فترة الكُمُون١
يتم التطور الذي تكلمنا عنه في الغريزة الجنسية في حوالي سن الخامسة أو السادسة، ويدخل الطفل بعد ذلك في مرحلة هادئة من حياته يُطلَق عليها اسم فترة الكمُون، وتستمر فترة الكمُون حتى بدء المراهقة.
وهذه المرحلة كما يدلُّ عليها اسمها تتميز بالخلو من كثير مما يظهر في المرحلة السابقة من علائم التمرُّد والثورة والصراع عند الطفل.
وكلنا يُدرك الفرق الكبير بين الطفل في السنوات الخمس الأولى من حياته، وبينه فيما بعد ذلك وقد رُوِّض وأصبح سهل القياد، مطواعًا، خاضعًا لِما يُفرض عليه. ومن الغريب أن الناس قد اختاروا هذا السن من زمن طويل لبدء تعليم الطفل، فكأنهم يَنتهزون فرصة هذه الفترة الهادئة في حياته ليبدءوا في مهمة التعليم الشاقة.
وإذا أردنا أن نُكَوِّن صورة واضحة للفرق بين الحالتَين، فلنتذكر الطفل الرضيع وانفعالاته الجياشة بالرغبة والخوف والألم والحب، ولنتذكر أن انفعالات الطفل أقوى بما لا يقاس من انفعالاتنا، ولا يُشبهها في حياة الراشدين من الناس إلا المخاوف العتيقة، كالكابوس الذي يأتي النائم. وذلك لأن الطفل في مبدأ حياته، حينما يكون ضحية الخوف أو الحرمان يشعر أن ذلك الخوف وهذا الحرمان ليس لهما نهاية تُنتظَر، وليس بعدهما أمل يرجى؛ لأنه ليس في تجربته ما يؤدي به إلى عكس هذا الاعتقاد، ويشبُّ الطفل قليلًا قليلًا وتزيد مطالبه من الحياة، ويزداد إدراكه لرغباته، وتمر به ساعات هناء وسعادة تجاب فيها هذه المطالب، ولكن تمر به ساعات شقاء يُحرم فيها مما يرغب فيه، بل ويُفرض عليه أن يقوم بأشياء لا يرغب فيها، ويرى حوله قيودًا ونُظمًا لا تمتُّ إلى رغباته ولا إلى إدراكه بصلةٍ ما. فيثور ويتمرد، ويحاول الفكاك من هذه الحال، وفي أثناء ذلك تجيش نفسه بعواطف الحب والكره، والغيرة والرغبة في الانتقام، وتمني الموت لمُخالفيه ومنافسيه. ومن منا لا يذكر ثورات الغضب الشديدة التي تمر بالطفل وهو في حوالي السنتين أو الثلاث من العمر. ومن منا لا يَذكر صراخ الطفل وبكاءه ساعات طوالًا، بكاء الغيظ والثورة إذا أُهمل أمره، وإصراره على الامتناع عن تناول الطعام وتحمُّله للجوع، وهيهات أن يكون هناك أثر لِما تصنع الأم أو الأب عند ذلك من رجاء أو تهديد أو ترغيب؛ كل ذلك يذهب هباءً والطفل ينظر وهو جامد وقد أقفل فمه ورفض الطعام.
مِن هذا المخلوق الثائر، الخائف، الغاضب، الغيور، الأناني، ينشأ الحدث السهل القياد الذي نراه في المدرسة الابتدائية.
ذلك أنه قد دخل في الدور الذي «تكمُن» فيه النزعات إذ تدخل في دور هدوء وقتي، وتقل مظاهر الرغبة والصراع في نفس الطفل، ويُصبح قادرًا على التكيُّف الاجتماعي؛ فهو يُصغي لغيره، ويعرف شيئًا مما له وما عليه، ويرغب في التعلم، ويَصبر على بعض المكاره، ويَستقل بنفسه بعض الاستقلال.
وكل ذلك نتيجة لِما بذله الوالدان في تهذيب الشرِّير الصغير وترويضه، فقد استمرَّا معه بالقهر حينًا وباللين أحيانًا وبالحزم دائمًا، حتى وصلا بنزعاته الثائرة إلى هذه الحالة من الهمود والخمود، ولا شك في أنهما قد كانا عاملَين في إعلاء بعض هذه النزعات وفي تمهيد الطريق لتكوين شخصية الطفل المستقبلة.
ولكن الغريب أن الطفل يفقد شيئًا هامًّا في أثناء هذا التكوين؛ فمَن منا لا يذكر الطفل ذا الثلاث السنوات أو الأربع أو الخمس، ويذكر حيويته الفائقة، ومعينه الذي لا ينضب من الحِيَل واللطائف، وثروة خياله التي لا تفنى، بل وفوق هذا وذاك بُعد نظره ومنطقه الذي لا يعرف المواربة، والذي يبدو في أسئلته وإجاباته. هذه «الأصالة»، وهذه «الحكمة»، وهذه «الحيوية» كثيرًا ما تخمد مع خمود العوامل الغريزية.
وهكذا نجد أننا نخسر كثيرًا إذ نخلُق من الشيطان الصغير «غلامًا» طيبًا؛ لأنه يخسر مع شيطانيته كثيرًا من حسناته، ويَكتسب مع الطيبة شيئًا من الركود والتفاهة.
ذلك لأن العقبات التي نضعها في طريق تفكير الأطفال، والقيود التي نُحيط بها حيويتهم وأصالتهم، هذه العقبات والقيود تَنسحِب إلى نشاطهم العام وحيويتهم العامة وقدرتهم على العمل والابتكار.
وبعد انتهاء هذه الفترة، تبدأ الفترة التالية، وهي فترة المُراهَقة، وفيها يعاود الطفل المرور على المصاعب النفسية التي سبق له أن مرَّ بها في الطفولة، فتبدو تلك المصاعب التي ظلَّت كامنةً فترة من الزمن في صورة جديدة، ولكنها مبنية على الصورة القديمة، كالكتاب الذي تَختلف طبعته الثانية عن طبعته الأولى، ولكن يبقى بين الطبعتين شَبهٌ لا يخطئه القارئ.
فالمواقف الانفعالية التي دار حولها الصراع في طفولته تبقى نواة للاضطراب، فإذا تكررت هذه المواقف أو ما يُشبهها — واللاشعور يرى التشابه حتى في العَرَض الطفيف كما قلنا — فإنها تَنفجر ثانيةً وتُسبِّب له متاعب نفسية كبيرة. ومن المواقف المتكرِّرة في العادة موقف الابن من أبيه؛ إذ يكون ما يبدو من الأب من التحكُّم، وما يبديه الابن من التحدي، مشوبًا بعنف الانفعال القديم. وعلى ذلك تكون فترة الكمُون مرحلة هدوء بين مرحلتي الثورة العنيفة في حياة الطفل، وكان الطبيعة تعطي للغريزة فترةً للاستجمام، استعدادًا لمطالب الغريزة الجنسية الناضجة، بعد أن مرُن الطفل في بدء حياته على الطبعة الأولى من هذه الغريزة.
ففترة الكمون إذن جسر يصل بين العهدين، ويحمل في باطنه بأمانة كلَّ ما أخذه من العهد السابق ويوصله إلى العهد اللاحق كأن لم تكن هذه سوى فترة استجمام بينهما.
والصورة العامة للطفل في دور الكُمون صورة «ناضجة» تشبه من بعض الوجوه صورة الرجل الذي جاوَز فترة المراهقة ودخل في دور الاستقرار.
فهو أقل أنانية وأقل عنفًا في انفعالاته، يهتم بما هو خارج نفسه، فيتوجه إلى الأشياء والأشخاص ويوثِّق العلاقة بينه وبين محيطه الخارجي. وعلاقته الآن ليست كعلاقته عندما كان طفلًا؛ إذ إن الأخيرة علاقة من جانب واحد علاقة هو مركزُها، والمحيط الخارجي له وظيفة واحدة هي إجابة رغباته، فإذا قصَّر في ذلك فهو مكروه. كان مبدأ اللذة هو العامل الأساسي في علاقاته هذه، أما الآن فقد بدأ جانب آخر من هذه العلاقة، جانب العطاء في مُقابل الأخذ، وبعبارة أخرى بدأ السلوك يَصطبِغ بالصبغة الاجتماعية التي يتعاون فيها الفرد مع المجتمع.
كذلك يبدأ الطفل في فترة الكُمون في أن ينتقي أفرادًا يكونون له بمثابة الآباء بحكم مركزهم أو علاقتهم معه كالمعلمين ومن إليهم.
وعلاقته بالأب في منشأ الحياة علاقة معقَّدة تضطرب فيها المحبة والكراهية وتتصارعان؛ أما الآن فقد تغلَّبت المحبة، وتطورت الكراهية حتى انحدرت إلى اللاشعور، وأصبح سلوك الطفل وكأن له جانبًا واحدًا هو جانب المحبة والطاعة، بل إن المحبة تُصبح أشبه بالواجب منها بالعاطفة، ولا شك في فتور علائق الأبناء مع آبائهم في هذه الفترة وميلها إلى أن تصطبغ بصبغة الواقعية، وتنفصل عن الصبغة «الرومانسية» التي تبدو بها في الطفولة، والتي تميِّز بعد ذلك محبة المراهق.
ويبدو أنه من اليسير في فترة الكُمون أن تنتقل سلطة الأب إلى غيره كالمعلم ومَن إليه ممَّن يُشرفون على الطفل، بل وإلى أي شخص يعينه الأب أو الأم، دائمًا كان هذا التعيين أم موقتًا، على حين أن هذا الانتقال في الطفولة الأولى أمر يكاد يكون متعذِّرًا ولا يحدث إلا ضد كثير من المقاوَمة.
بل إن الطفل يقوم بنفسه بدور الرقابة على نفسه، فهو يَتبع الأوامر والنواهي لا في وقت وجود الوالدين فقط، كما كان يفعل وهو صغير، بل يتبعها وهما بعيدان عنه وغير قادرَيْن على مراقبته، فيقوم هو نفسه بهذه المراقَبة. ومن هذا الطريق تتكوَّن الأنا العليا كما ذكرنا، فيُصبح الطفل وفي داخله عناصر تعمل على كبْح جماحه.
إن العلاقة بين الطفل وأوَّل مُعلميه (الأبوين) علاقة بين عدوَّين متضادَّين، فما يُريده الطفل لا يريده الوالدان، وما يُريده الوالدان لا يريده الطفل، والطفل يصرُّ على متابعة أغراضه بكلية نفسه وبحماسة غير مُتجزئة. ولا يجد الآباء أمامهم طريقًا غير استخدام القوة لإرغام الطفل على الإذعان لمطالبهم. وتستمر هذه المعركة التي لا تتكافأ فيها القوى، والطفل في غالب الأحيان هو الخاسر لأنه ضعيف الحول بجانب أبويه.
أما المرحلة التالية من عمره — فترة الكُمون — فالموقف غير ذلك بالمرة؛ فالطفل الذي يواجه مُهذِّبيه — أبويه والمدرسين — لم يعُد مخلوقًا تعمل نزعاته في اتجاه واحد، بل لقد انقسم على نفسه. وحتى لو كانت «أناه» لا تزال تُتابع أغراضه الأولى، فإن «أناه العليا» — وريثة خُلق الأبوين — تكون دائمًا في صف المُهذِّب، فكأن المهذب أصبح له حليفٌ في نفس الطفل. وهذه الحقيقة ذات أهمية تربوية فائقة جدًّا؛ إذ إنها تُتيح لنا أن نوجِّه الطفل الوجهة الصالحة بلا ضرورة لاستخدام القهر في هذه السن، ما دام في طاقتنا أن نلجأ إلى هذا الحليف. ويكون من المُستحسَن إذن أن نقوِّيه بدل أن نُضعفه بتصرُّفاتنا. والذي يؤدي إلى تقويته ليس هو القهر بل هو الأخذ بيد الطفل برفْق وحزم.
وكل ذلك يسهِّل خروج الطفل من محيطه العائلي وانتقاله إلى محيط المدرسة، خصوصًا وأن اهتمامه لا يُصبح مركَّزًا على غرائزه ونزعاته في صورتها البدائية، بل إن قدرًا من الإعلاء يكون قد حدَث، فيبدأ الطفل يهتم بأشياء يُصادفها في طريقه فيُتابعها بكثير من الاهتمام، بل إنه يهتمُّ بمعظم ما يرى أن الكبار يطلبون منه الاهتمام به، فيتعلم القراءة والكتابة وأشياء مثل جداول الضرب وما إليها.
وعلى ذلك تكون العلاقة بين الحدث وبين أبويه ومُعلِّميه وغيرهم علاقة تَصطبغ بصبغة واقعية، ويغلب أن تكون صبغتها العاطفية معتدلة.
فالأب لا يصبح ذلك المخلوق الكامل، والأم لا تبقى أجمل من في العالم.
وسلوك الطفل في هذه الفترة لا يكاد يُرى فيه ذلك الطابع العنيف الحار الذي يوحي باتجاهاته الجنسية. فما أعظم الفرق بين ضمة الطفل الصغير لأبيه أو أمه وتقبيلهما، وبين تحية الابن الأكبر منه تحية رسمية مصحوبة بقبلة على الوجنة أو على اليد.