أغلبه بالنسبة لمكوِّنات الغريزة وهي في طريقها لإعطاء الغريزة صورتها النهائية.
وما يحدث بالنسبة لهذه المكونات من التجمُّع نحو المركز وهو «التناسل»، سواء من وجهة التطور أو من وجهة التمهيد الوقتي، هو ما يُسمَّى بتكامل الغريزة؛ أي بتسانُد مكوِّناتها لكي تكون كلًّا واحدًا، أو صورة كاملة تتجه خطوطها نحو مركز واحد هو استمرار الجنس.
ومنه نشتق معنًى آخر؛ وهو أن الطفل من يوم ولادته إنما يمهِّد لهذه الخطوة النهائية لكي يؤدي وظيفته الحيوية لاستمرار نوعه، فيمر في «خبرات» جنسية متعددة الأشكال والنواحي، متدرِّجة من الإحساس الغامض الذي لا يكاد يرمي إلى غرض ماء، إلى الشبق الجنسي المركَّز الذي يرمي إلى غرض محدَّد.
والغريزة في الحالتين تدفعه إلى التماس الإشباع دفعًا شديدًا.
ولكن الطاقة الغريزية أكثر مما يحتاجه لأداء هذه الوظيفة؛ وعلى ذلك فيتبقَّى عنده رصيد كبير يستخدمه في إعلاء نزعاته وتوجيهها نحو الرقيِّ له وللمجتمع الذي يعيش فيه.
فتتحول نزعته نحو العبث بجسمه وأعضائه، إلى النزعة نحو التشكيل والبناء واستخدام اليدين والأدوات في الوصول إلى أغراض يُحدِّدها فكره الخاص أو الفكر الإنساني العام، وعن هذا الطريق ينشأ الميل عند الفنان، والبنَّاء، والمهندس، والعامل، والزارع، إلى آخر ما يجد الإنسان من الفُرَص للتعبير عن هذه النزعة البدائية في صورة راقية من وجهة النظر الخُلقية والاجتماعية.
وكذلك تتحوَّل النزعة نحو التلويث إلى نزعةٍ نحو الإنتاج والخلق والإبداع، والنزعة نحو «الإمساك» إلى الاقتصاد والجمع والادخار، ويَنشأ الخُلق مُصطبغًا بصبغة الكرم والعطاء، أو بصبغة البُخل والإمساك (لاحظ الاستعمال اللفظي في اللغة)، والإعلاء كما يتناوَل النزعات البدائية يتناول النزعات المضادة «الكابتة»، فنحصُل على صفات مثل حب النظافة، والنظام، والدقة، والمواظَبة، والطهر، والإرادة، والعزم، إلى غير ذلك.
ولنعُد إلى تطور الهدف الذي ترمي إليه الغرائز، فهي في أول الأمر كما قلنا غير موجَّهة، فكل غريزة تبحث عن إشباعٍ ذاتي؛ فلذَّات الطفل غالبها من هذا النوع، ولكن تبقى في حياتنا آثار واضحة لنزعة الإشباع الذاتي.
فالتدخين والغرام بطعم الحلوى وما إليها من المهيِّجات الموضعية للفم، كالمخللات والأفاويه، كلها ترمي جزئيًّا إلى إشباعٍ موضعي، ومن قبيل ذلك أيضًا الاستمناء وحك الجلد، فهي كلها لذَّات تغلِب عليها صفة الموضعية.
وفي الدور الثاني وهو دور عشق الذات أو «النرجسية» تتَّجه غرائز الطفل إلى موضوع محدد، ولكن الموضوع في هذه الحالة هو الطفل ذاته؛ فهو معنيٌّ بنفسه، مشغول بجسمه ومظهره وعقله، فليس بينه وبين غيره من الناس ذلك الاتصال النفسي السليم، فهو لا يهتمُّ بغيره اهتمامًا كافيًا لأن طاقته العقلية موجهة إلى داخله، فهو يعرض نفسه ويتلذَّذ من هذا العرض، ويُعجب بما يقول وما يفعل، وتبدو فيه «الأنانية» والعزوف عن «الروح الاجتماعية» بشكل واضح. ولا شكَّ أن خروج الطفل من هذا الدور لا يعني انعدام اهتمامه بنفسه، بل بالعكس يبقى قدر من هذا الاتجاه عند الكبار، ومن الطبيعي أن يتبقَّى قدر معقول منه، ولكن من غير الطبيعي أن يبقى لاصقًا بالبالغ قدر كبير مما كان عنده وهو طفل، كأن يكون الشخص شديد الاهتمام بنفسه، قليل الاهتمام بالناس وبالعالم الخارجي مشغولًا بجسمه، وفي الحالات الشديدة الشذوذ يكون شديد الانشغال بما يدور في نفسه، حتى إنه يَصعُب عليه أن يتتبَّع ما يدور حوله، ولا تتكوَّن بينه وبين محيطه تلك الصلة العقلية السليمة، فإذا تطرَّف الشخص في ذلك تطرفًا كبيرًا أدى ذلك به إلى نوعٍ أو آخر من المرض العقلي أو الجنون، وكل أنواع الجنون تتضمن قدرًا من الانشغال بالنفس والانسحاب من العالم الخارجي. ويكفي لكي نقدِّر ذلك أن نزور أحد مستشفيات الأمراض العقلية، فإن أول ما يُجابهنا فيه أن نرى المرضى الذين يعيشون معًا لا يكوِّنون جماعة بالمعنى المألوف لنا، بل هم أفراد مُتنافرون، كلٌّ منهم يتحرك ويعيش في عالم عقليٍّ مستقل، ولا اتصالات بين اثنين أو أكثر، بل انفصال يكاد يكون تامًّا. كلٌّ منهم يتحرك في محيطه الخاص، ويخلق لنفسه جوًّا من الخيال منفصلًا عن الجو الواقعي، ويحقق آماله عن طريق الوهم في هذا الجو، بدل أن يكلف نفسه مشقة تحقيقها في عالم الحقيقة.
ولا شك في أننا جميعًا نَنحدر انحدارًا وقتيًّا إلى هذا الانسحاب والانطواء على النفس، وخصوصًا في حالة أحلام اليقظة والاستسلام إلى الخيال.
وليس معنى هذا أن الخيال بالضرورة من علامات الاضطراب العقلي؛ فإن قدرًا معقولًا منه لا بأس به، بل هو مفيد من بعض الوجوه، فهو يمثل صمام الأمن في حياتنا العقلية، نُنفِّس بواسطته عن الرغبات والنزعات المكبوتة التي لا تجد طريقها إلى التحقُّق في عالم الواقع، ثم إنه يُعتبر في بعض الأحيان تمهيدًا للوصول إلى الأغراض الحيوية؛ إذ إن الخيال كثيرًا ما يكون نوعًا من التفكير والتجربة العقلية في سبيل الوصول إلى غرضٍ فعليٍّ، وكثيرًا ما تدفعُنا اللذة المشتقة من الخيال إلى بذل الجهد لالتماسها عن طريق الواقع. وإنما يُصبح الخيال ضارًّا وغير طبيعي إذا انغمس فيه الشخص، وإذا كان انغماس الشخص فيه بحيث يُفقده الاتصال بعالم الواقع، والحكم في ذلك هو السهولة التي يستطيع بها الشخص أن يعود إلى عالم الواقع، فما دام الأمر لم يَخرج زمامه من الشعور فلا بأس به، أما إذا خرج الزمام فإنه يبدأ في أن يكون عرَضًا مرَضيًّا يحتاج إلى العناية بأمره. ولا شك في أن من الطبيعي أن يكون عند الأطفال قدر معيَّن من عشق الذات، كما أن المجتمع يَحتمل من النساء ما لا يحتمله من الرجال في هذا الصدد.
ولمرحلة النرجسية أدوار مُتعدِّدة يتعلَّق عشق الفرد فيها بنواحٍ مختلفة من ذاته؛ ففي الدور الأول من أدوار النرجسية يكون عشق الشخص لنفسه كما هي، ويبقى أثر ذلك لدرجة معينة طول حياته، والدور الذي يلي هذا هو عشْق الشخص لنفسه كما يحبُّ لها أن تكون، وذلك بدء تكوين المُثل العليا في حياة الشخص، وبدء تكوُّن «الأنا العليا» التي ذكرْنا ما لها من الأثر الخُلقي في حياة الفرد. وهذا التطور ضربٌ من الإعلاء لنزعة عشق الذات، وهو من أهم منابع الخُلق في حياة الفرد والجماعة.
- الأولى: مشتقة اشتقاقًا مباشرًا من عشق الذات «النرجسية».
- والثانية: مشتقة منها اشتقاقًا غير مباشر؛ إذ أنها ترمي إلى حب الأشخاص الذين يُجيبون الرغبات (الأب والأم).
- (١)
بذاته كما هي.
- (٢)
بذاته كما كانت.
- (٣)
بما هو جزء من ذاته.
- (٤)
بذاته كما يُحبُّ أن تكون.
- (٥)
بالأم التي تغذي.
- (٦)
بالأب الذي يحمي.
ففي الحالات الأربع الأولى يكون تحوُّل الطاقة الغريزية عن طريق النزعة النرجسية، أما في الحالتين الأخريين فهو عن طريق النزعات البدائية التي تهدف إشباع الحاجات الحيوية عن طريق الغير (الأب والأم).
ففي الأولى، يختار الإنسان لمحبَّته شخصًا يُشبهه، وذلك أبسط أنواع الإبدال.
وفي الحالة الثانية، يقع الحب على أشخاص يُشبهون الذات كما كانت في وقتٍ ما، فيختار الرجلُ أو المرأةُ اللذان جاوزا حد الشباب من يُشبههما عندما كانا في فترة الفتوة والجمال. ومن هذا القبيل الزيجات التي يكون فيها التفاوت في السن كبيرًا. وينتج ذلك عن نوع من التثبيت يكون قد حدث بالنسبة لفترة معينة من سن الشباب، وينصبُّ الاختيار على أشخاصٍ يمثِّلون هذه الفترة بكيفية ما.
وفي الحالة الثالثة، تتجه المحبة إلى الأبناء ومَن إليهم؛ لأن الابن يمثِّل قطعة من النفس، خصوصًا بالنسبة للأم؛ ولذلك كثيرًا ما نجد الأم الشديدة المحبة لنفسها، شديدة المحبة لأبنائها، بينما قد تكون عاجزةً عن محبة زوجها لأنه لا يمثل نفسها ولا جزءًا منها.
وكثيرًا ما نجد أن الإنسان يَعتبر أن كل شيء بَذل فيه جهدًا خاصًّا، أو تعب في تكوينه والعناية به، كأنما هو جزء من نفسه، فيُضفي عليه من الاهتمام والمحبة ما يَدهش له الكثيرون. ومثال ذلك حب جامع التُّحف لتُحفه، والمؤلف لكُتبه، والمخترع لاختراعه، والمعلِّم لتلاميذه، إلى غير ذلك مما نشاهد كثيرًا في حياتنا اليومية.
وفي الحالة الرابعة، يحبُّ الشخص نفسَه كما يجب أن تكون، فيختار مُثله العليا في الجمال، أو الصحة، أو الذكاء، أو الخُلق، ويختصها بمحبته، فكأنه يَلتمس في محبوبه ما ينقصه من الصفات الجثمانية والخُلقية، وقد تكون هذه نقيض صفاته، فيختار من يعوِّض النقص الموجود فيه، والحب في هذه الحالة يصل بنا إلى عكس النتيجة التي يوصلنا إليها في الحالة الأولى.
أما الحالتان الخامسة والسادسة، فالحب فيهما مُشتق من المحيط العائلي. ففي الخامسة يبحث الشخص عمن يعيد إليه شعوره بالعناية، والحدب والحنان، والرعاية، وأمثال هؤلاء لا يسعدون إلا مع زوجات يؤدين الوظائف المادية والعاطفية التي كانت تؤديها الأم، وكثيرًا ما يَفشل زواجهم عندما يَقصُر ما تقوم به الزوجة دون الحلول محلَّ ما كانت تقوم به الأم. أما في السادسة فيبحث الشخص (المرأة في الغالب) عن الرجل الذي يقوم لها بالحماية ويكفل الأمن والطمأنينة التي كان الوالد رمزًا لها.
(٥) عقدة أوديب
ويبدأ تحديد هذه الميول المختلفة من عهد الطفولة؛ إذ يكون للمحيط العائلي أثر عميق في نفس الطفل، وله بناءً على ذلك أثر كبير في تكييف سلوكه فيما يلي من حياته.
وهذه الميول ليست بالبساطة التي قد تتوَّهمها، بل هي معقَّدة غاية التعقيد، ومتشابكة بعضها مع البعض غاية التشابك. وفي محيط العائلة تتكون عواطف الطفل نحو أبويه ونحو إخوته، فإذا خرج عن النطاق العائلي الضيِّق إلى المجتمع الواسع، فإن العواطف التي يكوِّنها في هذا النطاق تكون صورةً طردية أو عكسية أو معدَّلة لعواطفه العائلية الأولى؛ فهي مشتقة منها على كل حال. فعلاقاته بزملائه، أو برؤسائه، أو بمرءوسيه، أو بالأصدقاء، أو بالغرباء، أو بالمواطنين، أو بزوجته وأبنائه فيما بعد، كل هذه إنما تَنبع في الأصل من علاقاته العائلية الأولى، ولكن بعد أن يتناولها كثير من التغيير والتبديل حسب الظروف.
فقد يكون الطفل مطيعًا غاية الطاعة ومحبًّا غاية الحب لوالديه، فإذا كبر كان متمردًا على رؤسائه كارهًا لهم؛ وقد يحدث العكس فيكون سلوكه نحوهم صورة مطابقة لسلوكه نحو أبويه؛ وذلك راجع إلى أنه ليس هناك شيء اسمه العاطفة النقية الخالصة في حياة الإنسان؛ فالعقل يحتضن العاطفة وضدِّها في وقت واحد، فالعاطفة نحو كلٍّ من الأم والأب عاطفة ثنائية معقَّدة.
فالأم هي المركز الخارجي الأول لعواطف الطفل كما سبق أن ذكرنا؛ لأنها الوسيط لإجابة رغباته الملحَّة، وعلى ذلك فحبه يتركز كله نحوها في بادئ الأمر. والحب يدعو إلى الاستئثار، وعلى ذلك فالطفل يريد أن يستأثر بأمه استئثارًا تامًّا لا في وقت حاجته المادية إليها — الغذاء وما إليه — بل في كل وقت. وهو يدعوها إليه نهارًا وليلًا، ويَبتئس أشد الابتئاس إذ لا يحصل على بُغيته. وعلى ذلك فهو يغار عليها، يغار عليها من إخوته، وذلك مُشاهَد ملموس، ويغار عليها من مشاكلها العديدة التي تدعوها بعيدًا عنه، ولكنه يغار عليها أولًا وفوق كل شيء من ذلك الشخص الذي يجد أنها تُعطيه من نفسها أكثر مما تعطي أيَّ شخص آخر، وهو الأب. فالأب يستأثر بالأم متى شاء، وهي تقضي معه جانبًا كبيرًا من وقتها، وخصوصًا بالليل؛ إذ تنام وإياه في مكان واحد، وتترك طفلها وحيدًا، ويتنبَّه عقل الطفل جيدًا إلى هذا المنافِس القوي فيتكون عنده الحقد عليه والغيرة منه.
ولكن هذا لا يدوم طويلًا لأن الطفل كما قلنا يمتصُّ من الأم عواطفها ويندمج في شخصيتها، فهو بالتدريج يحبُّ ما تحبُّ الأم ومَن تحبُّ، حتى ولو كان ذلك ضد رغباته الغريزية التي يتناولها الكبت في هذه الحالة، ويحدث مثل هذا في حالة الأب فهو موضع محبة الأم والتفاتها، وعلى ذلك فهو شخص يجب أن يُحَبُّ، ويصبح فعلًا محبوبًا من الطفل عن هذا الطريق. وأما الكراهية الأصلية فإنها تُكبت وتُصبح لا شعورية؛ وعلى ذلك يصير الأب محبوبًا في الشعور مكروهًا من اللاشعور، بل إن صفات الأب ومظهره يُصبحان محل إعجاب الطفل، وتصبح له رغبة شديدة في التحلي بها حتى يفوز من التفات الأم بما يفوز به الأب.
وقد تتعقَّد الصورة أكثر من ذلك ويدخل فيها عامل آخر هو جنس الطفل، فالطفل الذكر يميل في الغالب إلى أن يكون حبه لأمه وكراهيته لأبيه، وبالعكس بالنسبة للطفل الأنثى، وقد تحدُث مُضاعفات أخرى.
وفي الغالب تكون المحبة هي الصورة الواضحة للعلاقة بين الطفل وأبويه بينما تكون الكراهية مكبوتة، وهذه الكراهية المكبوتة تجد الطريق إلى التعبير عن نفسها عن طريق الإبدال، فكثيرًا ما يختص الطفل بكراهيته الشديدة — فيما بعد — أناسًا يُشبهون الأب من حيث المنظر أو السلطة أو الوظيفة. وكثير من الثائرين والمتمرِّدين على المجتمع إنما يعبِّرون بثورتهم وتمردهم عن الكراهية المكبوتة للأب الذي يُظهرون له ويشعرون نحوه بكل محبة واحترام.
وكذلك بالنسبة للأم، فإن شعور الكراهية المكبوت قد ينصبُّ فيما بعد على الزوجة أو الحبيبة أو على جنس النساء بوجهٍ عام.
ويأتي بعد ذلك دور الإخوة؛ فكلٌّ منهم منافِس، وكلٌّ منهم ينال نصيبه من المحبة والكراهية، في الشعور وفي اللاشعور، وكل هذه العواطف قابلة للإبدال والإعلاء في مستقبل حياة الطفل.
ويتوقف قدر كبير جدًّا من الخُلقُ الشخصي والسلوك الاجتماعي على أنواع الإبدال والإعلاء التي تحدث بالنسبة لألوان المحبة والكراهية التي تنشأ في محيط العائلة.
فإذا حدث «تثبيت أبوي» قوي عند الطفل، فإنه يجد من الصعب عليه جدًّا فيما بعد أن يتزوَّج أو يترك منزل العائلة، أو أن يستقل بنفسه ويخرج إلى الحياة؛ لأنه لا يستطيع الفكاك من الموقف العائلي الذي يلاحقه، حتى بعد أن ترك طفولته بزمن طويل.
وكثيرًا ما يجري الفرد وراء تكرار مواقف طفولته فيما يلي من حياته، كالذي يُحب من لَغيره حقٌّ عليهم، مكررًا بذلك موقف المنافَسة للأب في محبة الأم، فيحب المرأة المخطوبة أو المتزوِّجة ولا يرضى بها بديلًا، ولا تجتذبه امرأة خالصة مهما كان فيها من المغريات الذاتية؛ لأن ما يجتذبه هو الموقف الذي مرَّ به وهو طفل، وقد كان في أمثال هؤلاء معين لا ينضب لكُتَّاب القصص والروايات.
أما التطور الأمثل فإنه يَحدث بكيفيةٍ تدريجية، ويتجه نحو الاستقلال التدريجي عن الأب والأم. فيحدث عند الطفل «فِطام» نفسي تدريجي، كالفطام من الرضاعة؛ أي إنه يُصبح قادرًا على أن يستقلَّ بعواطفه، ويجد لها متكآت أخرى فيما يجده من لعبٍ ودرس وسعي في الحياة؛ وعلى ذلك يُصبح حرًّا في أن يكوِّن عواطف جديدة، ويحب ويتزوج طبقًا لمبادئ لا تكون بالضرورة تكرارًا لمواقف الطفولة الأولى. وذلك لا يمنع أن يكون متأثِّرًا بها، ولكن الأثر يدخل عليه التعديل عن طريق الإعلاء، فلا يبقى له طابع الإلزام والتقيد العنيف الذي يبدو في حالات التثبيت.
وبهذه الكيفية يُمكن أن ينتقل ولاء الشخص بسهولة من المحيط العائلي الضيق إلى محيط الحياة الواسع، فالولاء للأصدقاء وللعمل وللوطن … إلخ يصبح ممكنًا إذا أمكن الفكاك من القيود العائلية الأولى.