هفوات في الوظائف العقلية
نلاحظ في حياتنا اليومية كثيرًا من الأخطاء العارضة أو الهفوات التي نَنسبها لمجرَّد الصدفة ولا نُلقي إليها بالًا إلا في النادر، فكلنا ينسى بين الفينة والفينة اسم واحد من معارفه أو أصدقائه، وأحيانًا يكون هذا النسيان في مواقف محرجة، كأن يكون بادئًا في تقديمه لصديق آخر، وكثيرًا ما ننسى المفاتيح أو الساعة أو النقود عند خروجنا من المنزل، أو ننسى أين وضعنا شيئًا معينًا. ومن الظواهر المُنتشرة نسيان السيدات لمفاتيحهنَّ؛ فالكثيرات منهن يُضيِّعن كثيرًا من الوقت في البحث عن المفاتيح ولا يجدنها إلا ليُضيِّعنها ثانيةً. ثم إننا كثيرًا ما تصدف منا أخطاء نُسميها أحيانًا فلتات اللسان أو القلم، فنريد شيئًا ونقول غيره، أو نقول شيئًا لا نريده بالمرة، ونكون أول المستغربين لِما حدث.
نحن نُرجع كل ذلك عادةً لمجرد الصدفة، أو نَنسبه لعدم الانتباه، ولا يخطر ببالنا أن هذا مظهر من مظاهر حياتنا الوجدانية العميقة، وهو مظهر ولو أنه قليل الخطر يُعتبَر عَرَضًا عاديًّا ولا يُنسب إلى الأعراض المرَضية بحال من الأحوال، فإن دراسته تُلقي من الضوء على حياتنا العقلية وعلى أعراض الاضطراب العصبي نفسه ما يجعلها جديرة بالعناية.
- الأول: حركي، ومثاله:
- (١) الخطأ في تنفيذ أمر مقصود سواء أكان ذلك كلامًا يقال أو يُكتب أو غير ذلك من الأعمال.
- (٢) تنفيذ أمر لم يقصد الإنسان إلى تنفيذه «عن غير قصد».
- الثاني: حسي:
- (١) كالنسيان وعدم الالتفات للأشياء.
- (٢) أو الإدراك الخاطئ سواء كان بالنسبة للمرئيات أو في الذاكرة … إلخ.١
وهذه الهفوات يمكن أن تشبه الأعراض الخفيفة، وقد دلَّ البحث على أن هذا الشبه حقيقي ولو أنه ليس كاملًا.
وقد وجد فرويد أن هذه الهفوات التي نَنسبها للصدفة أو قلة الانتباه مُسبَّبة تسبيبًا حقيقيًّا وذلك بالرغم مما نظنه من تفاهتها. ومن الغريب أن هذه الفكرة ليست بعيدة عن العرف العام للناس، فمن المعلوم أننا إذا أهملنا زيارة صديق واحتججْنا بحق بكثرة المشاغل، فإنه لا يَقنع بهذا العذر ويظن أن ذلك دليل على فتور العلاقات على كل حال. والرجل الذي ينسى أن يُحضر هدية لزوجته في عيد ميلادها، ويحتج بالمشاغل التي تملأ رأسه لا يجد من زوجته ارتياحًا إلى هذا التفسير، ويجد أنها تقول بحق: ولكنك لم تكن تنسى ذلك في أول عهدنا بالزواج. والصديق الذي ننسى اسمه يجد في ذلك غضاضة ولا يستريح إلى التفسير البسيط بأنها هفوة من هفوات الذاكرة، وكأنه يشعر في قرارة نفسه بأن وراء هذا النسيان شيئًا … إلخ، فالفكرة موجودة عن طريق التجربة العادية للأشخاص العاديين.
أما تفسير فرويد لهذه الهفوات أو السقطات، فهو أن كلًّا منها له معنًى خاص ويخدم غرضًا خاصًّا في الحياة العقلية.
فعندما ننسى شيئًا فوراء هذا النسيان دافع، وهذا الدافع في الغالب لا شعوري صرف، وليس بينه وبين الشيء المنسي علاقة منطقية مباشرة.
فقد يكون في تذكُّر هذا الشيء بدء سلسلة من الذكريات غير المرغوب فيها لسبب انفعالي ما؛ وعلى ذلك يكون النسيان عملية إيجابية تحدُث بدون علم الشخص وتعمل على تجنيب الشعور أن يتنبه إلى أمور يحسُن نسيانها.
ومن هذا القبيل ما حدث «للكاتب» إذ قابل شخصًا مصريًّا في لندن، وقد أقبل عليه هذا الشخص في الحال مسلِّمًا باشتياق، وأجهد الكاتب فكره إجهادًا كبيرًا جدًّا لكي يَذكُر متى وأين قابل هذا الشخص أو أن يذكر اسمه فلم يستطع إطلاقًا. فلم يسعْه إلا أن يرد التحية بنفس الحرارة متجنبًا أن يضطر إلى الاعتراف بنسيانه لهذا الشخص، وما زال بعد أن تركه يبذل مجهودًا مضاعفًا للتذكر ولكن بلا جدوى. وأخيرًا ترك الأمر وأهمله، حتى أتى يوم خطرت بباله حادثة حضرها لأحد أقاربه في مصر، وكانت ظروفها في مجموعها مُخجِلة ومما لا يحسُن ذكره، وفجأةً برزت لذهنه صورة الشاب الذي قابله، فقد كان مرتبطًا ببطل الحادثة، فكأن نسيان الشخص في وقته قد وفر عليه ذكر هذه الحادثة. وإذا ذكرنا أن المقابلة كانت في النادي المصري، حيث يكثر المصريون، عرفنا أن الدافع للنسيان كان مضاعفًا. ولو تتبَّعنا كل حادث من حوادث النسيان على سبيل «السهو» كما نسميه، لوجدنا الدافع الخاص به. ولكن الدوافع تختلف في العُمق وفي مقدار المجهود اللازم لكشفها.
وكل أنواع الاضطراب العصبي تَعتمد على النسيان، وفي بعض حالات الهستريا يفقد الإنسان أجزاءً كاملة من ذكرياته، ويحدث أن ينسى في بعض الأحيان اسمه وشخصيته وتاريخه الماضي كله، وقد بيَّن فرويد أنه في هذه الحالات، كما في حالات نسيان عهد الطفولة، يكون النسيان ذا غرض محدد يرمي إلى أن يُصبح الشخص جاهلًا بجزء من تاريخه ليس في مقدوره أن يواجهه في الشعور.
ولا شك في أننا ننسى الجزء الأكبر من عهد طفولتنا الزاخر بالتجارب والذكريات والطافح بالانفعالات والعواطف، ونظن أن هذا النسيان أمر طبيعي بينما هو في الواقع جزء من الطرق الوقائية التي يتبعها العقل لمنع الانقسام الذي لا يحتمله.
والدافع هنا قد لا يكون واضحًا كل الوضوح، وليس من السهل أن نتكلَّم عن الدوافع ونحن لم نقم بعملية التحليل في وقتها، ولكن المحتمل أن يكون في ذلك تعبير عن الدور الذي يقوم به مضطرًّا وهو دور الزوجة، فهو يتكلم بلسانها إمعانًا في تمثيل الدور وقمْع النزعات المضادة له.
وتأتي بعد ذلك الأخطاء التي يعمل فيها الإنسان شيئًا مثل كسر زجاجة بحركة خاطئة كثيرًا ما تكون غير طبيعية بالمرة، حتى إنها لتظهر للمُشاهد كما لو كانت مقصودة، أو إلى «التعرض» لحوادث الاصطدام وحوادث الطريق بشكل خطر قد يؤدي إلى الإصابة في كثير من الأحيان.
فهذه «الحوادث» ليست دائمًا بنت الصدفة، بل إن منها ما هو «مقصود» إذا اعتبرنا النزعات اللاشعورية إما للاعتداء والفتك بالغير، وإما لعقاب النفس كما لو كان ذلك نوع من الانتحار.
ولعلَّ من أبرز السقطات ما يحدث كثيرًا في حالات السرقة والقتل وغيرها، من أن يَترك المجرم وراءه «دليلًا» عن طريق السهو، وما أكثر السهو في هذه الحالات. وهو يُنسب إلى اضطراب المُجرم وقت ارتكاب جُرمه، ولكن هذا الاضطراب نفسه دليل على أن عند المجرم نزعة مضادة لارتكاب الجرم، وهذه النزعة نفسها هي الدافع إلى هذا السهو القاتل. ولا شك في أن النزعة لعقاب الإنسان لنفسه نزعة موجودة، وهي تعبير عن القوة الكابتة ضد النزعات الغريزية (راجع الأنا العليا).
وأخيرًا نأتي إلى دلالة اجتماعية هامة جدًّا؛ وهي محاسبة الناس بعضهم لبعض على هذه الهفوات، فكثيرًا ما يفسِّر الإنسان الهفوة التي تقع قِبَله تفسيرًا لا تساهل فيه، ولا يقبل في ذلك عذرًا، ويَعتبر أن الشخص الآخر قد «وقع بلسانه» كما يقال، وكثيرًا ما يدافع المخطئ عن نفسه دفاعًا حارًّا بأنه لم يقصد، وهو حقيقةً لم يقصد ما وقع منه، وإن حرارة الدفاع لتزيد لأن الدافع الذي دفعه إلى الهفوة دافع مجهول منه نفسه ويراد أن يظلَّ مجهولًا.
ومن المعروف أن كثيرًا من المناوَشات العائلية خصوصًا بين الأزواج تقع حول التوافه من الأمور. ولكن هذه التوافه لها أهميتها الكبيرة؛ لأن انتهازها دليل على وجود الدوافع العميقة للنزاع والعراك. وأي حلٍّ لأمثال هذه المشاكل يدور حول حوادث النزاع نفسه حلٌّ ناقص؛ إذ يجب أن يتناول الحل الدوافع الأساسية أولًا.